من غزة إلى طهران: إسرائيل في مواجهة أعداء العقيدة والخرائط

بقلم : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر
منذ اللحظة التي قررت فيها إسرائيل شنّ هجوم خاطف على أهداف سيادية إيرانية، بدا وكأن المنطقة على وشك الدخول في مرحلة جديدة من التاريخ الدموي للشرق الأوسط. لم يكن هذا الهجوم مفاجئًا من حيث بنيته، لكنه مثّل قفزة نوعية في منطق المغامرة العسكرية الذي طالما اعتمدته تل أبيب، حيث تجاوز الاستهداف الميداني إلى اغتيال رموز استراتيجية في قلب إيران، من علماء نوويين إلى قادة عسكريين، في توقيت بدا وكأنه مُغلفٌ بخدعة تفاوضية أرادت من خلالها واشنطن والإسرائيليون تمرير مشروع تصفية البرنامج النووي الإيراني تحت ستار الحلول السياسية. غير أن ما لم تحسبه إسرائيل بدقة، هو أن إيران التي لطالما اعتمدت سياسة الصبر الاستراتيجي، باتت أكثر استعدادًا من أي وقت مضى للرد العنيف، المدروس، والمباغت.
جاء الرد الإيراني على نحو غير مسبوق في حجمه ودقته. مئات الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية تجاوزت شبكات الدفاع الإسرائيلية المعقدة، وأصابت مواقع حساسة، بل أسقطت طائرة “إف-35” أميركية الصنع، لتُعلن للعالم أن التفوق الجوي الإسرائيلي لم يعد مطلقًا، وأن عصر القبة الحديدية التي لا تُخترق قد ولّى. في تلك اللحظة، بدأت تتهاوى الأساطير التي بنتها إسرائيل حول نفسها، وبدأ الداخل الإسرائيلي يعيش مشاعر من الذعر الوجودي، فالأراضي التي كانت تُعتبر في الماضي بعيدة عن متناول النيران أصبحت اليوم في مرمى الردع الإيراني.
وفي خضم هذا التصعيد، أطلق بنيامين نتنياهو تصريحات نارية قال فيها إن “القضاء على حكم الملالي في إيران يمثل ضرورة تاريخية لحماية الحضارة الغربية”، مضيفًا أن “ما فعله في طهران لن يختلف كثيرًا عمّا يسعى لتحقيقه في غزة: إنهاء وجود منظمات الكراهية”، في إشارة إلى حماس. لقد انكشف منطق الحرب الإسرائيلية القائم على خوض المعارك الاستباقية بهدف إسقاط الأنظمة المعادية، غير أن هذه العقيدة باتت اليوم أكثر هشاشة أمام معادلة الردع الجديدة التي تفرضها طهران على الأرض.
المواقف الدولية لم تتأخر في التفاعل مع هذه المواجهة. في الغرب، بدا الارتباك واضحًا. واشنطن، التي دعمت لوجستيًا الضربة الأولى، سارعت إلى إعلان النفي السياسي، مؤكدة عبر وزارة خارجيتها أنها لم تكن جزءًا من قرار التصعيد، رغم أن التسريبات كشفت عن وجود تنسيق عسكري مسبق بين البنتاغون والجيش الإسرائيلي. في حين دعا وزير الخارجية الأميركي إلى وقف فوري للتصعيد، محذرًا من انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية شاملة تهدد المصالح الأميركية وحلفاءها في الخليج. أما الكونغرس، فقد شهد انقسامًا حادًا بين داعمي إسرائيل التقليديين، وبين أصوات جديدة عبّرت عن قلقها من “تورط واشنطن في حروب الآخرين”، فيما صرح الرئيس السابق دونالد ترامب بأن “إسرائيل قد تكون قدمت خدمة مجانية بتوجيهها هذه الضربة، لكن حسابات الحرب لا تُبنى على الغطرسة”.
الأوروبيون من جهتهم تبنوا مواقف أكثر تحفظًا. فرنسا وألمانيا عبّرتا عن قلقهما من انهيار الاستقرار الإقليمي، ودعتا إلى العودة إلى المسار الدبلوماسي. أما إيرلندا والنرويج وإسبانيا، فقد أصدرت بيانات صريحة تدين الهجوم الإسرائيلي، وتدعو إلى محاسبة تل أبيب على خرقها للقانون الدولي، في سابقة أوروبية تشير إلى تراجع الدعم التلقائي لإسرائيل.
في المقابل، أظهرت قوى كبرى دعمًا واضحًا لإيران. الصين أعلنت أن الهجوم الإسرائيلي يُعد انتهاكًا صارخًا لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، ودعت إلى احترام المبادئ الدولية وعدم الانجرار خلف “التحريض الأميركي”. روسيا اعتبرت أن الضربات قد تؤدي إلى انهيار الأمن العالمي، وأكدت على دعمها لحق إيران في الدفاع عن نفسها، مع عرض للوساطة السياسية لوقف الحرب. أما باكستان، فقد عبّرت عن تضامنها الكامل مع طهران، محذرة من تبعات التصعيد على العالم الإسلامي، في حين أصدرت كوريا الشمالية بيانًا شديد اللهجة أدانت فيه “العدوان الصهيوني-الإمبريالي”، معلنة دعمها الكامل للقيادة الإيرانية.
الموقف العربي كان لافتًا، إذ بدا أن التحولات الجيوسياسية الأخيرة بدأت تؤتي أكلها. فقد أبدى ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، موقفًا متوازنًا ومفاجئًا، حين أعرب عن قلقه من الهجوم على إيران، داعيًا إلى التهدئة، ومؤكدًا أن “الأمن الإقليمي لا يمكن أن يتحقق عبر صواريخ طويلة المدى، بل بالحوار الطويل النفس”. العراق والجزائر وقطر وسلطنة عمان أصدرت بيانات إدانة للهجوم الإسرائيلي، فيما فضّلت الإمارات والأردن ومصر الالتزام بمواقف ضبابية تدعو إلى ضبط النفس دون الدخول في التفاصيل. هذا التباين في المواقف العربية يعكس تحوّلًا تدريجيًا في الأولويات، وميلاً نحو التخفف من أعباء التحالف مع إسرائيل في ظل تنامي النفوذ الإيراني والتركي والروسي في المنطقة.
الآن، والعالم يرقب عن كثب تطورات هذا الصراع، تتجه الأنظار نحو سيناريوهات المستقبل. أول هذه السيناريوهات يتمثل في انزلاق الجانبين إلى حرب شاملة لا تُبقي ولا تذر، وهو الاحتمال الأخطر، خصوصًا إذا قررت إيران توسيع دائرة الرد ليشمل القواعد الأميركية في الخليج أو فتح جبهة الجنوب اللبناني عبر حزب الله، أو إشراك الحوثيين في معادلة النار. أما السيناريو الثاني، فيقوم على احتواء التصعيد من خلال وساطات دولية، قد تقودها روسيا أو الصين، بهدف التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار يفرض على إسرائيل الاعتراف بمعادلة الردع الجديدة، ويمنح إيران شرعية دفاعية غير مسبوقة. أما السيناريو الثالث، فهو حرب طويلة منخفضة الشدة، تستنزف الطرفين على المدى البعيد، وتؤسس لتحوّل جذري في ميزان القوة الإقليمي، تكون فيه إسرائيل في موقع الدفاع للمرة الأولى منذ عقود.
مهما تكن نتيجة هذه الحرب، فإن المشهد الإقليمي لم يعد كما كان. إسرائيل التي كانت تصدر الحرب إلى الخارج، باتت تعيشها في الداخل. وإيران التي لطالما لعبت دور الضحية المحاصرة، صارت اليوم لاعبًا إقليميًا يُحسب له ألف حساب. في هذه اللحظة المفصلية، يبدو أن الشرق الأوسط يقف على أعتاب عصر جديد… لا مكان فيه للغطرسة الأحادية، ولا للأمن المجاني.