الغطاء الأمريكي لحرب الإبادة على القطاع
بقلم : د. عقل صلاح – كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية
- المركز الديمقراطي العربي
نناقش في هذه المقالة الغطاء والدعم الأمريكي للحرب الذي ابتدأ منذ نشأة الكيان الإسرائيلي الذي قام على بحر من الدماء الفلسطينية والعربية، فعلى مدار أكثر من سبعة عقود وفلسطين ولبنان تتعرضان للمجازر التي لا تعد ولا تحصى والتي راح ضحيتها مئات الآلاف، والتي وصلت إلى ذروتها في الحرب الدائرة على قطاع غزة ولبنان منذ أكثر من سنة. فقد أوغلت إسرائيل في إبادة الشعب الفلسطيني وحصدت أكثر من خمسين ألف شهيد غالبيتهم من النساء والأطفال، وبعد سنة من حرب التدمير والإبادة فتحت إسرائيل حربها على لبنان التي خضعت لنفس السيناريو من حيث القتل والتدمير الممنهج للقرى والمدن اللبنانية، والهدف المعلن لهذه الحرب يرمي إلى ردع الفلسطينيين وحزب الله والحد من مقاومتهم للاحتلال.
فإسرائيل التي قامت على أنقاض الشعب الفلسطيني لم تتوقف يومًا واحدًا عن الحروب والإبادة الجماعية والتهجير ومصادرة الأراضي والاعتقالات وهدم البيوت والحصار والتجويع، كلها ممارسات تنطوي على إلغاء وجود الشعب الفلسطيني وإحلال الوجود الاستيطاني مكانه، وتاريخ إسرائيل حافل بالمجازر وهي لا تحصى، فقد كشف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه التطهير العرقي عددًا من الأحداث التي تروي فظائع ارتكبتها عصابة الهرتزل اليهودية في سنة 1948، وقد تفاخر مناحم بيجن الذي كان يقود منظمة الهرتزل التي ارتكبت هذه المجزرة حيث علق قائلاً: “ما جرى في دير ياسين هو إنجاز رائع” أما نائبه حايم فقد وجه رسالة إلى قادة العملية التي أعدمت أهالي دير ياسين، وتقول هذه الرسالة: “تقبلوا تهانينا على هذا النصر انقلوا للجميع أفراداً وقادة أننا نصافحهم فخورين بروحهم القتالية التي صنعت التاريخ في “أرض إسرائيل” وسنبيد العدو”، أن هذه هي مواقف وتوجيهات الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل التي وضعت حجر الأساس لإبادة شعبٍ كامل.
حيث قامت إسرائيل بالعديد من الحروب على لبنان في سنوات “1982، 1992، 1996، 2006، 2023-2024″، وكذلك بالحروب على فلسطين وتحديدًا على القطاع في السنوات ” 1948، 1967، 2008، 2012، 2014، 2019، 2023- 2024″، حيث جرت إبادة عائلات بأكملها.
وكأن التاريخ يعيد نفسه، فالحرب الدائرة منذ أكثر من سنة على القطاع من إبادة وتدمير وتجويع تتم بمباركة القيادات السياسية الإسرائيلية والدينية، التي تشجع الجنود على القيام في المجازر، مما حفزهم على التفاخر في تفجير المساجد والمستشفيات والتجمعات السكنية وتصوير هذه الأعمال، وإهدائها إلى بناتهم وزوجاتهم والكتابة على الصواريخ التي تقتل الأطفال، حيث صرح أحد الضباط ” لن نتوقف حتى نحرق غزة كلها”، كل ذلك ينم عن مدى التكوين العقلي لقيادات الاحتلال.
فالمرجعية الدينية التوراتية قائمة أساسًا على سياسة العنف والإبادة، والولايات المتحدة الأمريكية قامت على أنقاض الملايين من السكان الأصليين، ويقول روجيه جارودي “إن فكرة الشعب المختار هي أكثر الأفكار دموية في التاريخ البشري، وهذه الفكرة مع تطعيمها بمعارك يشوع الأسطورية أوحت للمستوطنين البروتستانت الإنجليز لإبادة عشرات الملايين من الهنود في القارة الأمريكية الشمالية وحدها”، وسفر يشوع التوراتي يروي حكايات الإبادات الجماعية للشعب الكنعاني وأبرزها مذبحة أريحا، حيث لم ينجو من هذه المذبحة لا البشر ولا حتى الحيوانات، فهذه الأسفار التوراتية تشكل المرجعية لممارسات هذه الدولة، حيث يقول بن غوريون “إن الجيش الإسرائيلي خير مفسر للتوراة”، فهذه العبارة لها دلالات عميقة تعكس مدى الارتباطات العلنية بين ممارسات إسرائيل والمرجعية التوراتية بأسفارها البربرية وخاصة سفر يشوع.
