الاجتماعية والثقافيةالدراسات البحثية

جدلية الذكاء الإصطناعي والذكاء البيولوجي في إختصاصات الفنون الجميلة

La dialectique de l’intelligence artificielle et de l’intelligence biologique dans les spécialités de Beaux-arts

اعداد : حنان شعبان – متحصلة على شهادة الدكتوراه – أستاذ مساعد بالمعهد العالي للفنون والحرف بقابس

المركز الديمقراطي العربي : –

  • مجلة المؤتمرات العلمية الدولية : العدد السابع والعشرون تشرين الثاني – نوفمبر 2025– المجلد 6 – وهي مجلة دولية محكمة تصدر عن #المركز_الديمقراطي_العربي المانيا- برلين.
  •  تُعنى بنشر الأبحاث ضمن جميع التخصصات الأكاديمية  ضمن مجالات التخصص العلوم التطبيقية مع التركيز على ( هندسة ,طب ) وايضا العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية كما تُعنى بنشر الأبحاث من وقائع المؤتمرات العلمية في جميع التخصصات التي تنظم من قبل المراكز الجامعية والمخابر البحثية من مختلف الجامعات في الوطن العربي ضمن التخصصات الأكاديمية .
Nationales ISSN-Zentrum für Deutschland
ISSN  2701-3995
International Journal of Scientific Confrences

 

للأطلاع على البحث من خلال الرابط المرفق : –

https://democraticac.de/wp-content/uploads/2025/11/%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%AA%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A7%D8%A8%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B4%D8%B1%D9%88%D9%86-%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D8%A7%D9%86%D9%8A-%E2%80%93-%D9%86%D9%88%D9%81%D9%85%D8%A8%D8%B1-2025.pdf

المستخلص

يتناول هذا البحث جدلية العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البيولوجي في مجال الفنون الجميلة، مع التركيز على الفنون التشكيلية الرقمية بوصفها نتاجًا للتحولات التكنولوجية الراهنة. فقد ساهمت الثورة الرقمية في إحداث نقلة نوعية داخل الحقل الفني، حيث أصبح الفنان يوظّف برمجيات الذكاء الاصطناعي في التصوير الفوتوغرافي، والرسم، والنحت الرقمي، مما أفرز ثقافة بصرية جديدة قوامها الصورة الرقمية والافتراضية.

تسلّط الدراسة الضوء على إشكالية أساسية مفادها: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون بديلاً عن الذكاء البشري في الإبداع التشكيلي أم أنّه يظل مجرد أداة مساعدة؟ ومن خلال تحليل نماذج من التجارب الفنية الرقمية بتونس، كأعمال سامي بن عامر ونور الدين الهاني، تكشف الورقة عن أوجه التماهي بين التقنيات الحديثة والتعبير التشكيلي، مع إبراز حدود الذكاء الاصطناعي في غياب البعد الرمزي والوجداني الذي يميز التجربة الإنسانية.

خلص البحث إلى أنّ الذكاء الاصطناعي يوفّر إمكانيات واسعة في تطوير الخيال والإبداع الفني، غير أنّه يبقى عاجزًا عن محاكاة التجربة الجمالية والفلسفية المرتبطة بالذكاء البيولوجي. ومن ثمّ، فإن التكامل بين الاثنين يفتح آفاقًا جديدة لممارسة فنية مبتكرة، دون أن يلغي أصالة الإنسان المبدع ودوره المحوري في صياغة المعنى الفني.

Abstract

This research addresses the dialectical relationship between artificial intelligence and biological intelligence in the field of fine arts, with a particular focus on digital visual arts as a product of current technological transformations. The digital revolution has brought about a paradigm shift in the artistic field, as artists increasingly employ artificial intelligence software in photography, painting, and digital sculpture, thereby generating a new visual culture grounded in digital and virtual imagery.

The study highlights a central question: Can artificial intelligence replace human intelligence in artistic creativity, or does it remain merely a supportive tool? Through an analysis of selected digital art practices in Tunisia—such as the works of Sami Ben Amer and Noureddine El Hani—the paper reveals the intersections between modern technologies and visual expression, while emphasizing the limitations of artificial intelligence in the absence of the symbolic and emotional dimensions that characterize the human experience.

The research concludes that artificial intelligence provides vast potential for expanding imagination and artistic creativity; however, it remains incapable of replicating the aesthetic and philosophical experience inherent to biological intelligence. Thus, the integration of both forms of intelligence opens new horizons for innovative artistic practices, without undermining the authenticity of the human creator and their central role in shaping artistic meaning.

