تكوين الفساد وشموله
بقلم : الدكتور عادل عامر
أن تركيبة الإنسان النفسية والذهنية تهيؤه إلى ارتكاب أعمال فساد . وأن مقاومة هذه الأعمال يتم من خلال نشر وعي الاستخلاف وثقافته. ومهما تكن خلفية موقف الملائكة من الإنسان الخليفة قبل خلقه فإن ذلك يكشف لنا حقيقة تاريخية وهي أن الإنسان دائم التمرّد على قيم الضبط السلوكي . كما أن التطور العلمي والتكنولوجي أكسبه جرأة مبالغ فيها أحيانا على ملامسة الممنوع والمحظور باستعمال كل ما هو متاح من الوسائل والإمكانيات .
وأمام تطور مظاهر الفساد في المجتمعات المعاصرة وانتقاله من الوضع البسيط إلى الوضع المركب والمنظم , اتجه جهد المجتمع الدولي إلى سنّ اتفاقيات وبروتوكولات تردع الفساد وتحاصره كما هو الشأن بالنسبة لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2004 وكذا فعلت بعض الكيانات الإقليمية ومثالها مجموعة الاتحاد الأوروبي واتحاد دول جنوب أمريكا ومجموعة دول إفريقيا. كما نشطت حكومات الربيع العربي بعد أن استقر لها الأمر في اتجاه الإسراع بسنّ النصوص القانونية والترتيبية واتخاذ الإجراءات الإدارية لمكافحة مختلف مظاهر الفساد التي تورطت فيها النظم السياسية السابقة بعد أن كان فسادها من عوامل الثورة عليها . يتميز مجتمع الدولة المعاصرة بتنظيمه الإداري المحكم بشكل تتوزع الاختصاصات بين ما هو مركزي وما هو جهوي أو محلي. وتقوم الإدارة بتسيير المرافق العامة وتنشيطها وفق سياسات تخدم التوجهات العامة للدولة .
غير أنّ هذه الأدوار الرسمية للإدارة وللناشطين فيها لا تمنع الأخيرين من التورط في ممارسات فساد بسعي منهم أو من المتعاملين معها وكان هذا سببا لتدخل القانون الجنائي لردع هذه السلوكيات المخلّة نظرا لخطورتها على سير المرافق العامة. ومجال الفساد المالي متشعب ومتعدد الأوجه ولا يمكن بالتالي تناوله بصفة شمولية. لذا سنقتصر في هذا النص على مجال اختياري حددته الممارسة المباشرة لهذه الظاهرة والتعامل معها في أوساط جامعية وبحثية عربية وغربية سنعتمدها في القيام ببعض المقارنات للدلالة على عمق ظاهرة الفساد المالي وغياب الحوكمة العلمية الرشيدة في جامعاتنا العربية.
لا يمكننا أيضا الإلمام بكافة مظاهر الفساد المالي في هذا القطاع المعرفي نظرا لخصوصيته وتنوعه من مكان إلى آخر. لذا سنختزل هنا أيضا بعض مظاهر الغش والفساد المالي المتداولة في قطاع التعليم والبحث العلمي وسنقترح من خلالها بعض الإجراءات العملية للتقليص منها والحد من تداعياتها على سير المؤسسات العلمية وإشعاعها المعرفي. ويبقى السؤال الأعم (وهو لا يدخل في نطاق هذه الورقة لاتساع مجاله) عن مدى قدرة البلدان العربية على التصدي لهذه الظاهرة في ضوء التغيرات الإستراتيجية الجارية للوصول إلى مرحلة متقدمة في طريق الشفافية المالية والحوكمة الرشيدة.
كما سبق أن ذكرنا، لا تنفرد الدول العربية بظاهرة الفساد المالي وعدم الشفافية، بل هي ظاهرة واجهتها الأمم المتحدة بعدد من القرارات لمحاربتها نظرا لخطورتها على استقرار وأمن المجتمعات. فأصدرت لذلك اتفاقية دولية سنة 2004 لمكافحة الفساد والارتشاء وقعت عليها العديد من الدول منها الدول العربية. لكن كسائر النصوص والمعاهدات الدولية يبقى التناغم بين التشريع والتطبيق أمرا عسيرا في غياب الوعي الجماعي والاقتناع الكلي بجدوى احترام القوانين والمواثيق الدولية. فقد وقعت العديد من الدول العربية على مثل هذه المعاهدات وقامت بصياغة نصوص تشريعية لمحاصرة مظاهر إهدار المال العام وترشيد النفقات العمومية وتضيق الخناق على الممارسات الفاسدة ومواصلة الجهود الرامية لترسيخ مقومات الحوكمة الرشيدة لتحسين الجودة الصناعية ودعم القدرة الاقتصادية.
وقد قامت بعض الدول العربية بإنجاز خطوات هامة ومتقدمة نحو استكمال المنظومات المؤسسية المعنية بمكافحة الفساد ومن أهمها صدور قوانين مكافحة الرشوة وإنشاء الهيئات الوطنية العليا لمكافحة الفساد والرقابة على المالية العمومية مثل قانون الذمة المالية وقانون غسيل الأموال وغير ذلك من متطلبات مكافحة الفساد المشمولة بالاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد. لكن كل المؤشرات تفيد إلى عدم تراجع نسب الفساد المالي والارتشاء والسطو على المال العام حتى أن بعض الدراسات أشارت إلى تناميها مدعومة بتنوع مسالك التهريب وتبييض الأموال وتطور الاقتصاد الموازي. فالفساد الذي تشتكي منه جميع الدول العربية ليس إلا نتاجاً لثقافة اختلالات متراكمة ساهمت ظروف سياسية واقتصادية في خلقها، مما جعل البعض يقر بأن المسئولية الأولى في صنع الفساد لا تقع على عاتق الحكومة لوحدها، بل هي مسئولية مشتركة يتحملها الجميع.
وفي هذا إشارة إلى أن مكافحة الفساد المالي ليست رهينة القوانين والتشريعات التي تسنها الحكومات بقدر ماهي نتيجة سياسات ثقافية ومجتمعية طويلة المدى تساهم فيها كافة مكونات المجتمع المدني بدءا من نواة العائلة الصغيرة إلى مدارج الجامعات وفضاءات البحث العلمي والأكاديمي. والسؤال الذي يطرح هنا هو عن مدى تأثر المؤسسة التعليمية والبحثية بتفاقم ظاهرة الفساد المالي في المجتمعات العربية وقدرتها على التصدي لها.
للفساد الإداري أيضا نتائج مباشرة على الفساد المالي في الجامعات يعود الكثير منها إلى أسباب تتعلق بالجهاز الإداري ذاته أو بالأفراد وعقلياتهم. من الطبيعي أن ينجرّ عن كل تعيين عشوائي في منصب سيادي عديد الهفوات في معالجة الملفات ومتابعة الصفقات والمقتنيات، ومن البديهي أن يفرز عدم ضبط آليات المراقبة المالية الدقيقة للمهام العلمية والبيداغوجية انفلاتا وتحيلا في المعادلة بين الخدمات المنجزة والرواتب المصروفة.
إن للفساد بصورة عامة مجموعة من الآثار السلبية ويتمثل أهمها في ما يلي :
1- حالات الفقر وتراجع العدالة الاجتماعية وانعدام ظاهرة التكافؤ الاجتماعي والاقتصادي وتدني المستوى المعيشي لطبقات كثيرة في المجتمع نتيجة تركز الثروات والسلطات في أيدي فئة الأقلية التي تملك المال والسلطة على حساب فئة الأكثرية وهم عامة الشعب.
2- ضياع أموال الدولة التي يمكن استغلالها في إقامة المشاريع التي تخدم المواطنين بسبب سرقتها أو تبذيرها على مصالح شخصية، وما لذلك من آثار سلبية جداً على الفئات المهشمة.
3- كما تظهر آثار الفساد بشكل واضح على المهمشين، فبسبب هذا الفساد الواسع يحدث فقدان الثقة في النظام الاجتماعي السياسي، وبالتالي فقدان شعور المواطنة والانتماء القائم على علاقة تعاقدية بين الفرد والدولة، إلى جانب هجرة العقول والكفاءات والتي تفقد الأمل في الحصول على موقع يتلاءم مع قدراتها ،مما يدفعها للبحث عن فرص عمل ونجاح في الخارج، وهذا له تأثير على اقتصاد وتنمية المجتمع عموماً.
أما بالنسبة لآثار الفساد الإداري فقد تعددت آراء الكتاب والباحثين في هذا المجال حول آثار ذلك فمنهم من يوضح أن للفساد الإداري آثار سلبية فقط ومنهم يوضح أن للفساد الإداري آثار سلبية وايجابية الا ان ما أستقر عليه انه للفساد الإداري جملة من الآثار السلبية وتتمثل فيما يلي :
1- اثر الفساد على النواحي الاجتماعية:
يؤدي الفساد إلى خلخلة القيم الأخلاقية والى الإحباط وانتشار اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع، وبروز التعصب والتطرف في الآراء وانتشار الجريمة كرد فعل لانهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص .
كما يؤدي الفساد إلى عدم المهنية وفقدان قيمة العمل والتقبل النفسي لفكرة التفريط في معايير أداء الواجب الوظيفي والرقابي وتراجع الاهتمام بالحق العام، والشعور بالظلم لدى الغالبية مما يؤدي إلى الاحتقان الاجتماعي وانتشار الحقد بين شرائح المجتمع وانتشار الفقر وزيادة حجم المجموعات المهشمة والمتضررة وبشكل خاص النساء والأطفال والشباب .
2- تأثير الفساد على التنمية الاقتصادية:
يقود الفساد إلى العديد من النتائج السلبية على التنمية الاقتصادية وتتمثل فيما يلي :
أ- الفشل في جذب الاستثمارات الخارجية ، وهروب رؤوس الأموال المحلية .
ب- هدر الموارد بسبب تداخل المصالح الشخصية بالمشاريع التنموية العامة ، والكلفة المادية الكبيرة للفساد على الخزينة العامة كنتيجة لهدر الإيرادات العامة .
ج- الفشل في الحصول على المساعدات الأجنبية ، كنتيجة لسوء سمعة النظام السياسي .
د-هجرة الكفاءات الاقتصادية نظرا لغياب التقدير وبروز المحسوبية في إشغال المناصب.
3- تأثير الفساد على النظام السياسي:
يترك الفساد آثاراً سلبية على النظام السياسي برمته سواء من حيث شرعيته أو استقراره أو سمعته وتتمثل مثل هذه الآثار فيما يلي :
أ – يؤثر على مدى تمتع النظام بالديمقراطية وقدرته على احترام حقوق المواطنين الأساسية وفي مقدمتها الحق في المساواة وتكافؤ الفرص, كما يحد من شفافية النظام وانفتاحه.
ب – يؤدي إلى حالة يتم فيها اتخاذ القرارات حتى المصيرية منها طبقا لمصالح شخصية ودون مراعاة للمصالح العامة.
ج – يقود إلى الصراعات الكبيرة إذا ما تعارضت المصالح بين مجموعات مختلفة .
د – يؤدي إلى خلق جو من النفاق السياسي كنتيجة لشراء الولايات السياسية .
هـ – يؤدي إلى ضعف المؤسسات العامة ومؤسسات المجتمع المدني ويعزز دور المؤسسات التقليدية.
و – يسيء إلى سمعة النظام السياسي وعلاقاته الخارجية خاصة مع الدول التي يمكن أن تقدم الدعم المادي له , وبشكل يجعل هذه الدول تضع شروطا قد تمس بسيادة الدولة لمنح مساعداتها كما أثبتت بعض الدراسات إن تأثير الفساد على النمو الاقتصادي كبير جداً, إذ تم اختبار مجموعة من المتغيرات لتحليل العلاقة بين الفساد وهيكل الإنفاق الحكومي, وأستنتج بأن الفساد يخفض الاستثمار والنمو الاقتصادي ويغير من هيكل الإنفاق الحكومي ويؤدي إلى تخفيض معدل الإنفاق على الخدمات العامة .
كاتب المقال دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام ومستشار تحكيم دولي وخبير في جرائم امن المعلومات