من أين تستمد حركات التحرر شرعيتها؟
بقلم : د. عقل صلاح – كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.
- المركز الديمقراطي العربي
نناقش في هذه المقالة أهمية ومكانة حركات التحرر الوطني على المستوى المجتمعي والدولي، حيث تتبوأ هذه الحركات مكانة داخل المجتمع الدولي وتعد فاعلًا أساسيًا من مكونات العلاقات الدولية، فهي حركات وطنية واجتماعية ذات تنظيم مناهض للاحتلال، وقد تم تأسيسها كرد فعل طبيعي ضد الاحتلال، وهدفها دحر الاحتلال وتحقيق الاستقلال والحرية وصولًا إلى تقرير مصير شعوبهم بأنفسهم، بعيدًا عن الاحتلال، مستندة على كل وسائل النضال بما فيها الكفاح المسلح في سبيل تحقيق هدفها، لبناء دولة مستقلة ذات سيادة. ومن أهم أسس المكانة التي تتمتع بها حركات التحرر هي الحاضنة الشعبية والتأييد الشعبي لها، فجميع حركات التحرر الفلسطينية تستهل بياناتها بعبارة أيها الشعب الفلسطيني وتدعو الشعب للانضمام للحركات والانتفاضات ضد الاحتلال، حيث يعد التأييد الشعبي العامل الأساسي والمهم في تحقيق حركات التحرر لأهدافها التي انطلقت من أجلها.
فقد جاء ميثاق الأمم المتحدة مشيرًا بكل وضوح في المادتين “2”و”55″ على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وتم التأكيد عليه في العديد من القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والعديد من الاتفاقيات الدولية ذات الاختصاص. وقد ساهم هذا الدعم القانوني في إكساب هذه الحركات مركزًا قانونيًا. إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية بظل تفردها في قيادة العالم، صبغت هذه الحركات بالصبغة الإرهابية، وقامت بمحاربتها وشيطنتها، وتعد الحركات التي تقاتل إسرائيل سواء الفلسطينية أو العربية أو الإسلامية في مقدمتها.
وعلى الرغم من ذلك، هناك العديد من حركات التحرر قد نجح كفاحها بتحقيق الهدف المتمثل في الحرية والاستقلال من خلال دحر الاحتلال، وهناك من لا تزال تناضل وتقاتل رغم كل التحديات والمعيقات على جميع المستويات والصعد، ويمكن أن ينطبق ذلك على مقاومة حزب الله اللبناني وتحرير أراضي لبنان عام 2000 وانتصاره على إسرائيل عام 2006، ومازال يقاوم لتحرير ما تبقى من أراض لبنانية محتلة، وكذلك المقاومة الفلسطينية التي أجبرت الاحتلال عام 2005 على الانسحاب من مستوطنات القطاع، ومازالت الحركات الفلسطينية تقاتل من أجل الخلاص من الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
وهذه الحركات عبارة عن جماعة منظمة من المواطنين في إقليم يتعرض للاحتلال، أو تأسست فيه سلطة الاحتلال، تقوم بمقاومة قوات الاحتلال. وهذا ما تفعله المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة التي تناضل للخلاص من الاحتلال الإسرائيلي.
وتعمل على تجسيد آمال الشعب بالحرية، وتشكيل دولته المستقلة. وعادة ما يتكون هذا التنظيم من جناحين أحدهما سياسي والآخر عسكري، فالسياسي عادة ما يتشكل من جبهة واسعة تضم جميع التنظيمات الوطنية التي تؤمن بحركة التحرر الوطني أو كتائب تابعة لحركة التحرر الوطني، وهذا ينطبق على منظمة التحرير الفلسطينية وتحديدًا قبل توقيع اتفاقية أوسلو، في حين الجناح العسكري يتمثل على شكل كتائب وأجهزة عسكرية تتخذ من الكفاح المسلح أداة لها، وهذا أيضا ينطبق على كتائب المقاومة الفلسطينية واللبنانية وغيرها.
وللإشارة فإن بعض حركات التحرر يكون لها جناح ثالث يتمثل في وجود حكومة وهي تأتي في مرحلة تالية للجناحين السابقين مثل حركة حماس في غزة التي قادت النضال والمقاومة ضد الاحتلال، حيث كانت تتوفر في البداية منظمة سياسية وطنية تتمثل في الحركة ولها كتائب شبيهة بجيش وطني، وفي مرحلة تالية كونت حكومة بعد مشاركتها في النظام السياسي الفلسطيني من خلال الانتخابات العامة “التشريعية” الثانية عام 2006، وعملت هذه الحكومة بقيادة الحركة على مساندة ودعم المقاومة بكل الوسائل المتاحة وشكلت للكتائب حماية وغطاء ومنحتها الحرية بالعمل والتغطية على حفر الأنفاق القتالية والتسهيل في تجهيز القوة العسكرية، ولعبت الحكومة والجناح السياسي دورًا مهمًا في عملية تضليل الجميع وصولًا إلى السابع من أكتوبر 2023.
