قوسٌ خليجيٌ يطوق سواحل إفريقيا الشرقية
اعداد : بلال الصبّاح – كاتب سياسي عربي وباحث في الشؤون الإفريقية
- المركز الديمقراطي العربي
دراسة حول زيارة أمير دولة قطر لكل من إثيوبيا وكينيا وجنوب إفريقيا من حيث تداعيات الزيارة وعلاقتها بالأمن القومي بين الخليجيين وأفارقة القرن الإفريقي.
المقدمة:
عادة ما يتناول الإعلام المصري الزيارات العربية لأي دولة إفريقية بأنها مساس بالأمن القومي المصري، على الرغم أن إفريقيا قارة مُترامية الأطراف وذات مساحة شاسعة، ولا يُشترط بالضرورة أن تكون القارة برمتها مُرتبطة بالأمن القومي المصري. وآخر ما تحدّث عنه الإعلام المصري هو زيارة أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لثلاث دول إفريقية، ما بين إخفاق الزيارة ومحاولات قطرية للعب دور في منطقة الأمن القومي المصري. ومن خلال البحث في التصريحات الرسمية الصادرة عن الخارجية القطرية وكل من إثيوبيا وكينيا وجنوب إفريقيا، حيث أن جميعها احتوت على عبارة مُتشابهة، وهي “البحث في القضايا ذات الإهتمام المُشترك”. إن الإطلاع على القضايا الرئيسية التي تهم كل من إثيوبيا وكينيا وجنوب إفريقيا، والبحث في نشأتها، وفي الأسباب التي دعَت دولة قطر لتكون جزءاً منها أو شريكاً في حلولها، هي بمثابة فرصة مُناسبة للبحث في قضية القرن الإفريقي الذي ما زال حدوده السياسية غير واضحة، والذي هو جزءٌ من الشرق الإفريقي، ليس من أجل الحكم على زيارة الأمير تميم بن حمد بقدر ما هو تأصيل لقضية القرن الإفريقي الحقيقية ومؤثراتها على الأمن القومي العربي هناك. ولكن بعد إزالة “إشكالية الفهم” حول القرن الإفريقي. والسؤال هنا؛ ما هي الإشكالية؟.
المُلخص:
× الجامعة العربية لم تكترث بالهوية العربية وعلاقتها بالهوية الإفريقية.
× المسيحية واليهودية جزء من الهوية العرقية المُميزة لأفارقة القرن الإفريقي وحماية لهم من إمتداد جنوب إفريقيا، وليس إختراقاً حسب المفهوم التقليدي.
× القوى الغربية وإسرائيل أرهقت القرن الإفريقي دون إستثناء بين مسلم ومسيحي، وإثيوبيا أخفقت في سياسات الهوية والإندماج العرقي والثقافي.
× إثيوبيا تبحث عن شركاء جدد لمواجهة المعسكر الشرقي القادم من الحوثيين، ولمُعالجة إضطراب الهوية في القرن الإفريقي.
× الجولة القطرية لإفريقيا تفتح آفاقاً نحو تطلعات الأمن القومي المشترك بين الخليجيين وأفارقة القرن الإفريقي.
× أفارقة الجنوب لا ينظرون إلى سعودية أو مصرية تيران وصنافير، بل إلى آسيوية أو إفريقية الجزيرتين.
× تيران وصنافير طريق الخليجيين لتشكيل القوس الخليجي حول جميع سواحل الشرق الإفريقي، ولتشمل جزر سيشل وجزر القمر وجزر مدغشقر.
× على الخليجيين التعامل مع أعداء إثيوبيا كما تعاملوا مع أعداء الرئيس التركي أردوغان.
قضية القرن الإفريقي:
ليس في هذا التقرير طرح لبعض المعلومات الجديدة أو المخفّية حول هوية القرن الإفريقي، وإنما تم عرض المعلومات بطريقة غير تقليدية. فإشكالية الفهم حول القرن الإفريقي رسخت في عقول العرب منذ عقود مضت، وينبغي لإزالتها الحديث عنها بإسهاب مع إلتزام الحيادية والموضوعية. حيث تعود إشكالية الفهم لدور المراكز البحثية العربية التقليدي في تناول القضايا الإفريقية. وقد يرجع السبب إلى جامعة الدول العربية التي عادة ما ترسم ملامح القضايا العربية دون الإكتراث بالهوية العربية وعلاقتها بالهوية الإفريقية. وفيما يخص القرن الإفريقي، فقد رسمت الجامعة العربية خارطة غير متوافقة مع الواقع والحقيقة التي عليها القرن الإفريقي، وهنا نتجت إشكالية الفهم؛ أي معلومات غير دقيقة، وهو ما جعلها تخضع لتفسيرات غير عملية عند العموم العربي، ومن أهمها:
(1) منطقة القرن الإفريقي مُخترقة من قبل القوى الغربية والصهيونية، وسياسات القرن الخارجية فقط من أجل حبس مياه النيل عن السودان ومصر. (2) الجهل بالعلاقة بين قضية مياه النيل ومضيق باب المندب وقناة السويس. (3) الإعتقاد أن مصر والسودان نقاط الإلتماس العرقي والثقافي مع القرن الإفريقي.
وللحديث حول هذا، يتطلب البحث في عوامل التنمية في القرن الإفريقي ثم هوية وجغرافية المنطقة، ومن هم الشركاء الجدد؟، وقبل الحديث عن الجولة القطرية.
أولاً- تنمية القرن الإفريقي:
عادة ما تتمحور القضايا التنموية الإفريقية حول الجوانب المُتعلقة بالبنية التحتية، ومفهوم البنية التحتية عند الأفارقة ليس كما هو بالمعنى التقليدي، بل هو واسع ويشمل قطاعات أخرى؛ كالصحة والتعليم. حيث ينظر الأفارقة إلى أن إنتشار الأمراض الفتاكة والأوبئة القاتلة والجهل من أكبر المعوقات التي تقف أمام تطوير البنية التحتية. وقد ذكرت ذلك في تقرير سابق “2015” (بأن إفريقيا مُقبلة على حرب جديدة من نوعها، وهي “برامج التأهيل” والتي تنحصر بين أمرين. الأول “التأهيل العسكري”، وهو محل خلاف بين الأفارقة، فمجموعة جنوب إفريقيا ترغب بتأهيل جيش إفريقي مُوحد، بينما تبحث أمريكا وأوروبا تأهيل قوات خاصة لبعض الدول في الوسط الإفريقي. والثاني هو “التأهيل التنموي”، وهو محل توافق بين غالبية الأفارقة، حيث يستعد الجميع لإستقبال المؤسسات الإقتصادية من الشرق والغرب، وكل حسب تعلقاته السياسية الخارجية). وحول البنية التحتية في القرن الإفريقي؛ حيث لم يُحالفهم الحظ لتكون كما هو عليه في جنوب إفريقيا من حيث البنية التحتية المُتطورة وعلى مستويات عالية من التقدم والتقنية. ويرجع ذلك لسوء إستخدام الموارد الطبيعية، كما أنه من الصعب التوجه نحو إستقطاب الإستثمارات الخارجية لتطوير البنية التحتية، وذلك بسبب إضطراب الهوية القومية والهوية الجغرافية.
والخلاصة في عامل التنمية الذي يحتوي على ثلاثة عناصر، وهي :
(1) الضرورة: حيث تعتبر التنمية في منطقة القرن الإفريقي ضرورة وهامة جداً لجميع الأعمال. وبالمُقارنة؛ أن بناء ناطحات السحاب في الدول الغنية هو جزء من البنية التحتية الترفيهية والإقتصادية، بينما تكون في القرن الإفريقي جزء من البنية التحتية الضرورية لنقل السكان من الحياة القبلية إلى الحياة المدنية. والضرورة هنا ليست ببعيدة عن جميع مشاريع التنمية على مياه النيل.
(2) الشراكة: عادة ما تكون التنمية في دول إفريقيا مُلحقة بالشراكة الخارجية للكثير من الأسباب. وأفضل نموذج هو زيمبابوي التي دفعت ثمناً باهضاً لرفضها الشراكة مع القوى الغربية.
(3) التعاون: وخاصة التعاون العسكري، فعادة ما تكون هناك علاقة طردية بين الإستثمارات الأجنبية والتعاون العسكري الأجنبي، لغاية حفظ الإستثمارات الخارجية من الصراعات الدينية والعرقية.
ثانياً- الهوية القومية:
لاشك أن للجغرافيا الطبيعية دور هام في رسم ملامح القارة الإفريقية، كما أن لهذه القارة خاصية تُميزها عن بقية القارات، وهي أن “الأعراق القبلية” لها الدور الأكبر في بناء الجغرافيا السياسية، والتي كان لها التأثير المُباشر على طبيعة التكتلات الإقليمية والتحالفات السياسية الخارجية. وخاصة على التوازنات السياسية بين “كبار إفريقيا” وهم على الترتيب؛ جنوب إفريقيا ونيجيريا وإثيوبيا. وعلى الرغم أن الحساسية السياسية بين كبار إفريقيا تخضع للإرتباطات الفكرية والمصالح الإقتصادية مع الدول العظمى كأمريكا وروسيا وفرنسا بالدرجة الأولى، إلا أنه وما يجب فهمه أيضاً أن هذه الإرتباطات والمصالح أخذت تنتشر وتتوزع وفق خارطة عرقية وقبلية مُرتبطة بمكانة الدين عند تلك القبائل الإفريقية. وأفضل نموذج لتوضيح هذه الفكرة هو “العقيدة”؛ حيث لم تحمل القيمة الأسمى عند أفارقة الجنوب، والدين عندهم ليس إلا طقوساً تقليديةً مُتوارثة عن الأجداد، وعليه توجّه أفارقة الجنوب نحو الشيوعية والإشتراكية للتخلص من الإمبريالية الأوروبية، ولم يكن في ذلك تعدياً على أديانهم التقليدية. بينما الديانة المسيحية كانت وما زالت مُتجذرة بين القبائل الإفريقية في الشرق والغرب الإفريقي، وخاصة إثيوبيا ونيجيريا، وكذلك لليهودية نصيب، وكان لهذا تأثير مُباشر على نشأة العلاقات الوطيدة التي تجمع تلك الدولتين بالغرب وإسرائيل. وبذلك يُمكن القول أن الشيوعية أصبحت سمة مُميزة للعرق الأسود في جنوب القارة، والليبرالية سمة مُميزة للعرق الأسود المقيم في شرق إفريقيا “إثيوبيا” وغرب القارة “نيجيريا”. وعلى الرغم من التوافق بين الإثيوبيين والنيجيريين بأهمية الإرتباط بالليبرالية الأمريكية والإسرائيلية كواجهة حامية لهم من الإمتداد الجنوب الإفريقي، إلا أن هناك توافقاً أيضاً بين جنوب إفريقيا ونيجيريا بأن الشرق الإفريقي هم عرق أسود غير نقي ومُهجن بالعرق العربي. كما أن منطقة الشرق الإفريقي تُعاني من “إضطراب الهوية” منذ الهجرة العربية إلى شرق إفريقيا وإن كانت ملامحها بسيطة وغير ظاهرة آنذاك. ولكنها تفاقمت بعد ظهور المنظومة القومية في القارة الإفريقية والتي وصلت لمرحلة ما هي عليه الآن. ويرجع ذلك إلى إخفاق الدور الإثيوبي في إحتضان ورعاية قوانين “سياسات الهوية” وهي منظومة تعمل على تمكين الذين يشعرون بالإضطهاد لسبب عرق أو دين أو ثقافة. أو يُمكن القول أن “التعددية” في الشرق الإفريقي غير مُوفقة، وهو ما أوقع المنطقة في فخ الإرهاب العرقي والديني لعدم التكافؤ بين الهويات المُتعددة. كما أن القرب الإثيوبي من المنطقة العربية، وخاصة اليمن والسعودية والسودان كان له دور كبير في رفض من ينتمون إلى الهوية العربية والإسلامية للإندماج بالقومية الإثيوبية الشاملة لدول الشرق الإفريقي. وبالمُقارنة مع نموذج “سياسات الهوية” في جنوب إفريقيا والتي نجحت بجدارة في تبني هذه المنظومة وفق النظام الأمريكي، فجنوب إفريقيا تحتوي أقلية مُسلمة مستقلة بهويتها الجنوب إفريقية، كما أن عامل بُعد مسلمي جنوب إفريقيا عن أوطانهم الآسيوية والدول العربية ساهم في هذا النجاح.
والخلاصة عامل الهوية القومية والذي يحتوي على ثلاثة عناصر، وهي:
(1) الهوية الدينية: وهي مكونة من المسيحية بالدرجة الأولى ثم اليهودية والإسلامية.
(2) الهوية العرقية: وهي مكونة من العرق الإفريقي والعرق العربي الذي يرجع أصوله إلى اليمن وسلطنة عُمان والسعودية والسودان.
(3) سياسات الهوية: لم تستطع الدولة الإثيوبية تحقيق مفهوم التعددية الثقافية، والذي يقود جميع الأعراق للإندماج الثقافي على مستوى الشرق الإفريقي أو القرن الإفريقي.
ثالثاً- الهوية الجغرافية:
ليس من الصعب تحديد الهوية الجغرافية لمنطقة القرن الإفريقي، حيث هو شبه جزيرة تقع في شرق إفريقيا في المنطقة الواقعة على رأس مضيق باب المندب من الساحل الإفريقي. وحسب المراجع التاريخية كان القرن الإفريقي يخضع للسيادة الصومالية والإثيوبية فقط، وذلك قبل نشأة دولتي جيبوتي وإريتريا. كما أن مضيق باب المندب كان يقع تحت إشراف كل من اليمن والصومال وإثيوبيا حسب الطبيعة الجغرافية. ولكن ظهرت أهمية القرن الإفريقي ومضيق باب المندب بعد إنشاء قناة السويس وقيام إسرائيل وظهور النفط في جزيرة العرب، مما جعلها محطة صراع للدول الكبرى. وخلال سبعينيات القرن الماضي خضعت منطقة القرن الإفريقي لتنافس شديد بين الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي، وبعد إنهيار الاتحاد السوفيتي أصبح التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
ويُمكن ترتيب نتائج الصراع على النحو التالي:
- (1) فصل جيبوتي عن الصومال، ثم فصل إريتريا عن إثيوبيا، ثم فصل جنوب السودان عن السودان العربي.
- (2) إستنزاف المنطقة بالحروب الاهلية وخاصة الصومال.
- (3) إقحام كينيا ضمن منطقة القرن الإفريقي، حتى أصبحت “المطبخ السياسي” لكل ما يحدث في منطقة القرن الإفريقي.
ويُشار إلى دور للقوى الغربية وإسرائيل في فصل جيبوتي وإريتريا، فجيبوتي من أجل الحد من الإشراف الصومالي الكبير على مضيق باب المندب، وإريتريا من أجل حماية المصالح الإسرائيلية في البحر الأحمر.
وعلى الرغم من هذه الضربة القوية لإثيوبيا، إلا أنها حافظت على علاقاتها مع القوى الغربية وإسرائيل من أجل حماية مصالحها في حوض النيل، ولتكون القوة الأكبر والراعية للقرن الإفريقي، بالإضافة إلى الأمل بتقسيم الصومال والوصول إلى خليج عدن وباب المندب كأول منفذ بحري لها بعد ضياع سواحلها بقيام دولتي جيبوتي وإريتريا.
وبالنظر إلى جميع النتائج نجد أنها عملت على تغيير كبير في خارطة القرن الإفريقي، ومع ذلك ما زالت حدود القرن الإفريقي غير واضحة وفقاً لبعض التصريحات الباحثة في الشأن الإفريقي.
حيث تبيّن في الموسوعة التاريخية الجغرافية أن وثائق الأرشيف السوداني بدار المحفوظات البريطانية وضعت السودان جزءاً من القرن الإفريقي. كما وجّه وزير الدولة الفرنسي للشئون الخارجية “أوليفيه سيترن” عام 1981 الدعوة إلى كل من السعودية واليمن إضافةً إلى دول القرن الإفريقي لعقد مؤتمر إقليمي يهدف إلى حل مشكلات المنطقة. ثم طرحت “سوزان رايس” عام 1988 فكرة مشروع القرن الإفريقي الكبير في الفكر الإستراتيجي الأمريكي، والذي يتألف من القرن الإفريقي بمعناه الجغرافي مع إضافة السودان ومنطقة البحريات العظمى. وكذلك أكدّ الرئيس الإريتري “أسياسي أفورقي” عام 1994 في تصريح له إثر زيارته لليمن، على أن الدائرة الإستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي لا تكتمل من دون اليمن التي ترتبط معه بعلاقات حضارية وتاريخية قديمة.
والخلاصة في عامل الهوية الجغرافية والذي يحتوي على ثلاثة عناصر، وهي:
- (1) سوء التخطيط: وهو نتاج عدم فهم طبيعة علاقات التأثر والتأثير بين الأديان والأعراق في المنطقة.
- (2) تضارب المصالح: والذي نتج عن عدم التنسيق بين أهمية القرن الإفريقي والدراسات الإجتماعية المُتعلقة بالمنطقة.