المقدّمة

شهد الفن تغيرات سريعة ومتزامنة مع التغيرات الفكرية والحضارية وظهور التكنولوجيا إذ لا يمكن تجاهل دور الوسائط الرقميّة والبرمجيات الحديثة في حياتنا اليوميّة وتسهيلها للشؤون الحياتيّة بكلّ دقة وسلاسلة وفي وقت قياسي كما تبني مستقبلا متجددا حيث هجّنت الأنترنات الحياة الإجتماعيّة لدرجة تداخل فيها العالم الحقيقي بالعالم الإفتراضي في مزيج فريد ومستحدث. ومع تغلغلها صار من المحال الإستغناء عنها. كما لعب الذكاء الإصطناعي دورا رياديا في ميدان الفنون البصرية والفنون التشكيلية المعاصرة حيث إكتسحت الثورة الرقميّة ضمن الفنون معلنتا إنبثاق أسلوب فنيّ جديد وثورة إبداعيّة وبصريّة تؤسس لحاضر تشكيلي متنوع ومستقبلا واعدا.

مع ظهور الذكاء الإصطناعي سارع العديد من الفنانيين التشكيليين لمسايرة مستحدثات الركب التكنولوجي والرقمي فأستعانوا بكفاءات وإمكانيات اللاّمحدودة للذكاء الإصطناعي التي يتمتع بها الحاسوب واللوح الذكي ووظفوها لخدمة إبداعتهم الفنيّة من صور فوتوغرافيّة ورسومات رقميّة وحتى مجال النحت الأنطولوجي الفعلي والإفتراضي وفتحت بذلك ثقافة فنيّة جديدة مسايرة للتطور التكنولوجي والرقمي والقائمة بالأساس على الصورة الرقميّة.

تناولت الإشكاليّة الجدل الحاصل بين الغزو التكنولوجي على المجال التشكيلي وبين الذكاء البيولوجي كمعيار أساسي في تشكيل الفن وهذا يضعنا أمام تساؤلات عديدة:

  • مالفرق بين الذكاء الإصطناعي والذكاء البشري؟ وماهي مهام كلّ منهما؟
  • وهل يمكن تطوير المجال التشكيلي ضمن برمجيات الذكاء الإصطناعي؟
  • وماهي آثار تطور وإستعمال تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال التشكيلي والتعليمي؟

أهداف الورقة العلميّة

تهدف الدراسة الى تحقيق ما يلي:

– بيان مدى استفادة الفنون التشكيليّة من الذكاء الإصطناعي والتكنولوجيّة الرقميّة.

– دراسة إنشائية لبعض النماذج من الفنون الرقميّة بتونس.

– مراجعة حدود الذكاء الإصطناعي مقابل الذكاء البيولوجي.

الاستفادة من تقنيات التكنولوجيات الحديثة في المجال التشكيلي.

ماذا نعني بالفن الرقمي؟ هو يتم إدخال منظومة رقميّة في شكل فوتوغرافية أو رسوم خطيّة أو معلومات صوتية أو كتابية للحاسوب لمعالجتها إلى تصميم فني فتعرف بالفنون الرقميّة وتأخذ مصدرها من عناصر أخرى كالماسح الضوئي والمعلوم أن الفن الرقمي يتخذ عدّة أشكال مختلفة أولا ثلاثيّة الأبعاد وهي تقنية تعدّ المنجز بواسطة الكمبيوتر في شكل ثلاثي الأبعاد تقنيّة تستخدم بكثرة في صناعة التحريك السينمائي. ثانيا معالجة البيانية الرقميّة لإنجاز صورة مركبة منجزة من فضاء رقمي. ثالثا النحت الرقمي يتمثل في نحت ثلاثي الأبعاد ويتخذ وجودا أنطولوجيا. ورابعا الرسم الرقمي هو عبار عن إنجاز لصور على شاشة بيضاء بقلم رقمي وهي تتوفر إمكانات لاحصر لها على صعيد الخلق الإبداعي من تعدد الألوان والأشكال مع الفروق الضوئيّة  وإمكانيّة السماح بالتدارك في بعض الزلات وإمكانيّة الفسخ واستئناف الإبداعات إلى ما لا نهاية في زمن قياس. وذلك من خلال برمجيات تسمى بالذكاء الإصطناعي وهي متعددة. فالذكاء الإصطناعي هو إحدى فروع الحاسوب يسعى لتصميم آلات ذكيّة قادرة على محاكاة الذكاء البيولوجي في التفكير المنطقي والتعلم بهدف آداء مهام معينة، بسرعة فائق يعجز الذكاء البيولوجي عن مجارته. مع تتالي المحاولات الفنية الرقميّة تواصل السعي إلى تطوير البرمجيات الرقميّة المخصصّة للمجال التشكيلي لتستجيب لمصممي الجرافيك والفنون البصريّة والتشكيليّة وأنشئت للفنان مزيدا من الإمكانيات للإبداع في سبيل كمال وإكتمال أعمالهم الفنيّة بدقة لا متناهيّة وسرعة في الإنجاز وقلّة المجهود العضلي خصوصا مع تقنيات النحت والحفر بعد أنّ أنهكتهم أوات العمل من المطرقة والإزميل…لتتحوّل برمجيات الذكاء الإصطناعي إلى الآداة والوسيلة لترجمة الأفكار الفنيّة، ومن هنا أصبح الإقرار بجدوى المجال الرقمي ودقة تعبيراته وإمكانيّة في تحويل الأفكار وترجمتها بنجاعة كبيرة. وهذا ما يؤكده نور الدين الهاني في مقال بعنوان” ريشة في عطلة ” في تكامل بين الفنون الرقميّة والفن الرسم بقوله: “إذا اعتبرنا أنّ فنّ التصوير هو تهيئة لفضاء ثنائي الأبعاد مهما كانت مقاساته أو تقنياته أو محامله فإنّه يمكن الإقرار بسهولة أن الصورة الفنيّة يمكن أنّ تنجز إفتراضيّا. يكفي أنّ نعتبر أنّ شاشة الحاسوب بمثابة قماشة الرسام وأنّ نشرع في الرسم عليها بالبرمجيات المخصصة لذلك.”(نور الدين الهاني، 2011).

إنفتح الفنان المعاصر على التجارب الفنيّة بإستخدام الذكاء الإصطناعي ونهل من إمكانياتها والحاملة لفرص لا متناهية من الإبداع، حيث يتمّ إستخدام البرمجيات بأقصي حدّ ممكن، مع الإضافة والحذف لبعض الأجزاء من المنجز الفني لخلق واقع إفتراضي يدنو من الواقع المادي لحدّ ما. وبالتالي أصبح التكنولوجيا والتقنيات الرقميّة الآداة لها دورا كبيرا في مساعدة الفنان لإنجاز فنّه بعد الإختبارات العديدة وتفضيل الخيار الأجمل من حيث الموضوع والتقنيّة بإعتبارها الوسيلة الأكثر مرونة في ملامسة الأبعاد الجماليّة بأسلوب ووسائط إبتكاريّة. وهو ما شكّل انتقالا في طور مجرى تاريخ الفن التشكيلي. حيث أصبح الذكاء الإصطناعي وأدوات العمل الفني أقرب للأجيال الجديدة التي نشأت على برمجيات التكنولوجيا بحميع تخصصاتها وخاصة إنتشار الأنترنات ووسائل الإتصال الحديثة وهذا يعني بروز جيل جديد يشتغل على الفنون الرقمية سيصبح له الشأن في المستقبل. حتى أنّ مواصفات الفنان تغيرت حيث أصبح الفن صفة بشري لا تقتصر على النخبة فقط بل هو نشاط إنساني مصرح به للجميع.

بدأ فن الذكاء الإصطناعي بترسيم خطواته الكبيرة نحو الإدهاش خلال الخمسين عاما الأخيرة مستفيدا من برامجياته المتعددة والمعقدة ومع إضطراد التطور العلمي، وتمرحلات الفن التشكيلي مع إنجاز خطاب جمالي بصبغة حواريّة تواصليّة حيث أوجد الفنان لغة تفاعليّة جديدة عبر وسائط رقميّة لها القابليّة على استحداث بنى جماليّة وإنشائيّة بعيدة عن المعتاد والمتداول بمسحة غرائبيّة تميل لعالم إفتراضي بكلّ تناقضاته فأمتلكت فلسفة خاصة للأشكال الرقميّة، وأصبحت بذلك ثورة الذكاء الإصطناعي قوة تقنيّة ومعرفيّة لها رواجا ضمن المجال التشكيلي. وبالتالي لم يعد الشغل الشاغل للفنان إنشاء فن رقمي فحسب، بل سعى إلى إنتاج عوالم فنيّة تتعامل مع الواقع بروح ثوريّة لتتأقلم فية وتتكيف معه بعد أنّ أصبحت فلسفة اللاجدوى والعدم شعارا للواقع المعاصر فما كان من النظام التقني إلاّ أنّ بدّل وغّير لغتنا الحواريّة والذائقة الفنيّة، حيث يمكن إعتبارها من تجليات فكر مابعد الحداثة وتطبيقا فعليّا له دون استثناء. وككل عصر وثورة جديدة في المجال العلمي تتحدد معه الفنون وتولد فنّا جديد يواكب العصر والتطور العلمي الجديد.

إذن بدأ المخاض ككل نقطة فارقة حيث أنّ كلّ حركة فنيّة جديدة تحاول تجاوز السائد والماضي لتتعتنق الجديد والمستحدث ومنها الحركة الفنيّة بتونس.

فكيف برزت الأعمال الرقميّة ضمن المعرض الإفتراضي لسامي بنعامر ونور الدين الهاني؟ وهل كانت ضرورة ملحة أمام الوضع صحيّ العالمي أو هي محاولة نابعة عن إختيار تقني ومواكبة للعصر وللتكنولوجيات الرقميّة؟

دراسة بعض النماذج التشكيليّة الرقمية من الأعمال الفن المعاصر القرن الواحد والعشرين

منذ بداية ظهور الذكاء الإصطناعي سارع ثلّة من الفنانين التشكيليين لمواكبة التطور التكنولوجي واستغلوا إمكانياتها اللامحدودة في منجازات فنيّة وكما يقرا كلّ إدمون كوشو -أحد رواد الفن الرقمي- والناقد نوربير هيلير في كتابهما “الفن الرقمي” بأنّ الفنان إذا مارام التعبير عن نفسه وأفكاره فهو حرّ في إختيار لغته وإنّ كانت لغته وآداته برمجيات رقميّة.(عبد الرحيم ابراهيم،1995).

 

 

الصور رقم 1

المرجع:alaraby.co.uk  لمسة مميتتة –سامي بن عامر- ومسارات الرسم التقني

وأول المحاولات الجديّة في مجال الفن الرقميّ بتونس الذين استجابوا لما تشهده المجتمعات  العصرية من إيقاع متسارع للثورة المعلوماتية الناجمة عن تطور وسائل الإتصال الحديثة ومن بينها أعمال الفنيّة لسامي بن عامر[1] حيث توخى منهجا مغايرا شكلا ومضمونا ونلاحظ ذلكفي قوله: “أن تكون تشكيليّا يفترض أن تكون قادرا على التفاعل مع وضعيات مختلفة ومتغيرة. إنّ التغير في تقنياتك بحكم تغير المحيط الذي تعيش فيه أنّ تتفاعل مع ما قد يغير حياتك.” فمن خلال المعرض الافتراضي الذي أنجزه في فترة الحجر الصحي ماي 2020 بعنوان “لمسة مميتة” عالج موضوع كورونا فيروس فكانت أعماله الرقميّة ضمن هذا المعرض متراوحة بين مختلف الأشكال غير أن الشكل الدائري أو الحجم الكرويّ كان الأكثر استخداما في أعماله الرقميّة من بين اللوحات ذات الشكل الدائريّ: “اقتحام”، “ابادة”، “تسرب”، “الخلايا1″، “مجهري1″، “مجهري2″، “إلتحام”، “استبدال”، “تحول” وقد اخترنا من منجزات سامي بن عامر للتحليل، ثلاث لوحات رقميّة تشابهت في تكوينها التشكيلي وأسلوبها المعتمد فكانت الأعمال في شكل كرويّ يحتوي على سيميوطيقا أشكال متراكمة، متزاحمة، تارة تحمل تناقضات وتارة أخرى تجانس وتوافق. اتخذ شكل الدائرة مركز العمل ومحوره حيث تشكّل لحظة الوعي الابستميولوجي لماهية الشكل الدائريّ أو هو الكوكب الأم الحامل للعديد من الأشكال والتراكيب والرموز. حيث تميزت هذه الأشكال المرتسمة ببنيّة دائريّة وهيئة حلزونيّة وكأنّ يدا خفيّة وماهرة قد رسمتها بإدراك حسي دقيق ومتناسق. مثلت هذه المخلوقات الغريبة والرموز الهيروغلفيّة والأمازيغيّة، قد حبس معها تاريخها والحضارات المتعاقبة على مرّ الزمان، حبس معها الكوارث الطبيعيّة التي عاشها الإنسان من الأزمات الصحيّة والبيئيّة. فكما شهد الكون الإنحباس الحراري وما انجر عنه من تقلبات جويّة، حرص “سامي بنعامر” على حصر لهذه الأجواء في شكل منفرد ووحيد حاز على كامل اللوحة وهو الشكل الدائري ليحمل في بطنه وباطنه أجساما تعبر عن قلق الفنان وانحصاره في محيط منغلق مستمر لا بداية ولا نهاية، أجساما متناثرة في اللامكان واللازمان حائرا بين الماضي والحاضر والمستقبل وما يخفيه من كوارث طبيعية وبيئية خطيرة هذه المجموعة من الأعمال الرقمية (الصور رقم1) هي عبارة عن مجموعة أجساد حدّدها الفنان “بنعامر” بخطوط عازلة تشكل إطارا مغزولة ضمن مساحات محددة. هذه السيمات تذكرنا بأسلوب ينفرد به رسم الأيقونات البيزنطي القديم. وهو رسم يهمل النسب والأبعاد التي عرفناها ويتميز بها الفن الإغريقي. وبذلك أصبح الجسم المرسوم مساحة مسطحة ثنائيّة، يحدده خط مغلق اسود يحيلنا بالرسومات اليابانية Japonaises)  Estamps). كما نلاحظ حضورا مكثفا لملامح سريالية، متداخلة متشابكة أحيانا تبدو لنا ضاحكة باكية وأحيانا أخرى صارخة وجامدة وكأنها تعلن عن لحظة فزع وهول يعيشها الكوكب الأرض. كل هذه العناصر والملامح جمعها “بنعامر” ليضعها داخل مساحة دائرية ويمنحها إضافات وألوان قاتمة ومظلمة تنسجم مع فكرة الوباء الفتاك الذي حلّ بالعالم وليخبرنا بكونها الوعاء والحامل لم يتغير ولكن المحمول ومكوناته هي التي تتغير بمرور الزمن والأزمات المعاشة وتحديدا الكورونا. أصبح الإنسان يعيش في صراع فكري وروحي وجسدي ولعل هذا المعترك من المشاعر والأحاسيس أصبح حملا ثقيلا علي الكوكب.

في المقابل نجد تجارب الفن الرقمي للفنان التشكيلي نور الدين الهاني في مسائلة من قبل رمزي التركي هل أنّ الفنان يميل إلى التفرّد أم إلى الكونيّة بقلم رمزي التركي، فقد خاض الهاني تجربة تشكيليّة قوامها الوسائط الذكاء الإصطناعي فكانت أعماله المستحدثة مركزة على البرمجيات الرقميّة حيث اتسمت لوحاته بالتجريد الغربي المستوحى من التراث التونسي، ويعكس تفاعله العميق مع البيئة التونسية والعالم الرقمي، فانتقل من الرسم المسندي بعد أنّ “أعطى ريشته عطلة” على حدّ تعبيره ثمّ انتقل إلى الفوتوغرافيّة الرقميّة والتى تعتبر من أحدث ميادين الذكاء الإصطناعي. إذن ركز  نور الدين الهاني تجربته على الفضاء الرقمي في انجاراته الفنيّة وتجديدا برنامج الأدوبي المعروف بالفوتوشوب فكانت تجاربه قائمة على التراكيب التجريديّة متماسكة في عناصرها والتباينات اللونية الثريّة  حيث تراوحت التراكيب بين الهندسي المنتظم والمدروس وبين العفوي الآني في تجارب إرتجاليّة إذ يتكرر الشكل في إيقاعا منشأ حركة وتنوعا بصريا يرافقه إختياره للألوان الحاملة لثراء وحتى هذه تبني وحدة شكليّة مغرقة في التجريد وهي تعبر عن مشاور طويل من التجارب والصور الزيتية مسندية ومع أنّه وضف الذكاء الصناعي إلاّ أنّه حافظ على الطابع الشكلي لتراكيبه اللوحات الزيتيّة مع المحافظة على درجات لونيّة المتميزة بالحيويّة فخصوصيّة الأعمال وروح الفنان لاتزال بارزة بصفة ملحوظة حتى في الأعمال الرقميّة لتؤكد تشبثه بالفعل الإنشائي التشكيلي. يستحضر “الهاني” في أعماله الفنية الرقميّة مواضيع تستحضر التراث التونسي وفي البحث عن الأشكال الزريبية المحملة بالزخارف مغرقة في الذاكرة  الشعبيّة وأحيانا مستوحى من الفنون العربيّة الإسلاميّة في بنيّة قائمة على التكرار لإبراز أسسها الهندسي متجاوزا البعد التزويقي إلى الجانب التشكيلي والإبداعي وهو نوع من السيطرة على الموقف بالأخذ من الغير دون التماهي والإندماج فية وطمس الهوية التونسيّة فكانت الخصوصيّة التشكيلية بارزة في أعماله، حيث أصبح فضاء اللوحة رمزا حضاريا ينير هوية الزخارف التونسية وهوية أعماله تاركا بصمة ورؤية ذاتية مميزة.( نور الدين الهاني، 2007.) ومن أعماله التجريدية على غرار لوحة رنينRésonance  أو لوحة منعرحات الأرزق Les méandres du bleu ويحيك أطيافا خيطية لشخوص راقصة رقصة الحياة والخصوبة كما في سلسلة لوحات بعنوان تانيت وقد استلهم فكرتها من الرمز الأسطوري لآلهة الحياة والخصوبة للقرطاجنيون.

إذن لم يسقطه الفن الرقمي في فخ التقنيّة بل واصل في أفكاره وأسلوبه لإستعادة الماضي برموزه وأثاره إلى الحاضر، حيث قدّم نموذجا حيّا عن التحول الفعلي ومواكبة العصر ليتحول من ثقافة الذاكرة إلى ثقافة الإبداع الرقمي، بينما فجّر “بن عامر”الجسد والرمز في فضاء رقمي متجاوزا حدود التمثيل إلى حدود الإنفعال فجاءت أعماله الرقمية كمجال إحتجاج جمالي بينما “الهاني” مثلت أعماله كإمتداد للذاكرة وللماضي.

وصل الذكاء الإصطناعي بالإبداع الى أنّ ناب فيه عن الفنان والملاحظ بداية تكوين فن الألفيّة الثالثة بلا منازع في حين يرى البعض من النقاد أنّ استمرار الفن الرقمي يزول بزوال لحظته مثل الموضة (عبدالرحيم إبراهيم،1995) فهي كسائر الأعمال التي تعتمد على الأنترنات وتوزع عبر المواقع الإلكترونيّة.ومن هنا يمكننا التساؤل: ماهي حدود الذكاء الإصطناعي في المجال التشكيلي؟

حدود الذكاء الإصطناعي في المجال التشكيلي.

تميز الذكاء الإصطناعي بجاذبيّة وشساعة الإمكانيات وسرعة في الإنجاز والتي تسمح بمشاهدة الأعمال الفنيّة على شبكة التواصل الإجتماعي على نطاق واسع ، إذ يشتق قيمته من كونه يشتغل وفق منطق “الإستجابة الإحصائيّة” وقد قام على تمثلات إصطناعيّة غير مدركة لذاتها حاملة لمنظومة رقميّة مشفرة دون نسيان لا تتجاوز كونها منظومة حسابيّة تتغذى على كميات هائلة من البيانات لتوليد استجابة استقرائيّة، في محاكاة الانماط البصرية وإنتاج فن تشكيلي رقميّ، قادر في ظاهره على أعمال فنيّة حاملة لتعبيرات إنشائيّة جماليّة متقدمة. إلاّ أنّ هذا الإبداع الإصطناعي يبقى عاجزا عن إدراك الأبعاد الرمزيّة والوجدانيّة العميقة التي تثير الرغبة في الانتاج الفني لدى الفنان. حيث يحاط بمجموعة من الحدود المفاهيمية والوجوديّة التي تقف حاجزا أمام كونه بديلا حقيقيا للذكاء البيولوجي. فلا يملك الذكاءالإصطناعي وعيّا ذاتيّا، ولامشاعر حتى يمكنه أنّ يمرّ ويتعلّم من تجارب الحياة ممّا تؤهله لإنتاج فن نابع من صدمة أو حب أو قلق وجودي …في مقابل الإنتاج البيولوجي القائم على التعلّم من الخطأ ومن التجربة عبر مراجعة متعددة المستويات من إدراك عاطفيوخبرة ذاتية والحدس الداخلي والإنفعالات المركبة وكما نعلم هي مشاعر لا يمكن اختزالها ضمن خوارزميات الحاسوب. فالانتاج الرقمي الفني يبقى خاويا من القصدية الفلسفيّة، فلا تنتج بغرض التعبير عن موقف أو مسائلة للواقع فهي مجرد استدعاء وتوليف لأشكال وأنماط مستمدة من بيانات مخزنّة لذلك يكون الإنتاج الفني أقرب إلى إعادة التوليف فلا يمكن أنّ تشهد قطيعة إبداعيّة مع السابق.

وإذا كان المجال شاسع في الفن الرقمي إلاّ أنّه لا يجعل مستعمليه عبقريا. فالمهارة في استعمال الذكاء الإصطناعي تبقى مهارة تقنيّة لا ترتقي إلى مستوى الموهبة. بالإضافة إلى حدود عرضه واللجوء إلى وسائط مادية كالطباعة الرقميّة ذات الأحد عشرون لونا والطباعة ثلاثيّة الأبعاد. بالرغم من أنّ الذكاء الإصطناعي ساعد الفنان من خلق حالة من حالات الجمال وتقدير النسب الجماليّة في عمله التشكيلي، ساهم أيضا في إنتاج أعمال غير جيدة لأشخاص تنقصهم الموهبة ولهم استخدمات تقنيّة تكنولوجيّة عاليّة لكنهم لايجيدون نواميس الصياغات التشكيليّة وفي المقابل بعض الفنانيين تنقصهم المعرفة والتعامل مع الذكاء الإصطناعي. فالعمر الطويل للعمل التشكيلي له مواصفات خاصة قلّما تتحقق دون علاقة خاصة تربطها بالفنان لكونها حالة منفردة وخاصة. حالة من العشق الخاص قد تتأثر وتؤثر على حرفيّة الفنان وقدرته على الإبداع. فالفعل اليدوي للعمل الفني التشكيلي، له خصوصية وسحر لا يدركه إلاّ من يتحسس ويتذوق ويعايش التجربه الفنيّة من ملامسة المواد والإنغماس في ثنايا العمل ومعايشة كلّ إرهاصاته.

يبقى السؤال مطروحا حول علاقة الذكاء الاصطناعي ونمط الإنتاج والتوزيع والمحافظة على الأعمال في سوق الفن. وهنا تبرز إشكالات أخلاقيّة وفكريّة تهتم بالملكيّة الفكريّة والإبداعيّة وأهميّة الفنان كمنتج للمعنى. وهي جملة من الإشكالات تحدد مكانة أنّ الذكاء الإصطناعي، فمهما بلغت من تطور، إلاّ أنّها لا يمكن أنّ تضاهي دور الفنان المبدع الواعي حين يحاور الوجود ويعيد تشكيليه رمزيا ومن هذا المنظور، يمكن القول بأنّ الذكاء الإصطناعي، يظهر كأداة جديدة تضيف بعدا تقنيّا للممارسة الفنيّة، لكنها لا تستطيع في الوقت ذاته، أنّ تنوب عن الإنسان في التعبير عن جوهر التجربة الوجودية أو أنّ تقصي دوره كفنان ومبدع. وبالتالي يمكن القول بحتمية العلاقة بين الذكاء البيولوجي والذكاء الإصطناعي وإحداث تناغم أدائي بين القدرات الذاتيّة البيولوجيّة والإمكانيات الشاسعة لبرمجيات وأنظمة الرقمنة. أفرز  هذا التناغم جدالا بين كون الفن التشكيلي لا يتعدى تقاليد أدائيّة فنيّة يجب المحافظة عليها ووضع خصوصية بين العمل الفني والتقني أمّا الرأي المخالف يدعو بضرورة التقدم والقفز على المعتاد والراسخ فلا فائدة من إجترار التقاليد التقنيّة والمفهوميّة في مقابل إدماج تقنية الذكاء الإصطناعي كعنصر فاعل في التغير والتحول صوب عوالم إفتراضيّة بإجواء غرائبيّة وتجاوز نمطيّة التشكل والبناء مع إيجاد حلول تواصلية عالمية فنيّة وتحول إلى منظومة معرفيّة قابلة للتغيير والتحول بشكل مستمر.

نتائج البحث

-أسفرت الدراسة عن مجموعة من النتائج التي تسلط الضوء على دور الذكاء الإصطناعي في الفنون التشكيلية الرقميّة ممّا ساعد على تطوير الفكر والخيال والإبداع للفنان المعاصر.

– ارتباط الانتاج الفني التشكيلي على مدار تاريخيه بالتجريب والمحاولات من قبل الفنانين ولم ينئ الانتاج التشكيلي الرقمي عن هذا المسار في اكتشاف ما يمكن ان يقدمه الذكاء الاصطناعي من تعبيرات تشكيلية جديدة.

– كما كشفت الدراسة عن أنّ الأعمال الفنيّة المرتكزة على الذكاء الإصطناعي وإن بدت من الناحيّة الجماليّة في غاية من الجمال والإتقان غير أنّها تفتقر في الغالب إلى البعد الرمزي والفلسفي كما تفتقر إلى التحليل والنقد وهذا ما يكسب الفنون التشكيلية قيمتها وفي المقابل يفقد العمل الفني الرقمي طابعه الثوري والطلائعي.

– وأخيرا تبرز الدراسة ضرورة التعامل مع الذكاء الإصطناعي بكونه أداة مساعدة للعمل الفني وليس ركيزة ولا بديلا عن الفنان.

خاتمة

إنّ التجربة النقديّة للذكاء الإصطناعي تنظيرا أو تطبيقيا لها ارتباط عميق بجهاز مرجعي مؤسس على الصعيد الإبستمولوجي الفني والأدبي والإجتماعي، وتبرز الحاجة الماسّة إلى تأطير حضوره ضمن رؤيّة نقديّة تراعي خصوصيّة الفعل الفني. وقد بيّنا من خلال الدراسة متعدد الأبعاد بكون الذكاء الإصطناعي لا يمكن إعتباره كيانا مبدعا بالمعنى الجوهري الذي يحمله الفن ولكنها تبقى آداة رقميّة لها دورا مهما وقدرة عالية وكفاءة على توليد صور ونماذج بصريّة مستمدة من مختلف الخوارزميات لا إلى وعي ذاتي وتجربة عاطفيّة.

ويبقى الفن الرقمي له من الإنفتاح والتوسع ما يجعل الإحاطة بجميع جوانبه أمرا عسيرا ، إذ أنه يبتكر على الصعيد العالمي بفضل الانترنات والعولمة. إضافة إلى سرعة تجديد واستحداث البرمجيات الجديدة. فلا مفر من من مواجهة حقيقة الذكاء الإصطناعي واستغلال تقنياته ومناهجه مع ظهور أجيال جديدة تعتمد بشكل شبه كلّي على إستخدام هذه التقنيات. بينما ظلّ النقد متخبطا بين رفض تام لإستخدام الذكاء الإصطناعي وبين ضرورة إفراز آليات جديدة للنظر وتقييم جماليات وإيجابيات هذا الأستخدام الذي استجاب لتطورات فرضتها عجلة التقدم التكنولوجي في العالم. إذن لكل عصر آدواته وتقنياته في العمل الفني حيث لا يؤثر هذا على أصالة العمل الفني طالما الفنان لديه حس الفنّ والإبتكار والتجديد مع قدرته على استخدام تقنيات الذكاء الإصطناعي. ممّا يعزز من أفق الممارسة الفنيّة دون ان ينفي إنسانيتها.

قائمة المراجع

  • إسماعيل شوقي إسماعيل، الفن والتكنولوجيا، الناشر المؤلف، القاهرة،1999.
  • صالح رضا، ملامح وقضايا الفن التشكيلى المعاصر، الهيئه المصرية العامه للكتاب، القاهره.
  • عبد الرحيم ابرهيم، رؤيه مستقبليه في نقد و تذوق الفنون _ مكتبة االنجلو المصرية، القاهره، 1995.
  • محسن محمد عطية، أفاق جديدة للفن، عالم الكتاب،القاهرة، 2003 م.
  • محمود شاهين، فن الفيديو وسائطيات بـصرية تغـزو عـالم الفنـون، جريـدة البيـان الإلكترونيـة، .2012/09/30
  • الهاني نور الدين، مجلة الحياة الثقافية، وزارة الثقافة والمحافظة على التراث، تونس، العدد184، جوان2007.
  • VISIBLE DIFFERENCE. Barbara Robertson in Computer Graphics World, Vol. 23, No. 7, pages 26-34; July 2000

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطي العربي

مؤسسة بحثية مستقلة تعمل فى إطار البحث العلمي الأكاديمي، وتعنى بنشر البحوث والدراسات في مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية والعلوم التطبيقية، وذلك من خلال منافذ رصينة كالمجلات المحكمة والمؤتمرات العلمية ومشاريع الكتب الجماعية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى