مقالات

أمة العرب …عندما تزحف الطيور

بقلم : د. إبراهيم حسن الغزاوي
مدير مركز دلتا مصر للبحوث والتدريب والاستشارات  – محاضر القانون الدولي وحقوق الإنسان

كل عام وأمة العرب بخير وكل المسلمين في العالم…
أشك كثيرا في جدوى هذه الأمنية..بل أنا على يقين أننا لن نكون على خير ..لا العام القادم ولا حتى بعد الف عام…إلا أن تكف أمة العرب المسلمة عن الزحف في محل الطيران…
ثم إنني من الأصل غير مستريح لأن أقصر الدعاء على أمة العرب والمسلمين فقط …وعلينا أن ندعو لكل أخوتنا في الإنسانية جمعاء ، وليس للمسيحيين واليهود فقط…لأننا نبتهل للخالق تعالى في الدعاء ..وتعلمنا من نبينا عليه الصلاة والسلام أننا نتمنى الخير للجميع… ولا ننسى أنه قد دعا لأهل القطيف بالهداية ، ليس فقط لأنهم لا يعلمون ، بل لأنه وإن تضائل أمله في هداية من آذاه وأذاقه العذاب صنوفا، إلا أنه تمنى وربما دعا في قلبه وسريرته أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله….
ثم إن رسالة الإسلام جوهرها فضيلة الرحمة، وقد شرع لنا الحق منهاج الدعوة المستقر في قوله “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” صدق الله العظيم، وأول مظاهر الرحمة تمني الخير للآخر..ولو كان على غير ديننا…
ولكن لأننا في أمة العرب قد غلبتنا شقوتنا،وأرهقتنا جغرافيتنا القاسية غالبا بتبعات البداوة القاحلة، والبداوة هنا لا أقصد بها بداوة الجغرافيا فقط، بل ما أعنيه أكثر بداوة العقل والفهم والتقدير، فقد نال سلوكنا الجمعي والفردي ، وأفهامنا كذلك، من تلك البداوة، الكثير من مواطن العطب والقصور…فأحدثنا في ديننا كل صنوف التعطيل والتشويه، وأحدثنا في علاقتنا بالآخر خللا بالغ الخطورة، جعلنا نبدو أمام العالم الخارجي زمرة من الجهلاء والبدو المغيبين عن قطار الزمان والمكان …
والأمر ليس فيه قسوة تناول ، بقدر مافيه صدق تألم واعتدال طوية على مسار التعديل الواجب في المناهج والأفهام، وما يستتبعها بالقطع من مفردات السلوك وأنساق العمل الفردية والجماعية لأمة قد امتهنت إضحاك الآخرين على جهلها بأبسط قواعد دينها وسبل اعتدال دنياها …
وليس في المكنة أن نتلمس خير من انتشار صنوف الإرهاب بكل أنواعها القميئة بين ظهرانينا في المنطقة العربية، وأنها صنوف على تعدد أسمائها، قد نهلت من منهل الإسلام المشوه كل مناهل التشرذم والتجني والافتراء على الله تعالى وعلى رسوله وعلى دينه الحنيف…
ولا مناص هنا من أن توجه أصابع الاتهام بشكل مباشر إلى المؤسسة الدينية ، باعتبارها الحارسة على مقدرات التناول ومسارات التبليغ والمعالجة لمعطيات الدين حتى تصل للعوام سلسة سهلة مستوية على الصراط ، فقد بدا فشل تلك المؤسسات في تحريك الراكد من الفقه الإسلامي القديم…ولم تجتهد في تقدير احتياج المسلمين اليوم للغة تخاطب إسلامية تحقق لنا اعتدال كل ما يجاوز حدود طقوس العبادات بيننا وبين خالقا..فتركت مسارات العلاقات الإنسانية بيننا وبين أنفسنا، وبيننا وين الآخر ممن هم على غير ديننا، لتعالجها كتب فقهية مر عليها المئات من السنيين …وأصبحت غير قادرة على الاطلاق أن تفي باحتياج المسلم اليومي من رحيق الفكر الديني الذي يولف بينه وبين عالمه…
وهنا كانت السقطة الكبرى …ففي الوقت الذي نكصت فيه المؤسسات الدينية عن ترقية مسارات السلوك الجمعي والفردي للمسلمين … بما يحقق مقاصد الشريعة الغراء ، في أن تجعل من المسلم كيانا نافعا وإيجابيا في محيطه، وكيانا مسالما وعطوفا على الآخر ، وكيانا منتجا وعالما ومعتدلا في علمه ..إعمالا واحتراما وابتهاجا واستجابة لنهج الخالق في التشريع بقوله عز من قائل: ” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ” صدق الله العظيم ..بدلا من كل ذلك..تركت ساحات الدعوة لأنصاف المتعلمين ،والجهلاء المدعين، من الأطباء والمهندسين الفشلة في علمهم التخصصي، والحرفيين والجهال من كل الأصناف…أصحاب المصالح والهوى في الشقاق والفرقة ، ومصالح من يضمرون لنا الشر من خارج مجتمعاتنا، ومصالح من ليس لهم ضمير من داخلها، لكي يتحول الدين الإسلامي إلى دين إقصائي…كاره للآخر..يحمل لكل الناس سيفا قاطعا تسيل به الدماء وتقطع به الرقاب..للهوى والمصالح التي يراها كل فصيل يدعي إسلامه ويضحك علينا بتدينه….
ولا يمكنني إطلاقا أن اقصي أنماط الحكم العربية من دائرة احتمال اللوم الأكبر على مال آلت إليه احوال أمة العرب…فأنماط الحكم يكون لها عادة اليد الطولى في توجيه الجموع على الجادة واستواء مساراتها هنا وهناك..وهذا مالم يحدث لدينا للأسف الشديد..لأننا قد تربينا في تاريخنا المعاصر وقبل المعاصر على انماط حكم شمولية لا تكترث بغير بقائها في السلطة وتأميد وتأبيد هذا التواجد ، وتسخير كل موارد البلاد لجعل الأشخاص فوق البلاد…فوقعنا برمتنا في فخاخ ابشع أنواع الدكتاتورية..وهي التى تترك خلفها شعوبا متفرقة ومجتمعات أنانية…وأفرادا عقول صغيرة ولكن بأمعاء كبيرة.. لا تمتلئ لا من طعام ولا من مال ولا من كافة المغريات الدنيوية، حتى تحولنا إلى جيوش استهلاكية ضخمة …تحترف الأكل والمتاع، وبندر فيها الفكر والإبداع…
والإنسان قد خلقه الحق وميزه بالعقل..وجعل العقل ميزان المحاسبة، لأن العقل يجعل من حامله إنسان قادر ولا تحد قدراته اي حدود إلا فيما شرعه الله لضبط موازين العلاقات الإنسانية ،فقد خلقنا الله للانطلاق في آفاق الدنيا بلا حدود في التعلم والإبداع والاختراع والنبوغ والتفرد ..مثلنا مثل الطيور… ولأننا عندما نرى الطائر يطير لا ننتبه كثيرا..فالطائر قد خلقه الله ليطير في السماء ولا تحده حدود في طيرانه…كذلك الإنسان والمسلم ..بحكم وجوبيات ديننا في العمل والجدية والإخلاص والتجرد والصدق والعدالة والرحمة وغيرها من صنوف الفضائل التي لم نعد نلتفت لها ولا نعرفها كثيرا في أرجاء أمة الإسلام اليوم…
ولأننا قد اهملنا كل منابع التفرد كملسمين …يجب أن نعترف اليوم بكل مرارة وأسى أننا في منطقة العرب تتركز فينا وبيننا كل صنوف الجهل والفرقة والتشرذم والفقر…مختلطة بالغنى والرفاهية والاستهلاكية المقيتة التي تبلغ حد السفه… والتي تبلغ أيضا قمة الالتباس بمقتضيات ديننا الحنيف ..للحد الذي نقلب فيها رمضان شهر الصيام والعبادة إلى رمضان شهر الولائم والتهام ما لذ وطاب من صنوف الأكل التي ننهبها ونتعامل معها باعتبارها تحدي هائل أمام كل مسلم ..أن يلتهم أكبر قدر ممكن من الطعام ..وكل حسب قدراته المالية..لكن الغني والفقير يجتهد في رمضان في ملء بطنه بقدر ما يستطيع…
لأننا كذلك…فقد أصبحنا نزحف في محل يجب أن نطير فيه لعنان السماء المفتوحة…بما لدينا من مقومات التقدم والتطور والسيادة…
نعم ..أمة العرب المسلمة اليوم تزحف ..ولا تقدر على الطيران …. رغم رمضان ..ورغم الحج والعمرة .ورغم مليارات الدولارات والدراهم والجنيهات التي تنفق على ملء بطوننا بكل همة ونشاط في رمضان شهر الصوم….ورغم موائد الرحمن …إلا أننا نزحف لأننا قد أهملنا مسارات العقل والحكمة التي كان يجب أن تفضي بنا للطيران في عالم الإنسانية …
لقد نسينا في أمة الإسلام العربية أن نأخذ من الدين جوهرة ..وطفقنا نتحلى فقط بمظاهره..فضاعت فينا الحقيقة…وضاعت منا الريادة…. لأننا قد أهملنا العمل الجاد وتركنا لغيرنا العلم المخلص، ونسينا النبوغ وغاب عن الإبداع ،ولم نعد نكترث لموازين العدالة ، وعظم قيمة الشفافية، وأمعنا في الزيغ بتقديم السفيه في الطليعة وتحقير نموذج القدوة التي يقتدي بها الآخر..كما أضعنا قيمة التسامح،عندما وصفنا الطيب بأنه “أهطل” .. وسخرنا من الجدية عندما وصفنا الجاد بأنه “مخه مقفول ومتربس”.. وأصبحت الرحمة بيننا وبين بعضنا وبيننا وبين الآخر مدعاة للتندر وحل محلها النفور والبغضاء…
صحيح..أمة العرب تزحف …وتقدمها ليس فقط بطيئا…لكنه تقدما سلبيا…
علينا أن نستفيق وبسرعة من الغيبوبة…ونعود لنلحق بركب الإنسان..المميز بالعقل ..لأن ما نحن فيه اليوم من فرقة وتشيع وتطاحن وزيغ وتطرف وإرهاب جعلنا أمة زواحف مثقلة لا تتحرك ..وأفقدنا قدرتنا على التحليق في عالم العطاء الإنساني اللا محدود..
يجب أن نعود إلى إنسانيتنا التكاملية ..فنعيد اكتشاف ديننا ..لكي نعاود التحليق في سماء الإنسانية ..بدلا من أن نقنع بقدراتنا المثيرة للشفقة على الزحف ..والأمم من حولنا لا تألوا جهدا لكي تحلق في السماء …
كم كنت أتمنى أن أهنئ الجموع بالعيد السعيد …لكن العيد لن يكون سعيدا إلا عندما تطير أمة العرب بمسلميها ومسيحييها في سماء العقل والعلم والعطاء …وكفانا زحفا في مواضع الطيران ..

eommar@hotmail.com – algh0031@umn.edu

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى