الاجتماعية والثقافيةالدراسات البحثية

ضحايا العنف و”العدالة الاستذكارية”

“لنتذكّر من أجل أن نحسن النسيان” – Recordar para mejor olvidar,  Reyes Mate[1] 

اعداد :  ذ. الحسن أسويق – أستاذ الفلسفة بالكلية متعددة التخصصات بالناظور – جامعة محمد الأول (وجدة- المغرب)

  • المركز الديمقراطي العربي

 

تقديــــم :

ما يُسأل عنه  في هذه الورقة البحثية هو العلاقة  بين العدالة الاستذكارية  وضحايا العنف الذين يمثلون ذاكرة للألم والمعاناة. إن الفرضية التي ننطلق منها للنظر في طبيعة هذه العلاقة هي مقاربة العدالة من منظور الضحية، لكونها المنهجية الأنجع لضمان عدم تكرار ما جرى كركن أساسي من أركان العدالة الانتقالية إلى جانب جبر الضرر ومعرفة الحقيقة، وذلك من أجل  بيان أهمية الذاكرة المكلومة والمجروحة للضحايا؛ ذاكرة الحيوات الخاصة  والتجارب المُعاشة  التي تكشف عن حقائق لا يشملها التاريخ الرسمي   في مسلسل العدالة الانتقالية.

وتأسيساً عليه، بيان كيف أن العدالة الانتقالية لن تحقق مبتغاها إلا إذا نجحت:  أولاً، وبشكل واقعي ملموس، في انصاف ضحايا الانتهاكات العنيفة غير المبررة، عبر تبني موقف إيطيقي  يتجاوز المقاربة القانونية الضيقة للعدالة الجزائية، ويقر بحق الضحايا في إسماع صوتهم واستذكار الماضي العنيف الذي انتهكت فيه حقوقهم؛ ضماناً  لحق الأفراد، كما الجماعات، في معرفة حقيقة ما جرى؛

وثانياً: إذا وفرت الشروط المؤسساتية لهؤلاء الضحايا في التعبير، جهراً، عن معاناتهم، بمنحهم حق تذكر الماضي مهما كان عنيفاً ومؤلماً، والإنصات لشهاداتهم  في جلسات عمومية[2] استجابةً لمطلب تنويع السرديات من أجل بناء الهوية الجماعية. وعليه، فإن العدالة  يجب أن يكون مرتكزها الأساس ذاكرةُ الضحايا، كذاكرة مشروعة،  وكشرط لازم لكل سياسة مصالحة[3]، ولكل كتابة تاريخية  موضوعية[4].

  • في مسمى “العدالة الاستذكارية” La justicia anamnética

يعتبر الفيلسوف الاسباني مانويل رييس ماتيReyes Mate  Manuel ، إلى جانب خوسي ماريا ماردونيس José María Mardones  [5]، في العالم الاسبانوفوني عموماً، واحداً من الفلاسفة المعاصرين الذين حاولوا بناء نظرية متكاملة حول  ما سماه  ماتي “العدالة الاستذكارية [6] التي، كما عبر عن ذلك المفكر الكولومبي كارلوس فيليبي روا ديلغادو  Carlos Felipe Rúa Delgado تُعد بمثابة “ركن تكميلي لبراديغم العدالة الانتقالية”[7].

يمثل  راييس ماتي  ذلك التيار الفكري الأخلاقي المتمحور حول ” إطيقا متمركزة حول الضحايا  تهدف إلى أنسنة  العالم  وتخليق الحياة السياسية”[8]. إن نظريته حول العدالة، وكما يؤكد ذلك بنفسه، تعد استمرارا ً للأدبيات الفلسفية حول إطيقا الذاكرة في السنوات التي تلت منتصف أربعينيات القرن الماضي عندما  بدأت أصوات الضحايا من الناجين من الهلوكوست تجد صداها في الأوساط الفكرية، خاصة  مع بريمو ليفي[9] وماريك ايدلمان[10] الذين يقرن ذكرهما بمفهوم “واجب الذاكرة”[11].

يجد مفهوم “العدالة الاستذكارية” إذن  مقدماته في  النظريات الفلسفية الجديدة حول العدالة، خاصة  في ألمانيا وفرنسا  واسبانيا،  والمتمركزة حول فكرة إيلاء ما سماه ريكور ب”الأولوية الأخلاقية للضحايا”[12]،  وهو ما يعبر عنه أحيانا ب “الاطيقا  الاستذكارية”، خاصة من طرف الجيل الأول من فلاسفة مدرسة فرانكفورت كتيودور أدورنو وماكس هوركهايمر ، أو اسماء أخرى لفلاسفة آخرين أمثال والتر بينجامين وسيمون فايل وبول ريكور وإيمانويل ليفيناس وجاك دريدا ومفكرين آخرين قبلهم مثل فرانس فانون  وبريمو ليفي وجون أميري الذين قدموا براهين واستدلالات كافية من اجل تقعيد وضعية فلسفية – ايطيقية للضحية ومفهمته .يتعلق الأمر بجيل من الفلاسفة حملة شعار الفلسفة ما بعد أوشفيتز Auschwitz. وهذا معناه أن  بداية الاهتمام الأخلاقي والفلسفي بالضحايا  اهتمام حديث نسبيا في تاريخ الفكر الغربي[13] .

  • العدالة الاستذكارية نقيض العدالة العقابية

يمثل مفهوم العدالة الاستذكارية  مع ماتي تحولاً عميقاً في مفهوم العدالة القديم كما في العصور الوسطى والحديثة؛ يتعلق الأمر بمراجعة وبيان نواقص وعيوب هذه النظريات، سواء ما يتعلق بخطاب العدالة الجزائية retributiva بالنسية للقدامى، او بالتفاوتات las desigualdades  بمختلف مستوايتها، بالنسبة للنظريات الحديثة بما في ذلك هابرماس  وراولز.

لقد كان مرجع العدالة عند القدماء هو الغير، وكان موضوعها هو المظلوم. فالعدالة، كما فهمها القديس توما الأكويني، على سبيل المثال، تتمثل في إعادة الحق لصاحبه. والأمر الأقل أهمية هو ما إذا كان الشخص الذي عليه أن يعيده يوافق على ذلك أم لا. إن فضيلة العدالة لا علاقة لها بمشاعر المدين أو إرادته، بل بالتعويض عن الشر الذي سببه، بحيث أن فضيلة العدالة  في هذا الفعل الموضوعي، وليس في الفعل الذاتي.

