العنف في فترات ما بعد النزاع :قراءة استشرافية في الحالة الليبية
تٌعتبر الحالة الليبية حاليا نموذجا لانتشار العنف، بكلّ أنواعه، و التي من المؤكد تواصلها في فترة ما بعد النزاع المسّلح برغم أنها من المفروض أن تكون فترة لإحلال السلام الداخلي و إنهاء هذه الحرب الجارية بين مختلف الميليشيات و الحركات المتدخلة في المشهد السياسي منذ اندلاع ثورة 17 فبراير و سقوط نظام ‘معمّر ألقذافي’. لن يشخّص هذا المقال الدائرة المفرغة للعنف و انتشار مظاهر القتال في الشارع الليبي خلال المرحلة الحالية، بل سيحاول استقراء للفترة الانتقالية لما بعد انتهاء النزاع من زاوية إعادة تشكّل العنف داخل المجتمع الليبي دون إنكار محاولات العديد من الفاعلين السياسيين الى جانب المجتمع المدني إنجاح مسار بناء الدولة ديمقراطيا بعيدا عن كل التوترات . و بالتالي تجعلنا تمظهرات العنف و بشكل روتيني في الواقع الليبي نستشرف سيناريو ما بعد النزاع من الصعب أن يكون استثناءا عن الدول التي عايشت اقتتال داخلي لعدّة سنوات و عانت كثيرا من تغلغل مظاهر العنف في الممارسات السياسية و الاجتماعية.
صار العنف ظاهرة مركبّة و متعددة الأبعاد في الأراضي الليبية ينتفع من الصراعات السياسية و ضعف أو الغياب الكليّ لبعض مؤسسات الدولة في سياق سمح ببروز علاقات تشابكية بين التهريب و تجارة السلاح و المخدرات الى جانب الميليشيات المسلّحة. و يجدر بالذكر انّ انتشار مظاهر التسلّح و الاقتتال جعل من ممارسات العنف واقعا اجتماعيا ، ستظهر مخلفاتها و تزداد حدتها داخل الأحياء و المناطق التي غالبا ما تعيش تهميشا اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا في فترة ما بعد النزاع. العنف ما بعد النزاع سيظهر في النموذج الليبي كمعطى متغلغل في النسيج الاجتماعي و الثقافي الليبي برغم انّ عمليات الاقتتال الحالية لا تغدو أن تكون صراعا سياسيا يحكمه منطق بسط النفوذ على مؤسسات الحكم و أبار النفط بين عديد من الأطراف لازالت تستمد شرعيتها بقوة السلاح، بعيد عن ديناميات الانقسام المذهبي أو العرقي أو ألمناطقي.
يمكن تلّمس صعوبات إعادة الإدماج السياسي لقيادي الميليشيات و تحديات الهيكلة المؤسساتية و العراقيل التي ستواجه ترسيخ الديمقراطية من المسار الحالي للمفاوضات الذي تعددت أماكن انعقاده و الأطراف الممثّلة للشعب الليبي. و يمكن أن يؤدي هذا التشتت في التمثيل السياسي خلال مفاوضات المصالحة و إحلال السلام الى إقصاء العديد من الأطراف و التناحر بين القوى الفاعلة في مسار إعادة بناء الدولة ، ما لم يتم جديّا مناقشة المسائل الخلافيّة و القضاء على أسباب الصراع المسلّح بين كل الأطراف المتداخلة بالإضافة الى ضرورة انخراط المجتمع المدني في مسار إحلال السلام. و بالتالي من المهم التركيز على الأجندات السياسية للمنخرطين في إحلال السلام و أشكال تمثّلهم لفترة ما بعد النزاع لأنه من شانها أن تحدد التوّجه العام لصانعي القرار نحو الديمقراطية أو العودة لمربع الاقتتال من خلال مناقشتهم لمسائل نزع السلاح و المهاجرين و إعادة إدماج المقاتلين و الانتخابات و المؤسسات الدستورية..الخ.
تواصلت فترة النزاع المسلّح كجزء من مرحلة التحوّل الديمقراطي التي تميّزت كما سبق و أن ذكرنا بتفشي مظاهر العنف و استعمال السلاح من اغلب الأطراف الفاعلة بغض النظر عن مرجعياتها و توجهاتها السياسية: ميليشيات، الحركات المتشددة، جيش القبائل..الخ. و بالتالي فسيتمّ في هذه الورقة التركيز على مختلف أشكال العنف التي حتميّا ستظهر كنتاج لحالة الفوضى الدموية الحالية،برغم انّ الفترة القادمة ستكون مرحلة بناء الدولة في ظلّ مسارات سياسية، اقتصادية و اجتماعية تحكمها منظومة ‘العنف ما بعد النزاع’.
و يجدر التأكيد انّ الحالة الليبية لازالت تعايش سياقا انتقاليا بالتوازي مع سقوط مؤسسات الدولة، الى حدّما، و استقواء التنظيمات الإرهابية و الميليشيات القبلية في مجال جغرافي خارج عن السيطرة و زاخر بالنفط و السلاح. و يجدر بالذكر انّ الحالة الليبية شديدة التعقيد و ذات خصوصية تتقاطع فيها مصالح إقليمية مما يعزز الاعتقاد أن عملية إنهاء النزاع المسلّح لن يكون من خلال مفاوضات صلح و توافق بين مختلف الفاعلين السياسيين.
بالإضافة انّ الانتماء القبلي لازال متغلغلا في البنى الاجتماعية للمواطن و السياسي الليبي الذي سينعكس على توجهات صناع القرار في المشهد السياسي لما بعد النزاع و يزيد الاحتمال بوقوف المصالح العشائرية أو المناطقية حاجزا أمام تنظيم انتخابات نزيهة و شفافة ، أو مؤسسات دستورية، أو استراتيجيات واضحة و متكاملة للنهوض بالاقتصاد و إعادة الاعمار.
تقوم هذه الورقة بالبحث و التحليل على فرضية انّ نهاية النزاعات المسلّحة لا تعني انعدام أسباب العنف و المواجهات في المجتمع و تؤدي الى غياب ثقافة النزاع لدى الفاعلين في حالة الفوضى المسلّحة و عمليات التخريب و التقتيل الحاصلة خلال الحروب الأهلية و الصراعات.
و تختلف مظاهر العنف في الحالة الليبية، حاليا، من تقتيل، ترهيب، قطع طرق..الخ الى اعتماد كلّ الأساليب الدموية ذات التبريرات الأيديولوجية (الوطنية/حماية ليبيا/ الثورة/ تصحيح المسار..) التي تشترك في تكريس قانون اغتصاب القوة. و ممّا لا يثير الدهشة، انّ معظم المجتمعات التي تعرضت الى حالات نزاع مسلّح داخلي، قد تواصلت فيها ثقافة ممارسة العنف في فترة ما بعد النزاع لتتمظهر في أشكال جديدة للعنف السياسي و الاجتماعي . و سيظهر هذا القدر الكبير من العنف لفشل العدالة الانتقالية في ليبيا ما بعد النزاع لتوّرط تقريبا مختلف القبائل و الجهات المتنفذة في ممارسة العنف المسلّح ، الأمر الذي سيجدّد المواجهات المتفرقة و عمليات الانتقام و القصاص.
و بالتالي فانّ عملية إحلال السلام و التفرّغ لبناء الدولة ستتزامن مع ظهور العنف المُؤسس على ظرفيات سياسية، اقتصادية و اجتماعية لا زالت تعاني من مخلفات فترة النزاع المسلّح. و سيكون من المنطقي استشراف الحالة الليبية على أسس غياب القانون و الارتخاء الأمني في مواجهة مشكلة انتشار السلاح لدى كل أفراد المجتمع، الذي سيؤدي الى ازدياد مستوى الجريمة بالإضافة الى الضربات الإرهابية في إطار المساومات و توازنات القوى. و يمكن إرجاع هذا الارتفاع في نسب كلّ أنواع العنف ليس فقط لتغلغّل ثقافة العنف خلال سنوات النزاع و التعوّد المجتمعي بالخروج عن القانون بل أيضا الى انعدام ثقافة المواطنة و التحرّك داخل إطار الولاء للدولة. و بالموازاة مع هذه المؤشرات، سيزداد مستوى التذمّر الشعبي (المظاهرات/الاحتجاجات/المطالب/التعويضات…) لاعتقادهم بضرورة و سهولة إحلال السلام داخل المجتمع و استرجاع الحقوق، الى جانب ألتوق للعودة الى الحياة العادية بعد سنوات طويلة من المعاناة و الاغتراب.
ستتميّز الحالة الليبية بتشابك بين مختلف أشكال العنف، حيث تتداخل فيها ممارسات عنف الدولة مع الميليشيات المسلّحة و كذلك العنف الفردي و المجتمعي.
-العنف السياسي للدولة: تشريع امتلاك أحقية ممارسة القوة و العنف المقنّن من طرف المؤسسات السياسية باسم الدولة من اجل بسط السلطة بعد انتصار الطرف السيادي في فترة النزاع أو كمحاولة لترسيخ القوانين و تفعيلها من اجل إحلال السلام داخل الدولة و المجتمع الليبي.
-العنف السياسي للميليشيات المسلّحة: تعنّت القوى المسلحة أمام انتصار و سيادة طرف غير مرغوب فيه آو وصوله الى كرسي السلطة و أيضا تستعمل الأطراف الغير حكومية العنف كتعبير عن عدم رضا بموازين القوى داخل الدولة الليبية. في حين، ستظهر ميليشيات أخرى كجناح موازي للجيش و الأمن الليبي مساندة للطرف الحكومي في بسط القوّة و الهيمنة ضد من يٌعتبرون مارقين عن سلطة الدولة.
-العنف اليومي للعصابات المنظّمة: في اغلب حالات ما بعد الصراع تتحوّل الميليشيات المسلحة الى عصابات إجرامية قادرة على تقديم الحماية للناس أو للبضائع. و تظهر التحالفات بين الكثير من هذه الميليشيات التي تركز على تجارة المخدرات، السلاح، الهجرة غير الشرعية، الكحول، عمليات الاختطاف..
-العنف ضد المرأة: خلال المراحل الانتقالية و فترات ما بعد النزاع تظهر مظاهر العنف المسلّط ضد النساء كجزء أساسي من المعايير الاجتماعية التي تثبّت السيطرة الذكورية. و يبرز هذا التشابك بين العنف و معتقدات الذكورة في الحالة الليبية لاضطرار المرأة للخروج للعمل و الانخراط في العمل السياسي القيادي، بعد سنوات طويلة من الصراع المسلّح. و بالتالي فكلّ محاولة للحركات النسوية أو منظمات المجتمع المدني لتمكين المرأة و تعزيز حضورها في المشهد السياسي و المجتمع ستٌعتبر تحديّا و تهديدا للمنظومة الاستبدادية و الاقصاءية للعنصر النسائي الفاعل. من هذا المنطلق، يمكن استشراف ممارسات العنف الجسدي و الرمزي ضد الكثير من نساء ليبيا بسبب صعوبة تحقيق العدالة الانتقالية و فتح ملفات الانتهاكات و الاغتصاب الذي مٌرس عليهن خلال فترة النزاع. و قد يؤكد هذا الاستنتاج أنّ غياب سياسات واضحة لتمكين المرأة و التنمية و الإصلاح في فترة ما بعد النزاع سيعطل مساعي المجتمع المدني و الهيئات الدستورية من اجل تعزيز دور المرأة في بناء الدولة كمواطن واعي و فاعل.
ازدياد منسوب العنف يعبّر في جانب منه عن تضخمّ في تقدير الذات (الانتماء القبليّ/ألمناطقي) و استحقار للطرف المقابل. و بالتالي فحالات العنف و الاعتداء المسلّح أو التراشق بالتهم في منابر الإعلام سيظهر في ليبيا كأحد تمثّلات النرجسية و الكبر التي ورثتها تاريخيا الكثير من القبائل الليبية على حساب أخرى، التي صار لمعظمها وزن سياسي و حضور ميداني بعد ثورة فبراير.
إن اعتبارات الفوارق الاجتماعية والثقافية (النسب/حضر/بدو/عرب/بربر…) بين بعض القبائل ستظهر تفاصيلها في الإعلام و الشبكات الاجتماعية في فترة ما بعد النزاع، و بخاصة في مجتمع لم يتعوّد على ثقافة الاختلاف و تتجذّر فيه الفوارق كحقائق حتمية تٌزاوج بين السلطة و الأفكار النمطية.
و نحن نعترف بصعوبة تقدير الوضع المستقبليّ في الحالة الليبية و لكن من المهم الإشارة الى ضرورة التيقظ فيما يتعلق بعوامل تواصل العنف فيما بعد فترة النزاع. و تتمثل العوامل لازدياد منسوب العنف اليومي ‘routinization of violence’ في الأحوال الاجتماعية و الاقتصادية المتسمّة بظهور اختلافات الطبقية العميقة، و النزاعات القانونية حول الأراضي و الممتلكات، و التهريب، و تجارة المخدرات، الاختطاف و السرقة…الخ.
و من وجهة نظرنا، يمكن أن تساهم العوامل الثقافية (الثار/..) و التاريخية (صراعات قبلية/…) في ظهور ممارسات العنف ، و من البديهي أن الضعف الأمني و المؤسساتي خلال فترة إعادة بناء الدولة المتزاوج مع ظاهرة الفساد و توّفر السلاح يجعل من وجودها و تأثيرها مرئيا.
من المؤكد انّ فترة ما بعد النزاع تمتحن قدرة كلّ من الفاعلين السياسيين و المواطنين على الالتزام بمبادئ السلام و الاتجاه الكليّ نحو بناء الدولة على مبادئ التشارك في الحكم و ثقافة المواطنة. و بالتالي سيكون انتهاء الاقتتال في النموذج الليبي مجرد لحظة تاريخية تضع ليبيين في مواجهة تحديات سيناريو ما بعد النزاع الذي يستوجب استراتيجيات واضحة و جهود مكثفة لتحقيق العدالة و المصالحة و إعادة البناء.
و بالتالي لا يمكن للمجتمع الليبي أن يتجاوز مخلفات المحنة الحالية في فترة ما بعد النزاع، التي من المهم أن لا تطول أكثر، إلا من خلال تقوية دور المواطن و انخراطه الفاعل في منظومة إعادة بناء الدولة.