الشرق الأوسطعاجل

باكستان وإيران تحالف المواقف في زمن الانهيارات الطائفية

بقلم : د حمدي سيد محمد محمود ـ باحث أكاديمي ـ مدير المركز الديمقراطي ـ القاهرة ـ مصر

 

في خضم أتون الحرب الإسرائيلية الإيرانية التي فجّرت واحدة من أعقد أزمات الشرق الأوسط وأكثرها تشابكًا، برز الموقف الباكستاني كمفاجأة ثقيلة الوزن في ميزان التحالفات الإقليمية والدولية. ففي ظل التصعيد غير المسبوق بين تل أبيب وطهران، والذي بلغت فيه الأعمال العسكرية درجة من الوحشية الاستراتيجية والرمزية القاتلة، أصدرت إسلام آباد موقفًا حاسمًا وحادًا في دعمه لإيران، موقفًا تجاوز الدبلوماسية الباردة وتجاوز كذلك كل ما هو مألوف في الحسابات الطائفية والمذهبية. إذ في لحظة تاريخية مفصلية، تراجعت التباينات العقائدية السنيّة الشيعية، وتقدمت اعتبارات الجغرافيا، والسيادة، والتهديد الوجودي المشترك.

من الناحية التاريخية، لطالما اتسمت العلاقات بين إيران وباكستان بالتذبذب الناتج عن عوامل متعددة، أبرزها التوازن بين طموحات إيران الإقليمية وهواجس باكستان الأمنية، فضلًا عن الحساسيات الدينية في إقليم بلوشستان الحدودي المشترك. ومع ذلك، لم تنقطع جسور التعاون بين البلدين، خاصة في مجالات الطاقة والتنسيق الحدودي. بل إن مواقف باكستان في كثير من الأزمات الكبرى في المنطقة اتسمت بالحياد الحذر، ما جعل دعمها العلني والصريح لإيران في هذه الحرب الحالية حدثًا بالغ الدلالة، لا يمكن تفسيره إلا في ضوء التبدلات العميقة في بنية النظام الدولي، وحالة التفلّت من الهيمنة الغربية، وخاصة من السياسات الأمريكية في عهد دونالد ترامب.

على الصعيد السياسي، كانت باكستان تدرك أن انحيازها لإيران في هذه اللحظة الحرجة لن يمر دون ثمن، وأنها بذلك تدخل في مواجهة غير مباشرة مع المحور الإسرائيلي–الأمريكي الذي أعاد في عهد ترامب تفعيل منظومات الضغط القصوى على إيران. ومع ذلك، اتخذت القيادة الباكستانية قرارها بناءً على حسابات استراتيجية تتجاوز الردع التكتيكي، إلى بناء جبهة مقاومة سياسية إسلامية موحدة ضد ما تعتبره “مشروع تفتيت الأمة”. باكستان، التي تراقب منذ سنوات تطويقها عسكريًا عبر الهند المدعومة أمريكيًا، واستنزافها اقتصاديًا عبر المؤسسات الدولية، رأت في دعمها لإيران رسالة جيوسياسية مزدوجة: أنها لن تسمح بانهيار الجبهة الشرقية للعالم الإسلامي، ولن تظل رهينة المحور الغربي في صياغة مصيرها الاستراتيجي.

أما عسكريًا، فقد ترافق الموقف الباكستاني مع تعزيزات حدودية غير مسبوقة على الحدود الإيرانية – البلوشية، وتنسيق أمني عالي المستوى تم بين القيادتين في طهران وإسلام آباد، بلغ حدّ إعلان المناورات المشتركة على طول مناطق التماس، فضلاً عن مشاركة باكستان بوحدات إلكترونية ساهمت في تعطيل جزء من الهجمات الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا عبر طائرات دون طيار على منشآت إيرانية حيوية. هذا الدعم الأمني غير المعلن في كثير من تفاصيله، أظهر تحولًا جوهريًا في العقيدة العسكرية الباكستانية، التي كانت حتى وقت قريب تحصر نطاق أولوياتها ضمن مواجهة الهند والجماعات المسلحة في الداخل.

وتظهر التداعيات المباشرة لهذا الموقف في تزايد الضغط الأمريكي على إسلام آباد، حيث قامت واشنطن بإيقاف مساعدات عسكرية وتنموية بمليارات الدولارات، ودفعت صندوق النقد الدولي نحو تعطيل شريحة جديدة من القروض الممنوحة لباكستان ضمن برامج “الإصلاح الاقتصادي”. كما شنت وسائل الإعلام الغربية حملة تشويه عنيفة ضد القيادة الباكستانية، متهمة إياها بالاصطفاف مع “أنظمة مارقة” و”رعاة الإرهاب”، وهو ما قابله خطاب باكستاني وطني-ديني جديد، يُعيد الاعتبار لمفهوم الاستقلال السيادي، ويستحضر روح مؤسس الدولة محمد علي جناح الذي لطالما دعا إلى بناء سياسة خارجية مستقلة عن هيمنة القوى الكبرى.

وعلى المدى البعيد، يمكن القول إن الموقف الباكستاني سيسهم في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة، حيث قد نشهد تشكّل محور جديد يضم إيران، باكستان، وربما تركيا لاحقًا، في مقابل المحور الأمريكي–الإسرائيلي–الهندي. كما سيمنح باكستان عمقًا استراتيجيًا متقدمًا في الخليج والشرق الأوسط، ويفتح أمامها أبواب النفوذ في ملفات مثل أمن الطاقة، الملاحة في مضيق هرمز، والمفاوضات الإقليمية حول إعادة تشكيل الترتيبات الأمنية بعد الحرب.

لقد كانت الحرب الإسرائيلية الإيرانية مناسبة فارقة لإعادة اصطفاف القوى في المنطقة، لكن الموقف الباكستاني وحده سيظل الأكثر جرأة واستثنائية، إذ اختار الوقوف إلى جانب المبادئ في زمن المساومات، وإلى جانب إيران في لحظة تاريخية كانت فيها كل المؤشرات تدفعه نحو الحياد أو التواطؤ. وهو موقف قد يكلف باكستان الكثير، لكنه سيمنحها في المقابل مكانة أخلاقية واستراتيجية يصعب تجاهلها في أي خرائط سياسية قادمة.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى