البرامج والمنظومات الديمقراطيةالدراسات البحثية

التعديل الدستوري في المرحلة الانتقالية دراسة مقارنة مصر و جنوب إفريقيا

اعداد الباحث : إسماعيل زروقي – المركز الديمقراطي العربي

مقدمة :
يعرف الفقه الدستوري الدستور بأنه هو القانون الاسمي و الأساسي للدولة وهو ـ كظاهرة اجتماعية ـ يقبل التعديل و الإلغاء في كل وقت , لأنه ليس تعبيرا عن حقيقة منزلة , بل تعبيرا عما يجب اعتباره كذلك , ولهذا ليس بغريب أن ينص الدستور الفرنسي الصادر عام 1791 في مادته الأولى مرددا هذه الحقيقة بقوله ” إن الجمعية الوطنية التأسيسية تعلن بأن للأمة الحق الذي لا يسقط بالتقادم في تعديل وتغيير دستورها ” , وهذا أيضا ما أكده إعلان حقوق الإنسان و المواطن الفرنسي الثاني الصادر سنة 1793 حينما نص في المادة 28 منه ” للشعب الحق دائما في أن يراجع دستوره و يعدله و يغيره ولا يملك جيل معين أن يخضع لقوانينه الأجيال اللاحقة ” فرغم أن الشعب هو وحده صاحب السيادة لان الدساتير تصدر و تعدل و تلغى وفق مشيئته وحده ووفق رغباته و طموحاته , لأنه يكفي أن يظهر الشعب أرادته حتى تسقط و تنهار أي اعتبارات أو حواجز أو موانع ” , وقد عبر الشعب المصري عن ذلك في ثورة 25 يناير ,التي أجبرت الرئيس السابق ـ محمد حسني مبارك ـ على التخلي عن سلطاته و أقرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة للإعلان الدستوري الأول في 13 فبراير 2011 , وبهذا دخلت مصر حالة من الفوضى السياسية و الفكرية و أحيانا القانونية .
أولا ـ الشرعية الدستورية و الشرعية الثورية:
أن للثورات قانونها الخاص و شرعيتها الخاصة , فبمجرد نجاح ثورة يعني إسقاط الدستور القائم لتعارضه مع النظام الجديد وهو أمر أثار خلاف فقهي دستوري حول الشرعية الدستورية و الشرعية الثورية انحصر في ثلاث اتجاهات :
ـ الاتجاه الأول: يرى أن الدستور يسقط فورا من تلقاء ذاته , بمجرد نجاح الثورة دون حاجة إلى تشريع ما يقرر ذلك السقوط .
ـ الاتجاه الثاني: يوقف سقوط الدستور على إرادة القائمين بالثورة باعتبار , أن السقوط ليس أمرا حتميا , إذ قد يكون الهدف من الثورة هو المحافظة على الدستور و حمايته من عبث الحكام , وقد يحتاج الأمر إلى الإبقاء على الدستور فترة من الزمن ثم تعلن الثورة بعد هذا سقوطه .
ـ الاتجاه الثالث: ويرى ضرورة التفرقة بين الحكومة الواقعية و الحكومة الدستورية , بمعنى إنه قد تقوم الثورة و تأتي حكومة ثورية تحترم أحكام الدستور القائم , وهو ما يعني أن الحكومة الثورية جاءت لتحترم الدستور و تطبيقه .
لكن بتطبيق النظريات السابقة نرى أن هذه الثورة تفردت بخصائص تميزها عن أي ثورة أخرى فهي رغم أنها استطاعت حشد جموع الشعب ” ضد ” ممارسات النظم السابقة فإنها لم تعمل ” من أجل تجميعهم عبر طرح رؤى بديلة لتحقيق أهداف محددة , و ذلك لافتقادها إلى خارطة طريق مسبقة , أو مرجع فكري مجمع عليه , أو نموذج تستوحي منه . وان كان هذا الواقع نفسه قد ساهم في إنجاح هذه الثورات , حيث مكنها من توحيد صفوفها و تجميع طاقاتها , و أبعدها عن الدخول في خلافات سياسية مبكرة , أو منازعات أيديولوجية كان يمكن أن تؤدي إلى إفشالها في مراحلها الأولى . و لعل ذلك ما يفسر خروج هذه الثورات عن المفاهيم التقليدية التي كانت تحكم الثورات السابقة سواء من حيث افتقاد الثوار إلى قيادة سياسية , و إقصائهم بالتالي عن تولي مقاليد الحكم , و قبولهم بإنصاف الحلول , و الوقوف بأهداف الثورة في حدود المتاح و ليس المأمول , و التراضي بان يمثلهم ” وكيل ” يقوم بإدارة شئون البلاد في المرحلة الانتقالية رغم اختلافه معهم في الأهداف و الرؤى و خطوات التغيير .
ثانيا ـ مرحلة الانتقالية :
إن المرحلة الانتقالية مابين سقوط الشرعية الدستورية و قيام الشرعية الثورية مرحلة بطبيعتها قلقة و متداخلة , ولفهم هذه مرحلة يتعين علينا معرفة ما يلي :
• القوى المؤثرة في هذه المرحلة :
أ ـ حركات الشبابية و الحركات الاحتجاجية :
انضمت القوى و الحركات الاحتجاجية ذات المطالب السياسية لها سواء حركة كفاية أو الجمعية الوطنية للتغيير أو شباب 6 ابريل , لتمثيل جزء ليس بالقليل من الثائرين و كانت قوة دفع للثورة إلى الأمام . وبعد تنحي الرئيس مبارك عن السلطة و بهذا تحقق الثورة أول و أهم مطالبها . ظهر على الأرض بين الثوار مجموعة مختلفة في محاولة لتنظيم الصفوف و تمثيل الثورة , و أشهرها ائتلاف شباب الثورة , وغيرها من الائتلافات الأخرى التي انضوت تحتها العديد من القوى السياسية و الاحتجاجية .
ولم تكن القوى السياسية في ظهور على الساحة مستعدة لحكم البلاد , حيث تميل هذه القوى إلى رؤية العالم في تصنيف ثنائي كلعبة محصلتها النهائية صفر من خلال الاعتقاد أن الصراع الذي يجب عليهم تحمله هو الصراع من اجل زوال الطاغية , بينما هذا الصراع هو عملية اجتماعية و جزء من الحياة السياسية و الاجتماعية . وبهذا تصبح الثورة هي مجرد نقطة بداية لمرحلة جديدة حين يتم حل الصراعات الجوهرية بطرية ديمقراطية غير سلطوية .وعندما يتم تجاهل هذا الشكل من الاستعدادات تتعقد الفترة الانتقالية ككل .
ب ـ المجلس الأعلى للقوات المسلحة :
بنجاح الثورة في حمل الرئيس السابق على التخلي عن الحكم في 11 فبراير 2011 أبى الرئيس إلا أن يقرن تخليه عن الحكم بإعلانه استمرار انتهاكه للدستور , فتخلي عن الحكم على خلاف ما هو مقرر في المادة 83 من الدستور التي أوجبت تقديم استقالة الرئيس إلى مجلس الشعب , و اسند حكم مصر إلى جهة لا ذكر لها في الدستور , وهي المجلس الأعلى للقوات المسلحة في حين أن من يتولى الرئاسة مؤقتا وفقا لدستور 1971 هو رئيس مجلس الشعب ثم يليه رئيس المحكمة الدستورية العليا .
إن مخالفة الرئيس بعض نصوص الدستور لا تعنى سقوط الدستور وقد نوافق على ذلك , فالدستور قد يكون باقيا رغم انتهاكه . ولكن قبول المجلس الأعلى للقوات المسلحة بأعباء الحكم على غير مقتضى الدستور ليس له إلا معنى واحد وهو أن المجلس لا يستند في شرعيته إلى دستور 1971 , فإلى أي شرعية يستند المجلس في حكم مصر وفيما يصدره من قرارات تتعلق بإدارة شئون الحكم ؟ ليس أمامنا لتبرير شرعية المجلس سوى شرعية الثورة ذاتها , باعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات , وهذا ما ذهبت إليه المحكمة الإدارية العليا في حكمها في قضية الاستفتاء على التعديل وهو مذهب صواب . ويكمل هذا الاستخلاص استخلاص آخر ملازم له , وهو أن دستور 1971 قد سقط إذ لو قلنا ببقائه لسقطت الشرعية عن المجلس الأعلى و لدخلنا في مأزق دستوري و سياسي لا مخرج منه .
فقرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة بتعطيل الدستور هو قرار منعدم لوقوعه على غير محل . ولا يعرف الفقه الدستوري ما يسمي بتعطيل القانون أو الدستور , فالقوانين و الدساتير توضع لتنفيذ و إلا فلتلغ , أما التعطيل المؤقت للقانون أو الدستور فلم نعثر له على ذكر لا في كتب نظرية القانون ولا في مؤلفات الفقه الدستوري , و إنما هي بدعة مصرية لجا إليها فقهاء هذا الزمان , يتحدث السنهوري وحشمت أبو ستيت في كتابهما عن أصول القانون عن الإلغاء الصريح للقانون أو الإلغاء الضمني له , ولم يتحدثا أو يتحدث احد من فقهاء القانون قاطبة عن التعطيل المؤقت للقانون . يتحدث عبد الحميد متولي عن إلغاء الدستور بواسطة سلطة وضعه أو بفعل الثورة , ولم يتحدث احد عن تعطيل الدستور بصفة مؤقتة .
ثم شكل المجلس الأعلى للقوات المسلحة لجنة أخرى غير التي كان الرئيس السابق قد شكلها لتعديل بعض مواد الدستور , , هي بذاتها التي كان الرئيس السابق قد عرض تعديلها . كان للرئيس السابق منطقه السياسي و القانوني في الشروع في تعديل الدستور . منطقه السياسي يتمثل في مناورته بالمقايضة بين إخماد الثورة و التعديل الدستوري . ومنطقه القانوني كان قائما ومفهوما في الوقت الذي كان فيه دستور 1971 نافذا لم يسقط بعد.أما بعد سقوط الرئيس و تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحكم بشرعية الثورة و حدها , وعلى خلاف ما نص عليه الدستور , فلم يكن ثمة منطق سياسي أو قانوني لا لتعطيل الدستور, ولا لتشكيل لجنة لتعطيل الدستور المعطل .
ج ـ الحكومة السابقة :
لم تتصور جميع الأحزاب السياسية في مصر و لا كبار مسؤولي الدولة , أن حدثا نظمه مجهولون يفتقرون إلى برنامج سياسي و اجتماعي و اقتصادي يعلنونه للناس , سيشهد هذا الانتشار السريع بين الجماهير على نحو ما جرى , فالحكومة القديمة التي كانت أول جهة تنزل عليها أثار الثورة , ومع تصاعد الضغوط من التحرير لإقالة حكومة رئيس الوزراء السابق احمد شفيق لكونها من مخلفات النظام السابق و فاقدة للشرعية , قدم الفريق شفيق استقالته في الثالث من مارس 2011 , وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة الدكتور عصام شرف بتشكيل حكومة جديدة , و حينما وقف رئيس الوزراء الجديد في ميدان التحرير , معلنا انه يستمد شرعيته من الشعب و ملتزم بتنفيذ مطالبه , ومستعد للرحيل في حالة الفشل , فقد كان يرسي حكومته على أساس شرعية الثورة .
لم يؤد رحيل حكومة شفيق إلى تغيير أعلى مستوى في السلطة التنفيذية في مصر فقط , ولكن إلى حدوث تصدعات عميقة في بنية الجهاز الحكومي . ففضلا عن استمرار انسحاب الشرطة من الشارع المصري في العديد من المناطق , قام جهاز امن الدولة على مدى ثلاثة أيام 4و 5 و6 مارس 2011 بحرق ملفاته ووثائقه , مما يشير ـ بحسب رأى البعض ـ إلى أن الجهاز قد انتحر و حل نفسه بنفسه , بعد أن أيقن القائمون عليه إن دورهم قد انتهى برحيل حكومة شفيق و تصفية التناقض القائم بين سلطة الشارع و هيكل الحكومة .
واستخدام فلول النظام السابق و الخبرات في فترات التحول , يعد هذا الأمر من الأمور الصعبة فربما يحوى عواطف معادية للنظام في لحظات حاسمة مهمة لبدء عملية التحول بشكل سلس , ولا يمكن تطهير السياسات الجديدة من عناصر النظام السابق حيث أنهم يمتلكوا خبرات كافية و مناسبة لحكم البلاد وهو ما لا تملكه النخب الجديدة , و المرحلة الانتقالية على حسب تعريفها هي انتقالية بمعني أنها تجمع ما بين القديم و الحديث , وفي مصر يمثل رئيس الوزراء الجديد عصام شرف على نحو دقيق ” رجل منتصف الطريق ” و وجود مزيد من هذه الشخصيات أمر مرغوب فيه إذا كنا نريد لعملية الانتقال أن تسير على نحو أسرع .
• تحديات المرحلة :
أ ـ انتشار القيادة و غياب المرجعية الفكرية الجامعة :
بينما كان غياب القيادة بالمعني الكلاسيكي و انتشارها وسط القواعد الثورية و الميادين المصرية عامل ايجابي حمى الثورة في بدايتها من الاضطهاد و دعم من قوتها , فان نفس هذا السبب أضحي عامل سلبي لان الانقسامات و الاستقطابات التي ظهرت ما بين الثوار في الفترات التالية لم تجد زعيم يحتويها او يقدم نفسه بديلا توافقيا يتخطى المعسكرات الإيديولوجية , و بالمثل فايجابية ائتلاف القوى السياسية على اختلاف مرجعياتها الإيديولوجية و الفكرية مع عدم وضوح غلبة لجناح محدد داخلها أصبح سببا لظهور مشاريع سياسية متنافسة بل استقطابات إيديولوجية و فكرية حاد ومن ثم فان ملامح السليمة و التوافقية الجماعية أضحت محل تهديد في المرحلة الانتقالية ففي ظل غياب مشروع إيديولوجي رئيسي و قيادة توافقية أصبحت المطالب الثورية هي قوة الجمع و الحركة سواء من اجل حماية الثورة أو التغيير عن مطالب جديدة , وهو فتح المجال لمناخ استقطابي خلافي هيمن على الحياة السياسية في المرحلة الانتقالية , كما فتح المجال لاستئثار المجلس العسكري بالسلطة بدون أي موازنة أو تنافس من طرف سياسي آخر سواء كان زعيما , أو جماعة سياسية أو مؤسسة .
فالقيادة أصبحت منتشرة سواء جغرافيا ما بين المراكز و الأقاليم , أو بين الميادين و المؤسسات , أو فيما بين الشخصيات العامة و الجماعات السياسية . لقد انحسر دور القوى التقليدية مثل الأحزاب السياسية القديمة و سقطت معظم الهياكل السياسية السابقة مثل الانتخابات الشكلية أو البرلمانات الوهمية . و بزغت أشكال جديدة للتنظيم السياسي و الحركة في الشارع مثل الائتلافات الثورية و التحالفات السياسية مابين الأحزاب . الأمر الذي يعني استمرار حالة من السيولة السياسية
وتزمن مع ذلك انتشار أشكال مجتمعية للتنظيم الذاتي و التمكين المجتمعي و السياسي , ولعل من أمثلتها اللجان الشعبية , ثم الشروع في انتخاب قيادات و مجالس كثير من مؤسسات المجتمع المدني ( من أهمها النقابات المهنية ) . كما ظهر الميدان كأحد الأشكال الجديدة للتنظيم و الحركة الجماعية , حيث تحول إلى وحدة للحركة و هدف للمسيرات ورمز للاستمرارية الثورية . فقد اعتبر الميدان أو الحي أو الشارع أو القرية ساحة للتفاوض المجتمعي الدولتي , وفيه يتم مناقشة سبل رفع المطالب وسقف تصعيدها . و تعددت الأدوات المستخدمة ما بين الوقفة الاحتجاجية إلى المظاهرة إلى الاعتصام أو الإضراب بدرجات متفاوتة , وصولا إلى دعوات البعض للعصيان المدني .
ب ـ التوتر الديني :
لقد تجلت في أيام الثورة الأولي ارقي أشكال التعاون بين المسلمين و الأقباط , رغم عدم تأييد الأزهر ولا الكنيسة للثورة في البداية , إلا انه سرعان ما ظهرت الشعارات الطائفية , و احتلت مكان الصدارة . ففي الوقت الذي أعلن فيه رئيس الوزراء عصام شرف , انه يستمد شرعيته من ميدان التحرير , قامت مظاهرات السلفيين أمام مجلس الدولة للمطالبة بإطلاق سراح سيدتين قبطيتين ساد الاعتقاد بأنهما قد أسلمتا و محتجزتان رغم ارداتهما , بل صرح احد القيادات السلفية بان ” الديمقراطية حرام ” , وان قرار الجماعة عدم المشاركة في الثورة , لان فيها من يرفع صليب , وبعد أيام قليلة أطلقت أحداث قرية ” صول ” عددا من الصادمات الطائفية , لا يعرف حتى الآن خلفية من شاركوا فيها , و حدثت تعديات من الجانبين أسفرت عن وقوع قتلى و جرحى . و بدا الأقباط في تنظيم اعتصام مفتوح أمام مبني الإذاعة و التليفزيون , رفع المشاركون فيه في البداية مطالب متعلقة بإعادة بناء الكنيسة , و عودة الأسر المسيحية إلى منازلهم , ثم رفعت شعارات طائفية من قبيل ” ثورة الأقباط ” و” الشعب القبطي ” , و بدأت المطالبة بإلغاء المادة الثانية من الدستور المتعلقة بالشريعة الإسلامية , وكذلك رفع التمييز عن الأقباط في تولى الوظائف , و إطلاق حرية بناء دور العبادة . ورغم التواصل و الحوارات بين المعتصمين الأقباط و حكومة شرف و أعضاء المجلس العسكري فقد ثبت المعتصمون على موقفهم , ورفضوا فض الاعتصام الذي تجاوز أكثر من أسبوع . ورغم إمكانية تجاوز هذه الأزمة الحالية .
ج ـ العلاقات الخارجية ( العلاقة مع إسرائيل ) :
أن إسرائيل لم تكتف فقط بمتابعة أحداث الثورة عن كثب في أيامها الأولى , بل أخذت تثير المخاوف في دوائر الحكم بالولايات المتحدة و أوروبا من احتمالات تأثير انفلات الوضع في مصر في امن إسرائيل , و ذلك بعد فترة طويلة من الاستقرار , حافظ فيها نظام مبارك على امن إسرائيل , مما جعل احد المسئولين الإسرائيليين يعتبر ذلك النظام ” كنزا استراتيجيا ” لإسرائيل و الموقف الإسرائيلي في غاية الوضوح منذ البداية , فلا تريد إسرائيل اى تغيير في نظام الكم في مصر , لما يمثله من حماية للمصالح الأمريكية , وللتأكد من إلا تصبح مصر قوة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية تهدد في المستقبل إسرائيل و توسعاتها و سطوتها الإقليمية . لا غرابة إذن في ضغط إسرائيل على الولايات المتحدة , عندما حسمت أمرها بعد تردد , للتصريح بضرورة تنازل مبارك عن السلطة فورا , مما دفع الولايات المتحدة للتراجع عن هذا الموقف . فلم يمارس المبعوث الرئاسي الأمريكي أي ضغط على مبارك للتنازل عن الحكم , بل صرح بتفضيله بقاءه حتى نهاية المرحلة الانتقالية . و يكشف الموقف الأمريكي عن ان الإدارة الأمريكية صارت تحدد موقفها من الأزمات الإقليمية بحسب أولويات السياسة الإسرائيلية , وان إسرائيل تحاول ترتيب الأوضاع السياسية في مصر أثناء المرحلة الانتقالية , بما يضمن التزام أي نظام جديد بالتعهدات الخاصة التي قدمها مبارك لضمان امن إسرائيل .
ثالثا ـ حول تجربة جنوب إفريقيا :
استغرق انجاز الدستور النهائي سبع سنوات من 1989 إلى 1996 . كما انقضت حوالي خمس سنوات بين أول اجتماع ضم نلسون مانديلا زعيم المؤتمر الوطني الإفريقي و بك دبليو بوتا رئيس الوزراء سنة 1989 وبين الاتفاق على الدستور المؤقت و أول انتخابات غير عنصرية سنة 1994 , وتخللت تلك الفترة إنفجارات لإعمال العنف هددت العملية الدستورية .
في المرحلة الأساسية بين سنة 1990 و 1994, أجريت المفاوضات حول الاتفاقات المتعلقة بالعملية الدستورية خلال دورات خاصة و عامة بين الخصوم السابقين , و شملت تلك المفاوضات الاتفاق على التفاوض بشأن المفاوضات الدستورية , كما شملت سنة 1993 اتفاقيات حول الإجراءات شملت في خاتمة المطاف اتفاقا حول دستور انتقالي يتضمن مبادئ و إجراءات ملزمة بالنسبة لعملية وضع الدستور النهائية .
وفي نيسان /ابريل 1994 أجريت أول انتخابات برلمانية غير عنصرية شارك فيها حوالي 86  من الناخبين وفي أيار/مايو من تلك السنة , اجتمع البرلمان الجديد لأول مرة بصفته جمعية تأسيسية .
وفي أوسط التسعينات من القرن الماضي أصبحت العملية الدستورية في جنوب إفريقيا المثال الكامل لعمليات وضع الدساتير القائمة على مشاركة المواطنين فيها حتى ذلك التاريخ لم يكن لعامة الناس دور مباشر في وضع الدساتير , أما في هذه الحال فقد بادر ممثلو الشعب المنتخبون الممثلون في الجمعية التأسيسية الاتصال بالناس و تثقيفهم و دعوتهم لإبداء وجهات نظرهم .
و تضمنت الجهود التثقيفية هذه حملة في وسائل الإعلام و حملة إعلامية في الصحف و محطات الإذاعة و التلفزيون و لوحات الإعلان وعلى الحافلات , وكذلك في صحفية تنشرها الجمعية التأسيسية وتوزع 160,000 عدد , وفي رسوم كرتونية و موقع على الانترنت ,و اجتماعات عامة و طالت تلك الجهود مجتمعة حوالي 73  من السكان .
وتلقت الجمعية التأسيسية بين 1994 و سنة 1996 مليوني اقتراح أو طلب من جانب الأفراد و مجموعات المناصرة و الدفاع و الجمعيات المهنية و أصحاب المصالح الأخرى .
وفي المرحلة الأخيرة وبموازاة الحملة الداعية إلى مشاركة المواطنين صاغت لجان الجمعية التأسيسية المختلفة دستورا جديدا ضمن المعالم التحديدية المرفقة بدستور 1994 الانتقالي , نشرت أول مسودة عمل في تشرين الثاني / نوفمبر 1995 تاركة جانبا 68 موضوعا يتم بحثها لاحقا , وتم إنتاج مسودة معدلة في السنة التالية كما تم وضع النص النهائي في أيار / مايو 1996 , راجعت المحكمة الدستورية النص النهائي بين تموز /يوليو و أيلول /سبتمبر 1996 , ثم إعادته إلى الجمعية التأسيسية لإدخال بعض التعديلات عليه التي تمت في تشرين الأول /أكتوبر , وفي تشرين الثاني /نوفمبر , أعطت المحكمة مصادقتها النهائية , وفي كانون الأول / ديسمبر , وقع الرئيس مانديلا على الدستور ليصبح قانونا .
رابعا ـ دروس المستفادة .
أ ـ علاقة صياغة الدستور بواقع السياسي و الاجتماعي
الوثيقة الدستورية ذات طبيعة إستراتيجية بالأساس , ومن ثم فهي تعبر عن حالة تحول اجتماعي يمر بها المجتمع , تفرضها ضغوط معينة , في الغالب ذات طبيعة شعبية , و أحيانا ذات طبيعة فئوية أو طبقية , وفي بعض الأحيان ذات طبيعة عالمية باعتبار أن التحولات التي قد يمر بها المجتمع , هي تحولات تتم بفعل قوى اجتماعية تضغط حتى يقوم النظام السياسي بقيادة المجتمع في اتجاه محدد, على ان يتم ذلك في نطاق بيئة عالمية موافقة للتحول أو حتي مضادة له . على هذا النحو فإننا نجد أن الوثيقة الدستورية في غالب الأحيان هي تقنين لتحول حدث , و أحيانا تدفع المجتمع باتجاه تحول ينبغي أن يحدث أو يقع , وفي الغالب فإننا نجد أن النخبة الاجتماعية و السياسية و الثقافية تقوم بدورها التنويري باتجاه الدفع لوقوع التحول .
ومن الواضح أن الحالة التي عليها الوثيقة الدستورية هي ذات الحالة التي عليها أوضاع المجتمع , فحيثما كان المجتمع مستقرا , تتدفق التفاعلات في مجراه بصورة سلسة و هادئة و مرنة كلما كانت الوثيقة الدستورية للمجتمع أكثر ثباتا و أكثر قوة , لذلك تختلف المجتمعات عن بعضها بعضا من حيث درجة الوعي الدستوري الذي توافر لها ,وهو الوعي الذي يتحقق بتاريخية الخبرة الدستورية من ناحية , ومستوى التحديث الذي بلغه المجتمع , ومن ثم درجة الاستقرار التي تحققت له من ناحية ثانية .فهناك مجتمعات عديدة تحقق لها استقرار اجتماعي دائم تقريبا , و ثبات دستوري ملازم له , فاستقرارها ثابت و دستورها دائم لمئات السنين , في حين أن هناك مجتمعات تغير وثائقها الدستورية عدة مرات ربما خلال عقد واحد , وهو الأمر الذي يشير أما إلى حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي , أو إلى تأثير متغيرات غير متوقعة ا والى وعي محدود وقصير المدى .
ب ـ المشاركة الشعبية في صباغة الدساتير:
يضبط القانون الدولي الحد الأدنى لتامين حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة , و ينطبق ذلك أيضا على عمليات صياغة الدساتير و تم النص على هذه التعهدات ضمن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية , والذي صادقت عليه جمهورية مصر العربية .
تنص الفقرة الأولى من المادة الأولى للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية على حق جميع الشعوب في تقرير مصيرها , و يشمل هذا الحق في مفهومه العام الحق الجماعي لاختيار الدستور أو نظام الحكم , وفي ما يتعلق بحق المشاركة الفردية , فان المادة 25 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية تنص على انه ” يحق يتاح لكل مواطن دون أي تمييز بسبب الاعتبارات المنصوص عليها في المادة 2 ودون فرض أي قيد غير معقول : أ ) أن يشارك في إدارة الشؤون العامة , إما مباشرة و إما بواسطة مثليين مختارين بحرية …..” .
و أكدت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في التعليق العام رقم 25 الصادر في 1996 ( المادة 6 ) أن المشاركة المباشرة للمواطنين في إدارة الشؤون العامة تشمل الإجراءات المتعلقة بعملية صباغة الدستور .
إن المساهمة الشعبية في عملية وضع الدستور تؤدي إلى منافع جمة خاصة إذا خطط لها بحكمة و نفذت بدقة . كما أن الانخراط الشعبي الواسع في تلك العملية يمثل وسيلة متميزة لمجابهة التحديات في الدول التي لم تتمكن من بناء أنظمة تمثيلية عن طريق أحزاب سياسية عريقة و ديمقراطية أو من منظمات المجتمع المدني كالنقابات و الجمعيات المهنية و غيرها .
ج ـ الإصلاحات الدستورية السريعة :
من الواضح أن إجراء إصلاح دستوري شامل لن يكون ممكنا في غضون بضعة أسابيع أو حتى أشهر , ولهذا يعتقد على نطاق واسع أن المسار السريع للإصلاحات من شانه أن يمس جوانب محدودة من الدستور , و خاصة في الباب الذي يتعامل مع النظام السياسي في البلاد .
النهاية السريعة للفترة الانتقالية ستواجه عددا من المأزق و الأهم من ذلك , أنها قد توفير الاستقرار المطلوب لان نهاية سريعة و مخالفة للمناخ السائد للمرحلة الانتقالية قد تخيب أمال الكثيرين من الذين يدعون إلى التغيير العميق و بعيد المدى .
نعم , سيكون هناك من يتولون السلطة عن طريق انتابهم ديمقراطيا , ولكن قد يكون التغيير المؤسسي محدودا , حيث تختلف الوجوه و تبقى المؤسسات كما هي .
عملية الإصلاح السريع تعني أن الدستور سيكون ـ إلى حد كبير ـ نفس وثيقة القديمة , بما في ذلك التعديلات التي ادخلها مبارك على مدى أكثر من ثلاثة عقود , من ناحية أخرى , يمكن لعملية سريعة قائمة على اتفاق سياسي أن تكون فرصة ضائعة لمصر للدخول في حوار وطني حول شكل الدولة الديمقراطية .في جنوب إفريقيا يعتبر الكثيرون أن عملية صياغة الدستور التي استغرقت عامين كانت الشفاء من نظام الفصل العنصري الذي استمر عقودا .
الخاتمة :
إن إمكانية نقل الدروس المستفادة من خبرات دولة , فيما يخص عملية الانتقال المنظم من حكم سلطوي لحكم ديمقراطي إلى دول أخرى هو أمر غير واضح تماما , فالبعض يدعي أن القرن العشرين يمدنا بوافر من الخبرات عن عملية الانتقال و الواقع يقول أن كل الدول غير الديمقراطية و التي تحولت أما عاجلا أو أجلا إلى نظم ديمقراطية يمكن أن تمثل إلى حد ما مثال يحتذي به مثل جنوب أفريقيا و ألمانيا الغربية , البرتغال , وتدور الشكوك في مدى إمكانية تناقل الخبرات من بلد إلى أخر حول الظروف الأولية و المختلفة في كل الأمثلة السابقة و مدي انطباقها في الحالات المستجدة مثل خصائص و ظروف النظام الاقتصادي المختلفة و غياب الكيانات السياسية الملائمة أو تباين الخلفيات التاريخية و الثقافية . , أما في حالة مصر على الرغم من مرور ها بنقطة شديدة التناقض حيث تحتاج كل دولة إلى صناعة قرارات مرتبطة بواقعها فقط ولكن في ذات الوقت من المنطقي أن تحتاج إلى النظر باهتمام إلى خبرات الدول الأخرى فيما يخص عملية الانتقال .

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى