مقالات

فلسفة الخدمة العامة …عفوا معالي الوزير …

بقلم : د.إبراهيم حسن الغزاوي
رئيس مركز دلتا مصر للبحوث والتدريب والاستشارات بالقاهرة – خبير دولي في الإصلاح المؤسسي

 
ليس هناك مفر من التصادم المفهومي مع العديد من المواقف التي تمر بها البلاد في هذه الفترة الانتقالية الصعبة…التي تظللنا بتوتر وعنت في مصرنا الغالية….
ولعل من احدث مواطن التصادم المفهومي هي تلك التي فرضها علينا في الفترة الراهنة السيد وزير التموين…بما تردد عنه من إقامته بأحد الفنادق الفاخرة ، وأنه تكلف عدة ملايين …لكي يقيم في هذا المحل …
وابتداء ….
هناك حاجة ماسة اليوم لإعادة تعريف العمل العام ، لكي يفهم سيادته ونفهم جميعا أن خدمة المواطن تكليف وشرف لكل من يتبوآ عملا عاما …ومسئولية ، إن قبلها ابتداء ، فعليه واجب قاطع ، أن يتحملها بنفس راضية…وأمل في أن يقدم للناس ما يصلحهم …ويغير من واقعهم للأفضل..وإلا فعليه ألا يتصدى لمهمة هو ليس على قدرها….أو ربما هي في ذاتها تستعصي عليه أو على غيره…وهكذا الحال في أي وظيفة عامة في مصر اليوم…
وقبل أن أتعمق في مرحلة المفاهيم وإعادة ضبطها، يحق لسيادة الوزير كلمة …له ولكل وزير أو مسئول …وضعته ظروفه اليوم في مضمار خدمة الناس والوطن… في ظرف صعب ومتأزم…
فالوظيفة العامة اليوم هي ابتلاء ثقيل …وهم بالليل والنهار…لاتساع الهوة بين المتاح من إمكانات الدولة …والمراد من طموح المواطن…وبالقطع فقد أججت الثورتين الأوضاع ..وزادتها تأزما… بتوسيع الفجوة أكثر… بين المتاح والمرجو …. وكل هذا يصب في غير صالح المسئول… الذي يجد نفسه في صعوبات التوازن المستحيل أحيانا … وهو ما يظهره عادة بمظهر المقصر …أو يقلل من حجم إنجازاته….
وفي هذا السياق التمهيدي … من حق وزير التموين علينا أن نرفع له القبعة في العديد من إنجازات تحققت في عهده … على رأسها منظومة الخبز … وتلاشي طوابير العيش التي أقضت مضاجع البسطاء سنوات وسنوات…وأظهرتنا بمظهر التخلف والرجعية والوهن أمام العالم الخارجي ..خاصة ما أحيط بتلك الطوابير لمرتا ومرت من تطاحن وتشاجر وعنف أودى بحياة الكثيرين وأساء لنا كمجتمع وكدولة في نفس الوقت مرات ومرات….
ولكن…..
وعود إلى بدء…للوظيفة العامة نفسها… والتي يجب أن يتم تقدير أبعادها اليوم ، ليس فقط في ظل ما تعورف عليه عالميا لها، بل أيضا بقدر ما يراه مجتمعنا اليوم لها، ويتوقعه الناس منها…وخاصة أهلنا من ذوي الدخول المحدودة …وهم الفئة الأولى بعناية الدولة ، ورعاية كل مسئول فيها من أول رئيس الجمهورية ، وانتهاء بأبسط درجات العمل الإداري ….
نعم…..
المواطن المصري اليوم في أحوج ما يكون لإعادة صياغة مفهوم الوظيفة العامة…ليس فقط لكي تلبي له احتياجاته المادية، ولكن، وقبل المادية، لتلبي له احتياجاته المعنوية…. في مراعاة آدميته وتقدير أزماته في عيشه، واحترام إنسانيته في كرامته…
ولعل الفيصل في أهمية النوعين من الاحتياجات هو نفسه معيار النجاح الذي يقاس به عطاء القيادة التنفيذية..من حيث نجاحها او توفيقها في تلبية حاجة الناس…
وبالقطع فالنجاح في تلبية الحاجات المادية يظل له القيمة الأكثر وقعا على نفوس الناس…ولكن هذا التوفيق ، وفي ظل ظروف مصر الراهنة، عليه كثير من علامات التشكك وعدم اليقين، لصعوبة الوضع الاقتصادي ، وتعثر الصناعات وتراجع الإنتاجية، ونمو المطالب، وكثرة النسل في غير تعقل أو سيطرة، إضافة لما تعانيه البلاد أصلا من رواكد المشكلات المزمنة، من بطالة وتضخم وتفشي عدم الشفافية، والفساد والمحسوبية في ربوع الجهاز الإداري المهلل للدولة إضافة لتردي صناعة السياحة وارتفاع الدولار وغيرها ….وهي في مجملها ظروف تخصم بالقطع من قدرة وأداء ونتيجة عمل أي مسئول كبير في الدولة اليوم….
كل هذه الظروف غيرها…تجعل من تحقيق إرضاء المواطن المصري ماديا هدفا صعب المنال…ويلزمه وقت طويل…تستمر فيه معاناة البشر …
وهنا تبين التلبية المعنوية لاحتياجات المواطن يا سيادة الوزير…..
وانتم في موقع الباحث عن إشباع مطالب البسطاء بفتات الأسعار ..وأنتم في معرض الكفاح المستمر لضبط موازين التسعير والأسعار التي ترتفع بلا عقل ولا رحمة لتثقل أكثر وأكثر كاهل البسيط من المواطنين وهم كثر…لا يقبل منكم أن تردوا على استنكار إنفاق الملايين على أقامتكم بمجرد أنها من حر مالكم …. بارك الله لكم فيه …وأكثر من ملايينكم بالحلال …
والتناقض هنا يا سيادة الوزير صارخ وصادم…وأنت وزير الغلابة والبسطاء… ويفترض أن تكون متحسسا لنبضهم وآلامهم التي تتزايد بكل قرش يزيد في أي سلعة مما يستهلكه الناس… هنا يأتي إنفاقكم تلك الملايين رسالة صادمة بأنك لست منهم…أو على الأقل لا تشعر بمعاناتهم…وإن كنت تقول بلغتك الفصيحة أحلى الكلام…لكن كلامك يا سيادة الوزير يفقد كل معنى له …وأنت تنفق هذه الملايين في أيام معدودة على إقامتكم الفاخرة…وهو حق لكم بلا ريب ..لكنه حق تنال من حدوده واجبات وظيفتكم العامة ..وخاصة وأنت وزير التموين والبطاقة والدعم والسعر المناسب للبسطاء والذي يجب أن يكون كل همك في وقتك وحياتك الراهنة أن توجد للبسيط من الناس منفرجا ومخرجا من ضيقهم…
كنت أتمنى يا سيادة الوزير بدلا من أن ترد بأنك تمارس حقك وبفلوسك …أن تعتذر ..وأعلم أن ما قمت به ابتداء ليس بذنب..لكنه بمعيار احترام المشاعر وتقدير حالة الضنك التي يمر بها ملايين المصريين أن تكون أكثر حكمة في تبرير إنفاقك لتلك الملايين على أقامتك الفاخرة….في الوقت الذي يحار فيه البسيط من الناس في تلبية احتياجات الحياة الرئيسية…
ولا أستطيع أن أجبرك على فكرة التبرع والتضحية ببعض ملايينك المستحقة لكم…وهي حق لكم… ولكن أليس من الأجدى والأسرع والأخلص وصولا لقلوب هؤلاء البسطاء أن تتبرع ولو بنصف هذا المبلغ لدعم إحدى مصارف الوزارة الموجهة السيطرة على غول الغلاء..وهنا ستتحول من مجرد وزير يستمتع بحر ماله و ملايينه الوفيرة، إلى رجل دولة رحيم…يشعر بآلام الناس ويعيش بينهم بوقته وبماله؟ ….
وهل غابت عنك رسالة الرئيس السيسي الذي تبرع بنصف ثروته يوم أصبح رئيسا…وبصنف راتبه في رئاسة مصر، ليعطي نموذج القدوة لكل مسئول يليه في العطاء والعمل على تحسين الأوضاع العامة للمصريين بكل ما هو متاح للمسئول ، وعلى قمته رأس ماله الخاص؟
ثم إننا يجب أن نسألك يا سيادة الوزير … هل انتهيت من معالجة القصور الإداري والتسرب المالي في أروقة الوزارة والشركات التابعة لها والتي تترد حولها الكثير من الصور السلبية التي لو صحت ربما شكلت جرائم جنائية لها وزنها في إهدار المال العام؟ وبالقطع ليس أولها ولا آخرها قضية أهدار المال العام في الصوامع ؟
نعم يا سيادة الوزير ….
من حقك أن تنفق ملايينك كيف شئت…لو أنك مواطن عادي..ولكن لأنك موظف عام..ولأنك وزير …ولأنك وزير التموين تحديدا …عليك ألا تهدأ ولا يهنأ لك مقام حتى ترى وزارتك على قلب رجل واحد…تعمل لخدمة الناس بما لديكم من الطاقات والأموال والملكات..وقد نقيت من رواسب الفساد الإداري والمالي …وقد وصلت لكل بيت مصري في أقاضي ربوع البلاد…
وهنا …وهنا فقط…يكون من حقك أن تنعم بملايينك وعلى الملأ..دونما توقع للوم أو حسد أو همز أو لمز….
ولكن قبل ذلك يا سيادة الوزير … ليس من حقك أن تفعل ذلك..من الناحية الأخلاقية على الأقل… مراعاة واحتراما لمشاعر الملايين من المصريين الذين ليس لديهم ملايينك من الجنيهات ليقيموا معك …ولا حتى لديهم الملاليم الكافية …لكي يسدوا رمقهم ويطعموا أولادهم…
المصريين يحتاجوا إلى نموذج المسئول القدوة لكي نحتذي به في مسلكه العام على الأقل …وما هو شخصي يظل شخصيا طالما احتجب عن العامة..أما لو كان على الملأ..وجب التدقيق ومراعاة الناس …
وأنا على يقين أن المصريين لديهم القدرة المدهشة على تحمل كل الصعاب التي تقتضيها المرحلة الراهنة…لنعبرها معا إلى بر الاستقرار والأمان…لكن ذلك لن يحدث إلا بشراكة مسئولة من كل صاحب مقعد عام … يعطي بها المثل والقدوة على العطاء وتقدير الآخر ..واحترام أوضاع مجتمع في خطر ….
حما الله مصر من غول الغلاء…وقهر البلاء… وجهل الأصدقاء … وعقوق الأبناء

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى