خبير قانوني : أسباب عدم تصديق الشارع لمفهوم العمل بالعدل
كتب : الدكتور عادل عامر
يعد مفهوم الأمن أحد المفاهيم التي تتشعب دلالتها، حيث يتسع هذا المفهوم ليشمل مضامين متعددة تتداخل مع شتى أنظمة الحياة، ليشمل الإصلاح الاجتماعي، والارتباط بالقضاء والعدل، والتربية والإرشاد كما أن لفظ “ الأمن “ هو من الألفاظ ذات الدلالات الواضحة البينة، إذ تُعرف حقيقته عند النطق به، ولكن شدة وضوحه وكثرة استخدامه وكثرة تعريفاته واشتقاقاته، قد أضفت عليه شيئاً من الغموض. عندما يتعرض الناس للظلم والاضطهاد، يطالبون بحكم القانون، وهم لا يدركون ان ما يطلق عليه “حكم القانون” لربما يعني الاستبداد والقمع والدمار. فباسم القانون تسلب الحياة والحريات والممتلكات وتهدر الكرامات وتنتهك الاعراض وتعلن الحروب وترتكب ابشع الجرائم والموبقات من قبل السلطة في الدولة.
فالكلّ أمام القانون و ميزان الشّريعة سواء ، و قد أمر الله عباده بالعدل و الإحسان ، و أمر الحكّام إذا حكموا بين النّاس أن يحكموا بالعدل فمن متطلبات تحقيق الإستخلاف في الأرض إقامة العدل بين النّاس ، و عكس العدل هو الظّلم و الظّلم ظلمات يوم القيامة لذا كان الله هو المتّصف بالعدل المطلق و قد حرّم سبحانه كما في الحديث القدسيّ الظّلم على نفسه و جعله بين العباد محرماً ، و بعث الله النّبيين مبشّرين و منذرين و أرسل معهم الشّريعة التي تحكم العباد و بيّن لهم ما يتّقون حتى يقيم الحجّة عليهم و هذا كله من تمام عدل الله سبحانه ، و يوم يعرض النّاس على ربّ العالمين يكون كل عملٍ صغيرٍ و كبيرٍ مستطر في كتابٍ معلومٍ فيحاسب الله النّاس جميعا بالعدل فلا تظلم نفس شيئا حتى البهائم و الأنعام يقتصّ الله سبحانه بينها ثمّ يقال له كوني ترابا .
ومن أهم المراجع التي يمكن الاعتماد عليها في تحديد مفهوم الأمن، القرآن الكريم وما تضمن من آيات تحمل هذا المعنى العميق. قوله تعالى: (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون)
لقد ساعد انتشار هذه الافكار على اعتماد نظرية الاستقراء في صياغة قواعد “العدل” في القوانين وبناء الدولة على اسس الديمقراطية الليبرالية. واصبحت الفلسفة التجريبية اساس الفكر الليبرالي واهم مقومات الانظمة الديمقراطية الليبرالية في العالم. واصبح مبدا الفصل بين السلطات في الدولة من اهم الشروط التي تفرضها هذه الفلسفة على الانظمة الديمقراطية، مما يلزم وجود قضاء مستقل عن جميع السلطات الاخرى في الدولة، يسعى الى تطبيق مبادئ العدل (القوانين) التي جوهرها يتكون من مجموعة قواعد عامة، مجردة، محمية بجزاء، تعكس حاجات ومتطلبات الافراد والسلطات والمؤسسات ضمن اطار الدولة، تصدرها سلطة تشريعية (برلمان) شرعية منتخبة من الشعب على اسس المواطنة بعيدا عن الطائفية والعنصرية.
والقانون وفق هذا المنظور في ظل الانظمة الديمقراطية الليبرالية، يحقق “العدل” المجرد، بينما القضاء يحقق العدالة في فرض العقوبة المناسبة على الفاعل بما يتناسب مع طبيعة الجريمة المرتكبة والظروف الذاتية والمحيطة بالفاعل، استنادا الى السلطة التقديرية القانونية والقضائية الواسعة التي يتمتع بها القاضي وما تفرضه عليه طبيعة واجباته واستقلاليته. فلا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية من دون تطابق مفهوم القيم العامة للعدالة على المستوى الاجتماعي والسياسي، ويتطلب ذلك الارتقاء بمستوى وعي الجمهور فكلما زاد الوعي الاجتماعي تقلصت مساحة خداع السياسي للجمهور،
وإن زاد التخلف الاجتماعي توسعت مساحة خداع السياسي للجمهور. لذلك ليس سهلاً على السياسي في الدول المتقدمة خداع الجمهور الواعي حتى لا يخسر مستقبله السياسي المرتبط بصوت الناخب. إن الحق كقيمة إنسانية وأخلاقية عليا، يروم تحقيق العدالة، لأن العدالة تجسيد للحق وتحقيق له، ولا يوجد الحق خارج القوانين والمؤسسات والتشريعات، وتعتبر الدولة هي الضامن للعدالة لأنها هي التي تمثل القانون كقوة وسلطة إلزام، يخضع لها الجميع على أساس مبدأ المساواة، المساواة بين جميع الأفراد: بين الراشد والطفل، بين الرجل والمرأة، بين الفقير والغني… فلا حق إذن بدون مساواة،
وقد تتطابق العدالة مع الإنصاف، وقد ترغب فيهما معا، لكن مع ذلك، فالأفضل هو الإنصاف، فهو الشرط الأساسي لتصحيح ما يلحق العدالة من أخطاء، عندما تطبق عمومية قوانينها على الحالات الجزئية والخاصة، فالإنصاف يكيف قوانين العدالة، ويجعلها تستقيم مع الحالات الخاصة، على هذا الأساس أكد راولس أن العدالة تقوم على قاعدة الإنصاف، وهي قاعدة تقتضي من جهة حق كل شخص في الاستفادة بالتساوي (المساواة) من الحقوق الأساسية، ومن جهة ثانية اعتبار اللامساواة الاجتماعية مقبولة عقليا، إذا سمح لجميع الأفراد ببلوغ مراتب ووظائف عليا في المجتمع (تكافؤ الفرص).
إذا كانت العدالة تؤسس الحق، على أساس من احترام القانون كسلطة إلزام، فما علاقة الحق بالحرية؟ متى تتحقق الحرية في إطار التشريعات والقوانين المعمول بها في المجتمع؟
قد يحدث التعارض بين الحرية والقانون، عندما تتجاوز الحرية الفردية القانون، وتمزق مبادئ الحق المعمول بها في المجتمع، أو عندما يتم تجاوز حرية الآخر، لأن حرية الفرد تنتهي عند حرية الآخر. وتتحقق المحافظة على الحريات عندما تطبق القوانين، ويتم الفصل بين السلط، حيث تصان كرامة الإنسان وتحصن حريته، فيصبح الإنسان حرا وخاضعا بطواعية ومسؤولية لروح القوانين.
لا تعني الحرية الفوضى، بل هي التزام بالقوانين، تفاديا للخروقات والتجاوزات التي قد تصدر عن الفرد، كما تصدر عن المؤسسة، إذن دولة الحق هي الضامنة قانونيا لكرامة الإنسان، وصيانة حقوقه بواسطة فصل السلط وتدبير الشأن العام بواسطة هيئات تمثيلية ومنتخبة ديمقراطيا.
فتطبيق القانون مهما كان عادلا, لا يعنى أنه قد حقق العدالة, و قد سبق أن نشرت فى بعض مقالاتى أن التطبيق الصحيح للقانون قد لا يحقق العدالة الإجتماعية المنشودة, لهذا توجد فى قوانين العقوبات حدود دنيا و عليا للعقوبة الموقعة , بحيث يمكن لقاضى الموضوع أن يحتكم لظروف القضية, و بالتالى, فيمكنه تطبيق القدر الأدنى من العقوبة لشخص, و يغلّظها لشخص آخر ارتكب نفس الجرم, مراعيا فى ذلك ظروف كل منهما.
العدالة قيمة أخلاقية من منظومة القيم العامة تحفظ حقوق المجتمع، لكنها تبقى مفهوماً نسبياً لا يمكن القطع بقيتمها المتوارثة والمكتسبة عبر الزمن لأنها عرضة للتغيير ولا يمكن عدّها قيمة تصلح لكل المجتمعات لتباين القيم الاجتماعية والدينية وبذلك فإنها قيمة ملتبسة.
تختلف العدالة بإختلاف طبيعة استخدامها في السياسة والمجتمع والدين فلكل منها مفهوم خاص لذلك لا يمكن تطبيقها من دون إدراك مفهومها العام في المجتمع، فمنظومة القيم العامة تعدّ نتاجاً لعقد اجتماعي بين مجموعة البشر تشترك بمصالح ولغة تتواصل من خلالها لخلق ثقافة مشتركة تحكمها عادات وتقاليد اجتماعية ودينية تشكل منظومة قيمهم الأخلاقية، ليكتسب مفهوم العدالة الصدقية من الجميع بعدّه غرساً تربوياً في اللاوعي الاجتماعي لا يحتاج إلى إعادة توضيح وشرح لارتباطه بقيمهم الأخلاقية العامة.
فإن القانون يعبر عما هو شرعي انطلاقا من النصوص المتواضع عليها، لكن ما هو قانوني ليس بالضرورة حقا، قد يكون ظلما، يؤكد ستروس أنه يستحيل الحديث عن وجود معيار مطلق يمكن الاعتماد عليه للتمييز بين ما هو عادل وما هو ظالم لأن لكل مجتمع مثله ومبادئه، فضلا عن تغير هذه المثل أو المبادئ بتطور المجتمعات وخصوصياتها، إذن فالحق نسبي بنسبية المبادئ التي تقوم عليها، من هنا حاجة الحق والعدالة إلى الأخلاق.
تقوم العدالة حسب أرسطو على مبدأين هما: المساواة، ومعناه أن الجميع يخضع للقانون بدون تمييز، ومبدأ الإنصاف، وهو أن يمنح كل فرد ما يستحقه بغض النظر عن منطوق القانون، فقد تقع العدالة في أخطاء عندما تطبق عمومية قوانينها على الحالات الخاصة؟، لكن الإنصاف وحده يكيف قوانين العدالة ويجعلها تستقيم مع تلك الحالات الخاصة
كاتب المقال دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام…مستشار تحكيم دولي وخبير في جرائم أمن المعلومات