في المقابل، فإنه من وجهة نظر معاصرة، فإن موضوع العدالة ليس الغير، بل “النحن”؛ بحيث أن مجتمع الحوار المثالي (النموذجي) هو الذي يحدد ما هو عادل وما هو غير عادل؛ ما هو خير وما هو شر. ومضمون هذه العملية هو الحرية: ما يجعل القرار عادلاً هو أن أولئك الذين يتخذون القرار يفعلون ذلك بأقصى درجة من الحرية، ومن ثمة، فإن هدف العدالة ليس معالجة الخطأ المرتكب، بل نزاهة إجراءات اتخاذ القرار بشكل “يضمن” المساواة (مساواة الجميع أمام القانون بما في ذلك مسؤولي الدولة، إلا أن العدالة العقابية على مستوى التطبيق و”عندما يتعلق الأمر بجرائم الدولة لا تطبق إلا في حالات استثنائية. نادرا ما يعترف نظام سياسي بارتكابه لجرائم تجاه مواطنيه وقليلا ما تواجه الدولة ما تستحق من جزاء. وهذا الأمر ينطبق على جميع الأنظمة ديمقراطية كانت أو غيرها”[14]. وعادة ما يتم تقديم هذه المقاربة كتقدم، ولكن من ناحية أخرى، فإنه ينطوي على خسارة فادحة، لأنه صرنا نتحدث عن الظلم دون أن يحصل اتفاق حول معنى العدالة ذاتها.

يمكن القول على سبيل الاختصار إن العدالة في المنظور التقليدي تتأسس على مقومين أساسيين هما: سلطة القانون والدفاع عن المجتمع، الأمر في الحالتين معا يتعلق بالجزاء. وذلك ما لخصه الانتربولوجي مارسيل موس بقوله ان العدالة الجزائية تبدأ بالعقاب الذي يتعرض له كل من ينتهك كل محظور مقدس وتنتهي بمعاقبة كل من ينتهك القانون”. وفي نفس المنظور ترتبط العدالة بدعوى الدفاع عن المجتمع، وفي هذا السياق احقاق العدل معناه تحييد الذات التي تهدد المجتمع عبر السجن أو المعالجة النفسية- العقلية”[15].

فكرة العدالة عند ماتي تشكل مدخلا فلسفيا جديدا للنظر إلى العدالة كفعل وكممارسة على أرض الواقع، تتصل بما هو كائن وليس بما يجب أن يكون، أو تعد بتحقيقه في عالم مثالي، بحيث تسقط دعوى وجود عدالة كونية، لذلك نجده، عوض إقران العدالة بالعقوبة، يقرنها بجبر ضرر الضحايا. أي ربط العدالة بالماضي. وهذا  ضداً على العدالة الأنوارية الليبرالية ذات التوجه التقدمي.

  • العدالة الاستذكارية نقيض العدالة الأنوارية (التقدمية)

ينتقد راييس ماتي النظريات القديمة والحديثة حول العدالة  لاعتبارين  أساسيين:

أولاً: لأنها عدالة  تتجاهل مكوناً مركزياً بدونه  يبطل كل خطاب حول العدالة الانتقالية، وهو آلام الضحايا ومعاناتهم في الماضي، أي تلك العدالة التي تنافح عن “الأمنيزيا” على حساب “الأنمنيزيا”، بدعوى أنها تتوجه نحو المستقبل وتعتبر الماضي كعائق ومصدر ازعاج. وعليه، يمكن اعتبار العدالة الليبرالية كعدالة مستقبلية  ذات مرجعية أنوارية  قائمة على مفهوم التقدم.

في ظل هذا الخطاب، يُنظر إلى الضحايا على أنهم ذلك الثمن الذي يجب دفعه من أجل تحقيق التقدم الذي لا مفر منه؛ إنهم مثل  تلك الورود الصغيرة التي، يقول هيغل ، يمكن الدوس عليها ونحن نمر على قارعة الطريق ؛ إنهم “الثمن” الضروري الذي يجب دفعه من أجل الظفر بحرية الانسانية وتحقيق التقدم[16].

صحيح أن العنف لا ينفصل عن القانون بحيث لا قانون بلا عنف (العنف المشروع)؛ لكنه في ظل العدالة العقابية، غالباً ما يتم شرعنة العنف لتحقيق غايات مزعومة؛ إنه العنف منظوراً إليه من الزاوية القانونية المحضة ، ومن ثمة، فإن الضحايا يصبحون كأدوات من أجل القانون.

وثانياً: لكونها عدالة  طوباوية. وفي هذا الاطار يمكن القول، التفاتاً إلى ما تقدم، إن هناك مقاربتين حول العدالة: واحدة مجردة ، وأخرى نابعة من التجربة الملموسة.

وإذا كانت هناك ، على وجه العموم، ثلاث موجات حول فكرة العدالة، فإن ماتي يمثل الموجة الثالثة؛ إذ أنها تقترن عنده بمفهوم المسؤولية[17]، بينما كانت في المرحلة القديمة تقترن بالفضيلة، وفي المرحلة الحديثة بالواجب. وهكذا فإن المسؤولية تسبق الحرية، وهذه الأسبقية تقتضي علاقة مراجعة مفهوم الكونية على ضوء علاقة مختلفة بالغير”[18].

وهذا يوازيه حسب راييس ماتي نمطان من الفعل الفلسفي: واحد  يقوم على الرؤية والآخر على الانصات”[19]. وبهذا المعنى فإن جبر الضرر، كضمانة من ضمانات عدم التكرار، يجب أن يستهدف الأفراد بعينهم عن طريق الاعتراف بهم واخراجهم من دائرة الاقصاء، وبهذا الشكل وحده قد يكون للمصالحة والصفح  معنى[20].

تجدر الإشارة إلى أن ماتي في بلورته لنظرية العدالة الاستذكارية قد استفاد من عدة مفكرين في الموضوع ممن طرحوا فكرة مقاربة العدالة انطلاقا من الضحايا، ومن تجارب ملموسة، بحيث أن “فكرة العدالة يجب أن تكون مستخلصة من تجربة المعاناة”[21]. لذلك  نجد أفكاره تتقاطع مع مجموعة من هؤلاء إلى حد التطابق أحياناً. ويمكن أن نذكر في هذا الصدد ما خطه أماريا سن عام 2009[22].

