علاقة الكتاب المقدس بالإرهاب الأمريكي في العالم الإسلامي
أثبتت العديد من الوقائع والأحداث زيف الشعارات التي انطلقت من خلالها الحربين الأمريكيتين على كلِ من أفغانستان والعراق, فأمريكا التي أعلنت حربها على هذين البلدين, تحت ذريعة القضاء على ما سمته بالإرهاب في أفغانستان, وإزالة أسلحة الدمار الشامل في العراق، وإنقاذ شعبي العراق وأفغانستان من نظاميهما الدكتاتوريين, قامت بممارسة مختلف جرائم الحرب في هاذين البلدين, وتجسد ذلك بوضوح من خلال عمليات الإبادة الجماعية التي قامت بها القوات الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في هذين البلدين.
إلا أن الغريب في الأمر، هو أن جميع تلك الجرائم التي قامت بها القوات الأمريكية في أفغانستان أو العراق، إضافة إلى مساعيها لتأجيج الصراع في سوريا الذي ذهب ضحيته أكثر من ربع مليون انسان[1]لم يقابله أي استنكار جاد من قبل المجتمع الأمريكي ومؤسساته المدنية أو الدينية، مما يدفعنا نحو التساؤل عن إمكانية وجود أي جانب إنساني أو أخلاقي في هذا المجتمع الذي لم يزل يتغنى حتى الآن بشعارات الحرية وحقوق الإنسان، ويقوم ولا يقعد إذا ما تم التعدي على حقوق حيوان مستأنس يسير بأمان في أحد شوارعه, في الوقت الذي تقتل فيه آلته العسكرية مئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ، دون أن يبادر حتى بتقديم اعتذار إلى أهالي هؤلاء الضحايا.
إن السر وراء هذه الازدواجية الأخلاقية يتعلق بشكل أساسي بالعقيدة المسيحيةالأمريكية, تلك العقيدة التي تبلورت من خلالها هوية الأمريكيين وقيمهم الاستثنائية، فقد هيأت نصوص الكتاب المقدس المسيحي , التربة الخصبة التي استمد منها المسيحيون الأمريكيون ثقافة العنصرية والعنف المقدس, القائمة على إباحة سفك دماء الآخرالمختلف عنهم عرقياً وعقائدياً, باعتبارهم أمة اختارها الرب لتنفيذ قضاءه المبين في كتابهم المقدس المحرف.
وهذا ما تنبه إليه “بول جيرسيد” الكاتب الأمريكي في شئون الأديان, بقوله : “إن اللجوء إلى الكتابالمقدس لحل مشكلة سياسية, هو استغلال للكتاب المقدس دون حس تاريخي أو شعوربالمسئولية”.[2]
إن المسيحية التي نعرفها اليوم وتحديداً في الولايات المتحدة، ليست هي النصرانية التي جاء بها عيسى عليه السلام, بل هي مسيحية بولس الصهيونية المسيانية, فالنصرانية ليست سوى عقيدة روحية تعبدية, لا ترتبط بأيٍ من مفاهيم الصراع والحرب, وهذا ما جعل كتاب العهد الجديد -الإنجيل المحرف-يخلوا من المفاهيم المتعلقة بالحرب – باستثناء سفر يوحنا، على العكس من أسفار العهد القديم، التي يمجدها الإنجيليون– غالبية المسيحيين الأمريكيين- أكثر من تمجيدهم لإنجيل العهد الجديد، حيث جاءت هذه الأسفار مكتظة بتفاصيل الملاحم، والحروب الدموية، سواء تلك التي سبق وأن قادها “يهوه” أو “رب الجنود” بنفسه على أرض المعركة، أو تلك التي أكد بأنه سيشرف عليها بنفسه في نهاية التاريخ , بعد أن شرح إستراتيجيتها الدموية في هذه الأسفار المحرفة, وأمر أتباعه بتطبيقها.
(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُون)[3]
بالتالي فإن الإرهاب المقدس والمذابح الأمريكية الجماعية التي تجلت بوضوح بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبرهي نتاج لثقافة العنف المقدسة المستمدة من كتابهم المقدس, بل ربما أن العنف الذي يمثله هوذا أو يهوه في أسفار العهد القديم, لم يصل الإرهاب الأمريكي إلى مستواه بعد, حيث إن يهوه عادةً ما يلجأ إلى التفنن بذبح الشيوخ, والنساء, بل حتى أطفال بابل -العراق الحديث- لم تسلم رؤوسهم من سحقها بالحجارة على يديه. حيث يقول في مزمور (137) “يا بابل المخربة طوبى لمن يمسك أطفالك ويهشم على الصخرة رؤوسهم”. كما أن الكتاب المقدس يتضمن العديد من استراتيجيات التنكيل والإبادة الشاملة، التي يطلب يهوه من جنوده تطبيقها، ومنها حرق البشر, والبهائم، والزرع، وجميع الممتلكات المادية. ومن ذلك ما ذُكر في سياق اقتحام أريحا, حيث جاء في الإصحاح (6) من سفر يشوع (وحرِّموا كل ما في المدينة من رجل، وامرأة، من طفل، وشيخ، حتى البقر, والغنم، والحمير بحد السيف ! وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها. . راحاب الزانية فقط تحيا هي وكل من معها في البيت !).
كما تظهر وعود هوذا الدموية تجاه الأمم الوثنية – الغير مسيحية أو يهودية – في نهاية التاريخ, من خلال ما تنبأ به أشعياء في الإصحاح (24) من سفره, بقوله : “لأن للرب سخطاً على كل الأمم، وحموا على كل جيشهم، قد حرّمهم دفعهم إلى الذبح, فقتلاهم تطرح، وجيفهم تصعد نتانتها، وتسيل الجبال بدمائهم[4]“.
إن الحروب التي يوثقها الكتاب المقدس أو يتنبأ بها في آخر الزمان، تفوق ببشاعتها مفهوم إهلاك الحرث والنسل, وهذا ما نراه واقعاً اليوم في الحروب المقدسة التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية باسم الكتاب المقدس, والتي كانت نتيجتها حتى العام 2002م فقط – بحسب إحصائيات وزارة الصحة العراقية – إزهاق حياة ما يزيد عن مليون ونصف المليون طفل عراقي جراء الحصار واليورانيوم فقط، دون أدنى أسف[5], لا من قبل الحكومة الأمريكية ولا من قبل رأيها العام، على الرغم من أننا نتحدث . عن قتل عدد من الأطفال يفوق أضعاف عدد ضحايا هيروشيما وناجازاكيمجتمعتين, دون الأخذ بالاعتبار أعداد الضحايا الذين خلفتهم حرب بوش الابن الأخيرة, ثم يخرج إلينا شخص كهنتنجتون بنظرية عالمية يدعي من خلالها بأن الإسلام ذو حدودٍ وأحشاءٍ دموية!.
وقد جسدت “مادلين أولبرايت” القالب الفكري “لثقافة” العنف العقائدي الأمريكية من خلال ردها على سؤال مراسلة شبكة CBSالأمريكية, في 11/5/1996م، عن ما إذا كانت نتيجة حصار العراق تستحق موت نصف مليون طفل عراقي ؟ حيث كانت أجابتها : “اعتقد انه كان خياراً صعباً, لكن: نعم, أنا أعتقد أن النتيجة تستحق هذا الثمن”.[6]
إن الخطير في الأمر أن هذا الإرهاب أو ما يسمى ب”الإنجيلية العسكرية” ليس مجرد إيديولوجية شاذة في المجتمع الأمريكي، بل هو في الواقع إيديولوجية تتبناها العديد من المؤسسات الإعلامية, والمنظمات الرسمية, والأهلية المتخصصة في صناعة العنف المقدس, وغرسه في ثقافة وفكر الجيل الجديد الذي يعتبر أصلاً مهيئاً جينياً لتقبل فكرة إبادة الآخرين.
وقد انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة خطيرة في المجتمع الأمريكي, تتمثل في ظهور عدد من المنظمات التي تتولى مهمة تأصيل العنف المقدس في عقلية صغار الأطفال الأمريكيين, ومنها على سبيل المثال, مؤسسة لتدريب الأطفال تسمى “معسكر يسوع” وقد تم تناول هذا المعسكر من قبل فِلموثائقي بعنوان ” أطفال على نار” وحاز الفلم على جائزة الأوسكار في العام 2007م .[7]
وقد عرض الفيلم مقاطع لمديرة وصاحبة المؤسسة القس “بيكي فيشر” وهي تصرخ لمئات الأطفال:- “يجب أن نصلح العالم”. كما نُقل لها بعض المقاطع، التي قالت فيها : ” في فلسطين يأخذون أطفالهم لمعسكرات مثل هذه، لكنهم يضعون في أيديهم قنابل يدوية. . أريد أن أرى هؤلاء الأطفال يموتون من أجل الإنجيل، كما يموت الأطفال في فلسطين وإسرائيل وباكستان ومناطق مشابهة” ومما قالته كذلك : “لابد لهؤلاء الأطفال أن يشاركوا فيما يفعله الرب حاليا. . إما أن نقدم لهم علاقة متطرفة مع الرب. . وإما سيجدونها في أماكن أخرى.[8]
وقد نقل الفيلم حديثاُ لبعض الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين سن السابعة إلى الثانية عشرة تقريباً، يوضح مدى ما تقوم به مثل تلك المؤسسات من ترسيخ للعنصرية الدينية في أذهان الأطفال الأمريكيين، حيث كان مما قالوه :-
- “عندما أرى شخصاً غير مسيحي أشعر أن هناك شيئاً يثير الاشمئزاز”.
- ” يتم تدريبنا لنكون جنود في جيش الرب، ولتنفيذ إرادته”.
- ” أشعر بأننا الجيل الأهم لعودة المسيح إلى الأرض. .نحن الجيل الذي يجب أن يكون على أهبة الاستعداد”.
وعلى الرغم من خطورة مثل هذه المنظمات الإرهابية الحديثة التي لم يسلم منها حتى الأطفال، فإن دورها لا يعدو أن يكون دوراً تكميلياً لدور الكتاب المقدس، إضافة إلى أن الجيل الحالي يعد جيلاً مهيئاً وراثياً لتقبل فكرة العنف المقدس والعنصرية المتطرفة ضد الآخر، حيث إن جذور التطرف المقدس تعود إلى “الآباء الأمريكيين الأوائل” الذين قاموا بعملية إبادة شاملة للهنود الحمر باسم المسيح عليه السلام .
إن المتتبع للسياق التاريخي للثقافة الأمريكية منذ اللحظة الأولى التي اكتشف فيها كولومبوس ورفاقه القارة الأمريكية، يجد أن الثقافة الأمريكية تغذت على تراث ديني مقدس يتضمن أبشع صور العنصرية العرقية، والطائفية، والقومية في التاريخ البشري، وذلك بناء على عقيدة التفوق العرقي والاختيار الإلهي ، والتي أعطى من خلالها الأمريكيون لأنفسهم الحق في احتلال أراضي وخيرات الشعوب الغير منتمية للمسيحية البيضاء الأوروبية، بل وسفك دماء أبنائها أيضا.
وفي هذا يقول المؤرخ الديني روبرت بيلا معلقاً على ظاهرة العنف المقدس:- ” لقد استعمل تصور أمريكا الذاتي على إنها إسرائيل الله منذ البداية، تبريرا لأكثر الأعمال وحشية.[9]كما يقول الكاتبوالمحامي الأمريكي الشهير “جوناثان كتاب”:- “إن الأمريكي العادي يجد ميثالوجيته جذابة جداً، فهي ليست متطلبة، كما أنها ليست ديانة معقدة، إنها ديانة إسرائيل الصغيرة البالغة القوة، إنه يتقاطع بين السوبرمان وحرب النجوم، إنه إله ينتقل من هنا إلى هناك بسيف ناري يدمر كل الأعداء، إنه دليل لضعاف الإيمان بأن الإنجيل لا يزال صادقاً وحياً بالنسبة إليهم. إن الأمر يبدو وكأن “يوشع” موجود في أخبار الصحف اليومية”.[10]
وعلى الرغم من عظم نزعة العنف العنصرية الأمريكية بشكل عام, إلا أن هذه النزعة تصل لأعلى درجاتها عندما يتعلق الأمر بـ”الكنعانيين”, أو نسل كنعان بن حام, وهم العرب, فهؤلاء بحسب كتابهم المقدس يحتلون درجة متدنية في سلم البشرية, ليس من الناحية الحضارية فحسب, بل من ناحية العرق البشري والطبيعة الآدمية, وهم يندرجون تحت عدة ألقاب يطلقها الكتاب المقدس عليهم, مثل الكنعانيين, والإسماعيليين, والأدوميين, والعماليق, والحوريين، وغيرها من الألقاب التي تسبغ جميعها على العرب.
