الشرق الأوسطعاجل

الهيمنة بلا مدافع : الصين وامريكا في سباق القوة الناعمة

بقلم : د حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة ـ مصر

 

لم تعد الحروب الحديثة تُخاض بالسيوف أو حتى بالصواريخ وحدها، بل باتت ساحتها الأوسع هي ميدان الرموز والصور والسرديات، أي تلك التي تُعرف في الأدبيات الجيوسياسية بالقوة الناعمة. هذه القوة التي صاغ مفهومها جوزيف ناي لتشير إلى القدرة على الجذب والإقناع بدلاً من الإكراه، وظلت القوة الناعمة لعقود أداة مركزية في يد الولايات المتحدة الأمريكية، التي احتكرت رواية العالم عبر هوليوود، وصاغت المعاني الكبرى للحلم من خلال جامعاتها ومنصاتها الإعلامية ومؤسساتها الثقافية. غير أن العقدين الأخيرين شهدا صعود قوة عالمية جديدة أعادت رسم قواعد اللعبة الناعمة: الصين.

الصين التي كانت تُنظر إليها تاريخيًا على أنها قوة صلبة صاعدة اقتصادياً وعسكريًا، أدركت بذكاء أن القوة الحقيقية لا تكمن فقط في السيطرة على الموارد، بل في القدرة على التأثير في وعي الشعوب وصياغة إدراكهم لما هو ممكن وما هو مرغوب. وبناء على هذه القناعة، دشنت بكين مشروعًا متكاملًا ومتعدد الأذرع لإعادة صياغة صورتها في العالم، لا عبر المواجهة المباشرة، بل من خلال الغزو الهادئ للثقافة، والتعليم، والتكنولوجيا، والدبلوماسية الاقتصادية. فقد أدركت أن كسب العقول لا يقل شأنًا عن كسب الأسواق.

لقد شكلت مبادرة الحزام والطريق الذراع الناعمة الأبرز في الاستراتيجية الصينية، إذ مزجت بين النفوذ الاقتصادي والبنية التحتية والتقارب الثقافي في إطار سردية واحدة تُبشر بالتنمية المشتركة والنهضة الجماعية، بعيدًا عن منطق الإملاءات الغربية. فبينما تُرفق الولايات المتحدة مساعداتها بشروط سياسية وقيمية، اختارت الصين أن تقدم دعمها بلا شروط أيديولوجية، مما جعلها شريكًا مفضلًا للعديد من الدول، خاصة في الجنوب العالمي، التي سئمت من نموذج التنمية الليبرالي ومآلاته المتناقضة.

في الوقت ذاته، لم تغفل بكين عن أهمية التعليم واللغة والثقافة كأدوات للتأثير، فأنشأت المئات من معاهد كونفوشيوس في القارات الخمس، واستثمرت في الإعلام الموجه مثل CGTN وChina Daily، وأطلقت مبادرات للتبادل الثقافي والأكاديمي مع الجامعات والمؤسسات البحثية العالمية. هذه الخطوات مكنتها من تجاوز الصورة النمطية التي رسمها الإعلام الغربي عنها كدولة منغلقة أو قمعية، وقدّمتها بدلاً من ذلك كنموذج للاستقرار، والكفاءة، والخصوصية الحضارية.

وما يزيد من تعقيد المشهد أن تراجع القوة الناعمة الأمريكية لا يأتي فقط نتيجة لصعود الصين، بل أيضًا بسبب تحولات داخلية وخارجية مست العالم بعد حرب العراق، مرورًا بصعود الشعبوية، وانسحاب أمريكا من بعض المؤسسات الدولية، وانكشاف ازدواجية خطابها حول حقوق الإنسان. هذه التراجعات فتحت المجال أمام الصين لملء الفراغ القيمي والإعلامي، خصوصًا في المناطق التي تشعر بأنها لم تجنِ من العولمة سوى المزيد من التبعية والهشاشة.

ولعل السلاح الأحدث والأكثر تأثيرًا في ترسانة القوة الناعمة الصينية هو التكنولوجيا الرقمية. فشركات مثل هواوي، وتيك توك، وعلي بابا، أصبحت لا تبيع فقط خدمات، بل تروّج أيضًا لأسلوب حياة وقيم إنتاجية مختلفة عن تلك المرتبطة بالسوق الرأسمالي الأمريكي. ومن خلال هذه المنصات، تبني الصين “بنية تحتية للخيال” تضع فيها الأفراد حول العالم داخل أنظمة تقنية تصوغ أنماطهم المعرفية وسلوكياتهم اليومية دون ضجيج أيديولوجي.

أما على المدى المنظور، فإن الصين لا تكتفي بأن تكون قوة ناعمة بديلة، بل تسعى لتأسيس بيئة دولية جديدة متعددة القيم والنماذج، تُنهي مرحلة احتكار الغرب للمعنى والمشروعية. وهي تفعل ذلك عبر المأسسة البطيئة لقنوات التأثير، واعتماد سرديات تاريخية بديلة، والترويج لمبدأ السيادة المطلقة وعدم التدخل، وهو ما يتماهى مع مطالب دول كثيرة ترى في التجربة الصينية خيارًا واقعيًا وفعالًا بعيدًا عن النموذج الليبرالي الذي بدا للبعض مرهقًا ومتعاليًا.

وهكذا، لا تُحسن الصين فقط استثمار التراجع الأمريكي، بل تبني سردية صاعدة تتمحور حول الحلم الآسيوي، والتنمية دون تبشير، والانفتاح دون فرض، والتكنولوجيا دون أيديولوجيا. وإذا استمرت هذه الدينامية في التوسع، فإن القرن الحادي والعشرين قد يشهد بالفعل أول ثورة هادئة في تاريخ الجيوسياسة، لا تُخاض بالسلاح أو بالعقوبات، بل بالرموز والرموز المضادة، حيث يعلو صوت التنين، لا ليفرض سلطته، بل ليهمس للعالم بلغته الجديدة: لغة العقول.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى