المجتمع المدني العربي و مأسسة دوره الوظيفي
Arab Civic Society and Re-institutionalization
of Its Professional Role
الدكتور ميلاد مفتاح الحراثي
Dr Milad ELHARATHI
المجتمع المدني العربي بين ماضي ولحضر
المجتمع المدني في الوطن العربي لم يكن متاحا بشكل حر ومستقل، وغالبا ما كانت تسجل انتهاكات حكومية ضد فعالياته خلال الفترة، وبالرغم من أن معظم الأقطار العربية توفر التشريعات له، إلا أن تلك التشريعات لا تمنح هامشاَ للحرية له،وعدم استقلالية حركته، وربط العديد من مناشطها بمؤسسة الدولة العربية.
وبذا لم يتحول جدل المجتمع المدني في الوطن العربي إلى جدل شعبوي، وإنما تخندق في الأوساط الأكاديمية والنخبوية، وأصبح المجتمع الأكاديمي بيده زمام زمن الطرح والتآطير والأدلجه بدون شراكة جمعوية ذات قيمة مضافة إلى طبيعة قضية المجتمع المدني، بالرغم من دعوات الإصلاح للحقوق والحريات، ومقومات المجتمع المدني العربي.
فالمجتمع المدني العربي، وجدله لم يتخطى حدود الكتابة عنه في المهجر أو بضع المقالات الأكاديمية التي شهدتها الحركة الثقافية العربية في العقد الأول من الألفية الثالثة، أو أحاديث وأطروحات الإعلام الرسمي، التي لم تجد صدى للتناول الأكاديمي . فلم يتجذر هذا الجدل في القطاعات العريضة المشكلة لمنظمات المجتمع المدني العربي من نقابات وجمعيات أهلية وخيرية وتخصصية، ولم يلقى صدى واسعاً في وسائل الإعلام والصحافة المختلفة بالعمق الذي ينبغي أن يكون عليه النقاش، هذا من الناحية الواقعية المجتمعية .
إما من الناحية الدعوية والإصلاحية فهناك: الدعوات الإعلامية والأكاديمية والفكرية التي اعتمدت، وعبر وسائل الإعلام المختلفة، على ” إعادة توصيف منظومة الحقوق والحريات المدنية في ظل وجود وقيام مجتمع مدني حقيقى يبتعد على التبعية لمؤسسات ألدولة “. إلا إن هذه الدعوات اصطدمت بواقع لم يُعد له مُسبقاً لاستقبال مثل هذه الفجائية الذهنية والفكرية، والتي تطلبت في أحيان كثيرة إلي برامج تعتمد على التنشئة السياسية والاجتماعية، أو قيام ثورات جديدة .
وحتى الجهات ذات العلاقة بالمنظمات الأهلية والمدنية التابعة للدولة العربية لم تباشر باختصاصاتها في نشر وتوطين ثقافة المجتمع المدني عربيا. فتحول جدل المجتمع المدني إلى جدل مبتور من طرف أحادي باتجاه غالبية عريضة لا تعي معاني المجتمع المدني ومتطلباته، وأهمية دوره في التنمية، وفي السياسات العامة والقضايا الوطنية .
فعلى المستوى التشريعي، المجتمع المدني العربي يفتقر إلى حزمة تشريعية، وقانونية تحددهُ، وأهدافه، وغاياته، وحقوقه، وواجباته وكذلك علاقته بمؤسسات الدولة والمواطنة. فحتى مؤتمرات الجمعيات الأهلية العربية فاقدة الأهلية للتعبير عن جوهر قضاياها، وفلسفة تنظيم نفسها، فهي لم تسهم في إنتاج مقترح تشريعات ينظم حقوقها، وواجباتها، وتحديد وضعها في المنظومة المؤسساتية للدولة العربية . كل ذلك لم يهيء تنظيمات، ووسائط المجتمع المدني العربي عموماً في أن تسهم في إعادة صياغة العقد الاجتماعي لمنظمات المجتمع المدني العربي.
وعلى مستوى العلاقات الخارجية، فهذه المنظمات لا يعلم ولا يعرف عنها أحداً في الخارج . فالأمم المتحدة تعترف بحوالي 1700 منظمة أهلية دولية وإقليمية وتتم دعوتها بشكل دائم للمناقشات والمؤتمرات والندوات والحلقات الدراسية، خصوصاً عندما يكون الأمر يتعلق بالسياسات العامة للدول، فهل المنظمات الأهلية في الوطن العربي، لها دور وعلاقات تفاعلية خارجية ؟
وعلى مستوى التمويل، فحدث ولا حرج. بكل تأكيد في ظل غياب مدونة التشريعات الخاصة بالمجتمع المدني ومنظماته يظل التمويل مأزق يسهم في تأزم حركة المجتمع المدني العربي. على سبيل المثال من الذي يمول وكيف؟ وكيف يتم التصرف بالتمويل ؟ ومن المستفيد من عمليات التمويل ؟ وكيف تحدد الأصول الثابتة والمنقولة لهذه المنظمات المدنية ؟
بتقديرنا أن المكاسب كبيرة من إثراء حركة المجتمع العربي، خصوصاً في أوساط الأفراد الأكثر ضعفاً والأقل نمواً، فنشاطها الإنمائي العام من توفير البرامج، والرعاية وحماية البيئة وحقوق الإنسان، والمشاركة في خطط التنمية والسياسات العامة لا يقل أهمية عن نشاط مؤسسات الدولة العربية الرسمية.
والأزمة التي يعشها المجتمع العربي، في كونه مغيباً إلى درجة الإقصاء في خطط التنمية وبرامجها، ولم نسمع عن شراكة أهلية في إعداد الاستراتيجيات التنموية في عديد الأقطار العربية، والحديث هنا يقصد به المشاركة والشراكة القاعدية وليست الهرمية . بمعنى أخر ، غياب الاستعداد لدى العديد من الفئات المجتمعية لقبول الربط بين عقلانية وجدوى المجتمع المدني، ومنظومة الحقوق والحريات المدنية. كل هذا يسهم، وباستمرار، في توسيع الهوة بين ما يود إن يذهب إليه المشروع المدني العربي، والواقع الفكري والمفاهيمي، والمعرفي للتركيبة المجتمعية العربية، والتي لا تزال تحنو إلى ثقافة التقاليد، ودور القيادة، والأعراف وتقديس الدولة الأبوية والقبيلة ودورها العصبوي.
ومن باب النهوض بمنظمات المجتمع المدني العربي ، وتخطي أزمته، فهذه المنظمات تسعى إلى رعاية الإنسان، والأرض، وحماية حقوقه. فلا ينبغي أن يزعجنا الفكر الإداري المعاصر عندما يعرف منظمات المجتمع المدني بأنها “مؤسسات مستقلة عن سلطة الدولة” لأنها من جوانب أخرى تتميز بالأهداف الإنسانية والتعاونية والتنموية، فهي منظمات غير ربحية، أو حتى ممارسة العمل السياسي بمعناه الواسع بقدر ما تعمل على تقديم الإسهامات الاجتماعية والتنموية والتعليمية والتثقيفية والحقوقية .
• مأسسة المجتمع المدني العربي
إن الانقلاب ألمفاهيمي الذي أفرزته ثورات تونس ومصر وليبيا للعديد من المفاهيم الثقافيات السياسية، ومنها مقولات المجتمع المدني، والدعوات التي تصاحبه أحدثت نوعا من إعادة التفكير، ومراحل جديدة ينبغي استيعابها. ففكرة المجتمع المدني ببساطة جمعيات غير ربحية، دفاعية وإنسانية وخيرية الأهداف والوسائل، تعمل على تحقيق ما تعجز على تحقيقه الدولة القائمة، إلا إن المشكل هو إضافة فلسفة الأحزاب وقيامها ضمن ثقافية المجتمع المدني وهذا خلط مفاهيمي لا يغفر أبدا.
إن مرحلة انتقال الدولة المتحررة من الشخصنة إلى مرحلة المأسسة تتطلب وضوح النوايا،المبادئ، و الأهداف والمفاهيم والسياسات وصراحة المؤسسات وصدق النوايا ،والشفافية والمصالحة، من خلال الانتماء والهوية لقيم الوطن السرمدية، ليس ذلك فقط، ولكن التشابك مع الوطن ومصالحه، وفئاته بعيدا عن الإقصاء والتهميش والإبعاد والتخوين، المجتمع يتكون من جماعات وكل جماعة لها خصائص المجتمع، إذا كل جماعة هي مجتمع بذاته. من هذا الاستدلال نستنتج إن عمليات الانتقال من مرحلة الشخصنة إلى مرحلة المأسسة للدولة العربية تحتاج إلي التحديد والتوصيف الموضوعي، وهو صلب الفكرة المؤسساتية والتأسيس، وهى مقاصد مطالعتنا( (1) المجتمع السياسي( مجتمع السلطة) (2) المجتمع المدني (3) المجتمع المهني).
• المجتمع السياسي :Political Society
وهو الوعاء الذي يجمع كل من يتعاط العمل السياسي السري، أو العلني برمته من خلال الأحزاب، والمعارضة، وأعضاء النظام السياسي القائم هم العاملين في المؤسسات الحساسية للنظام السياسي القائم: الانتخابات، الترشيح للعمل السياسي، أعضاء المؤسسة التشريعية والتنفيذية والقضائية، انخراط الشعب في العمل السياسي في مواسمه، وهذا هو المجتمع السياسي، لأنه بمثابة مجتمع السلطة، أو مجتمع ممارسة القوة والسيادة من خلال أعضائه المكلفين، بمعنى كل من يكلف بممارسة سلطة سياسية من طرف الآخرين ، أو بشكل مستقل، يصبح عضواَ من أعضاء المجتمع السياسي.
فالمجتمع السياسي هو مجتمع السلطة، وهو وعاء لكل من يمارس السلطة التنفيذية والتشريعية برغبة أو نيابة عن الآخرين. ولعل قائل يقول إن الأحزاب هي أجسام شرعية للمجتمع المدني، وهذا القول لا تتفق معه هذه المطالعة. المجتمع المدني وتأصيله عبارة مؤسسات غير ربحية، وليست لها علاقة بمؤسسات الدولة والسلطة( مجتمع السلطة) والأحزاب في حراكها جزء لا يتجزأ من المجتمع السياسي، لأنها تناضل من اجل برامجها ومعتقداتها وسياساتها وأفكارها، وهدفها المركزي هو المشاركة في عملية التداول على السلطة وإعادة بناء المجتمع السياسي من جديد من خلال برامجها !
• المجتمع المدني :Civic Society
كل أدبيات المجتمع المدني تتفق في إن مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني في تأصيلها المفاهيمي عبارة عن تجمع غير رسمي سلطوي تسعى إلى المساهمة في الحراك المجتمعي النهضوى، وتستهدف الإنسان وكرامته ومصالحه المدنية الحياتية، وليست السياسية، وهى جمعيات ومؤسسات وتنظيمات خيرية ذات النفع العام، ومنفصلة في النشأة عن الدولة ومؤسساتها ، ومؤسسات السلطة. وهى تذهب إلى مجالات الثقافة والإعلام وحقوق والإنسان والحريات العامة ، والتعليم والصحة، والبيئة والعلوم، والإغاثة والآداب والى كل المناشط الاجتماعية والإنسانية للمواطن الفرد، والجماعة والتي لا تخضع لمؤسسة الدولة أو السلطة، بمعني منظمات دفاعية خيرية غير ربحية.
القول بذلك إن عكس المدنية هي البدائية، وهولاء السابق ذكرهم تطلعوا إلى رؤية المجتمع المدني ليحميهم من توحشية الدولة العربية، وغلو مؤسسات المجتمع السياسي ( مجتمع السلطة) نظرا لرفضهم لحالة، أو مرحلة البدائية، والتحول إلى الزمن المدني . مؤسسات المجتمع المدني لا يعنيها المجتمع السياسي ( مجتمع السلطة ) لأنها تعمل في بيئة مخالفة لمؤسسة السلطة، وهى تعمل على تحقيق العديد من المنافع، والتي عجزت مؤسسة السلطة والدولة على تحقيقها. بمعنى أخر هي منظمات لجماعات مصالح وضغط لفئات غير ربحية همها المبدئي المواطن وتفعيل دوره المجتمعي .
• المجتمع المهني:Professional Society
فواعل المجتمع المهني تختلف اختلاف كلى عن غيرها من المجتمع السياسي والمدني : فأعضاء المجتمع المهني هم أولئك الإفراد الذين ينتمون إلى وسائط مهنية يتلقون من خلالها مقابل مادي ومزايا ربحية، وينتمون إلى قطاعات عامة أو خاصة ، ويتوزعون من خلال النقابات والاتحادات والروابط المهنية، حق وحرية التشكيل هذه لها علاقة بالمحافظة علي مكتسبات أعضائها من توحش وظلم وغبن المؤسسة التنفيذية في الدولة.
وهى تنظيمات لا يعنيها المجتمع السياسي(مجتمع السلطة)، فهي مرتبطة بالمهنة وتطويرها والمحافظة على حقوق ومصالح منتسيبيها. فهي تعبير عن الحرية، وحرية تكوين التنظيمات لأصحاب المصالح المهنية. فالمجتمع المهني مختلف عن المجتمع السياسي والمدني من حيث الأهداف، والبيئة، والوسائل والتكوين، والاهتمامات، والمقاصد العامة. لقد درجت العادة في كل المجتمعات أن لكل مهنة نقابة، أو اتحاد أو رابطة نظرا لارتباط هذه المهن بعمليات الإنتاج السلعي أو الخدمي، ومواجهة تقلبات مؤسسة السلطة التنفيذية ( المجتمع السياسي) في تعاملها مع قطاع الإنتاج المهني العام، والمقاصد العامة للمجتمع المهني هي المحافظة على المهنة وحقوق ومصالح أصحابها لإحداث التراكم الإنتاجي.المهني.