وهذا ما يفسر الدعم اللامحدود من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة لدولة إسرائيل والدفاع المستميت عن إسرائيل ومنع انتقادها أو معاقبتها من المنظمات الدولية على حرب الإبادة التي تشنها على القطاع ولبنان والتي تخطت كل المعايير والقوانين الدولية، فأمريكا استخدمت الفيتو في هذه الحرب أربع مرات وكان آخرها في 20تشرين الثاني/نوفمبر 2024، حيث استخدمت (الفيتو) ضد مشروع قرار قدمه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي يدعو إلى وقف فوري وغير مشروط ودائم لإطلاق النار في قطاع غزة، وهذا يكشف أنها تدير حرب الإبادة، ضاربةً بعرض الحائط كافة القوانين الدولية.
وفي هذا الإطار، وصف مندوب الصين بمجلس الأمن موقف أمريكا التي تزود إسرائيل بالأسلحة وتجد دائما التبريرات لها رغم اقتراب حدوث مجاعة في غزة، وهذا يدلل على أن الولايات المتحدة مستمرة في تشكيل غطاء لكل ما يحصل في القطاع من قتل ودمار. وفي كل الأحوال أعدمت إسرائيل ومنذ سنة 1967 أكثر من 290 أسيرًا فلسطينيًا جرى قتلهم إما في زنازين التعذيب أو ميدانيًا أثناء الاعتقال أو نتيجةً للإهمال الطبي المتعمد، بالإضافة إلى إعدام المئات من أسرى غزة في حرب سنة 2023-2024.
فأبراهام بورغ لا يرى أية فارق من حيث الجوهر بين ما اقترفه النازيون بحق اليهود وبين ما تقترفه إسرائيل بحق الفلسطينيين والعرب إلى حدٍ يراها بورغ أنها متطابقة، ويضيف بورغ في مكان آخر من كتابه لننتصر على هتلر “إنها دولة تحمل في داخلها عنصرية توراتية مكشوفة تؤيدها وتدعمها بصورة عملية حلقات نشطة وصامتة من التقليديين المؤمنين بأن هذه هي اليهودية الصحيحة” وبورغ رجل متدين وليس علمانيًا وهو يتبنى يهودية من نوع مختلف تتعارض مع اليهودية الأرثوذكسية السائدة في إسرائيل، وبوصفه رجلًا متدينًا فهو يعرف التوراة وأسفارها العنصرية وما تنطوي عليه من ثقافة الإبادات وأبرزها سفر يشوع الذي يصدح بالروح الإجرامية البهيمية والتباهي بالإبادات الشاملة بحق الكنعانيين، وهذا السفر يدرس في المدارس الإسرائيلية وكذلك في الجيش، وبوسعنا أن نتخيل طبيعة الأجيال التي تتربى على هذه الروح الهمجية في أهم مؤسستين في إسرائيل التعليمية والعسكرية. وهذه التربية ما نشاهدها منذ أكثر من سنة في القطاع ولبنان من خلال ممارسات الجيش التي تعبر عما قاله بورغ وغيره من القادة الإسرائيليين حول تجرد إسرائيل وجيشها من أي صفة أخلاقية والأنكى من ذلك يتباهى بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة في القتل والتدمير وحتى دعا سياسيون متطرفون وفي مقدمتهم عضو الكنيست السابق، موشيه فيغلين، في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 إلى استخدام السلاح النووي ضد قطاع غزة، وهذا يعني دعوة للإبادة الجماعية.
ولعل ما ارتكبته إسرائيل في تاريخها من مجازر باتت تتزايد مع الوقت، وكان آخرها ما يجرى في غزة وتدمير جميع قرى الجنوب اللبناني وكأن التاريخ يعيد نفسه بتدمير القرى والمدن والمجازر وهذا يؤكد على طبيعة إسرائيل الإجرامية والعدوانية التي لا تحمل أي قيمة إنسانية وأخلاقية حتى إنها تحللت من قيم وقواعد الحروب وقوانينها الدولية.
مما لا شك فيه أن المجازر والتدمير وحرب الإبادة الديمغرافية والمعمارية والجغرافية جميعها تمت بتواطؤ وبدعم وبسلاح غربي بشكل عام، وسلاح أمريكي بشكل خاص فهذا الغرب الذي يدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان هو من يقتل ويبيد بالقطاع وشريك مباشر في العدوان ومسؤول عن حرب الإبادة وهو من يجرب أسلحته الجديدة على غزة والضاحية ويبيد قرى بكاملها في الجنوب اللبناني بظل صمت عربي متواطئ مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي تعمل بكل قوتها لتصفية القضية الفلسطينية وتسييد إسرائيل في الشرق الأوسط.
وبما لا يدع مجالًا للشك فقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في 21تشرين الثاني/نوفمبر 2024، مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت، لارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. فقد انتقد الرئيس الأمريكي جو بايدن في 22تشرين الثاني/نوفمبر 2024، إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، واصفًا خطوة المحكمة بالأمر الشائن. على الرغم من الموقف الأمريكي والإسرائيلي الذي يقف ضد الإنسانية والقانون الدولي إلا أن القرار ملزم ويجب الالتزام به وتنفيذه من قبل الدول الموقعة على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية؛ وهذا القرار هو إنصاف للقضية الفلسطينية والشهداء وهو قرار لوقف حرب الإبادة والتجويع من قبل إسرائيل.
واستنادًا إلى ما سبق، لابد من تناول ممارسات الاحتلال في الضفة الغربية على مدار 76 سنة من الإعدام لجغرافيا الضفة من خلال التوسع الاستيطاني والطرق الالتفافية والبؤر الاستيطانية والمواقع العسكرية والقرارات الخاصة بالمصادرة ومنع البناء والهدم وإعادة الاستيطان في الشمال والسيطرة الشاملة على منطقة “B” و “C”، وحصر البناء الفلسطيني في هيكلية المدن والقرى، وتم في الآونة الأخيرة محاصرتها من قبل المستوطنين من خلال حرق البيوت والممتلكات والسيارات والأراضي وحتى وصل الحد في المستوطنين إلى الوصول لوسط القرى والمدن والحرق للبنايات والسيارات كما حصل في مدينة البيرة في 4تشرين الثاني/نوفمبر 2024، ونفس الممارسات تمارسها قوات الجيش الإسرائيلي في تدمير المخيمات والمدن كما حصل في حرق حسبة ومجمع البيرة التجاري في 30أيار/مايو 2024، وهذا يدلل على التناوب في التدمير والحرق والتخريب من قبل المستوطنين وجيش الاحتلال، وبالإضافة إلى مصادرة الأراضي الشاسعة من خلال الرعي الاستيطاني فمستوطن واحد في منطقة بيت دجن شرقي نابلس يدعى كوكي يسيطر على مساحة تقدر بمساحة منطقة “A”، فكل ما سبق يمثل تطبيق الجغرافيا الاستيطانية السياسية بالسيطرة الكاملة على الضفة وصولًا للضم المرتقب؛ الذي يوضح مفهوم إبادة الضفة جغرافيًا.
في النهاية، هذه الدولة التي تمارس المجازر منذ أكثر من 76 سنة منذ بدأ المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، هذا المشروع الذي حكم على شعبنا بأكمله بالإعدام، لن تعيش بأمنٍ وسلام ما لم ينل شعبنا حقوقه كاملةً، وسيظل يقاوم ويقاوم دفاعًا عن حقه في الوجود، فالغباء الغربي والأمريكي والإسرائيلي لم يتعلم على مدار سبعة عقود من نضال الشعب الفلسطيني ولم يدركوا أن المقاومة لم ولن تنتهي بظل وجود الاحتلال. ورغم هذا الدعم الأمريكي للإبادة والتدمير فلابد من تحقيق العدالة الربانية والطبيعية في قوانين الانتصار وتحقيق الحقوق، وفي المحصلة النهائية سينتصر الشعب الفلسطيني.