قضية الأسرى الفلسطينيين إلى أين؟
بقلم : د. عقل صلاح – كاتب وباحث فلسطيني متخصص بالحركات الأيديولوجية.
- المركز الديمقراطي العربي
لقد عمدت إسرائيل منذ قيامها على أرض فلسطين إلى فتح العديد من السجون، حيث قامت بأسر عشرات الآلاف من الفلسطينيين والعرب، وقد وصل عدد من تم اعتقالهم لأكثر من مليون فلسطيني. كما قامت بإصدار وإقرار قوانين وسياسات عنصرية وقمعية لاستهداف الأسرى للنيل من عزيمتهم وثنيهم عن مواصلة الكفاح ضدها. فمنذ بداية اعتقال أول أسير فلسطيني وحتى اليوم وهي تبتكر وسائل وأساليب للتضيق على الأسرى في زنازينهم وقتل البعض منهم، وقبل طوفان الأقصى صبغت ممارساتها الإجرامية بالصبغة القانونية من خلال تشريعاتها لسلسة من القوانين التي تستهدف الأسرى ومحاصرتهم على جميع الصعد، وحديثًا بدأت إسرائيل تصعد من سياساتها فانتقلت من أسلوب القتل الفردي إلى القتل الجماعي، فقد قتلت إسرائيل منذ سنة 1967 وحتى سنة 2023، أكثر من 240 أسيرًا، حيث وصل عدد شهداء الحركة الأسيرة منذ بدء حرب الإبادة وحتى العاشر من كانون الأول/ديسمبر 2024، إلى خمسين شهيدًا، وهم فقط من تم الإعلان عن هوياتهم، من بينهم (30) شهيدًا من غزة، وبذلك فإن عدد شهداء الحركة الأسيرة المعلن عن هوياتهم منذ سنة 1967 يرتفع إلى 300 شهيدًا، وبعد الطوفان قامت إسرائيل بقتل المئات من أسرى القطاع والضفة ولا يمكن إحصاء عدد الشهداء من الأسرى وهناك منظمات سجلت قتل المئات منهم وهم مكبلين وعراة، وكل يوم يتم الإعلان عن قتل أسير ويواصل الاحتلال إخفاء هوياتهم جرّاء جريمة الإخفاء القسري التي ينتهجها الاحتلال بحقّ الشهداء والمعتقلين من غزة.
ولا مناص من المقارنة بين طريقة تعامل إسرائيل على مدار احتلالها لفلسطين وحتى اليوم مع الأسرى وطريقة تعامل المقاومة على مدار تاريخ الثورة مع الأسرى اليهود حتى في ظروف الإبادة والتجويع والمجازر والحرب على غزة. فقد تعاملت المقاومة مع الرهائن بصورة أخلاقية وإنسانية لا مثيل لها وهذا ما تحدث عنه الرهائن أنفسهم الذين تم إطلاق سراحهم، أما الاحتلال فقد تجرد من أبسط المعايير الأخلاقية عبر قتل أكثر من ثلاثين ألفًا من الأطفال والنساء وقتل المئات من الأسرى.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد الأسرى حتى بداية تشرين الأول/أكتوبر 2024، أكثر من عشرة آلاف سجين فلسطيني منهم 270 طفل ومئة أسيرة و561 محكومين مدى الحياة، وهناك أكثر من 430 أسير قضوا أكثر من 20 سنة، و25 أسير قضوا أكثر من 25 سنة، و22 أسير من القدامى قبل أوسلو.
ولتوضيح ذلك، قمت قبل عامين بتأليف كتاب بعنوان المغيبون خلف الشمس، يتناول هذا الكتاب قضية الأسرى التي تعتبر القضية المقدسة عند الشعب الفلسطيني، وتناولت القضية من خلال تسليط الضوء على مسيرة عشرة من قيادات الشعب الفلسطيني في السجون الإسرائيلية تواصلت مع غالبيتهم عبر وسائل الاتصال المهربة آنذاك، وجميع قادة الأسرى من جميع التنظيمات كان لهم رأي ناقم على بقائهم في السجون لأكثر من ثلاثة عقود وجميعهم طالبوا التنظيمات بتحريرهم، وفي مقدمة القادة الذين كانوا ناقدين للتنظيمات قائد الرد المقدس حسن سلامة؛ كل ما كتب وكل الرسائل التي خرجت من السجون وتعهد الشهداء القادة يحي السنوار وصالح العاروري بتحرير الأسرى دفع حركة حماس للقيام في الطوفان من أجل إطلاق سراح الأسرى المؤبدات الذين لا يمكن إطلاق سراحهم من دون اختطاف جنود إسرائيليين من أجل مبادلتهم في الأسرى؛ وهذا ما حصل في السابع من أكتوبر.
إن الحركة الأسيرة كانت تقف على فوهة بركان بسبب الإجراءات التي أقدمت عليها مصلحة السجون قبل الطوفان، وهذا ما دفع حركة حماس للتهديد أكثر من مرة وعلى لسان رؤساء مكتبها السياسي الشهداء إسماعيل هنية والسنوار بزيادة الغلة إذا لم تستجب إسرائيل لصفقة تبادل، وهذا ما حصل في الطوفان حيث تم أسر المئات من الجنود والضباط والمستوطنين ومازالت تحتفظ بأكثر من مئة أسير منهم لمبادلتهم في الأسرى.
ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، عقدت صفقات “هدن” وتم إطلاق سراح العديد من الأسرى والأسيرات مقابل إطلاق المقاومة سراح العديد من الرهائن، ومنذ ذلك الوقت وإسرائيل وبالتحديد نتنياهو يماطل ويتهرب من عقد صفقة مشرفة تخرج الأسرى من السجون الإسرائيلية وتوقف حرب الإبادة والتجويع، على الرغم من الوساطات العربية والأمريكية وتقديم الرئيس جو بايدن الورقة “الخطة” لعقد صفقة وبعد موافقة حماس عليها رفضها نتنياهو ومازالت المفاوضات والضغوط على المقاومة مستمرة للتنازل ولتقليل سقف مطالبها، وللأسف الشديد الجميع يضغط على حماس للتنازل والقبول بصفقة وفق مقاس نتنياهو، وهذا ما يؤكده تصريح الناطق باسم البيت الأبيض في 10كانون الأول/ديسمبر 2024، نمارس ضغوط قوية على حماس التي ما زالت تشكل عقبة للصفقة. بالإضافة إلى الدعم المطلق لإسرائيل على جميع الصعد والتغطية عليها عبر الفيتو لأكثر من أربع مرات لوقف الحرب؛ وهذا ما لا يمكن القبول به فلو قبلت به حماس يعني ذلك انتحارًا للحركة ونحرًا لقضية الأسرى المؤبدات، حيث أن الفرصة الوحيدة أمامهم هي صفقة التبادل القادمة، وعلى هذا الأساس تحاول إسرائيل والعديد من الأطراف الضغط على حماس لإخراج صفقة هزيلة لا تظهر المقاومة على أنها انتصرت وأطلقت سراح الأسرى وهم يرفعون علامة النصر.
إلا أن الإسرائيليين وصلوا إلى قناعة بعقد صفقة ودفع الثمن المطلوب وهذا ما يؤكده تصريح رئيس حزب شاس أرييه درعي في 12كانون الأول/ديسمبر2024، علينا أن نعقد صفقة التبادل بأي ثمن.
وجدير بالذكر، أن الذي حصل في سوريا في الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024، من انهيار لنظام بشار الأسد في سوريا، وبالتحديد مشاهد التهويل المتعمد لإطلاق سراح المعتقلين من سجن صيدنايا الذين يبلغ عددهم 4 آلاف، منهم حوالي 2000 معتقل جنائي و2000 معتقل بقضايا إرهاب، وبعد يومين فقط من نجاح ما يسمى بالثوار، أعلنت “قيادة العمليات العسكرية” في سوريا عن اعتقال 4000 شخص، بتهم حمل سلاح، ونشر مواد فيها تهديد، 4000 خرجوا، قامت عليهم الدنيا ولم تقعد، و4000 دخلوا ولم نسمع عنهم شيئا. وهذا يدلل على أن التهويل الإعلامي يهدف للتغطية على تدمير سوريا وعلى ما تفعله إسرائيل في السجون الإسرائيلية من قتل للأسرى وتعذيبهم. فهذه الأحداث التي تم صناعتها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والبعض المتآمر على القضية الفلسطينية أراحت إسرائيل، ووجهت الكاميرات والإعلام العالمي والعربي والمحلي إلى السجن السوري وقدمت فرصة ذهبية للسردية الإسرائيلية، وعلى الرغم من القتل اليومي للأسرى في السجون الإسرائيلية وحتى من يخرج من الأسرى يظهر عليه علامات المرض والعذاب وحتى فقدان الذاكرة، بدأ الجميع يتحدث عن السجون السورية وبدأ التهويل والإشاعات وللأسف الشديد حتى الفلسطينيين نسوا أن العشرات من الأسرى في السجون الإسرائيلية قضوا 45 سنة، والأسير الذي خرج في الأول من كانون الأول/ديسمبر 2024، وهو فاقد الذاكرة من بير نبالا وتعرف عليه أهله من خلال الصور التي تم نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي من قبل سائق تكسي، هذا كله لا يعفي السجن السوري، ولكن يجب عدم المساعدة على تجميل صورة الاحتلال القبيح ويجب التسليط الضوء دائما على ممارسات الاحتلال ومحاكمة نتنياهو وقادة إسرائيل المجرمين حسب المعايير والقوانيين الدولية.
وفي العودة إلى ما حصل ويحصل في السجون الإسرائيلية، فقد تم عزل العشرات من الأسرى في الزنازين الانفرادية لعدة سنوات متواصلة ومنهم من قضى ثلاثة عشر سنة متواصلة في العزل الانفرادي وهو القائد حسن سلامة، وإسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تعتقل جثامين الأسرى في الثلاجات حتى من تم انتهاء محكوميتهم مثل الشهيد وليد دقة، وإسرائيل هي التي تنصلت من الاتفاقية الموقعة مع السلطة وبرعاية أمريكية مقابل عدم توجه السلطة للمحاكم الدولية سنة 2013 وتم إطلاق سراح ثلاث دفعات من أسرى ما قبل أوسلو، وتنصلت إسرائيل من إطلاق سراح الدفعة الرابعة سنة 2014، وهم أكثر من عشرين أسير وفي مقدمتهم وليد دقة الذي استشهد السنة الماضية. وإسرائيل هي التي تعترف على لسان مصلحة السجون أن 80% من الأسرى مصابين بمرض الجرب الجلدي المعروف بسكابيوس، و100% من الأسرى فقدوا نصف وزنهم بسبب سوء التغذية. وصحيفة هآرتس العبرية أعلنت في 12كانون الأول/ديسمبر 2024، عن استشهاد 4 فلسطينيين على الأقل تحت التعذيب في معتقلات الشاباك منذ بداية الحرب أحدهم الطبيب إياد الرنتيسي مدير مشفى للنساء في بيت لاهيا؛ والكتاب الإسرائيليين هم من تحدثوا عن حالات الاغتصاب للأسرى والأسيرات وهنا لا يمكن في هذه المقالة تناول هذا الموضوع المشين بحق الأخلاق والإنسانية، فحتى الأسرى المرضى وكيف تتعامل إسرائيل معهم داخل مسلخ ما يسمى مستشفى سجن الرملة. ويمكن العودة لدراسة لي تم نشرها في مركز دراسات الوحدة العربية وجريدة القدس عام 2019، وكان حديث القدس عنها بعنوان الأسرى المرضى في السجون الإسرائيلية إلى أين؟ وكل ذلك قبل السابع من أكتوبر، هذا وغيره من الممارسات الوحشية بحق الأسرى الذي دفع بحركة حماس للقيام في السابع من أكتوبر لتحرير الأسرى.
في النهاية، إما صفقة تبادل والرهائن أحياء، وإما رهائن في أكياس سوداء، وهذا ما لا تريده المقاومة، فأكثر من مرة حذرت منه، وحتى الرهائن الذين تم إطلاق سراحهم، والرهائن الذين ناشدوا المجتمع الإسرائيلي والحكومة من خلال الفيديوهات بتعجيل صفقة لتخرجهم من الاعتقال، وهذا الذي سيتم ولعل صفقة جلعاد شاليط وغيره مازالت ماثلة وسوف يتم عقد صفقة كما تريد المقاومة، وسيخرجون الأسرى المؤبدات والقادة من السجون وسيعملون على تغير جذري في النظام السياسي الفلسطيني، وسوف يتم تجديد الشرعيات المتآكلة لجميع المؤسسات العامة الفلسطينية وسوف يحدثون تغييرًا ثوريًا في البنية التنظيمية لجميع التنظيمات وفي مقدمتها حركة فتح. وهذا ما لا تريده أمريكا وإسرائيل والدول العربية وحتى أطراف فلسطينية.
ولا يفوتنا أن ننوه بأن من ينتقد حماس على الطوفان هم أنفسهم من كانوا ينتقدون حماس ويتهمونها بأنها تركت الأسرى للمجهول، وتخلت عنهم، وعندما لم تتخل عنهم، وأسرت المئات من الجنود والمستوطنين من أجلهم عادوا لتحميلها مسؤولية ما حدث في غزة، ولم يحملوا الاحتلال المسؤولية وهنا ينطبق عليهم المثل الشعبي “احترنا يا قرعه من وين نبوسك”.
تعقيبًا على ما سبق، المطلوب من السلطة الفلسطينية تدويل قضية الأسرى قانونيًا ودبلوماسيًا، وذلك من خلال استخدام كافة الآليات الدولية لعزل ومقاطعة ومحاسبة إسرائيل على ما ارتكبته بحق الأسرى، وقتل المئات منهم قبل الطوفان وبعد الطوفان، وخاصة في ضوء قرار محكمة الجنائية الدولية بملاحقة نتنياهو ووزير حربه المقال يوآف جالانت.