الدولة الفاشلة في إفريقيا و سياسة ملء البطون
اعداد : بن عائشة محمد الأمين/ باحث في العلوم السياسية و العلاقات الدولية.
باحث في “المركز الديمقراطي العربي”
سيطرت موجة نظم الحكم الديكتاتورية و الاستبدادية على طبيعة الحياة السياسية في معظم الدول الإفريقية، بشكل أوجد صور الصراع على السلطة وذلك بممارسة جميع أشكال العنف، وقد كان ذلك عبر حالات الانقلابات العسكرية و الاغتيالات السياسية و الحروب الأهلية المتكررة.
إن ما يؤثر على دولة ما كموريتانيا -أحد أمثلة دول منطقة الساحل الإفريقي التي عرفت أكبر عدد من الإنقلابات السياسية أخرها سنة 2008- لا يحدث بمعـزل عن دول التي تجاورها، كالنيجر ومالي والجزائر و التشاد و ليبيا. فهذه الدول كلهـا تُعتبـر حديثـة التكوين و النشأة.
فالدولة الإفريقية تشهد أزمة مؤسساتية و سياسية شرعية و حتى مدنية، و كذا سلبية في التواجد، أي التساؤل حول واقعية الدولة الإفريقية. في ظل الاحتماليـة المتزايـدة للفشـل الـدولاتي و صـور المعارضة الداخلية للنظام السياسي المتكررة- و التي ولدت موجات عنف سياسي داخلي حـاد – التـي شهدتها مختلف الدول الإفريقية.
وقد اعتبر العديد من الباحثين أن الدولة الحديثة في أفريقيا لم تظهر إلا كنسخة أفريقية للنظام الاستعماري الغربي من حيث تسلط النظام، ذلك أن سيطرة نخبة معينة على الحكم وعدم الفصل بين الحاكم والدولة أدى إلى دكتاتورية السلطة السياسية وانتشار الفساد، بخاصة في النخبة الحاكمة. وقـد لجأت الدولة الأفريقية في هـذه الفترة إلـى فـرض الأيديولوجيا التي تقوم على ترابط كل من السياسة والاقتصاد، واحتفظت بكثير من ملامح الفترة الاستعمارية ولا سيّما سياسة القمع، حيث تحولت الـدولـة إلـى دولـة سلطوية مبنية على شخصنة السلطة.
كل هذا سياسة القمع، حيث تحولت الـدولـة إلـى دولـة سلطوية مبنية على شخصنة السلطة أدى إلى أن تتعرض الدولة الحديثة للعديد من الأزمـات السياسية والاقتصادية. وبالتالي تكون دولـة ما بعد الاستعمار في أفريقيا قد ورثـت العديد من المشكلات أهمها مشكلة الدولة. وهذا ما يبين عدم وجود قواعد ّ مرسخة لممارسة وانتقال السلطة وعدم الاستقرار على المؤسسات السياسية، الأمر الذي جعل الانقلابات العسكرية السمة المميزة للأنظمة السياسية في إفريقيا فضلا عن عدم سيطرة الدولة على العديد من الإقاليم في أفريقيا، بسبب الـصـراعـات الـداخـلـيـة ذات الطابع الإثني والقبلي والجهوي.
هـكـذا اسـتـقـلـت أفـريـقـيـا عـن الاسـتـعـمـار الأجنبي وهـي مثقّلة بالعديد من المشاكل حتى صنعت منها أزمـات استعصت على الـحـل، وبخاصة إشكالية بناء الدولة، بسبب تنامي الهويات العرقية والإقليمية والدينية التي نازعت الدولة من أجل البقاء، إذ أصبح وجود الدولة بحد ذاته محل شك ونزاع تنامى بعدد المؤشرات التي ساهمت في انتقاص شرعية الـدولـة، وهـذا مـا جعل مجموعة مـن الـدول الأفريقية تعاني أزمـات تشكك فـي شرعيتها الدولية وتصنفها ضمن الدول الفاشلة. وسيكون نموذج مالي هو نموذج دراستنا حيث سنحاول دراسة أسباب فشلها في تكوين دولة وطنية قومية.
تعود إشكالية بناء الـدولـة في أفريقيا إلـى الطريقة التي ظهرت بها الـدولـة وليس لأسباب عـارضـة. فـالـدولـة كـيـان ينشأ فـي الـغـالـب نتيجة عـوامـل داخـلـيـة وتـطـور طبيعي لـصـراع الـقـوى والمصالح والحاجات الداخلية لغرض الأمن والنظام وتحقيق العدالة، لكن الدولة في أفريقيا لم تستجب لهذه المقومات وتمت صناعتها وإلحاقها بالدولة الأوروبية التي استعمرتها، حيث قضى المستعمر على المشيخات والمماليك القديمة، وفي الوقت نفسه استنسخ صورة مشوهة َّ ومحرّفة لنظام الدولة الحديثة لأهداف إمبريالية توسعية تفرض التبعية الدائمة .
في هذه الفترة مرت الدولة في إفريقيا بأزمة عميقة ومتزايدة الحد شملت كافة مؤسساتها السياسية وألقت بآثارها السلبية على أدائها وقاعدة شرعيتها، فالنظام الحاكم يكتسب شرعيته من شعور المحكومين بالرضا وأحقيته في الحكم، وهذا ما لا يتوفر في أنظمة الحكم الإفريقية، وبدون شرعية يصعب على أي نظام حاكم أن يملك القدرة على إدارة الدولة، وذلك بسبب فقدان ثقة المواطنين في قدرته على إيجاد حلول للمشاكل المتنوع .
ففي هذه الفترة التي تميزت بتنامي المعارضة المدعمة من الشعوب ضد الأنظمة التي أصبح فشلها واضحا في التفاعل الإيجابي والتجاوب مع الشعوب وعليه فإن حركات الاحتجاج الشعبي أخذت أشكالا عدة ابتداء من المظاهرات العنيفة نظرا لفشل الدولة الإفريقية في الاضطلاع بالوظائف الأساسية التي حددتها لنفسها عند الاستقلال وبنت عليها شرعيتها طوال فترة وجودها.
إن ّ تكون الدولة ما هو إلا نتيجة للمعطيات الذاتية والعوامل الداخلية بالدرجة الأولى، وليس عبر تدخل المستعمر الأوروبـي أو غيره من أجل إنشاء الدولة الأفريقية الحديثة، فقد قام بتكوين نخب سياسية تتبنى سياسته وتعيد إنتاج تجربته الاستعمارية دون تغيير في شكل الـدولـة الأفريقية ، متجاوزا الخصوصيات المحلية والتركيبة البشرية الإثنية والثقافية والدينية والقبلية المعقدة والصعبة الفهم للقارة الأفريقية.
وهكذا يظهر أن الدولة الحديثة في أفريقيا لم تظهر إلا كنسخة أفريقية للنظام الاستعماري مـن حيث تسلطية الـنـظـام، ذلـك أن سيطرة نخبة معينة على الحكم وعـدم الفصل بين الحاكم والـدولـة أدى إلـى شخصنة السلطة السياسية وانتشار الفساد، كما أن الـزعـمـاء كـانـوا يمثلون غـالـبـا مصالح دول أجنبية فـي بلدانهم مـبـرريـن نظام الحزب الواحد وقمع المعارضة الشعبية بالحفاظ على الاستقرار وتنمية البلاد، معتمدين على الرشوة الدولية لتثبيت مراكزهم، وكل هذا أدى إلى أن تتعرض الدولة الحديثة للعديد من الأزمات.
واجهت الدولة في أفريقيا عدة إشكالات، يتمثل أولها بوجود تجمعات سكانية أفريقية غير متجانسة عرقيا و ثقافيا، ضمت إلى بعضها البعض قسريا في دولة واحدة مع وجود إمتدادات لهذه الإثنيات في دول مجاورة، فكان لا بـد مـن أن تتعاون وتتداخل معها بحكم الجوار.
كذلك من أهم إشكاليات بناء الدولة في أفريقيا أنها لم تجد المساعدة والمؤازرة من المجتمع الدولي لمساعدتها على تطوير نفسها والخروج من الشكل القبلي القديم إلى شكل الدولة الحديثة، ومن ثم الانتقال إلى التنمية والتطور والتخطيط لصنع بوتقة سكانية موحدة ومجتمعة، لكن ذلك لم يحصل وأصبحت الـدول الأفريقية مسرحا للصراعات الدولية على ثروات المنطقة.
هـكـذا يظهر أن الـدولـة الأفـريـقـيـة الحديثة فشلت وأخـفـقـت، وهـو مـا يـطـرح الـتـسـاؤل حول الأسباب التي أدت إلى ذلك. وهنا نجد مجموعة نظريات َّفسرت سبب هذا الإخفاق، من بينها نظرية سياسة ملء البطون لجان فرنسوا بايار. وقد حاول الأخير فهم أسلوب الحكم في أفريقيا وسلوك الأفـراد والجماعات فيها، فقام بتسمية كتابه سياسة ملء البطون نسبة إلى التعبير الكاميروني، في إشـارة منه إلـى طريقة الحكم، أو كما كـان يقول فوكو «إمكانية الحكم» في أفريقيا جنوب الصحراء.