- (3) نشأة الإرهاب: وهو النتيجة الحتمية لجميع ما ذُكر.
وبذلك نقول؛ أخذ يتضح لنا مما سبق ما هو الطريق الأفضل لما نبحث عنه من أجل إزالة إشكالية الفهم التي وردت في تمهيد التقرير، حيث هناك مجموعة من القضايا المُحاطة بمنطقة الشرق الإفريقي وخاصة القرن الإفريقي، والتي باتت واضحة أكثر مما سبق، وهو أن مضيق باب المندب هو القضية الرئيسية بعد ظهور أهميته المُرتبطة بالتجارة العالمية ومصالح إسرائيل والنفط العربي وقناة السويس. ولكن كان لظهور النفط نتائج إيجابية على الجزيرة العربية، وكذلك على مصر بعد إنشاء قناة السويس، بينما انتشر الإرهاب في القرن الإفريقي، وخاصة في الصومال الذي أعاق النمو الإجتماعي والإقتصادي على جميع مراحله في القرن الإفريقي. وذلك يعود إلى سوء إستراتيجيات شركاء دول القرن الإفريقي، وهم الأوروبيون الذين ارتكبوا خطأ جسيماً في المنطقة، حيث رسموا القرن الإفريقي حسب خارطة مصالحهم المادية فقط دون الإهتمام بتنمية القرن الإفريقي. كما أهملت القوى الغربية وإسرائيل مفاهيم سياسات الهوية لإحتواء علاقات التأثر والتأثير بين القبائل المُتشابكة في أعراقها وتقاليدها، من حيث التواصل السكاني المُتقارب، ومن حيث التواصل مع المنطقة العربية وخاصة اليمن والسعودية والسودان.
وبذلك نُزيل إشكالية الفهم على النحو التالي:
(1) القوى الغربية وإسرائيل أرهقت جميع دول القرن الإفريقي دون إستثناء بين الأديان السماوية وغيرها، ولكن تمسك دول القرن الإفريقي بالقوى الغربية وإسرائيل هو جزءٌ من هويتهم الدينية التي تُميزهم عن بقية الأفارقة كعرق شرق إفريقي مُستقل. وهذا يعني أن قضية إختراق الصهيونية للقرن الإفريقي ليست بالمعنى التقليدي الذي يفهمه العرب.
(2) أن الهوية العربية والإسلامية في القرن الإفريقي هي هوية مُهاجرة من جزيرة العرب والسودان، فجميع المظاهر العربية والدينية هناك ترجع لأصول الجزيرة العربية، وليس لمصر أو شمال المغرب العربي دور أو مظهر هناك.
(3) وبذلك نقول؛ أن قضية مياه النيل لم تكن في يوم ما هي الأساسية عند أفارقة القرن الإفريقي وخاصة إثيوبيا، بل هي نتيجة حتمية بعد صراع الهوية وإضطراب الحدود الجغرافية. حيث لابد من إزالة الستار حول العلاقة بين مضيق باب المندب والنفط العربي وقناة السويس، فجميعها مرهون بأمن إسرائيل والتجارة العالمية. بل أن كلاً من مصر والسودان ودول القرن الإفريقي وخاصة إثيوبيا هم ضحايا مصالح القوى الغربية.
فمصر رضخت للسلام مع إسرائيل من أجل الحفاظ على سيناء وقناة السويس وليس كأولوية لسياسة مصر الخارجية، وكذلك رضخت إثيوبيا للضغط على مصر في مياه النيل من أجل الحفاظ على موقعها في القرن الإفريقي، وعلى أمل أن يكون لها إطلالة جديدة على مضيق باب المندب، وليس كأولوية لسياسة إثيوبيا الخارجية.
كما يجب أن ننظر بعين الإعتبار إلى أن مياه النيل أصبحت جزء من إستراتيجية التنمية الضرورية لدول منابع النيل ومنها إثيوبيا، وهي حاجة ماسة لا يُمكن التغاضي عنها.
وأن هذه التنمية مرهونة بضرورة الشراكة مع القوى الخارجية، كما التعاون العسكري من المُلزمات للتنمية من أجل حماية هذه الإستثمارات من الصراعات الدينية والعرقية.
الشركاء الجدد:
تحدث بعض الأفارقة قبل الربيع العربي عن إحتمالية نشأة الإرهاب في اليمن وحذّروا في مقالات لهم من أن تكون اليمن بوابة الإرهاب إلى القرن الإفريقي، ولكن لم يُبالي العرب بهذا النداء التحذيري. ولكن بعد عاصفة الحزم العربية أدرك الخليجيون بأن الأمن القومي اليمني لن يكون بأحسن صوره إلا بأمن القرن الإفريقي، والإرهاب لن ينتهي في اليمن إلا بالدخول إلى منطقة القرن الإفريقي والعمل مع أفارقة القرن بيدٍ واحدة. ويُمكن القول بأن دولة قطر كانت سبّاقة في التوجه نحو القرن الإفريقي منذ سنوات عديدة، وذلك قبل التوجه السعودي والإماراتي بعد عاصفة الحزم. كما أن إثيوبيا تُدرك جيداً ما يريده الخليجيون من القرن الإفريقي، وهو الربط بين الأمن القومي الخليجي بأمن القرن الإفريقي من خلال تحالفات سياسية وعسكرية مُتوجة بإستثمارات ضخمة.
ولا شك أن قبول إثيوبيا سوف ينطلق من محورين وهما:
(1) المُعسكر الشرقي: إن أكثر ما يُقلق إثيوبيا حالياً هو المُتغيرات السياسية والإقتصادية على الساحة المشتركة بين العرب والأفارقة من جهة مضيق باب المندب. حيث أصبحت هذه المُتغيرات أكبر من حجم السياسات المُتبعة في القرن الإفريقي ولا تتناسب معها. ويرجع ذلك إلى سقوط اليمن خاصةً وإستيلاء الحوثيين عليه وإقترابهم من باب المندب، وهو بمثابة دعم للمعسكر الروسي المُتمكن في جنوب القارة الإفريقية، كما أخذت جنوب إفريقيا تترقب فرصتها الجديدة للدخول إلى القرن الإفريقي عبر اليمن بدعم من المعسكر الشرقي بعد فشل مشروعها في جنوب السودان وإنحياز السودان العربي نحو التحالف العربي. غير تخوف جنوب إفريقيا من خوض معركة خاسرة ضد الإرهاب على أراضي الصومال.
(2) الهوية العربية: كما تُدرك إثيوبيا أن هناك العديد من النقاط الجغرافية التي تربط العرب بالأفارقة، كـ “السودان، تشاد، الجزائر، موريتانيا”، ولكن تُدرك ايضاً أن الرابط الحقيقي بين العرب والأفارقة يكمن في منطقة القرن الإفريقي أكثر من أي جهة أخرى. أو يُمكن القول بأن إنصهار الأفارقة بالثقافة العربية لا يتحقق إلا في منطقة القرن الإفريقي، وهي النقطة المحورية للتمركز الأمريكي في القارة الإفريقية، غير المطامع الفرنسية في الحصول على جزء من الصومال.
وهو ما أخذ إثيوبيا للتفكير بجدية للبحث عن الحلول الجذرية لتعالج الواقع الإجتماعي في القرن الإفريقي قبل السياسي والإستثماري من خلال حسن إختيار الشركاء الحقيقيين في الهوية ولمعالجة إضطراب الهوية في القرن الإفريقي للقضاء على الإرهاب.
الجولة القطرية لإثيوبيا وكينيا وجنوب إفريقيا:
للحديث عن الجولة القطرية لتلك الدول فقد تم الإقتباس من التصريحات الرسمية فقط والصادرة عن مكاتب الخارجية لكل من إثيوبيا وكينيا وجنوب إفريقيا وقطر، وهي على النحو التالي:
زيارة إثيوبيا: التصريحات الصادرة عن الخارجية الإثيوبية:
(1) عبرّت إثيوبيا عن شكرها لأمير دولة قطر لإختياره إثيوبيا أول محطات زياراته في إفريقيا.
(2) إشادة إثيوبيا بالدور القطري في حل النزاعات في القرن الإفريقي ودارفور، وزيارة أمير قطر لتحقيق الإستقرار وحل النزاعات في المنطقة.
(3) العلاقات الإثيوبية بدول الخليج العربي تاريخية منذ فجر التاريخ، وليس لها علاقة بمصر أو المُكايدات السياسية.
(4) دول الخليج العربي وعلى رأسها السعودية وقطر حريصة على تعزيز علاقات إثيوبيا بدول حوض النيل وخاصة مصر.
(5) أمن الخليج العربي مرتبط بأمن القرن الإفريقي، وتهديد الأمن الخليجي هو تهديد مباشر لأمن إثيوبيا وخاصة السودان وجيبوتي والصومال.
(6) الإستثمارات الخليجية تسعى لتعزيز جهود الحكومة الإثيوبية في القضاء على الفقر وتعزيز التنمية.
زيارة كينيا: التصريحات الصادرة عن الخارجية القطرية:
- (1) تبادل لوجهات النظر حول مُجمل الأحداث الراهنة على الساحتين الإقليمية والدولية.
- (2) هناك توافق على الرؤى السياسية.
زيارة جنوب إفريقيا: التصريحات الصادرة عن الخارجية القطرية:
- (1) الحاجة المُلحة لإحياء مبادرة السلام العربية وحل الدولتين.
- (2) ضرورة الحفاظ على وحدة وسلامة وسيادة ليبيا ومساندتها في مكافحة الإرهاب.
- (3) الإستثمار في إقتصاد البحار والمحيطات في جنوب إفريقيا.
وهنا يتضح لنا بعض المؤشرات الهامة التي تحمل دلالات منطقية حول طبيعة ومستقبل العلاقات الخليجية مع أفارقة القرن الإفريقي، حيث سوف تنطلق العلاقات من التاريخ المُشترك الذي يجمع الخليجيين مع أفارقة القرن الإفريقي وخاصة إثيوبيا والسودان والصومال وجيبوتي لتأسيس منظومة أمن قومي وحلقة إستثمار من أجل التنمية والقضاء على الفقر في القرن الإفريقي.
وما هو جدير بتوضيحه هو أن تصريحات الخارجية الإثيوبية استثنت كلاً من مصر وكينيا وإريتريا من هذه المنظومة، حيث تسعى هذه الدول لنزع الهيبة الإثيوبية القائمة على مكانتها التاريخية في الشرق الإفريقي.
وما يؤكد ذلك هو تصريح الخارجية القطرية المُقتصر حول زيارة أمير دولة قطر لكينيا بأنها كانت لتبادل وجهات النظر وهناك توافق على الرؤى السياسية فقط. والشاهد هنا أن كينيا ليست إلا مطبخاً سياسياً تم إقحامه لُمزاحمة إثيوبيا، وكان لابد لأمير دولة قطر من إحتواء كينيا وخاصة قبل البدء بمشاريع سياسية ضخمة كالشراكة الخليجية مع القرن الإفريقي.
أما بالنسبة لجنوب إفريقيا؛ فسوف تنطلق من المصالح المُتبادلة بين الخليجيين وأفارقة الجنوب وخاصة جنوب إفريقيا. وعلى الرغم أن دول جنوب إفريقيا تميل للمنظومة اليسارية في أنظتها السياسية، إلا أن جميع إقتصادياتها محكومة بالمؤسسات الرأسمالية وخاصة الأمريكية.
كما أن جنوب إفريقيا تسعى للهيمنة على إفريقيا بدعم روسي صيني، ولكن أحداث الربيع العربي أسقطت الكثير من هذه المشاريع. وخاصة سقوط ليبيا وضعف الجزائر وإنحراف جنوب السودان وأخيراً توجه السودان العربي وبعض الدول الإفريقية للقتال مع الخليجيين ضد المشروع الحوثي في اليمن. ويُمكن القول بأن جنوب إفريقيا حرصت كثيراً على أن تكون زيارة أمير دولة قطر لجنوب إفريقيا ضمن جولته الإفريقية الأخيرة؛ والأمر يعود إلى رؤية الحزب الحاكم في جنوب إفريقيا للأحداث الجديدة الواقعة على الساحة الإفريقية، وهي:
(1) تيران وصنافير: أفارقة الجنوب لا ينظرون إلى جزيرتي تيران وصنافير على أنها سعوديتين أو مصريتين، بل هل هما آسيويتين أم إفريقيتين!.
(2) القوس الخليجي: إن الإستحواذ السعودي على تيران وصنافير هو جزء من المشروع الخليجي للتوجه نحو باب المندب، ثم إلى جزر “سيشل” وجزر “القمر” وجزر “مدغشقر”، وهو بمثابة بداية لتشكيل القوس الخليجي الجديد الذي سوف يُحيط القارة الإفريقية على جميع السواحل الشرقية لها.
(3) الهوية الإسلامية: حرصت جنوب إفريقيا على أن تكون ألوان قوس قزح لجميع الألوان والأعراق والأديان، كما حرصت على أن تكون أرض الأحلام لجميع مسلمي القارة الإفريقية، ولكن تشكيل القوس الخليجي والذي بدأ بتيران وصنافير هو بمثابة الإستحواذ الخليجي على الهوية الإسلامية في إفريقيا وبدعم من دول القرن الإفريقي.
الخاتمة:
يُمكن القول بأن إشادة الخارجية الإثيوبية لإختيار أمير دولة قطر لإثيوبيا كأول محطة له في إفريقيا تحمل الكثير من الرسائل الهامة والتي لا يفهمها إلا الأفارقة خصوصاً، وهي أن منظومة الأمن القومي المُشترك بين الخليجيين وأفارقة القرن الإفريقي أخذت تنطلق من أن إثيوبيا هي البوابة الرسمية للشرق الإفريقي، وهو مؤشر على قبول وتوافق خليجي لدعم الموقف الإثيوبي في منطقته شرق القارة الإفريقية. وما يُمكن قوله أيضاً أن العلاقة بين دول الخليج العربي والقرن الإفريقي ليس لها علاقة بمصر وشمال المغرب العربي، حيث تخضع هذه العلاقة لمُعطيات الجغرافيا الطبيعية ومؤثراتها على الهوية المُشتركة بين الخليج العربي وسكان القرن الإفريقي. كما أن زيارة أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني هي على إرتباط قوي بإستراتيجية دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة المملكة السعودية ودولة الإمارات من حيث أن الأمن القومي الخليجي في اليمن هو جزء من الأمن القومي العربي، حيث تصريح الخارجية الإثيوبية بأن العلاقات الجديدة مع الخليجيين هي الطريق الصحيح نحو تعزيز علاقات إثيوبيا مع دول حوض النيل ومنها مصر أيضاً. وعندما ينظر الأفارقة إلى جزر تيران وصنافير من منظور الهوية الآسيوية أو الإفريقية، فعلينا أيضاً إعادة النظر في هوية سواحل إفريقيا الشرقية ومن نفس المنظور، حيث الهوية العربية والإسلامية في تلك السواحل هي بمثابة القوس الخليجي الذي سوف يُطوق كافة سواحل القارة الإفريقية لحمايتها من الأخطار التي تهدد الهوية العربية الإفريقية المشتركة.
التوصيات:
ما يجب أن يُدركه الخليجيون قبل عقد التحالفات مع دول القرن الإفريقي وخاصة إثيوبيا، ومع دول جنوب إفريقيا وخاصة جنوب إفريقيا هو إختلاف مفهوم كلا المنطقتين إلى الهوية على النحو التالي:
أفارقة القرن الإفريقي:
(1) التعامل مع إثيوبيا كهوية مسيحية يهودية، والهوية الدينية هي عرقية مُميزة لأفارقة القرن الإفريقي التي سوف تساعدهم في حماية منطقة الشرق الإفريقي.
(2) التعامل مع أعداء إثيوبيا بصرامة شديدة كما تعامل الخليجيون مع أعداء الرئيس التركي رجب أردوغان.
(4) فصل منطقة القرن الإفريقي عن دول منابع النيل، وحصر منطقة القرن الإفريقي على السودان وأثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والصومال، مع إقصاء كينيا ودول البحيرات العظمى.
(5) دعم إثيوبيا في الوصول إلى مضيق باب المندب كحق تاريخي لا يُمكن تجاوزه، وهو الطريق الأفضل للتقليل من حدة مشكلة مياه النيل مع السودان ومصر.
أفارقة الجنوب الإفريقي:
(1) التعامل مع جنوب إفريقيا كهوية فكرية قائمة على النضال ضد المصالح التي تتعدى على حياة الشعوب الفقيرة.
(2) إستقطاب جنوب إفريقيا بشكل إيجابي نحو قضيتي ليبيا وفلسطين، حيث لا يُمكن إغفال هذا الدور في دعم القضية الفلسطينية، فجنوب إفريقيا تحظى بمكانة مرموقة على المستوى الإفريقي والعالمي، وعلى الرغم من توجهات الحزب الحاكم اليسارية، ألا أن جنوب إفريقيا تقف أمام جميع القرارات الدولية وقفة إحترام وتقدير من أجل التطبيق….16/مايو/2017.