إن ممارسة الكفاح المسلح هو ما يميز عمل هذه الحركات عن عمل الحركات والأحزاب السياسية، وإن كان هذا لا يعني البتة أن تكتفي هذه الحركات بالمقاومة دون النضال السياسي، وهي تعمل لتحقيق هدفها المتمثل في الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب التي تمثله وتصبوا إلى هدف أعلى يتمثل في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة. وهذا ما ينطبق على الحالة الفلسطينية التي مازالت تحت نير الاحتلال، وحتى الاتفاقيات الموقعة من قبل منظمة التحرير مع إسرائيل، تنصلت إسرائيل منها. فعمدت حركات المقاومة على الاستمرار في المقاومة من أجل إنهاء الاحتلال وصولًا إلى إقامة دولة فلسطين المستقلة ذات سيادة وطنية.
لقد جاءت العديد من قرارات الأمم المتحدة لتصب في اتجاه الاعتراف بحق الشعوب تقرير مصيرها، منها القرار رقم “1514” المتعلق بالإعلان الخاص باستقلال الشعوب لسنة 1960، وبالتحديد في البندين الأول والثاني، فالجمعية العامة تعلن في النقطة الأولى أن إخضاع الشعوب بالقوة المسلحة للحكم الأجنبي والسيطرة والاستغلال يخالف ميثاق الأمم ويشكل إنكارًا لحقوق الإنسان الأساسية، وفي النقطة الثانية، كل الشعوب يحق لها استخدام القوة في إطار كفاحها لنيل حريتها واستقلالها، وتقرير مصيرها. وقد جاء القرار 2621 الخاص ببرنامج العمل من أجل التنفيذ التام لإعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب الخاضعة للاحتلال. ومن بين ما يؤكد عليه القراران (2621 و 2526) هو اعتبار أن إخضاع الشعوب للاحتلال وسيطرته واستغلاله يعد جريمة منافية لميثاق الأمم المتحدة. والقرار 3103 لعام 1978، الذي منح الشرعية لحركات التحرر الوطني في كفاحها من أجل تقرير مصير شعوبها، وهو حق يتفق تمامًا مع مبادئ القانون الدولي العام.
بالإضافة إلى اتفاقيات جنيف 1949، حيث نصت المادة 4 من اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1941 بشأن معاملة أسرى الحرب الذين ينتمون إلى هذه الحركات. والعهدان الدوليان لعام 1966، حيث نصت المادة الأولى في فقرتهما الأولى على أنه: “لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها بنفسها وهي بمقتضى هذا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي”. وبنفس الصدد جاء البروتوكول الأول لعام 1977 الملحق باتفاقية جنيف لعام 1949الذي يتحدث بوضوح عن مبدأ تقرير المصير.
إن حركات التحرر الوطني ومن خلال عملها المستميت في الدفاع عن حرية واستقلال أوطانها، فإنها بذلك تعمل ضمن إطار حقوق الإنسان والدفاع عنها، وخاصة المبدأ الذي يقضي بحق الشعوب في تقرير مصيرها، والذي أشارت إليه الكثير من اتفاقيات حقوق الإنسان. إن حركات التحرر قد واجهتها الكثير من العقبات القانونية والسياسية، وهي تناضل وتعمل في إطار المبدأ الذي يقضي بحق الشعوب في تقرير مصيرها مثل:
المعيق الأول، التدخل في الشؤون الداخلية للبعض منها، كما حصل مع حركة فتح والفصائل، مما أعاق عملها خصوصًا في الأردن وسوريا ولبنان، وكما يحصل اليوم مع المقاومة في الضفة والكتيبة في مخيم جنين.
وينصرف المعيق الثاني، في موقف مجلس الأمن في بعض الأحيان بوقوفه ضد ممارسة الشعوب حق تقرير مصيرها، وذلك من خلال ممارسة حق “الفيتو” من قبل الدول الكبرى، فقد استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية عشرات المرات حق النقد الفيتو ضد الحقوق الفلسطينية، وعشرات المرات دعمًا لإسرائيل عبر الإدارات المتعاقبة منذ سنة 1945 حتى سنة 2024. حتى في حرب الإبادة المستمرة على غزة والتي راح ضحيتها أكثر من خمسين ألف شهيد وغالبيتهم من الأطفال والنساء وتدمير 85%من القطاع، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية الفيتو أكثر من أربع مرات لتعطيل المطلب الدولي بوقف حرب الإبادة. وفي النهاية الحصانة الغربية وبالتحديد الأمريكية هي التي تحول دون معاقبة إسرائيل في المؤسسات القانونية والمنظمات الإنسانية الدولية؛ حيث أصبحت إسرائيل فوق القانون الدولي نتيجة لهذا الغطاء الظالم والذي يوضح سياسة الانحياز والكيل بمكيالين.
والمعيق الأخير، يتمثل في تشويه الحركات التحررية من خلال الخلط بينها وبين الجماعات الإرهابية من قبل الاحتلال والدول الغربية وغيرها كما حصل مع تنظيمات المقاومة الفلسطينية.