إن كل من يؤمن بأن الكتاب المقدس هو كلمة الله كغالبية المسيحيين واليهود ,يدرك بأن التعدي على العرب وأراضيهم وممتلكاتهم، هو أمر حبذه الكتاب المقدس ولم يشرعه فحسب، وذلك بحسب نصوص عديدة لا يمكن الإحاطة بها في هذه الدراسة، إلا إنه من الأهمية بمكان الاستشهاد ببعضٍ منها لبيان مستوى العنصرية التي يرسخها الكتاب المقدس في ذهنية الإنجيليين بشكل عام والإنجليين الأمريكيين على وجه الخصوص, ومن ذلك إحدى نبوءات نهاية التاريخ –هذه الفترة- التي يتضمنها الإصحاح (23) من سفر الخروج, في وصية الرب لموسى عليه السلام بحد زعمهم:-
(فإن ملاكي يسير أمامك ويجيء بك إلىالأموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويينواليبوسيين, فأبيدهم. لا تسجد لآلهتهم ولا تعبدها ولا تعمل كأعمالهم، بل تبيدهم وتكسر أنصابهم. وتعبدون الرب إلهكم ,فيبارك خبزك وماءك وأزيل المرض من بينكم. لا تكون مسقطة ولا عاقر في أرضك، وأكمل عدد أيامك. أرسل هيبتي أمامك وأزعج جميع الشعوب الذين تأتي عليهم وأعطيك جميع أعدائك مدبرين. وأرسل أمامك الزنابير.فتطرد الحويينوالكنعانيين والحثيين من أمامك. لا أطردهم من أمامك في سنة واحدة لئلا تصير الأرض خربة فتكثر عليك وحوش البرية. قليلاً قليلاً أطردهم من أمامك إلى أن تثمر وتملك الأرض. واجعل تخومك من بحر سوف إلى بحر فلسطين ومن البرية إلى النهر. فإني ادفع إلى أيديكم سكان الأرض فتطردهم من أمامك. لا تقطع معهم ولا مع آلهتهم عهداً. لا يسكنوا في أرضك لئلا يجعلوك تخطئ إلي.إذا عبدت آلهتهم فإنه يكون لك فخاً”
إن جميع الشعوب التي ذكرت في النص السابق تعود للنسل الكنعاني أي العربي، على الرغم من أنه كان يكفي لكاتب النص اختصار كل هذه السلسلة من الأنساب العربية بكلمة الكنعانيين، إلا إنه ربما ذكرها واحدةً واحدة من باب التأكيد كي لا يلتبس المعنى على القارئ.
وعلى الرغم من أن المخاطَب هنا هو موسى عليه السلام ,إلا أن النصوص لم تكن أبداً عائقاً أمام الإنجيليين، فما يعدونه كلاماً منزلاً حرفياً من قبل الرب، سرعان ما يتم تحويره وفقاً لأهوائهم، حيث أسقطوا شخصية يسوع على الملاك الذي يبيد كل تلك الأقوام العربية, فالملاك هو رمز للمسيح الذي سيقودهم إلى أورشليم العليا في نهاية التاريخ “ومخالفة المسيح خطيرة[11]” كما يقول القس أنطونيوس فكري .
يقول القس البريطاني “مايكل بريور” في كتابه “الكتاب المقدس والاستعمار” بأن بعض تأويلات الكتاب المقدس اكتسبت أبعاداً عنصرية حين تم توظيفها استعمارياً في إبادة شعوب أخرى بامتداد تاريخي من أمريكا الجنوبية إلى فلسطين ,كما ذكر بأن “ترحيل العرب الفلسطينيين عام 1948م صدر عن تفسير “ساذج” للكتاب المقدس ولهذا السبب طالب بإخضاع أي أفكار تدعو إلى تدمير البشر تحت ذرائع إلهية لتحليل أخلاقي”.[12]
وقد أشار بريور إلى أنه لم يكتشف طبيعة السياسات الإسرائيلية إلا في مطلع الثمانينيات, حيث أدرك أن هذه السياسة تهدف إلى قيام إسرائيل الكبرى كهدف نهائي للصهيونية” وبعد ذلك كما يقول “فهمت البعد الديني للصراع, حيث كان الصهاينة يربطون بشكل وثيق بين النشاط الاستعماري ونصوص الكتاب المقدس، وتراث الكتاب المقدس بشأن الأرض والتشجيع لإبادة السكان الأصليين”. وقد دعا بريور إلى “ضرورة قراءة الكتاب المقدس من وجهة نظر الكنعانيين بناءً على مبادئ المصداقية الأخلاقية” .[13]
لقد اعتبر الكنعانيون بالنسبة للمؤمنين بحرفية الكتاب المقدس, ملعونين منذ بداية التاريخ إلى نهايته, أو منذ لعنة نوح عليه السلام بحسب ما تم تضمينه في كتابهم المقدس, حيث جاء في سفر التكوين الإصحاح التاسع “ملعون كنعان عبد العبيد يكون لأخوته ,مبارك الرب اله سام وليكن كنعان عبداً لهم, ليفتح الله ليافث –أب الأوروبيين-* فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبداً لهم”.
إن معنى عبد العبيد في الكتاب المقدس يعني “أحقر العبيد” لا مجرد عبد فحسب، ولهذا فإن أناساً يصفهم المرجع الديني الأساسي للإنجيليين بتلك الأوصاف, لا شك وأن تكون دماؤهم أرخص بكثير من أن تحقن على حساب الخطة الإلهية وعودة المسيح. ويدعي بعض القساوسة بناءً على النص السابق, بأن استعباد سام لأخويه “كنعان ويافث” حصل في العهد القديم مصداقاً لدعوة نوح عليه السلام, وأن استعباد يافث لأخويه “كنعان وسام” تحقق من قبل اليونانيين والرومان الذين هم نسل يافث، وكما أن الله لم يلعن إلا نسل كنعان كما يدعون, فإنه بارك سام ونسله, ويستدلون على ذلك بخروج المسيح من صُلبه, ومن قبله “إبراهيم وإسحق, ويعقوب, وداود, أباء المسيح بالجسد”.[14]
أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَوَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)*
أما دعوة نوح بأن يفتح الله ليافث ويوسع مساكنه, فيؤكدون تحققها من خلال استدلالهم بحال نسله الذي ملأ أوروبا وكثيراً من آسيا, ثم القارتين الأمريكيتين واستراليا[15].ولكنهم مع كل هذا التحوير والاجتهاد, لم يقدموا تفسيراً لتسيد نسل كنعان “عبد العبيد” على العالم كله بعد مجيء محمد عليه الصلاة والسلام, رغم أن عروش ملوك نسل يافث وأباطرتهم كانت تهتز بمجرد ذكر مسماه أو مسمى أتباعه.
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)
وقد ذكر بعض الباحثين بأن لعنة نوح لكنعان استغلت في العصور الوسطى, وخلال الحملات الصليبية على العرب المسلمين, ولتبرير إبادة الأمريكيين للهنود الحمر واستعباد السلالات الأفريقية, ثم هاهي تستغل اليوم في حروب أمريكا على العالم الإسلامي ورفع شأن الإسرائيليين الذين هم نسل سام بحسب ما يصورهم الأمريكيون الإنجيليون, متجاهلين أن الإسرائيليين الحاليين غالبيتهم من الخرز الذين انحدروا من مناطق في شمال تركيا والأراضي المحيطة بها.[16]
لقد وصل مقدار العنصرية في كتابهم المقدس المحرف إلى مدى لم تبلغه حتى الكتب الوضعية, حيث لم يكتف هذا الكتاب بلعن العرب والتحريض على قتلهم فحسب, بل قام بإسقاط الصفات الحيوانية على خَلْقهم وخُلُقهم, فالعرب الإسماعيليون بحسب الكتاب المقدس, هم قوم تطغى عليهم النزعات الحيوانية, لأنهم من نسل إسماعيل عليه السلام الذي لم يشمله الوعد الإلهي لأن ربهم قضى عليه بحد زعمهم بأن يكون هو ونسله مستوحشين كحمار الوحش!.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)
حيث جاء في الإصحاح (16) من سفر التكوين، أنه عندما أمر ملاك الرب هاجر عليها السلام بعد هروبها من قسوة سيدتها سارة عليها السلام بأن ترجع لسيدتها وتخضع لها, بشرها بإسماعيل “أب العرب” بقوله: “أنتي حُبلى وستلدين ابنًا فتسمينه إسماعيل، لأن الرب سمع صراخ عنائك. ويكون رجلاً كحمار الوحش، يده مرفوعة على كل إنسان، ويد كل إنسان مرفوعة عليه ،ويعيش في مواجهة جميع إخوته” وجاء في ترجمة (العالم الجديد) الأمريكية “وإنه يكون حماراً وحشياً بشرياً، يده تكون على كل واحد، ويد كل واحد عليه، وفي وجه كل إخوته يسكن”.
ولذلك فلا عجب أن يعتبر العرب في الأوساط الأمريكية بأنهم عدوانيون وبرابرة بالضرورة, فهم أبناء الجارية “المستوحشة” كما يطلق على هاجر عليها السلام في مواضع عديدة في الكتاب المقدس, ولهذا نجد أن أوصافاً كالهمجيين أو الوحشيين أو البرابرة هي نعوت كثيراً ما يطلقها الأمريكيين على العرب في وسائل إعلامهم المختلفة خصوصاً بعد أحداث سبتمبر, بل إن أفلام هوليود منذ القدم لا تقدم العرب إلا من خلال هذا القالب المبتذل.
وبما أن الكتاب المقدس نفسه قضى بأن تبقى ذرية إسماعيل في حالة صراع مستمر مع الآخر. فمن الطبيعي أن لا ينعت بالإرهاب سوى العربي أو المسلم, ومن الطبيعي كذلك أن تسترخص دماء العرب وأرواحهم من قبل الغرب, والأمريكيين منهم على وجه الخصوص, فماذا ستجني البشرية من نسل وحشي ملعون من أوله إلى آخره, غير الإرهاب وسفك الدماء. فقد قضى الرب على الأدومي منذ بداية التاريخ بأن يكون رجلاً كحمار الوحش, و”يده مرفوعة على كل إنسان”.
إن لفظة “أدوم” التي تمثل العرب من ناحية نسل عيسو, وتعد أكثر الأسماء شيوعاً في الكتاب المقدس, تترجم وفقاً لقاموس الكتاب المقدس على أنها تعنى”دموي”, وهذه طبيعة إبليس الذي”كان قتالًا للناس منذ البدء كما يرون”فـ”أدوم” بالنسبة لهم يمثل إبليس, بكونه “سافك دم وقتالاً للناس يربطهم بالأرضيات ويسحب قلوبهم عن السماويات.. لهذا لكي يملك الرب يلزم أن يرتد عمل إبليس علي رأسه فتهلك مملكته ويخلص المأسورين تحت سلطانه، وما يحدث لإبليس ليس نقمة إلهية إنما هو ثمرة طبيعية لشره .[17]
لهذا ليس بغريب أن لا يناهض الشعب الأمريكي جرائم حكومته في العالم العربي, نظراً لأن تلك الجرائم من وجهة نظرهم ليست سوى ثمرة طبيعية لشر العرب وطباعهم الشيطانية, وأن ما يحدث لهم يعد قضاءً إلهياً لا يجب الاعتراض عليه, وبما أن هذا القضاء يعد شرطاً حتمياً لعودة المسيح وقيام مملكته الألفية “إسرائيل الجديدة”، فليذهب العرب إذن كلهم إلى الجحيم.
(..ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)*
لقد وصلت العنصرية في الكتاب المقدس إلى الحد الذي وصف فيه رب الإنجيليين “يسوع” العرب بالكلاب, وهذا ما أشار إليه الإصحاح الخامس عشر من إنجيل متى بكل وضوح. الذي جاء فيه رد يسوع على المرأة ال”كنعانية” التي استغاثته ليخرج شيطاناً تلبس ابنتها، وقد كان رد
يسوع “الرب” قاسياً انطلاقاً من كون المرأة كنعانية, حيث قال لها: “لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” وعندما سجدت له المرأة راجيةً أن يعينها قال لها : “ليس حسنا أن يُؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب. .فقالت نعم يا سيد والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. .حينئذ أجاب يسوع وقال لها : يا امرأة عظيمٌ إيمانك ليكن لك كما تريدين فشفيت ابنتها من تلك الساعة”
هذه هي الصورة التي يقدمها الكتاب المقدس لأتباعه عن العرب, ولهذا جاء في الإصحاح السابع من إنجيل متى “لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا الدرر للخنازير” وبالتالي فإن التعامل الذي تعامل به الأمريكيون مع المعتقلين العرب في سجن أبو غريب ومعتقل غوانتنامو لا يتعارض مع نصوصهم المقدسة وثقافتهم الدينية.
وهناك عدة نصوص تأمر بإبادة العماليق, ، والعماليق هو اسم يطلق على قبائل الكنعانيين والأموريين التي كانت تقطن الجزيرة العربية,وهم من ذرية “عمليق بن لاوذ بن ارم بن سام بن نوح”. وقد حكموا بلدانا كثيرة مثل البحرين، وعمان، ومصر، واليمن، وسورية، والحجاز، والعراق. كما يتفق العلماء والمؤرخون على نزول “العماليق” على هاجر عليها السلام بمكة المكرمة, بعد أن تدفق ماء زمزم من تحت قدميها، ويقال إن إبراهيم عليه السلام عندما رفع مع ابنه إسماعيل عليه السلام قواعد الكعبة، لم يكن هناك من القبائل سوى العماليق وجرهم..[18]
“وإذ يرفعُ إبراهيمَ القواعدَ من البيتِ وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم”[19]
وأمر إبادة أمة عماليق يتميز بطابع الديمومة, حيث طالب الكتاب المقدس–المحرف- بصريح العبارة، وفي عدد من المواقع، بملاحقتهم من جيل لآخر على مر الزمان, وحتى تتم إبادتهم عن بكرة أبيهم، حيث جاء في الإصحاح (١٦) من سفر التكوين :”رفع بنو عماليق أيديهم على عرش الرب–قبلتهم صهيون-فسيحاربهم الرب جيلا بعد جيل”. كما جاء في سفر الخروج الإصحاح (17) “للرب حربمع عماليق من دور إلى دور” أي على امتداد الزمن .أما الإصحاح (7) من سفر التثنية, فجاء فيه وقت الوثبة على أمة عماليق: “فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيباً لكي تمتلكها, تمحو ذكر عماليق من تحتالسماء. لا تنسَ”
إن نبوءات الكتاب المقدس التي تؤكد على ضرورة تدمير البلدان العربية وسفك دماء شعوبها, هي أكثر من أن يتم حصرها في هذا السياق, وتتطلب دراسة مطوِّلة وربما أكثر, نظراً لكونها تتضمن التفسير المنطقي لاسترخاص الغرب المسيحي عموماً, والأمريكي منه على وجه التحديد, لأرواح العرب والمسلمين ودمائهم, حيث بلغ عدد ضحايا الأمريكيين في الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرة ملايين القتلى من العرب والمسلمين دون حدوث أي ردة فعل من المجتمع الأمريكي توحي بتأثره من تلك الجريمة, فالكنعانيون ملعونين بحسب الكتاب المقدس, ولا يجب أن يبقى “بعد كنعاني في بيت رب الجنود”كما جاء في الإصحاح (١٦) –المحرف- من سفر زكريا عليه السلام.
ولهذا فقد اعتمد القس المخضرم جيري فالويل على نصوص الكتاب المقدس في تصديه للقلة القليلةمن معارضي حرب العرق أو من يجادل في أهميتها، من خلال قوله :” إن المسيحيين كانوا يجادلون بشأن قضية شن الحرب ضد قوى الشر منذ عقود طويلة لكن الإنجيل لم يلتزم الصمت بشأن هذه القضية حيث إنه في الوقت الذي يعتبر فيه رافضو الحرب أن السيد المسيح مثال للسلام غير المتناهي، يتجاهلون الراوية بكاملها التي وردت في الرؤية التاسعة عشر ويظهر فيها المسيح وفي يده سيف حاد يصعق به الأمم ويحكمهم ” ثم أضاف ” إن الإنجيل ينص على أن هناك وقتاً للسلم ووقتاً للحرب”.[20]
أخيراً يمكن التأكيد على أن السياسة الأمريكية التي اتخذت من العنف آلية أساسية لها خلال فترة بوش الابن, هي في الحقيقة تعكس ما جاء به الكتاب المقدس من نصوص تحض على الإرهاب المقدس, والاستخفاف بآدمية الغير, المختلف عرقياً ودينياً, وعليه يمكن القول بأن كل من يؤمن بالعصمة الحرفية لنبوءات الكتاب المقدس لنهاية التاريخ أو “يوم الدينونة”, من الأمريكيين أو غيرهم يرى في تدمير العرب والإسلام أمراً ربانياً, وهذا ما يفسر عدم رغبة الولايات المتحدة في تجنب الصدام مع الحضارة العربية والإسلامية.
“لأنه قد روي في السماوات سيفي. هوذا على أدوم ينزل وعلى شعب حرمته للدينونة. للرب سيفا قد امتلأ دما, أطلي بشحم, بدم خراف وتيوس, بشحم كلى كباش “!” لأن للرب ذبيحة في بصرة وذبحا عظيما في أرض أدوم. ويسقط البقر الوحشي معها والعجول مع الثيران، وتروى أرضهم من الدم وترابهم من الشحم يسمن. لأن للرب يوم انتقام، سنة جزاء من أجل دعوى صهيون” .[21]
[1]الحياة والموت في سوريابعد خمس سنوات من الحرب، ماذا تبقى في البلاد؟، البي بي سي، ١٥/٣/٢٠١٦، http://www.bbc.co.uk/
[2]انظر : شعبان , فؤاد , مصدر سابق , ص316 .
[3]سورة البقرة، الآية (٧٩)
[4]انظر :يهوه يسكب سخطه على الأمم , مكتبة برج المراقبة الالكترونية , الموقع الالكتروني لمنظمة شهود يهوه المسيحية الأمريكية . wol.jw.org
[5]انظر : وفاة 1.65 مليون طفل عراقي بسبب الحصار واليورانيوم , مصدر سابق .
[6]CBS News . Madeleine Albright justifies the deaths of 500,000 Iraqi children as worth it, 12/5/1996. [Video file] . YouTube Channel : Police State USA . https://www.youtube.com
[7] : Jesus Camp , Journal of Religion and Film , Vol. 11,2/10/2007, Web site: University of Nebraska at Omaha. https://www.unomaha.edu.
[8] معسكر يسوع , 9/5/2007 , ملف فيديو على قناة يوتيوب : الإسلام والعالمwww.youtube.com/watch?v=UDZI0L8df
[9]انظر : شعبان فؤاد , مصدر سابق, ص54 .
[10]هالسل , جريس , النبوءة والسياسة , مصدر سابق , ص63 .
[11]انظر : فكري, أنطونيوس , تفسير سفر الخروج 23 , كنيسة الأنبا تكلا هيمانوت الحبشي القس . http://st-takla.org
[12]انظر : باحث يشكك ببعض أسماء الله.. و”تأويل استعماري” للكتاب المقدس , العربية نت , 1/11/2010م . http://www.alarabiya.net/
[13] المصدر نفسه .
* بحسب “المراجع التوراتية” يعد يافث أحد أبناء النبي نوح عليه السلام , وهو أبو القوميات والأجناس الأوروبية . أنظر : درويش, هاني , تاريخ الاستشراق.. الذي لم يكن يوماً إلا في المخيّلة المركزية الأوروبية التي يؤكدها بن لادن ورفاقه , جريدة المستقبل اللبنانية , 15/7/2007م , العدد 2674 , ص12 .
[14]انظر : أسرة القديس مار بطرس الرسول, الموقع الرسمي لكنيسة الشهيد العظيم مارجرس. http://stgergesgioshy.com
* سورة البقرة , الآية (133-134)
[15]انظر : المصدر نفسه .
[16]أنظر :فرطوشي , محمد , أحدث رسالة دكتوراة عن اليهود تحذر من شن إسرائيل حرب وشيكة على مصر , صحيفة الأهرام , 26/11/2012 .http://gate.ahram.org.eg
[17]أنظر : فهمي , انطونيوس , تفسير سفر أشعياء 34 , موقع كنيسة الانبا تكلا هيمانوت القبطية الأرثوذكسية . . www.St-Takla.org
*سورة آل عمران , آية (75)
[18]انظر : العساف , منصور , العماليق تاريخ الجبابرة لم يكتب له نهاية , صحيفة الرياض , 12/8/2011م , أنظر أيضا : الحربي , مريم , العماليق أول من سكن المدينة , صحيفة الوطن , 17/5/2013م . http://www.alwatan.com.sa/
[19]سورة البقرة , الآية (127) .
[20]انظر :الدقاقي , عادل , مصدر سابق .
[21] الإصحاح 34 من سفر أشعيا .