البرامج والمنظومات الديمقراطيةالدراسات البحثية

ديمقراطيات الغرب في خطر : عن التهديد الشعبوي للديمقراطية الليبرالية

اعداد : ياشا مونك – باحث دكتوراة بجامعة هارفارد

  • المركز الديمقراطي العربي

 

مع مطلع التسعينيات، ظهر إلى السطح جيل جديد من الشعبويين. قلبت هذه الحركات في أوربا والولايات المتحدة المنظومات الحزبية التقليدية على مدار العقدَين الماضيين، ونجحت في طرح أفكار لطالما اعتقدنا أنها متطرفة أو غير مناسبة سياسيًا. كان نمو نفوذ هذه الحركات مذهلًا في الأشهر الأخيرة تحديدًا.

منذ زمن الرومان، عاصر كل نظام سياسي يقيم انتخابات تنافسية نوعًا من أنواع الحركات الشعبوية، وهي محاولات بعض السياسيين الجامحين لحشد الجماهير في مواجهة نظام يرونه فاسدًا أو خادمًا لذاته فقط، من تيبريوس جراكوس و”البوبولارِس” (Populares) في المجلس الروماني، إلى أبطال “البوبولو” (Popolo) في فلورنسا الإيطالية في القرن السادس العشر المعاصرين لميكيافيللي، إلى اليعقوبيين في باريس في نهايات القرن الثامن عشر، إلى الديمقراطيين الجاكسونيين الذين اجتاحوا واشنطن في القرن التاسع عشر، كل تلك الحركات أسست محاولات حشدها الجماهيري على بساطة وخيرية العامة. بحلول منتصف القرن العشرين، أصبحت الشعبوية جزءًا اعتياديًا من الديمقراطية.

ولكن في الفترة التي شهدت نموًا اقتصاديًا هائلًا، وامتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية السبعينيات، نجحت النظم السياسية لمعظم الديمقراطيات الغربية في القضاء على منافسيها الشعبويين ليؤولوا إلى هامش الخطاب السياسي، على اليمين، ظهر الشعبويون بين الحين والآخر محليًا أو إقليميًا، ولكنهم سرعان ما كانوا يفشلون في تحقيق إنجاز يُذكَر في الانتخابات الوطنية، وعلى اليسار، كانت الحركات الاحتجاجية الثقافية في الستينيات والسبعينيات في مواجهة المنظومة، إلا أنها لم تؤمِّن تمثيلًا مؤسسيًا لها حتى انطفأت شعلتها.

كما لاحظ عالِما السياسة، سيمور مارتن ليبست وشتاين روكّان، تجمدت المنظومات الحزبية لأمريكا الشمالية وأوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية بشكل غير مسبوق؛ فتغيّرت بالكاد الأحزاب الممَّثلة في برلمانات أمستردام وكوبنهاجن وأوتاوا وباريس وروما وفيينا وواشنطن، بين عامي 1960 و1990، وهيمنت قبضة المنظومات السياسية الغربية لعقود على السلطة، حتى أن المتابعين لها توقفوا عن ملاحظة الاستقرار المذهل الذي تحقق، مقارنة بما اعتادته تاريخيًا.

بيد أنه مع مطلع التسعينيات، ظهر إلى السطح جيل جديد من الشعبويين، قلبت هذه الحركات في أوربا والولايات المتحدة المنظومات الحزبية التقليدية على مدار العقدَين الماضيين، ونجحت في طرح أفكار لطالما اعتقدنا أنها متطرفة أو غير مناسبة سياسيًا، كان نمو نفوذ هذه الحركات مذهلًا في الأشهر الأخيرة تحديدًا، ففي مايو، وصلت الأحزاب المناهضة لليورو وأحزاب اليمين المتطرف لقوة غير مسبوقة في انتخابات البرلمان الأوربي، بل وتصدّرت التصويت في فرنسا وبريطانيا، في نفس الوقت، أشعلت حركة الشاي في الولايات المتحدة حربًا أهلية داخل الحزب الجمهوري وكان آخر ضحايا الحرب زعيم الأغلبية بمجلس النواب “إريك كانتور” صاحب النفوذ الكبير الذي خسر الانتخابات الأولية في يونيو أمام منافس محافظ متطرف، وتستعد الحركة الآن لتحقيق انتصارات في انتخابات النصف في نوفمبر، ومن المرجح أن تعطّل الكونجرس مستقبلًا بأساليب العرقلة السياسية الخاصة بها.

حاول المنتمون للمنظومات السياسية الغربية شرح هذه الظاهرة الاحتجاجية بالنظر للأحداث الأخيرة، إذ يقولون بأن الأزمة المالية لعام 2008، والركود الكبير الذي تبعها، هما المحرّك الرئيس لهذا الاحتقان تجاه النظام القائم، ولكن هذا التفسير يتغاضى عن التحولات الانتخابية الجارية، فصعود الحركات الشعبوية الاحتجاجية ليس فقط نتاج أزمة، ولكنه نابع من تحديات بعيدة المدى قلّصت من قدرة الحكومات الديمقراطية على إرضاء مواطنيها، هذه التحديات تشمل ركود مستويات المعيشة وأزمات الهوية القومية، وهي تحديات لن تتلاشى في وقت قريب، حتى ولو شهدت الاقتصادات الغربية نموًا هائلًا في السنوات القادمة وهو أمر غير مرجح أصلًا، الحقيقة هي أن العقدين الماضيَّين يُعدان تحولًا شعبويًا، لا مجرد لحظة شعبوية، وهو تحول سيكون له أثر بعيد على السياسة والرأي العام لعقود.

لتفادي الضرر الشديد الذي قد تلحقه تلك الحركات بالديمقراطية، ينبغي على المنظومات السياسية على جانبيّ الأطلسي أن تبحث عن قنوات تمر عبرها الطموحات الشعبوية، للقيام بذلك، تحتاج الحكومات لإفساح المجال للشكاوى التي تقود هذه الموجة، بينما تقوم بإقناع الناخبين بأن الحلول البسيطة التي يقدمها الشعبويون مصيرها الفشل.

  • ليست مجرد حالة:

لعل العلامة الأبرز على انبعاث الشعبوية من جديد هو صعود حركة الشاي في الولايات المتحدة، كانت الحركة قد ظهرت لأول مرة على الساحة السياسية الأمريكية عام 2009، وكانت مدفوعة بخطر انتصار أوباما في الانتخابات الرئاسية عام 2008، وبالعداء الشديد لبرنامج الرعاية الصحية الذي دعا له، ولكن الحركة وسَّعت نطاق عملها ليصبح الهجوم على “الحكومات الضخمة”، في إشارة إلى دولة رفاهية مؤسسية كبيرة الحجم ترفضها الحركة، مقابل دولة ضئيلة أمام لاعبين كالسوق والكنيسة وغيرهما، وتستهدف الحركة الآن، ليس فقط الديمقراطيين، ولكن الجمهوريين الذين يعتقد أعضاء الحركة الأصوليون أنهم معتدلون بعض الشيء، نظرًا لنجاحها في دفع الجمهوريين أكثر للتطرف والراديكالية، أصبح لدى الحركة الآن نفوذًا في مجلس النواب يعطيها فعليًا القدرة على عرقلة المنظومة التشريعية الأمريكية بالكامل.

الشعبويون في طريقهم للحصول على نفس النفوذ على الناحية الأخرى من الأطلسي، إذ أحدث الشعبويون من مختلف الأطياف تحولًا في السياسة الداخلية لبلدان أوربا في العقود الأخيرة، وهم يهددون الآن وجود الاتحاد الأوربي ذاته، في النمسا، أثناء التسعينيات، كسب “يورج هايدر” القومي المحافظ المتطرف، تعاطف الملايين بهجومه على المهاجرين وخطابه الذي أخفى حنينًا للرايخ الثالث، أثناء العقد التالي، في هولندا، نال “بيم فورتوين” تأييدًا مخلصًا له عبر التحذير من المهاجرين المسلمين الذين يقوّضون التقاليد الهولندية الليبرالية.

في إيطاليا، مؤخرًا، نجح حزب الخمسة نجوم، الذي تأسس منذ بضع سنوات بقيادة”“بـَﭘـي جريللو” الكوميدياني السابق، في الحصول على ثالث أكبر نصيب من الأصوات في الانتخابات الوطنية العام الماضي، وذلك عبر خطاب استند لمطالب جريللو بأن “تذهب النخب السياسية إلى الجحيم”، في بريطانيا، حاز حزب استقلال المملكة المتحدة (UKIP) على النسبة الأكبر من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوربي في مايو، وذلك بحملة دمج فيها بين مطالب الانسحاب من الاتحاد مع خطاب معادي للمهاجرين القادمين من شرق أوربا، كانت هذه أول مرة منذ أكثر من قرن يتصدر فيها حزب غير العمال والمحافظين انتخابات بريطانية.

طمأن أعضاء المنظومة الأوربية أنفسهم بالاعتقاد بأن تلك الانتصارات الشعوبية ستتراجع حالما تتلاشى آثار الأزمة المالية وأزمة اليورو، ورُغم أن علماء السياسة حاولوا إثبات الفرضية القائلة بأن الركود الاقتصادي أو ارتفاع البطالة قد يؤثران مباشرة على قوة الأحزاب الشعبوية، إلا أن معظم تلك الدراسات لم تكن مقنعة، أحيانًا، في بعض البلدان وأثناء فترات معيّنة، تتزامن الأزمات الاقتصادية مع الظهور القوي للحركات الشعبوية، ولكن أحيانًا أيضًا، يفقد الشعبويون مؤيديهم أثناء فترات الركود، فكما يوضّح عالم السياسة الهولندي “كاس مودّه” حقق شعبويو اليمين الأوربي نتائج جيدة في انتخابات بلدانهم بين عامي 2005 و2008، أي قبل الأزمة المالية، لا تقِل عمّا حققوه أثناء الأزمة، بين عامي 2009 و2013، أي أنه رُغم آثاره الشديدة، لم يؤدي ركود 2008 إلى تحول ملحوظ: نمو القوة السياسية للأحزاب الشعبوية بدأ مع التسعينيات التي شهدت نموًا في واقع الأمر، واستمر صعودها بشكل مستقر منذ ذلك الحين.

  • أزمة هوية:

إذا لم يفسر التأرجح الاقتصادي قصير المدى صعود الشعبوية، فلابد وأن أسبابها الكامنة أعمق، بالفعل، يبدو أن هناك تطورَين أساسيَّين تزامنا مع صعود الشعبويين، يساعدان في تفسير نمط السياسة الشعبوية الذي تشكل في العقود الأخيرة: تراجع مستويات المعيشة من جيل لآخر، والخطر المزعوم على الهويات القومية الذي يشكله المهاجرون والمنظمات المتنامية العابرة للقوميات.
لطالما كانت الديمقراطيات الليبرالية الغربية رهينة صعود وهبوط الأسواق، ولكن بالنظر لكافة فترات الازدهار والركود التي خاضتها، ظلت هناك حقيقة اقتصادية ثابتة: فيما عدا لحظات الأزمات الشديدة، تمتّع المواطن العادي للديمقراطية الغربية، منذ اندلاع الثورة الصناعية، بمستوى معيشي أعلى من أبويه، كان المواطن العادي يتطلع إلى مال أكثر وحياة أطول وقضاء فترة أطول من حياته مرفَّهًا، لم يعد هذا ساريًا اليوم، طبقًا لمجموعة كبيرة من البحوث قادها اقتصاديون مثل توماس بيكَتي وإمانويل سايز، في معظم الديمقراطيات المتقدمة، ظل متوسط الدخل ثابتًا على مدار الخمس وعشرين سنة الماضية: في الولايات المتحدة، أورد مكتب الإحصاء متوسطًا أقل للدخل عام 2012 مقارنة بـ1989.

كما يبيّن علماء سياسة مثل جاكوب هاكر، وعلماء اجتماع مثل أولريش بِك، صاحب هذا التراجع في الدخل تراجع في الإحساس بالأمن، فالمواطن العادي لم يعد فقط يدر دخلًا أقل مما كان يدرّ الجيل السابق له، بل هو أيضًا أقل يقينًا تجاه دخله المستقبلي، وما إذا كان بمأمن من أي مخاطر مالية أو اجتماعية جديدة، ليس غريبًا إذن أن الكثير من المواطنين، لا يعانون فقط من تدهور اقتصادي، ولكن يزداد اقتناعهم بأن المنظومة السياسية خذلتهم.

خلال هذه الفترة من الركود الاقتصادي، كان على مواطني الديمقراطيات المتقدمة أيضًا أن يواجهوا تحديات تجاه هوياتهم القومية، فإثر عمليات التطهير العرقي والتهجير الجماعي التي جرت في النصف الأول من القرن العشرين، أصبحت معظم بلدان أوربا متجانسة بدرجة عالية، وحتى حين بدأ استقطاب أعداد كبيرة من المهاجرين بعد إنهاء الاستعمار والطفرة الاقتصادية في الخمسينيات والستينيات، لم يشكل هذا النزوح تهديدًا حقيقيًا للهويات القومية، لأن معظم الحكومات الأوربية قالت لمواطنيها إن من وصلوا حديثًا ليسوا سوى زوار سيعودون لأوطانهم بعد أن يحققوا مكاسبهم الاقتصادية قصيرة المدى.

ولكن هذا الوعد ما لبث أن فُضِح حين حصل ملايين المهاجرين على حق البقاء في البلدان الأوربية، وبدأوا في المطالبة بحقوق المواطنة الكاملة، لم يتقبّل الكثير من الأوربيين هذا الأمر، حتى بعد أن أصبح تعريف الانتماء لقومية أوروبية معيّنة أكثر شمولًا، أصرّ البعض على أن الألماني الحقيقي أو الطلياني أو السويدي.. إلخ هو فقط من شارك الألمان أو الطليان أو السويديين.. إلخ تاريخهم وهويتهم الإثنية، لطالما نجح الشعبويون في استغلال هذه التوترات، متعهّدين بحماية المنتمين “الحقيقيين” للوطن من الأقليات، التي تتعاون معهم النخب السياسية تحت الطاولة.

تمتّع المهاجرون إلى الولايات المتحدة وأسَرِهِم، بقبول أفضل كأمريكيين حقيقيين، نظرًا لتعريف البلاد لنفسها طويلًا باعتبارها وطنًا من المهاجرين، ولكن الشعبويين الأمريكيين أيضًا نجحوا في استغلال الإحساس بأزمة متعلّقة بالهوية، فنزوح الملايين من المهاجرين غير الشرعيين سمح لحركة الشاي بادعاء أن البلاد بدأت تفقد السيطرة على حدودها؛ أدى هذا إلى مخاوف في أماكن عدة من حدوث تحولات سريعة في التشكيلة الثقافية والديمغرافية: فبينما يتقبّل معظم الأمريكيين من أصول أوروبية فكرة انتماء مواطني الولايات المتحدة لمختلف الخلفيات الثقافية والإثنية، إلا أن البعض منهم أقل تقبُّـلًا لاحتمالية انتهاء هيمنة “البيض” على سياسة وثقافة الولايات المتحدة، فهؤلاء لا يروا أنفسهم في أشخاص كأوباما، أو رئيسة المحكمة العُليا سونيا سوتومايور، وصعود مثل أولئك “المُلوَّنـين” إلى أرفع المناصب في البلاد يعزز من تصوّر بعض الأمريكيين البيض بأن “واشنطن” أصبحت غريبة وبعيدة عنهم.

  • الأغلبية الصامتة:

قد يحاجج البعض بأن الأحزاب الشعبوية الصاعدة لا تجمعها مجموعة أهداف مشتركة كي نعتبرها جزءًا من حراك واحد، قد لا تجمع تلك الأحزاب، على جانبي الأطلسي وبداخل أوربا، مجموعة محددة من المقترحات السياسية بالفعل، ولكن الذي يجمعها هو مجموعة مخاوف تعبر عنها بلغة غاضبة في مواجهة المنظومة القائمة، والنخب السياسية التي تصونها.
يجسّد الشعبويون صوت الاستياء هذا، وبخطابات وجُمَل متشابهة بشكل لافت للنظر، فقد نُشر مانيفستو انتخابي مؤخرًا لحزب استقلال المملكة المتحدة، يَعِد “بالوقوف بجانب السكان والمجتمعات المحلية ضد سياسيي الأحزاب القديمة”، تشتكي “مارين لو بِن” زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي، من أن “الفرنسيين فعليًا لم يعد يستشيرهم أحد بشأن المسائل الكبرى التي تواجههم، من الهجرة إلى السيادة، والسبب تحديدًا هو النخب المتعولمة التي تحكمنا ولا ترغب في سماع صوتنا”، على الناحية الأخرى، في الولايات المتحدة، قالت “سارة بالين” مرشحة نائب الرئيس للحزب الجمهوري عام 2008، أن “خير أمريكا يكمن في هذه البلدات الصغيرة .. هذه الجيوب المذهلة لما أسميه أمريكا الحقيقية”، في مقارنة ضمنية بين هذه الأماكن العريقة وغيرها، باعتبارها أمريكية أكثر مقابل المدن متعددة الثقافات، تعددت الصياغات المحلية، والهم واحد.

بالفعل، الخُطَب الشعبوية المعادية للمنظومة تفشّت في الخطاب السياسي الغربي في السنوات الأخيرة، حتى أن بعض شعاراتها الشهيرة أصبحت كليشيهات، قد تختلف التفاصيل، ولكن الشعبويون كلهم يقولون بأن السياسات الحالية ترجح كفة أقلية بعينها على حساب الأغلبية، ويدعون بأن النخب تحظر حرية التعبير السياسي، عبر الأساليب الرسمية أو الضغوط الاجتماعية، ويلمحون إلى أن سبب هذا الحظر، هو أن المنظومة السياسية لا تريد لهم كأغلبية معرفة هوية الأقلية الحاكمة تلك، وإلى أي درجة تستفيد من السياسات القائمة، الآن وبعد طول انتظار، كما يقول الشعبويون، ظهر أناس مستعدون للوقوف من أجلهم على الساحة السياسية، وسيحاربون لأجل الأغلبية الصامتة عبر تشريع سياسات تصب في صالحهم.

  • أعداء الشعب:

رُغم التشابهات بين كافة الشعبويين، إلا أن كلمة “الشعبوي” هذه مجرد توصيف محايد، فليست كل حركة شعبوية مضرة بالديمقراطية بالضرورة/ وما إذا كانت تمثل خطرًا هو أمرٌ يعتمد على ماهية القيَم التي تستند إليها رؤيتها الشعبوية، يدعي الشعبويون أنهم يخدمون مصالح الأغلبية الصامتة بوقوفهم في وجه المنظومة الفاسدة التي تتعاون مع أقلية لا تستحق، ولكن كيف سيخدم الشعبويون بالضبط هذه المصالح؟ وأليس ممكنًا أن ينجروا إلى قمع الأقليات التي يهاجمونها؟

هذه المخاوف مهمة جدًا بالنظر إلى الشعبويين من اليمين، الذين يعتقدون بأن الأقليات مدللة وتتمتع بامتيازات كثيرة؛ مما يحوّل الموارد بعيدًا عن الأغلبية التي تعاني: تلك ادعاءات غير حقيقية ببساطة، في معظم الحالات، ففي أمريكا الشمالية وأوروبا، على سبيل المثال، تتراجع الأقليات الإثنية من حيث الدخل ومتوسط العمر وعدة مؤشرات اجتماعية أخرى، والسبب الرئيسي في ذلك – كما توضّح باستمرار الدراسات الاجتماعية – هو مواجهتهم لتمييز صريح في التعليم والعمل والسكن؛ سيؤدي هذا التباين بين الواقع وخطاب الشعبويين، حال ازدياد قوتهم، إلى تفاقم تلك المظالم عبر إعطاء المزيد لأغلبية ساخطة، مقابل حرمان الأقليات مما تستحق، وهي التي لا تملك أصلًا سوى القليل ماديًا واجتماعيًا.

ينتمي معظم شعبويو اليمين إلى واحد من أربعة أصناف، الأكثر شيوعًا ربما هم القوميون الشوفينيون، الذين يدعون أن النخب السياسية ليست فخورة ببلادها بما يكفي، وأنها تعتذر أكثر من اللازم عن أخطاء بلادها المرتكبة في الماضي، وتحتفي بشكل مبالغ فيه بالأقليات الدينية والإثنية.

في أوروبا، ألهمت القومية الشوفينية عددًا من الأحزاب الشعبوية، مثل حزب الحرية النمساوي، وحزب يوبيك المجري، وحزب الفجر الذهبي اليوناني، حتى ألمانيا، التي ازدرى فيها الجميع القومية نظرًا لتاريخ البلاد النازي، تحوّل فيها ثيلو سارّازين، العضو السابق بمجلس إدارة البنك الاتحادي (بنك ألمانيا المركزي)، إلى الشعوبية، ونجح في كسب مؤيدين لخطابه القومي الشوفيني، نشر سارّازين عام ٢٠١٠ كتيّبات حققت مبيعات عالية تقول بأن المهاجرين الأتراك إلى ألمانيا هم ببساطة أقل ذكاءً من الألمان، بسبب زواج الأقارب بشكل رئيسي، كتب سارّازين “تمتلك قبائل (تركية) كاملة تاريخًا طويلًا من زنا المحارم، ولكن هذا الموضوع يواجَه دومًا بصمت، عوضًا عن ذلك، قد يكون لدى البعض نظرة أن العوامل الجينية تفسّر جزئيًا سبب إخفاق العشرات من الأتراك في المدارس الألمانية”.

يركز نوع آخر من الفكر اليميني، ويُسمَّى بـ “التقليدية الشعبوية”، على الحفاظ على أنماط الحياة التقليدية التي يفضلّها أغلب المواطنين (كما يفترض أصحاب تلك الرؤية)، ورُغم أن العديد من التقليديين يُبدون أيضًا ميولًا قومية أو معادية للأجانب، إلا أن مخاوف معظمهم غالبًا ما تكون تجاه بعض إخوانهم من نفس الإثنية: المثقفين، الفنانين، الشواذ جنسيًا، وأي شخص نخبوي أكثر مما ينبغي في مقابل العامة وحيواتهم البسيطة، مؤخرًا، تمتعت التقليدية الشعبوية بصحوة مفاجئة في غرب أوروبا، وتبنتها أحزاب مثل حزب الفينز – الذي يروّج لهوية فنلندية مسيحية خاصة – وكذلك الكتل الشعبية التي ساهمت في حشد الملايين بشوارع فرنسا للاحتجاج على زواج الشواذ.

التقليدية من هذا النوع رائجة بالطبع في الولايات المتحدة، حيث جسدتها طويلًا سياسات اليمين الديني – وإلى حد ما حركة الشاي -، يمكن فهم حركة الشاي كنموذج لصنف ثالث من الشعبوية: الصنف المُعادي للدولة، ينقد معظم الشعبويين الدولة التي تقودها منظومة متعجرفة تحابي الأقليات والملحدين والمثقفين، ولكنهم يؤمنون أيضًا بأن للحكومة دورًا تلعبه في رفاهية مواطنيها، الشعبويون المعادون للدولة، على النقيض، يعتبرون الدولة نفسها التهديد الرئيسي لحريّتهم ونمط حياتهم، ويطمحون أن يكونوا أحرارًا قدر الإمكان من نفوذها المُفسِد، كما قال السيناتور الجمهوري “راند بول” مستلهمًا رونالد ريجان، في ردٍ على خطاب أوباما الاتحادي لعام ٢٠١٣ الذي تبنته مجموعات حركة الشاي: “الحكومة ليست هي الحل؛ الحكومة هي المشكلة”.

في أوربا، تتجسد معاداة الدولة في معاداة الاتحاد الأوربي، والتي تمثل قناعة بأن قوة الـ “يوروقراط” (بيرواقرطيو المؤسسات الأوروبية) المتزايدة في بروكسل تهدد حريات عامة الناس في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوربي، فكما قال “نايجل فاراج” زعيم حزب استقلال المملكة المتحدة، لرئيس القنصلية الأوروبية أثناء خطاب بالبرلمان الأوربي: “لا شك لدي في نواياك بأن تكون قاتل الديمقراطية الأوروبية، والدول القومية بأوروبا”، بدورها، هاجمت مارين لو بِن الاتحاد الأوروبي باعتباره “اتحاد سوفييتي أوروبي”، وتعّهدت بمنع “همينة قبضته على كل شيء”.

الصنف الرابع والأخير من شعبويي اليمين ابتعد بذكاء عن القومية والتقليدية ومعاداة الدولة، وطرح نفسه باعتباره مدافعًا عن القيم الليبرالية، في الولايات المتحدة، تتعالى الأصوات المحذِّرة من “زحف الشريعة” – حملة سرية يدّعي هؤلاء أنها تسعى لفرض الشريعة في الولايات المتحدة – وهي غالبًا أصوات محافظة تضع نفسها في مهمة الدفاع عن القيَم المسيحية، بالمقارنة، تتبنّى الإسلاموفوبيا التي انتشرت في أنحاء شتى بأوربا تحاملًا مماثلًا – على الشريعة – باعتباره دفاعٌ عن الليبرالية، يحذر هذا النوع من الشعبوية من المهاجرين المسلمين والنخب السياسية التي تحابيهم، وتهديدها لحريات المواطنين في العيش كما يختارون، فكما قال “فورتوين” السياسي الهولندي الذي كان صريحًا بشأن شذوذه الجنسي، والذي كان أحد المتحدثين باسم تلك الإسلاموفوبيا الليبرالية: “أنا أعتبر الإسلام ثقافة رجعية، لقد سافرت كثيرًا حول عالم، وأينما يحكم الإسلام، يكون الأمر مفزّعًا، ثم انظروا إلى هولندا، في أي بلد يمكن لزعيم حركة كبيرة ذي كتلة انتخابية مثلي أن يكون صريحًا بشأن شذوذه الجنسي؟”

مستلهمين مثل هذه الحجج، تكتّل الكثير من ليبراليي الإسلاموفوبيا خلال العقد الماضي عبر فرنسا وألمانيا والبلدان الإسكندنافية، وحتى كيوبِك الكندية، مهما تكن درجة كذب هذا التمسُّح بالليبرالية، إلا أن قدرة هؤلاء على تغليف تعصبهم بخطاب تسامح راقي يجعلهم الأخطر من بين المجموعات الشعبوية الموجودة اليوم.

  • وداعًا دولة الرفاهية:

على العكس من اليسار الجديد، الذي ساهم نقده الثقافي في تشكيل شعبوية الستينيات والسبعينيات، يركز شعبويو اليسار الصاعدون حاليًا على المسائل الاقتصادية، وعلى العكس من نظرائهم على اليمين، الذين يستند خطابهم لتهديدات مبالغ فيها أو مُفبركة، يركز اليساريون على المشاكل الحقيقية على الأرض: فساد الحكومات والشركات، والتفاوت الاقتصادي المتزايد، وتراجع الصعود الاجتماعي، وركود مستويات المعيشة، أبرز تجلٍ لهذا الفكر كانت حركة “احتلال وول ستريت” (occupy wall street) الاحتجاجية التي التفت حول صراع الـ “٩٩ بالمائة” من الناس القابعين تحت سطوة الواحد بالمائة من ذوي الثراء الفاحش، حرّكت شعبوية اقتصادية مماثلة أحزابًا احتجاجية في أوروبا، منها حزب سريزا اليوناني، وحركة النجوم الخمسة الإيطالية، وكلاهما دافع بشدة عن دولة الرفاهية ورفض إجراءات التقشُّف المفروضة على أثينا وروما – من طرف بروكسل أو برلين – إبان أزمة اليورو.

الشعبويون الاقتصاديون محقون في نقدهم لمشاكل الديمقراطية المعاصرة، إذ تميل الديمقراطية الرأسمالية، إذا تُركَت تعمل وفق آلياتها، إلى تركيز النفوذ في يد أصحاب نفوذ بالفعل، وتركيز الثروة في يد أصحاب ثروة بالفعل، لمورازنة هذا التآكل للعدالة الاقتصادية والسياسية، تحتاج الديمقراطيات بين الحين والآخر إلى فَوَرات من الغضب الشعبي؛ لذا، يمكن لشعبوية اليسار أن تكون تصحيحًا ضروريًا للنزعات الأنانية التي قد تستجيب لها أي نخبة بمرور الوقت.

رُغم أن المشاكل التي تحركهم حقيقية، إلا أن شعبويي اليسار، مثل جماعات اليمين، تميل إلى الخيال حين تتطرق لحل الأزمات – غالبًا لأنهم لا يدركون عُمق المأزق الاقتصادي المعاصر -، فهم يحمّلون النخب القائمة مسئولية الفقر المنتشر، وينشرون أسطورة مفادها أن الانتصار في الصراع من أجل العدالة الاقتصادية رهن الوقوف في وجه البنوك الكبرى (في الولايات المتحدة)، أو في وجه برلين (في أوروبا)، أو في وجه منظمة التجارة العالمية (في كليهما)، إذا تسنى للحكومات القومية تسيير عالم الأعمال مباشرة عبر إعادة توزيع الثروات وتوسيع برامج الرفاهة، كما يقترحون، ستتحسّن كثيرًا أحوال رجل الشارع.

لكن الواقع هو أن الكثير من المشاكل التي ينقدها اليسار نشأت نتيجة عوامل كبرى، مثل التطور التقني، والتغيّرات الديمغرافية، والعولمة الاقتصادية.

فصعود التقنيات الرقمية والقوى العاملة عالية التدريب في أفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينية، على سبيل المثال؛ قلل من الطلب العالمي على العمالة الأمريكية الشمالية والأوربية الغربية، بالمثل، تتعرض منظومات المعاشات الحكومية للضغوط، ليس فقط لأن السياسيين لا يملكون إرادة لتمويلها، ولكن لأن المجتمعات الغربية تشيخ بسرعة (كان متوسط عُمر سكان إيطاليا عام ١٩٦٠ ٣١.٢ سنة، وبحلول عام ٢٠٢٠ من المتوقع أن يكون ٤٦.٢ سنة).

يؤمن الشعبويون الاقتصاديون، وهم على خطأ في هذا، بأن انتزاع المصالح من أعلى لأسفل سيكون كافيًا للعودة للعصور الذهبية، ولكن إنقاذ دول الرفاهة لأمريكا الشمالية وأوربا الغربية يحتاج نهجًا جديدًا، لا دفاعًا عن الوضع القائم، بإنكار هذه الحقيقة، يضل اليساريون طريقهم تمامًا كنظرائهم اليمينيين.

  • طموحٌ بلا رؤية:

على مدار تاريخها الطويل، واجهت الديمقراطيات معارضة من مجموعات كبيرة من مواطنيها شعرت بالحنين لعصر الملكيات والإقطاع، وحتى الحُكم الاستبدادي، انقسمت الديمقراطيات بشدة على أسس إثنية ودينية ولغوية، وانقسمت كذلك حيال الإصلاحات الزراعية، فوجدت نفسها تحت هيمنة الشعبويين والديماجوجيين وانحدرت للحروب الأهلية، لكن عندما يسمع معظم الغربيين اليوم كلمة الديمقراطية، يتخيّلون مناخًا سياسيًا راقيًا وسهل التوقّع، وأيضًا منظومة تتداول فيها السلطة مجموعة صغيرة من الأحزاب العتيقة بشكل دوري؛ مما يسفر عن تغيّرات معقولة ومعتدلة في السياسات.

ولكن أغلبنا يعلم – مع الأسف – أن السياسة في ديمقراطيات اليوم لم تعد كذلك بالفعل، هي أكثر فوضوية وانقسامًا وليس سهلًا التنبؤ بها كما كان الحال منذ ثلاثة عقود، المدة التي قضتها ديمقرطيات الغرب في استقرار كبير كانت مدة قصيرة جدًا، والحقيقة أن بعض الديمقراطيات، مثل إيطاليا، لم تكن فعالة أبدًا، وفي البعض الآخر، كالولايات المتحدة، تخللت مرحلة الاستقرار تلك لحظات اختلال، مثل الفترة المكارثية، وتجاهل الرئيس نيكسون للقواعد الديمقراطية.

التحدي الذي سيواجهه الطامحون إلى مرحلة جديدة من الاستقرار الديمقراطي النسبي، سيكون استغلال طاقات الشعبويين لصالح أهدافهم في إعادة صياغة وتفعيل المحكومية، ولكن دون مساعدتهم على إشعال انتفاضات معادية للديمقراطية، في مجال السياسة الاقتصادية، سيعني هذا معالجة أزمة تدهور مستويات المعيشة، والتي تعطي الشعبويين أرضية خصبة للعمل، على قادة الديمقراطيات المزدهرة أن يصبوا اهتمامهم نحو هدفين لطالما ظنوا أنهما متعارضين (إعادة توزيع الثروات والتحديث الاقتصادي)، سيكون اتخاذ إجراءات سياسية، تشمل محاولة جادة لفرض الضرائب على الثروات، ضامنًا لنمو اقتصادي في المستقبل، يصب في صالح الطبقات الوسطى والدُنيا كما يفيد الأغنياء، ولكن على الحكومات ابتداءً أن تخلق الظروف المناسبة للنمو، في جنوبي وغربي أوروبا على وجه الخصوص، على السياسيين أن يتخذوا خطوات قد تكون منبوذة شعبيًا تمامًا، مثل رفع سن التقاعد وترخية قوانين العمل، لن يكون الشروع في هذا المزيج من الإصلاح وإعادة توزيع الثروات أمرًا هينًا، ولكن الجيل الجديد من السياسيين الطموحين، ومنهم رئيس الوزراء الإيطالي “ماتيو رَنزي” قد بدأ في كسب تأييد لهذه الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة عبر احتواء شكاوى الشعبويين، وحشد الناخبين حول أهداف إعادة توزيع الثروات.

تنتظر سياسيي المنظومة الحالية مهمة أصعب، تكمن في الاعتراف بوجود أزمة هوية قومية والاستجابة لها، دون الانزلاق إلى الشعبوية المعادية للأجانب، أو تفكيك المؤسسات الدولية الضرورية، أفضل نهج لذلك سيكون التجاوب مع العواطف القومية، وفي نفس الوقت رفض أي اقتراح باعتبار الأقليات مواطني درجة ثانية، لن يكون ذلك صعبًا في الولايات المتحدة، والتي طالما ميّزها إرث الوطنية غير الإثنية، ستواجه الأحزاب الكُبرى في أوروبا خطوات أعقد، حيث إن القومية والوطنية متجذران بقوة في مفهوم الإثنية، قد يجد سياسيو أوربا احتواء هذه العواطف مستحيلًا بالفعل دون التخلي عن رؤية المجتمع المتعدد الليبرالية – وهو علاج للشعبوية أسوأ من المرض ذاته -.

على الناحية الأخرى، يمكن للأحزاب العريقة في أوروبا أن تأخذ بعض الخطوات السهلة لإزالة مخاوف الشعبويين حيال الاتحاد الأوروبي، التخلّي عن الالتزام بـ “اتحاد أوثق”، الذي طالما تعهدوا به، سيكون خطوة مبشّرة، فهذا الالتزام بتقوية الاتحاد يعطي مصداقية لادعاءات الشعبويين بأن اليوروقراط لن يهدأوا حتى يفككوا تمامًا دول أوربا القومية، بالتعهّد بوضع سقف لعملية التكامل الأوربي، سيبعد القادة الأوربيين أنفسهم عن الاتهامات الموجهة لهم بأنهم ضعفاء فيما يخص السيادة القومية، وسيحمون في نفس الوقت مكتسبات الاتحاد الأوربي، كحرية تنقل الأشخاص والبضائع.

ما إن كانت تلك الاقتراحات ستكفي لوقف الزحف الشعبوي، هو أمر لا يمكن التكهّن به، لقد استند الاستقرار الشديد لديمقراطيات ما بعد الحرب العالمية إلى أنماط اقتصادية وديمغرافية استثنائية ولّى زمنها، وإعادة هكذا استقرار سيكون أمرًا صعبًا، وحتى إذا أصاب سياسيّو النُظم القائمة في كل سياساتهم على مدار العقود القادمة، فإن الخطر الذي تشكله الشعبوية سيظل معنا لوقت طويل.المصدر: “فورين آفيرز” – ترجمة “نهى خالد”

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى