“أبو ظبي” .. ميتافيزيقيا النفوذ الجديد
بقلم : عبدالله عبدالحميد فرحان
تدور بعض الأخبار القديمة في شرق الجزيرة العربية عَنْ أنْ صياداً تمكن منْ إمساك ظبي بينما كان يعاني العطش الشديد؛ اجتهد الرجل في البحث عن الماء ولم يقده ذلك لغير بئر قديمة جفَّ ماؤها، لم يجد الصياد الماء؛ ولكن العابرين وجدوا جثتي رجلٍ وظبيٍ قرب (أُمِّ النَّار)، البئر التي صار اسمها منذ تلك الحادثة (أبو ظبي).
اليوم .. يَشُدُّ الكثيرون رحالهم إلى “أبو ظبي”، الملايينُ من المتعطشين للاستثمار والعمل والتجارة وعقد الصفقات والسياسة والمعرفة، يتطلعون إلى إحدى أفضل مدن العالم جاذبية وأكثرها أماناً، فيما تتطلعُ “أبو ظبي” إلى دورٍ سياسي محوري في المنطقة، يقودها إلى ذلك طموح رجل الإمارات القوي “محمد بن زايد آل نهيان” ومعه إخوته الذين يديرون منظومة عملاقة من المصالح الاقتصادية والمالية واللوجسيتة وغيرها.
يتراجع الدور القطري مع فشل مشروع الإخوان المسلمين المدعوم قطرياً، وترتفع أسهم عاصمة الإمارات في بورصة السباق على المنطقة (تحديداً عبر ورقة العداء للإخوان)، يمنحُ الخلافُ مع الإخوان “أبو ظبي” الجاذبية في أوساط تيارات سياسية واسعة في المنطقة من منطلق ثاراتها وصراعاتها مع التيار الذي يتهمونه بالراديكالية والانتهازية، وتبرزُ فرضيةٌ مؤداها أنَّ الخلاف الإماراتي الإخواني لا يقوم على خلاف فكري أو تهديد أمني، بقدر ما هو بوابة واسعة وطريق سريع لنفوذ الإمارة الغنية إلى المنطقة.
تُمثِّل السياحة وارتفاع مستويات التبادل التجاري مع دول المنطقة روافدَ هامةً في تنمية التأثير الثقافي للإمارات، وفي العام (٢٠٠٧) تأسست “شركة أبو ظبي للإعلام” بهدف إدارة السياسة الإعلامية للإمارة، وقد أقامت الشركة شراكات حيوية مع مؤسسات إعلامية عملاقة رغبة في الاستفادة من التجارب العالمية الرائدة، واختصار زمن التمكين وبناء العلامات التجارية، وهي تمتلك وتدير (٢٥) علامة تلفزيونية وإذاعية وصحفية تحظى بانتشار واسع في المحيط الإقليمي.
تحتضن “أبو ظبي” مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (ايرينا)، وتنام على سابع أكبر احتياطي مؤكد للنفط في العالم، تراهن على ثاني أكبر صندوق استثمار سيادي وعلى امتلاكها عدد كبير من الشركات الاستثمارية العملاقة في مجالات الطاقة والتمويل والاستثمار، وتنظِّم سنوياً العديد من المعارض الإقليمية الثقافية والعسكرية والاقتصادية، فيما يتنامى الحديث عن علاقات تربط الإمارة الغنية بإسرائيل (عضو منظمة ايرينا ومقرها أبو ظبي)، ويدور نقاشٌ حول أهداف سياسية تقف وراء صفقات سلاح ضخمة (تُصَنَّف الإمارات ضمن أكبر خمسة مستوردين للسلاح في العالم).
لسنوات طويلة اعتمد آل نهيان سياسة النأي بالنفس عن صراعات المنطقة المتفاقمة، ومارسوا نفوذاً ناعماً عبر عديدٍ من المؤسسات الانسانية والصناديق التنموية (تُعدُّ الإمارات أول دولة مانحة للمساعدات في العالم قياساً بدخلها القومي)، مؤخراً لاحظ المتابعون تحولاً لهذه السياسة، حيث أسهمت “أبوظبي” عسكرياً بالإطاحة بالقذافي في ليبيا، ومادياً وسياسياً بنظام الإخوان في مصر، وهي تشارك بقوة منذ أكثر من عشرة أشهر في الحرب الدائرة في اليمن، البلد الفقير المنهك في جغرافية أثرياء البترودولار.
تشتدُّ حاجةُ المنطقةِ إلى أن تلعبَ “أبو ظبي” دوراً سياسياً محورياً؛ انطلاقاً من ثقلها الاقتصادي؛ ومن كونها مركزاً تجارياً واقتصادياً، ونقطة اتصال عالمي ثقافي ومعرفي، واعتماداً على رصيدها الكبير في العمل الإنساني والدعم التنموي، إلا أنَّ هذا فرص هذا الدور تتعزز بتمكين أدوات القوة الناعمة بدرجةٍ أساس، ما يُحقِّق للإمارةِ نفوذاً حيوياً “مستداماً”، ويعزز فرص الاستقرار والتنمية في الإقليم الذي تنهشه الحروب والصراعات منذ عشرات السنين.