  • “العدالة الاستذكارية” كبديل إيطيقي للعجالة العقابية

ولأن الأمر كذلك، فإن  العدالة الاستذكارية تعتبر ايطيقا متمركزة حول الضحايا”؛ الضحايا “الذين يعانون ليس فقط المظالم التي لحقتهم من طرف جلاديهم، بل يعانون أيضاً من تجريم آخر من طرف المؤسسات السياسية التي تتجاهل أو تعمل اسلوب الأذن الصماء تجاه آلامهم”[23]. أي ضد طمس كل ماضي تراه السلطة  مزعجاً  وغير مفيد. وغني عن البيان ما لهذا الطمس من آثار سلبية على الأجيال اللاحقة، خاصة على الشباب[24]. وهو ما عبر عنه جاك  لوغوف من جهته  بالقول: ” فكما أن فقدان الذاكرة ليس { مجرد} اضطراب عند الفرد، بل يستتبع بلبلات في الشخصية خطرة إلى حد ما، كذلك نرى أن غياب الذاكرة الجمعية عند الشعوب والأمم أو ضياعها الارادي ربما يؤديان الى اضطرابات خطيرة في الهوية الجمعية”[25].

إنها، أي العدالة الاستذكارية، دفاع عن الحق في التذكر، ونضال ضد النسيان، عندما يكون هذا الأخير مصدرا للاعدالة”؛  إنها تعبير عن القدرة الاستذكارية la potencia anamnética في مقابل القدرة الاخفائية –  الاقبارية la potencia amnésica للنسيان[26] . وهنا يصبح فعل التذكر فعلا ايطيقيا بعبارة سوزان سونتاغ [27].

إن كل نظرية فلسفية  تتجاهل الماضي، يقول ماتي، لا يمكن أن تكون عادلة؛ لأن العدالة وحدها التي تولت مسؤولية كل مظالم الماضي يمكن أن تُوصف بالعدالة الكونية. وفي معرض حديثه عن معاناة الضحايا، يقول راييس ماتي: “إن الضحية تعاني من ضرر ثلاثي: شخصي وسياسي واجتماعي. إنه يعاني جراء الاعتداء الذي تعرض له من طرف الجلاد، ويعاني من اقصاء المؤسسات السياسية التي تدير الظهر لآلامه، كما يعاني من الازدراء الاجتماعي .لذلك فإن انصافهم يجب ان يكون على هذه المستويات الثلاثة.

من مقتضيات الاطيقا إذن  الحق في الذاكرة كأمر مطلق؛ لكن ليس بالمعنى الكانطي؛ بل بالمعنى الأدورني (نسبة إلى أدورنو). إن العدالة، والحالة هذه، ” يجب ان تنزل من المستوى المجرد والكوني الى المستوى الفردي بحيث أن الفرد لا يختفي أثره في اطار مشاريع كليانية”؛ بل، على العكس من ذلك، ان الاطيقا يجب  تتشكل انطلاقا من التجارب الملموسة والمعاشة عبر سرديات لهذه التجارب الأليمة التي تستعيد تلك التجارب ؛ تجارب نفي الفرد واقصائه ” تجارب عندما يتم تقاسمها مع الآخرين تسمح ببناء جماعة ايطيقية”[28]. من هنا نفهم معنى أن الأخلاق بالنسبة لأدورنو، ليست خطابًا مستقلاً وثابتاً ومستداماً، كما أنها ليست شيئًا أصليًا، ولكنها استجابة لواقع  معطى»[29].

  • الحق في التذكر وواجب الانصات للضحايا

ان جزءاً مهماً من الفلسفة السياسية والأخلاقية المعاصرة خاصة أعمال والتر بنجامين وهوركهايمر وأدورنو ولفيناس تدعو الى ضرورة الانصات للضحايا[30] كواجب اخلاقي  وكتأكيد للحق في الذاكرة عبر تمكينهم من الكلام بصوت جهوري ومسموع في جلسات عمومية لمعرفة حقيقة ما جرى، إذ بذلك  يتحقق مطلب تنويع السرديات والمساهمة في تشكيل الذاكرة الجمعية؛ لأن ” التقاسم العمومي للحقيقة يساهم في إضفاء معنى على الهوية الجماعية” . جدير بالذكر أن الحق في التذكر يعني، من بين ما يعنيه، الحق في السرد.

يقول ريكور إن شهادات الضحايا تعبير عن هوية سردية تمر عبر الذاكرة، لأنه “كي أستطيع أن أسرد حياتي أو حتى أن أسرد أي رواية لا بد من أن ألجأ الى ذاكرتي، غير أن الذاكرة لا تستطيع أن تستوعب كل تجربتي، لذا فإن سردي  يمر كذلك عبر النسيان”[31].

إن الاطيقا تبنى انطلاقاً من التجارب الملموسة – الحية عبر التنديد بتجارب الألم والشر الناتجة عن القرارات التي اتخذها الجناة . وعلى نقيض كانط بلور أدورنو أمراً مطلقاً جديداً قوامه الارتباط بوضعية معطاة في شروط تاريخية واجتماعية محددة. الامر المطلق عند  الأدورني يندرج ضمن الفلسفة الاخلاقية المادية[32].

من جهة أخرى، تقوم العدالة الاستذكارية على ضمان حق تذكر الماضي، لما في نسيانه[33] أو محاولة محوه من مخاطر جمة، فكما قال للفيلسوف الامريكي جورج سنتيانا: “من لا يتذكر ماضيه الأليم  سيكون محكوماً عليه بإعادته”[34].

وقد رأى نيتشه[35]  بعض المحاسن في التذكر رغم انتصاره لفضيلة النسيان، فتذكر العنف والألم والمعاناة لان نسيان الالم يؤدي الى اعادة انتاجه والتطبيع معه ليصبح “واقعا عاديا” كما يقول نيتشه[36]، كما أن الطاقة الاستذكارية تعد  مهماً عاملاً  لوقف تلاقح العنف[37]، ومنح الضحية الشعور بأن معاناته كانت معاناة نبيلة بعبارة ماكس شيلر[38].

تمثل ذاكرات الضحايا إذن، الحالةُ البراديغمية للتذكّر السلبي: يتعلق الأمر بذاكرات تُحضر المعاناة والآلام التي تكبدها الضحايا الذين غالباً ما يفشلون في التحرر من ذاكراتهم المؤلمة، فتكون جلسات البوح بمثابة مساهمة في  العلاج  و”الصحة المنيعة”[39]، ومن ثمة، فإن  شهادات الضحايا، كصوت مندد بالعنف، تتحول الى طاقة نقدية فعالة من أجل نزع طابع المشروعية عن العنف. كما تكمن أهمية شهاداتهم  في التعرف على السياقات والظروف التي انتجت تلك الفضاعات. وهنا تصبح الذاكرة في خدمة التاريخ       وشرط  من شروط الحيلولة دون إمكانية إعادة انتاج العنف[40].

إن السير في هذا الاتجاه والاعتراف بالفضاعات التي ارتكبت هي نوع مما سماه أدورنو “الدياليكتيك السلبي” كتفكير ضد الذات نفسها[41]، وإلا “تحول نسيان العنف وفضاعته إلى تكريس لقوانين عنيفة ستصبح عادية وجزءاً من التقليد السائد”[42].

وهنا تختل وظيفة السرد التي هي أساس تكون الهوية الشخصية. يقول بول ريكور: إن الحياة هي ان تروي هذه الحياة، وان تفهم ذاتك معناه أن تكون قادراً على أن تحكي، أن تتحدث عن نفسك. تتبدى المعاناة في شكل انقطاع الخيط السردي، وهذا ما يؤدي إلى العجز عن تقدير ذاته أي كرامته إلى درجة الاحساس بالذنب[43].

وهكذا فإن  ضمان  الحق في التذكر هو نوع من النقد الايطيقي للعنف. وتجدر الاشارة،هنا، إلى أن هذا التعبير يرجع إلى والتر بينجمان في كتابه “في نقد العنف” (1986)، والذي يميز فيه بين الخشونة Agressivité  والعنف Violence . وطبقاً لهذا، فإنه، حسب بنجامين، لا يوجد العنف إلا عندما تُنتهك   العلاقات الاطتيقية، أي عندما ينفي هذا العنف العلاقات الانسانية – الاخلاقية[44]

  • مخاطر سوء تدبير الماضي

صحيح أن للنسيان فضول كثيرة؛ “لكن قد تتحول تلك الوظيفة إلى وظيفة خبيثة عندما يكون الهدف هو محو المظالم ونسيان الضحايا، علماً أن بناء الذاكرة الجمعية كانت دائما ” رهاناً مهماً في صراع القوى الاجتماعية من اجل السلطة”  بحيث أن ” السيطرة على الذاكرة والنسيان هي من أكبر اهتمامات الطبقات والمجموعات والافراد الذين هيمنوا أو يهيمنون على المجتمعات التاريخية. فعمليات نسيان التاريخ وإغفاله مؤشران على عناصر التلاعب بالذاكرة الجمعية هذه”[45].

وحتى إن كان الأمر كذلك، فإن ” تدبير التذكر يجب ان يكون بشكل متوازن، مع نوع من ممارسة النسيان، والا اصبحت الحياة مستحيلة؛ أن التذكر ضرورة اخلاقية، لكن للنسيان أيضا وظيفة علاجية مهمة سواء على المستوى الفردي او الجماعي”[46]؛  لأن  “إغداق الامتيازات على الذاكرة يعني الغرق في لجة الزمن العاتية”[47].

إن الذاكرة، والحالة هذه، لا يجب أن تحيي الماضي ، لكن تعيد بناءه” لتجنب ما اسماه تزيفيتان تودوروف ب”إساءات استعمال الذاكرة” [48]. والغاية المقصودة هو ان نحول الذاكرة الى مشروع، وتجنب مصير فونس[49].

  • ذاكرة الضحية: ذاكرة ألم أم معاناة؟

إن ما تكبده وتحمله[50]  الضحايا  ليس مجرد خشونة كما تقدم؛ بل إنه عنف، وليس مجرد ألم؛ بل إنه معاناة.

وفي سياق التمييز بين الألم والمعاناة، تجدنا  ملزمين بأن نذكر واحداً من المواقف الفلسفية الكثير حول تيمة العنف، وهو موقف بول ريكور في مقاله الشهير “ليست المعاناة كالألم” La souffrance n’est pas la douleur  وأصله محاضرة ألقاها بول ريكور في الملتقى المنظم من طرف الجمعية الفرنسية للطب النفسي بمدينة بريست عام 1992، والذي يتناول فيه  موضوع المعاناة والالم من كنظور التجربة الانسانية كتجربة كونية من زاوية فينومينولوجية وليس من زاوية التجربة الاكلنيكية .

ما هي الحدود الفاصلة بين الألم  والمعاناة؟

ثمة، يقول ريكور،  تقاطع  بين الألم والمعاناة؛ لكنهما مختلفان؛ فإذا كانت لفظة الالم تعبر عن احساسات تتموقع على صعيد اعضاء جسمية بعينها او في الجسد ككل، فإن لفظة المعاناة تعبر عن تلك الاحساسات المفتوحة على التركيز العقلي، واللغة والعلاقة بالذات والعلاقة بالغير والعلاقة بالمعنى[51].

لذلك لا نجده يقترح سبلا علاجية بل يسعى الى فهم كيف ان الانسان كائن قادر على تحمل المعاناة[52]، رغم ذلك فانه يعتبر ان ثمة تقاطعات بين الاكلينيكي والفينومينولوجي يتمثل في ادراك علامات المعاناة    ( سيميولوجيا المعاناة).

ثمة مستويات عدة للمعاناة، تتلخص في مفاهيم: العزلة والوحدانية والاقصاء excommunnication[53].

إلى جانب هذا، فإن  المعاناة، يقول ريكور، تشمل جراحات تمس تباعاً  أربع مستويات: العجز عن القول،  والعجز عن الفعل، والعجز عن الحكي ، والفشل في تقدير الذات[54].

يمثل   مستوى العجز عن القول نوعاً من فينومينولوجيا الذاكرة؛ بحيث أنه  إذا كان الألم يتبدى على مستوى بعض أو كل اعضاء الجسد، فإن المعاناة تتجسد على مستوى ملامح الوجه[55] تحديداً، وهو ما يبدو عندما يغالبه الأنين أو تغالبه الدموع، كتعبير عن تمزق داخلي بين إرادة القول والعجز عن ذلك. وهكذا، فإنه ” ليس هناك من فينومينولوجيا للذاكرة خارج  بحث مؤلم للجوانية”[56].

  • من “العقل الاستذكاري” إلى “العدالة الاستذكارية”

يُعد مفهوم “العدالة الاستذكارية” امتداداً لمفهوم “العقل الاستذكاري” لدى جوناتان باتيست ميتز، والذي انبثق  في سياق الحوار النقدي لهذا الأخير مع هابرماس  في سنوات الثمانينيات. وق استعمل هذا المفهوم في اطار الدفاع عن اطروحة ” العقلانية الاستذكارية” للدلالة على علاقة  الاتصال التي لا تنفصل عراها بين العقل والذاكرة، وأن الفكر هو الذاكرة[57] .

ينتقد ميتز الصيغة الغربية للحداثة التي تقوم على اضفاء الطابع الهيليني « la hellénisation » على كل الارث الثقافي الأوروبي، ومحاولة تسييد العقل اليوناني التي كان من نتائجه  ” التنكر لمكون جوهري لهذا الإرث ونسيانه، وهو الروح الاسرائيلية”[58]، كما أنه  مراجعة فكرة السمو المفهومي للكوني على المنفرد، وتثمين ثقافي لهذا الأخير من أجل تطوير عقلانية  ذات اهتمام بالطارئ والمستجد بدل الثابت والدائم، على اعتبار”أن للعقل بنية سردية وليس فقط استدلالية”. إن ن العقل الاستدلالي، والحالة هذه، غير كاف لمعالجة ذاكرة المعاناة”[59].

إن العقل الاستذكاري عقل أصيل وتاريخي  يبطل دعوى وجود عدالة كونية، وهو وحده الكفيل بإنقاذ ذلك الإرث المفقود ؛ إنه موقف نقدي لمفهوم “العقل التواصلي” عند هابرماس؛ إنهما يمثلان بنيتين سرديتين متمايزتين[60]    

يتعلق الأمر، عموماً،  بسمة من سمات ” الأصوات اليهودية في الفلسفة المعاصرة التي تنبه على المكون الاستذكاري الاساسي للعقل”؛ إنه عقل تحدده الذاكرة، لكن ليس بالمعنى الأفلاطوني، أي عقل من أجل تذكر الجواهر والماهيات والمثل؛ بل إنه عقل عملي يتجه نحو ذاكرة معينة هي ذاكرة المعاناة”[61].

  • الأصول الأرسطية لمفهوم العدالة الاستذكارية

يستعيد رايس ماتي عبر مفهوم  “العدالة الاستذكارية”، بشكل من الأشكال، المنظور القديم للعدالة العامة معنى العدالة، باعترافه أن كل كائن انساني فرد يشكل عنصراً ضمن الكل .[62]

هذه الاشارة الواردة عند خوان ميورغا  تنبهنا على أصول العدالة الاستذكارية، ونحن إذا استقصينا عن هذه الأصول سنجد أنها تعود، من حيث التأصيل المفهومي، إلى  أرسطو الذي اعتبر العدالة كعدالة من أجل الغير، وذلك في كتابه “الأخلاق الى نيقوماخوس” تحديداً.

يقول ارسطو: ” فالعدل هو الفضيلة التامة ولكنه ليس فضيلة مطلقة وشخصية محضة،  بل هو تعدّ الى الغير، وهذا هو الذي يجعله في الغالب يشبه أن يكون أهم الفضائل”[63].

ويسميه ب “الخير الأجنبي- البرّاني”. يقول: ” العدل وحده من بين جميع الفضائل يشبه أن يكون كخير أجنبي، كخير للأغيار لا لذاته؛ لأنه لا يتحقق الا بالنسبة للغير، لأنه لا يصدر عنه الا ما هو مفيد للأغيار”[64].

في رسالته المعنونة:  في الذاكرة والتذكر  يميز أرسطو بين الذاكرة (mémoire) mnémé والتذكر   (réminiscence) anamnesis بالقول:  إن “ال”منيمي” هي قدرة للحفاض على الماضي، بينما ال”أنامنيسيس”  “تذكر إرادي لهذا الماضي” . لتوضيح  ذلك يقول بول  ريكور: ” لقد كانت عند اليونان كلمتان هما منمي mnémé وأنامنزيز anamnesis كي يشيروا من ناحية الى الذكرى بما هي أمر يتبدى، بطريقة سلبية {……} كتأثر، انفعال pathos؛ ومن ناحية  أخرى ، الذكرى كموضوع لمطلب يسمى عادة استذكار، تفكّر، استرجاع”[65].

وفي الحالتين معاً، فإن المستهدف هو الذكرى التي إما موجودة ومعطاة أو مبحوث عنها؛ في الحالة الأولى،  نطرح السؤال “ماذا؟”، وفي الحالة الثانية أي حالة الاستذكار، نطرح سؤالين هما “كيف؟”

و “من؟” بالشكل الذي يفيد “تملك الذكرى من قبل فاعل قادر على أن يتذكر”[66]. بعبارة أخرى، الذاكرة هي ما يبقى مستمراً لا ينقطع، بينما يدل الاستذكار على تذكر ما تم نسيانه.

ما يميز الذاكرة عن الاستذكار اذن هو ان الذاكرة تأثر وانفعال،  بينما الاستذكار فعل إرادي. بعبارة أخرى، إن الاستذكار بحث، في حين ان الذاكرة مجرد تأثر سلبي. لا يتعلق الأمر بمجرد ذكرى، كما هو الأمر عند الحيوانات؛ إنها ذكرى يصحبها معنى، أي استحضار ماضي له معنى بالنسبة لحاضرنا .

وعليه،  فإن الإستذكار مجهود شاق لإعادة البناء، وكجهد عقلي تفكري، وفعل معقلن تصاحبه انفعالات؛ بحيث ” يتقاطع في مجهود الاستذكار البعد العقلاني والبعد العاطفي- الانفعالي[67].

خاتمة

بناء على كل ما قيل، يمكن أن نستنتج أن:

  • العدالة الاستذكارية نشأت عندما تم الوعي بأهمية التذكر لماضي عنيف ما زالت آثاره باقية وسارية المفعول في الحاضر؛ ومن هنا فهي  اختبار لجدية ومصداقية نظام سياسي في معالجة حقيقية لماضي الألم والمعانة،  وتنزيل مقتضياتها على المستويات القانونية والسياسية والاجتماعية تبعاً لسياسة ذاكراتية  متوازنة؛
  • العدالة الاستذكارية تنويع من تنويعات العدالة الانتقالية التي جاءت كبديل للعدالة العقابية؛
  • فكرة العدالة عند ماتي تشكل مدخلا فلسفيا جديدا للنظر الى العدالة كفعل وكممارسة على أرض الواقع ، تتصل بما هو كائن وليس بما يجب أن يكون، أو تعد بتحقيقه في عالم مثالي بحيث تسقط دعوى وجود عدالة كونية؛
  • ليس الاستذكار مجرد إحياء للماضي؛ بل هو إعادة بناء لهذا الماضي، وبذلك يمكننا أن نحسن النسيان؛
  • ذاكرة الضحايا هو المفتاح الابستيمي والمفهوم المركزي في الذاكرة الاستذكارية كما تصورها يانيس ماتي، عندما يطالب بالتفكير في العدالة انطلاقاً من الانصات الى مرويات المعاناة الناتجة عن مظالم الماضي.

[1] EL PAÍS, Opinion, 27-09-2003

[2]  نظمت هيئة الإنصاف والمصالحة جلسات استماع في 23 و 24 كانون الأول/ ديسمبر 2004 ، وتواصلت خلال الأشهر الأولى من عام 2005.

 [3] الزواوي بغوره، “الذاكرة والعدل”، مجلة يتفكرون، العدد الثاني، 2013، ص ص 17- 22.

[4]  محمد مزيان، المعرفة التاريخية بين ذاكرة الألم وتحقيق المصالحة المجتمعية التجربة المغربية نموذجًا، مجلة أسطور، كانون الثاني\يناير 2021، العدد 13، ص ص 110.

[5]  أنظر:

  1. M. MARDONES; R. MATE eds., La ética ante las víctimas, Anthropos, Barcelona, 2003.

[6]  في مقاله: “من أجل عدالة استذكارية”،الذي نشره في مؤلف جماعي:

Reyes Mate, «  En torno a una justicia anamnética », en Reyes Mate, M. Mardones, J. D. (eds.). L ética ante las víctimas. Barcelona: Anthropos, 2003, pp. 100 – 12.

من أهم المؤلفات الأخرى لماتي نذكر منها:

La razón de los vencidos (1991), Heidegger y el Judaísmo (1998), Memorias de Auschwitz (2007), Justicia de las víctimas. Terrorismo, memoria, reconciliación (2008) y La herencia del olvido (2008).

[7] Carlos Felipe Rúa Delgado , La justicia anamnética como construcción complementaria del

paradigma de justicia transicional. Una mirada desde el caso colombiano, Revista Ius et Praxis, Año 22, Nº 1, 2016, pp. 455 – 492.

[8] Francesc TORRALBA & Cristian PALAZZI, EL DEBER DE RECORDAR A LAS VÍCTIMAS. ÉTICA ANAMNÉTICA, EGUZKILORE – 22 (2008), pp. 189- 196.

[9]  أنظر :

Primo Levi, Si c’est un homme, Pocket, 1988.

[10]  أنظر:

  1. EDELMAN, Mémoires du ghetto de Varsovia, Liana Levi, Lonrai, 2002.

[11] ظهر مفهوم “واجب الذاكرة”، تحديداً، في حوالي يناير وفبرايرمن عام 1945:

Manuel Reyes Mate, Memoria histórica y ética de las víctimas, (Transcripción de la conferencia pronunciada en las XI Jornadas de Pensamiento Crítico, celebradas en Madrid el pasado mes de diciembre), (Página Abierta, 242, enero-febrero de 2016).

[12]  بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، ترجمة وتقديم وتعليق جورج زيتاني (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2009)، ص 148.

[13] Francesc TORRALBA & Cristian PALAZZI, art.cité.

[14]  عبد الحي مؤذن، رباط الكتب، “العدالة والماضي الأليم”، 23 مارس 2013 في نـدوات وملفـات، شوهد في: 12\08\2023، في:

https://ribatalkoutoub.com/

[15] cf. Francesc TORRALBA & Cristian PALAZZI, art.cité.

[16] Eduardo Charpenel, Right and Sanction. The Notion of Judicial Punishment in Kant and Hegel, Tópicos, Revista de Filosofía 55 (2018), 163-188.

[17] REYES MATE, La herencia pendiente de la «razón anamnética», ISEGORíN10 (1994) pp. 117-132.

[18] REYES MATE, La herencia pendiente de la «razón anamnética», art.cité.

[19] Juan Mayorga, CRÍTICA DE LIBROS, HACIA UNA JUSTICIA GENERAL ANAMNÉTICA, ISEGORÍA, N.º 45, julio-diciembre, 2011, 715-770, ISSN: 1130-2097.

[20] Cf. Eamonn Callan, Réconciliation et éthique de la mémoire publique, in :Philosophiques, vol.29, n0 2, 2002.

[21] REYES MATE, La herencia pendiente de la «razón anamnética», art.cité.

[22]  وهذا ما يتبين من ملخص موقفه بهذا الشأن كما ورد في مقال الأستاذ عيد الحي المؤذن:

” في الكتاب الذي أصدره أمارتيا سن سنة 2009، {  يقدم تعريفا للعدالة يعتبره بديلا عن التعريف الليبرالي الكانطي. ينتقد سن المقترب الكانطي للعدالة بكونه متعالياً (transcendent) يسعى لتحقيق عدالة نموذجية مثالية، ويقترح بدله مقتربا مقارنا ينطلق مما يمكن أن يتحقق من أجل تقليص الظلم.  إن المجتمع العادل بالنسبة لرولز يتحقق “من خلال المؤسسات المثالية والسلوك المثالي.”  ولذلك فإن أطروحته تسعى إلى تحديد الترتيبات المؤسساتية العادلة الكاملة التي يعتبرها سن مثالية وغير عملية، بل ينتقدها معتبرا إياها “أصولية مؤسساتية”. تركز على المؤسسات المجردة والمتعالية وتغفل الواقع المعاش27.  يجد سن جذور هذه المثالية لدى رولز في نظرية العقد الاجتماعي التي بدأت مع هوبس، ولكن تبناها أيضا لوك، روسو وكانط.  وكان السياق التاريخي السياسي لدى هؤلاء يدفعهم إلى البحث عن كيفية تجنب استبدادية الحكم الفردي فانصب عملهم على تطوير إطار لصنع قرارات عقلانية وديمقراطية من خلال مؤسسات مستقلة عن نزوات الحاكم.  لكن نتيجة هذه “الأصولية المؤسساتية” حسب سن، كانت هي تعاليها عن الواقع، ومثاليتها عديمة الفعالية. يقترح سن مرجعية نظرية بديلة للعقد الاجتماعي هي الخيار الاجتماعي التي ظهرت خلال الثورة الفرنسية على يد جون شارل دو بوردا و والماركي دو كوندونسي (Jean-Charles de Borda et the Marquis de Condorcet)  ثم طورها في الخمسينات الفيلسوف الأمريكي كينيث آرو. الأولوية لدى سن تصبح هي تقييم المنجزات الاجتماعية التي تتحقق فعلا، بدل تصور المؤسسات والترتيبات التي تسعى نظريا لضمان العدالة الكاملة والغير ممكنة التحقق حسب رأيه. العدالة ليست مرتبة كاملة مجردة يجب أن نطمح إلى تحقيقها، ولكنها مسلسل من الممارسات، بل ومن الإصلاحات غير الكاملة التي نقوم بها في عالم موجود، حاضر. إننا لا نستطيع أن نحقق العدالة المتعالية الكاملة. كما أننا عاجزون عن تحقيق الإجماع حول محتوى هذه العدالة من خلال النقاش الافتراضي الغير واقعي والغير ممكن الذي يقترحه رولز والذي يعتمد على العقلانية الصارمة التي يفترض أن يهيئها “حجاب الجهل” و”الموقع الأصلي.” لكننا بالمقابل، وانطلاقا من مقترب الخيار الاجتماعي يمكننا أن نقلص من الظلم. يسمح هذا التعريف بالاعتراف بالحلول الجزئية وبتنوع التأويلات والمساهمات الفكرية من أجل إنجاز ما يساعد على الوصول لهدف تقليص الظلم وإخضاع هذه المنجزات إلى التقييم عن طريق المقارنة الميدانية.

ظلت الانتقادات الموجهة للعدالة الانتقالية تركز عن كونها بقيت بعيدة عن تحقيق العدالة المثالية مركزة في ذلك على التناقض الواضح بين المصالحة بدون عدالة عقابية وفكرة العدالة في أصلها التعاقدي. كما أن بقية مبادئ العدالة الانتقالية مثل الحقيقة وجبر الضرر لم تعتبر إلا إجراءات رمزية لا ترقى إلى مستوى فكرة العدالة المثالية، بل إن هناك من اعتبرها متناقضة معها. إلا أن مقترب سن يسمح بمدخل جديد لإعادة النظر في علاقة العدالة الانتقالية مع فكرة العدالة من صلب فلسفة الحق الأنوارية. من هذه الزاوية، فإن تقييم قضايا المصالحة وجبر الضرر الفردي والجماعي وجلسات الاستماع لا تنطلق من مدى تطابقها مع فكرة العدالة المثالية بل في دورها في تقليص الظلم على المستوى الميداني واعتمادا على ما أنجز عمليا. وأهمية ما أنجزته العدالة الانتقالية من هذا المنظور تكمن ليس فيما تَعِد بتحقيقه مستقبلا وهي تسعى (بدون أن تتمكن من ذلك) إلى أن تحقق العدالة الكاملة، بل في كون أن ما تحققه عمليا على أرض الواقع يساهم في التقليص الفعلي للظلم”، عبد الحي المؤذن، العدالة والماضي الأليم، مرجع سابق.

لكن لا بد من الإشارة هنا إلى أن الكتاب الذي يشير فيه إلى أماريا سن، أي كتاب: ” رسالة في اللاعدالة”، الذي صدر عام 2011، أي سنتين قبل صدور كتاب يانيس ماتي؛ لكن هذا لا يعني أن الأخير ينقل من الأول؛ إد أن ماتي تحدث عن العدالة الاستذكارية  قبل  ذلك بسنوات، وتحديداً عام  2003، كما سبقت الاشارة الى ذلك.

[23] Francesc TORRALBA & Cristian PALAZZI, EL DEBER DE RECORDAR A LAS VÍCTIMAS. ÉTICA ANAMNÉTICA, art.cité.

[24]  أنظر في هذا الموضوع مقال محمد السعدي:

محمد سعدي، “شباب حراك الريف في المغرب والذاكرة الجمعية الحارقة. الاعتراف بوصفه مدخلاً لمصالحة الدولة مع الماضي الأليم”، العدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي في البلدان العربية، المجلد الأول: حالات عربية ودولية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 14 أغسطس، 2022.

[25]  جاك لوغوف، التاريخ والذاكرة، ترجمة: جمال شحيّد، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سلسلة ترجمان، 2017)، ص 103.

[26] CASTOR M.M. BARTOLOMÉ RUIZ, La justicia anamnética. VIOLENCIA, MÍMESIS Y MEMORIA DE LAS VÍCTIMAS, ADVOCATUS | EDICIÓN ESPECIAL No. 20: 319 – 335, 2013 | UNIVERSIDAD LIBRE SECCIONAL | BARRANQUILLA.

[27] Francesc TORRALBA & Cristian PALAZZI, EL DEBER DE RECORDAR A LAS VÍCTIMAS. ÉTICA ANAMNÉTICA, art.cité.

[28] Cf. ibid.

[29] Cf. Ibid.

[31]  بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، مرجع سابق.

ولأن عملية التذكر تتم ضمن أطر اجتماعية  (بعبارة هالبفاكس الشهيرة: “إننا لا نتذكر وحدنا أبذاً)، أي نتذكرفي سياقات أخلاقية وسياسية  أيضاً، لذلك فإن الكثير من الفضاعات ستظل طي الكتمان ولا مُعبر عنها unspeakable horror.

[32] Tulia Almanza Loaiza, La memoria de la experiencia como respuesta ética ante las víctimas, art.cité.

[33] بالرغم من أن النسيان مستحيل؛ لأنه، في آخر التحليل، ليس إلا جزءاً من الذاكرة.

يذكر شيشرون (الذي يسمى ايضا ماركوس توليوس) أن شخصا طلب من رجل مسن أن يعلمه الفن العجائبي بأن “يتذكر كل شيء”  وقد رد عليه الرجل بأنه كان يفضل فنا للنسيان قادرا على أن يجنبه معاناة تذكر ما لا يريده والعجز عن نسيان  ما يريد”،

Paul Ricœur, la mémoire, l’histoire, l’oubli, eds. Du Seuil, 2000, p. 79.

في معرض حديثه عن الذاكرة عند القديس اوغسطين يقول ريكور: ” ولكن النسيان أليس شيئا آخر غير الأمر الذي نتذكر أننا نسيناه لأننا نتذكره من جديد ونتحقق منه؟”، بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، مرجع سابق، ص ص 160-161.

[34] René Magritte, “Those who cannot remember the past are condemned to repeat it.”–George  Santayana, The Life of Reason, 1905.

[35]  في كتابه جنيالوجيا الأخلاق حيث يتبنى موقفاً مغايراً لما سيدافع عنه في كتابه اعتبارات لازمانية.

[36] Cf. CASTOR M.M. BARTOLOMÉ RUIZ, La justicia anamnética. VIOLENCIA, MÍMESIS Y MEMORIA DE LAS VÍCTIMAS, art.cité.

[37] Cf. ibid.

[38] Max Scheler, El sentido del sufrimiento, traducción Oscar caeiro, Librería Goncourt, Buenos Aires, 1979, p. 46.

[39]  لا بد من التذكير هنا بتعريف مفردة الصحة حسب المنظمة العالمية للصحة: ” لا تعني مفردة  الصحة السلامة الجسدية فقط، بل انها تذل فضلا عن ذلك حالة ايجابية للوجود العاطفي والاجتماعي”.

[40] CASTOR M.M. BARTOLOMÉ RUIZ, art.cité.

[41] Cf. Ibid.

[42] Cf. Ibid.

[43] Paul Ricoeur, La souffrance n’est pas la douleur, art.cité.

[44] Cf. CASTOR M.M. BARTOLOMÉ RUIZ, art.cité.

[45]  جاك لوغوف، التاريخ والذاكرة، مرجع سابق، ص 105.

[46]  Francesc TORRALBA & Cristian PALAZZI, EL DEBER DE RECORDAR A LAS VÍCTIMAS. ÉTICA ANAMNÉTICA, art.cité.

[47]  جاك لوغوف، التاريخ والذاكرة، مرجع سابق، ص 10.

يذكر ريكور، تفسيراً لما قاله تودوروف،  أن الضحايا انفسهم قد يسيئون استعمال الذاكرة:  “كونك كنت ضحية يعطيك الحق في أن تشكو وتحتج وأن تطالب”، بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، مرجع سابق.

[48]  أنظر كتابيْ  تزفيتان تودوروف  في الموضوع:

  • Tzevetan Todorov, Los usos de la memoria, colección signos de la memoria, serie IDEAS, 2013.
  • Tzevetan Todorov, Los Abusos de la memoria, Traducción de miguel Salazar, eds. Paidós ibérica, 2000.

[49]  ” في قصة  “فونس قوي الذاكرة : (Funes el memorioso, Jorge Luis Borges, Ficciones, 1944. يحكي الكاتب الأرجنتيني المعروف خورخي لويس بورخبص عن شاب يعاني “تضخم الذاكرة”  فأصبت تثقل عليه الذكريات إلى درجة أنه، بعد تعرضه لحادثة السقوط من فوق حصان، لا يقدر على نسيان أي شيء؛ يتذكر أتفه التفاصيل. تحولت ذاكرته، الجامعة المانعة، المعصومة من الخطأ والتي لا يعزب عنها أي شيء، من هبة إلى لعنة، بحيث “يتمتع” بفيض من التذكر جعله يبقى أسير الماضي وحبيس الادراك الذي لا يرقى إلى درجة الفهم، كما حرمه من الزمن الحقيقي للحياة المعيشة. لقد شكلت القدرة الاستثنائية لإرينيو فونس على التذكر مأزقاً حياتياً رهيباً، وجوهر مأساته التذكر البالغ الدقة والاكتمال المفضي إلى تعطل القدرة على  التفكير؛ لقد ظل فونس  يعيش تحت وطأة ووزر ذاكرته، التي شبهها ب”كومة الأزبال”، إلى أن قضى نحبه.

العبرة المُستخلصة من قصة فونس هي أن تضخم الذاكرة Hypermnésie  مضر بالصحة الفردية أيما ضرر؛ إذ يمكن أن تكون وبالا على صاحبها إذا لم  يستطع تدبيرها  والتحكم فيها.وهذا الضررلا يقل خطورة عن ضرر فقدان الذاكرة  Amnésie سواء على المستوى الفردي أو الجماعي؛ لذلك وجب البحث عن “ذاكرة عادلة” توازن بين الإثنين وفق مبدأ ؛لا إفراط ولا تفريط، بحيث يصبح النسيان شرطاً للذاكرة  ووظيفة من وظائفها”.

الـحـسـن أسـويـق، “الــذاكــرة الـتـاريـخـيـة بـالـريـف … حـتـى لا تـتـحـول الــذاكــرة إلــى وزر”، أنــوال نــت،

10/5/2017 ،شـوهـد في: 12\08\2023 ، في: 2vnta5M/ly.bit://http

[50]  Du latin populaire sufferīre, altération du latin classique sufferre (« supporter, endurer ») de fero), porter ») avec le préfixe sub- (« sous »). »).

وفي اللغة العربية: كابد وقاسى وعانى وتحمل مشقة (لسان العرب).

[51]  ينظر في هذا الصدد ما يسميه فيكتور فرانك بالعلاج بالمعنى:  logothérapie.

Cf. Le Breton, D. (2005). Douleur et anthropologie : esquisses. Frontières, 17(2),

7–12. https://doi.org/10.7202/1073483ar.

[52]Paul Ricoeur, La souffrance n’est pas la douleur, Psychiatrie française, numéro spécial, juin 1992; et

dans la revue Autrement, “Souffrances”, n° 142, février 1994.

[53] Cf. ibid.

[54] Cf. ibid.

[55]  أنظر:

Emannuel Levinas, Difficult  Freedom. Essays on Judaism. tr. Sean Hand (Baltimore: John Hopkins, )1990).

[56]  بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، مرجع سابق ، ص  158.

[57] Matías Omar Ruz, Guillermo Rosolino, Carlos Schickendantz, Razón anamnética, sufrimiento ajeno y teodicea. Claves de lectura, logros y límites de la obra de Johann Baptist Metz, Teologia y Vida, Vol. XLIX (2008), 575 – 603.

[58] Cf. Ibid.

[59] Cf. ibid.

[60] REYES MATE, La herencia pendiente …, art.cité.

[61]   Matías Omar Ruz, Guillermo Rosolino, Carlos Schickendantz, Razón anamnética, sufrimiento ajeno y teodicea. Claves de lectura, logros y límites de la obra de Johann Baptist Metz, art. Cité.

[62] Juan Mayorga, CRÍTICA DE LIBROS, HACIA UNA JUSTICIA GENERAL ANAMNÉTICA, art. cité.

[63]  أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد، (القاهرة: مطبعة الكتب المصرية، 1923)، ص 60.

[64]  أرسطو، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، نفس المرجع، ص ص 60- 61.

[65]  بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، مرجع سابق، ص 32.

 نفسه. [66]

[67]   بول ريكور، الذاكرة، التاريخ، النسيان، مرجع سابق ، ص 6.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى