مقالات

فلسفة الاستيعاب…بين القاهرة وأنقرة

بقلم : د. إبراهيم حسن الغزاوي
رئيس مركز دلتا مصر للبحوث والتدريب والاستشارات
محاضر القانون الدولي وحقوق الإنسان

” يجب أن ندرك حاجتنا لأرضية تشاركية يتغاضى فيها القلة عن بعض مما يرونه حقا أبديا دون تنظيم مقنن ..من اجل حقوق المجتمع كله في البقاء والتقدم…. هذه الأرضية تحتم على مؤسسات الدولة ان تراعى أكثر حقوق البشر وعلى الأفراد أن يقدروا أن ما تمر به مصر هو نفق ملبد بالمخاطر … نحتاج فيه لبعض الصبر واليقين بقدرتنا على الاستمرار في الحياة بما نستحق….لنخرج من دائرة الفقر والشقاء إلى رحابة الرؤية المستقبلية الأفضل لنا جميعا..وهي مسئولية الفرد والحكومة سواء بسواء….”

كلمات اختتمت بها إحدى مقالاتي السابقة التي نشرتها الأهرام المسائي في وقتها..واليوم …وبعد ما يزيد عن العام من كتابتها…أجدني متحيرا في وسيلة لتأكيدها أكثر بكل الكلمات الموحية..لعلها تصل بالمعنى والمفهوم ..ليس لكل قارئ فقط..ولكن لكل مصري وكل عربي …
لقد فوجيء الكثيرون نسبيا بما حدث في تركيان منذ يومين تقريبا…ولا مناص الآن إلا أن نحقق في تلك الأحداث من عدة مناظير ..حتى لا يفقد الدرس معناه…وحتى لا ينطبق علينا مزحة أحد بلدياتنا الذي وقع في نفس الحفرة ألف مرة ….
أما إن ما حدث بتركيا من محاولة انقلاب عسكري – حتي وإن كان جزئيا- على السلطة الشرعية لحزب العدالة و التنمية برئاسة السيد أردوجان جاء مفاجئا..فهو أمر لا خلاف بيننا عليه …لأن تركيا قد انتقلت في الخمسة عشر عاما الأخيرة نقلة اقتصادية إيجابية لا مراء فيها..ودانت البلاد و الحكم للحزب وأردوجان تحديدا …وبالرغم من اعتياد المجتمع التركي على الانقلابات التي تكررت كثيرا في حياتهم السياسية المعاصرة..إلا أن حكم أردوجان قد أحدث نقلة نوعية هادئة وذكية قام من خلالها بتقليص دور الجيش تماما في الحياة السياسية، وقنن هذا المنحى دستوريا في هدوء وحكمة واضحتين…وذلك اعتبارا من عام 2003…واستغل بذكائه وفطنة من معه أن يستغل عدة أخطاء لقادة الجيش وقتها في ضبط الأمور تجاه ما يحقق إحكام قبضته بكل عمق على مفاتيح الأمر والنهي هناك…وتقبل قادة الجيش الأمر على مضض…وبدت الأمور للبعض وكأنه قد دان الأمر لأردوجان وأن الجيش قد لانت عريكته وتخلى قادته عن طريدتهم التقليدية في توجيه مقاليد العمل السياسي والسيادي هناك…
ولذلك قلت ابتداء أنني دهشت نسيبا..فقد جاءت الحركة الانقلابية العنيفة والجزئية أيضا في وقت تصوره البعض انه قد انتهت مثل هذه التصرفات..وأن الجيش هناك قد استكان لبعده عن حلبة العمل السياسي..وهنا أتت “جزئيا” لأنني تيقنت منذ عامين تقريبا أن هناك قنبلة ستنفجر في حجر أردوجان وحزبه، رغما عن تلك الطفرة الرائعة التي أحدثها هناك، وأبديت رأيي هذا علانية في أحد لقاءاتي في التليفزيون المصري…
فقد ركب أردوجان غرور السلطة في السنوات الأخيرة، وعلى نقيض سابقه عبد الله جول، الذي ما إن انتهت ولايته في الرئاسة حتى ابتعد نسبيا على صدارة العمل السياسي، مفسحا الطريق لأردوجان … الذي ، على ما يبدو، قد تملكته سطوة الحكم، فأدمن القمة، ولم يعد يقدر على أن تنحسر عنه الأضواء وتنساب من بين أنامله عناقيد السلطة السحرية ، فطفق الرجل ، بنفس منطق جماعة الإخوان في مصر، يعدل في القوانين والدستور التركي ، لكي تتحول تركيا على يديه الكريمتين من دولة برلمانية ديمقراطية هادئة يدير السلطة عمليا فيها رئيس الوزراء، ورئيسها شرفيا، إلى دولة رئاسية ، الرئيس فيها يسود ويحكم في نفس الوقت…لا لشيء إلا لكونه قد أصبح الرئيس، بعد أن استنفد مدته الكاملة كرئيس للوزراء هناك، وسدت في وجهه أبواب الاستمرار في السلطة طالما بقي الدستور التركي على حاله…
ساعتها أدركت أن القادم في الحياة التركية لن يكون مواتيا للعمل الديمقراطي المنضبط والمتجرد لمصلحة المجتمع التركي… وساعتها أيضا تذكرت ما فعله الرجل بالجيش التركي حين أقصاه بحنكة وذكاء خلفهما خبث ودهاء عظيمين، وعلمت وقتها أن الجيش التركي سوف لا يرضى بهذا المنحى، وأن القادم من الأيام سوف يحمل تصدعا في الجيش، وأن قادته سوف يستعيدوا ذاكرة السلطة والسيطرة ، على الأقل بعضهم، إن لم جميعهم…
وبالرغم أن الانقلاب على السلطة الشرعية هناك لم ينجح…إلا أنه ليس هناك شك أنه قد كشف عورات الرجل بلا مواربة…وأنه قد عبث في مفاتيح السلطة قبل أن يفكر بعض قادة جيشه في الانقلاب على السلطة … وكأنه يقول بغير كلام بل بأفعاله الجدلية …أنا الدولة..وليس هناك غيري..
ولذلك أجدني مرغما أعمل مبدأ المقارنة بالواقع المصري..مع التباينات المختلفة..لأننا يجب أن نستفيد من التجربة التركية بشقيها الناجح والمتعثر..
أما الشق الناجح..فلا شك أن التقدم الاقتصادي والعلمي والإنساني في تركيا نموذج طيب ، علينا دراسته، والاستفادة مما يصلح لنا فيه…أما الشق المتعثر..فهو يتعلق بتسخير أدوات الحكم في تسيير مسارات السلطة بما يتراءى ويتفق وأهواء أردوجان أو غيره….
ولا يجب أيضا أن نتغافل عن موقف أردوجان وحزبه مما حدث بمصر..ورغم اختلافي مع بعض من يهاجمون الرجل بعاطفية وتجاوز…إلا أنني أرفض تماما تدخله السافر في الشأن المصري، ولا أرضى منه أن يفتح أبواب ساحاته المتنوعة لاستضافة المعارضين والمخالفين لنظام الحكم في مصر..وعلى رأسهم أعضاء وكوادر رئيسية لجماعة الإخوان المسلمين….
ولأن أردوجان نفسه يفعل ما يلوم النظام الحاكم بمصر على فعله، حين يسم حزب العمال الكردستاني بالإرهابي، وتستهدفهم شرطته وقوات جيشه في أقاصي البلاد تقتل فيهم بلا رحمة …بالآلاف ، ولعشرات السنين المتتالية..مع مال للأكراد من منطق حق وعدالة وإنصاف في المطالبة بحقوقهم … فعلى أردوجان وحزبه أن يتسامح مع حزب العمال الكردستاني، وأن يدعوهم إلى وليمة السلطة هناك.. قبل أن يتفضل علينا بسخائه المثير للشفقة داعيا مصر إلى ما يراه هو واجبا على نظام الحكم هنا…
الذي يجب على أردوجان وحزبه أن يفهمه أنهم إذا أرادوا ركوب المسار الديمقراطي عليهم بتحري الأمانة والاستقامة، وألا يجتهدوا في تفصيل أتواب الحكم على أجسامهم…
وبالقطع أنا لا أتمنى إلا كل خير للمجتمع التركي، بنفس القدر الذي أتمناه لمجتمعنا المصري، كما أتمنى ألا يمعن أردوجان في الانتقام عبثا بغير عقل…لأنه بذلك يدخل بلاده في جحيم الانتقام والتشفي والانقسام…
وختاما … وعود محبب لنفسي إلى قاهرة المعز…أعود لمصرنا الغالية…وعيني على تركيا وحالة السخونة الواضحة التي تضربها اليوم…لأتمنى أن تلتئم جراحنا بمصر، برشد الحكم والإدارة من ناحية، ورشد العقل والمواطنة الحقيقية والخضوع للقانون ومقتضيات الانتماء الصرف لمصر، من جانب كل الجماعات والفصائل المصرية، حيث لا صوت يجب أن يعلو على أصوات المصلحة العليا للبلاد والالتفاف حول القيادة السياسية التي أتت بها جموع المصريين بعد 30 يونيو … والتي تواجه حرب إرهاب وحرب إصلاح إداري وحرب تنمية شمولية ، وحرب ضد الفساد..إضافة للضغوط الهائلة التي تتحملها الدولة الرسمية بمصر للوفاء باحتياجات المصريين الرئيسية..في ظل مناخ اقتصادي خانق..وتحديات داخلية وإقليمية وعالمية غير مسبوقة… وأخيرا التحدي القوي للرئيس السيسي أن يقود المجتمع المصري تجاه الديمقراطية ، ليس باعتباره كان قائدا للجيش المصري، لكن باعتباره الأهم والذي سيذكره له التاريخ ، وهو كونه أول رئيس جمهورية منتخب ديمقراطيا بعد ثورتين متتالين …
اللهم وفق ولاة الأمر في بلادنا لما يصلح البلاد والعباد..ويسر لمن خرج من جمعنا المصري الطيب إن يعود إليه بكثير لطف من الديان…وكثير حكمة من تعقل الإنسان… وفيض واسع من احترام وتقدير قيمة الأوطان…

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى