احدث الاخبار

قراءة قانونية تحليلية للهجوم الإيراني على القواعد العسكرية بدولة قطر

يقلم : المستشار الدكتور/ هاشم علوي مقيبل – استاذ القانون الدولي المشارك ومحكم دولي

  • المركز الديمقراطي العربي

 

في ظل التوترات المتصاعدة في منطقة الشرق الأوسط، يُثار تساؤل قانوني بالغ الأهمية حول مدى مشروعية لجوء إيران إلى استهداف قواعد عسكرية أمريكية تقع داخل أراضي دولة ثالثة – كدولة قطر – وذلك ردًا على ضربة أمريكية استهدفت منشأة فوردو النووية في إيران. هذا التساؤل يفرض نفسه بقوة على طاولة القانون الدولي العام، لاسيما في ظل أحكام ميثاق الأمم المتحدة التي تحكم مشروعية استخدام القوة في العلاقات الدولية.

إن ميثاق الأمم المتحدة قد نصّ في مادته الثانية، الفقرة الرابعة، على الحظر الصريح لاستخدام القوة أو التهديد بها ضد سلامة أراضي أي دولة أو استقلالها السياسي، وهو حظر قطعي لا يُستثنى منه إلا ما ورد في المادة الحادية والخمسين من الميثاق، والتي تقرّ بحق الدفاع الشرعي – الفردي أو الجماعي – في حال وقوع “هجوم مسلح”. وانطلاقًا من هذا الإطار، فإن تعرّض إيران لهجوم عسكري مباشر من قبل الولايات المتحدة، عبر ضربة استهدفت منشأة نووية ذات طابع استراتيجي، قد يُعتبر من حيث المبدأ “هجومًا مسلحًا” يفعّل حق إيران في الرد وفقًا لحق الدفاع الشرعي. إلا أن هذا الحق لا يُمارس بلا قيد أو شرط، بل يتطلب – بحسب فقهاء القانون الدولي وسوابق محكمة العدل الدولية – أن يكون الرد العسكري ضروريًا، ومتناسبًا، وموجهًا ضد المعتدي فقط.

غير أن الإشكال القانوني الأهم يتمثل في محل الرد: هل يجوز أن يشمل الرد الإيراني أراضي دولة ثالثة – كقطر – لمجرد وجود منشآت أمريكية عسكرية عليها؟ إن قواعد القانون الدولي تؤكد عدم جواز توجيه أعمال عدائية نحو أراضي دولة ثالثة، ما لم تكن تلك الدولة قد شاركت فعليًا في العدوان، أو كانت عاجزة أو غير راغبة في منع استخدام أراضيها من قبل الدولة المعتدية. وفي غياب دليل على مشاركة قطر في العدوان الأمريكي، أو سماحها باستخدام أراضيها تحديدًا لتنفيذ الضربة، فإن استهداف إيران لقاعدة أمريكية على أراضيها يُعدّ من قبيل العدوان على دولة محايدة، وانتهاكًا صريحًا لسيادتها، ما يرتب مسؤولية دولية على إيران بصفتها المعتدية في هذه الحالة.

ومع ذلك، فإن قراءة دقيقة للواقع الدولي الراهن تظهر أن قواعد القانون الدولي لم تعد تتمتع بالثبات الذي كانت عليه عند تأسيس الأمم المتحدة، بل أصبحت كثير من أحكامه عرضة للتغيير وإعادة التأويل، خصوصًا حين يتعلق الأمر بتوازن القوى والردع في العلاقات الدولية. لقد أصبح من الواضح أن هذه القواعد تخضع – في تطبيقها – لاعتبارات عملية تتجاوز النصوص الجامدة، بما في ذلك منطق المعاملة بالمثل ومبدأ الردع الاستراتيجي. وفي هذا السياق، يذهب بعض الفقه الحديث إلى القول إن استهداف قواعد عسكرية لدولة معادية، حتى وإن كانت داخل أراضي دولة ثالثة، قد يُبرر قانونًا باعتبار تلك القواعد امتدادًا لسيادة الدولة المعتدية، وأن استهدافها يُعدّ من قبيل ضرب مراكز القرار والقدرات العسكرية لتلك الدولة، خصوصًا إذا ثبت أن هذه القواعد تُستخدم بالفعل لتهديد السلم والأمن الدوليين، أو لشنّ اعتداءات عسكرية على دول أخرى. ومن هذا المنظور، فإن الفصل التقليدي بين “القاعدة” و”الدولة المضيفة” قد يصبح أقل وضوحًا، في ظل علم الدولة التي تنطلق منها العمليات العسكرية بهذه الاستخدامات العدوانية وعدم قيامها بمنعها أو اعتراضها.

وعلى هذا الأساس، يرى البعض أن التمسك الحرفي بميثاق الأمم المتحدة في صورته الأولى لم يعد كافيًا لضمان تحقيق العدالة أو الحفاظ على توازن الردع، إذ باتت بعض الدول تستغل النصوص القانونية ذات الطابع الحمائي لتوسيع نفوذها العسكري وشنّ عدوان غير مباشر تحت مظلة “الشرعية الشكلية”. ومن ثم، فإن القواعد القانونية الدولية أصبحت بحاجة إلى قراءة أكثر واقعية، تعترف بأن الشرعية لا تُختزل في النصوص، بل في حفظ التوازن ومواجهة العدوان، وأن التغيير في هذه القواعد ليس خروجًا على القانون، بل محاولة لتحديثه وتفعيله في مواجهة التحايل المنهجي على روحه ومقاصده.

وبالمقابل، يثور تساؤل آخر حول مدى قانونية تدخل الولايات المتحدة نفسها في استهداف منشآت داخل الأراضي الإيرانية، خاصة في حال لم تكن الولايات المتحدة طرفًا مباشرًا في صراع مفتوح مع إيران، بل جاءت ضربتها تحت مبرر “الدفاع عن إسرائيل”. من المعروف أن ميثاق الأمم المتحدة يجيز الدفاع الجماعي، شريطة أن يكون بناءً على طلب الدولة المعتدى عليها، وبعد وقوع هجوم مسلح حقيقي. وبالتالي، لا يجوز للولايات المتحدة أن تتذرع بالدفاع عن إسرائيل إلا إذا ثبت أن الأخيرة تعرّضت فعلًا لهجوم مسلح من قبل إيران، وأنها طلبت بشكل صريح مساعدة الولايات المتحدة في إطار الدفاع الجماعي. وبما أن إسرائيل هي من بادرت بالعدوان، فإن ذلك يخرج عن نطاق الدفاع المشروع ويقع ضمن الأعمال العدائية المحظورة.

وعليه، فإن أي استخدام للقوة من قبل الولايات المتحدة ضد إيران، دون تفويض من مجلس الأمن أو استجابة لهجوم مسلح فعلي على إسرائيل، يشكّل وفقًا لتعريف العدوان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة (القرار 3314 لعام 1974) عملاً عدوانيًا يحظر بموجب القانون الدولي، ويمنح إيران – نظريًا – حق الرد وفقًا لمبدأ الدفاع الشرعي. ومع ذلك، فإن هذا الرد يجب أن يظل منضبطًا بالقواعد التي تنظّم ممارسة هذا الحق، وعلى رأسها احترام سيادة الدول الأخرى وعدم توسيع نطاق النزاع إلى أراضي محايدة.

في ضوء ما تقدم، يتبيّن أن مشروعية استهداف إيران لقواعد أمريكية في قطر لا يمكن تبريرها قانونًا وفق القواعد التقليدية، إلا إذا ثبت بالدليل القاطع أن قطر شاركت في العدوان الأمريكي أو سهلته صراحة. وبدون ذلك، فإن الرد الإيراني يفقد صفته الدفاعية ويتحول إلى عمل هجومي يُدين إيران ويضعها في مواجهة المسؤولية الدولية. غير أن الواقع الدولي يفرض اليوم مراجعة مستفيضة لمجموعة من المبادئ التي لم تعد صالحة لحفظ الأمن الجماعي، بل تحوّلت في كثير من الأحيان إلى أدوات لإضفاء الشرعية الشكلية على اختلالات القوة، مما يجعل من إعادة تفسير القانون الدولي في ضوء التحولات السياسية والعسكرية المعاصرة ضرورة تفرضها الوقائع لا الرغبات.

إن استحضار هذا النقاش في السياق الأكاديمي لا يرمي إلى تبرير سلوك سياسي معين، بل يسعى إلى إبراز الهشاشة التي باتت تعاني منها منظومة القانون الدولي في ظل تسارع وتيرة الصراعات المسلحة، وتداخل المصالح الاستراتيجية للدول الكبرى مع مفهوم الشرعية القانونية، مما يطرح تحديًا أمام فقهاء القانون وصانعي القرار لإعادة تأصيل مبادئ استخدام القوة، بما يحفظ الأمن الجماعي ويصون سيادة الدول ضمن إطار قانوني صارم وواضح يكفي لاستيعاب واقع دولي لا يحترم الحياد إلا إذا كان مدججًا بالقوة والردع المشروع.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى