تجربة العدالة الانتقالية في العراق
اعداد: محمد كريم جبار الخاقاني – باحث ماجستير-جامعة بغداد – كلية العلوم السياسية
- المركز الديمقراطي العربي
لا يزال موضوع العدالة الانتقالية يثير مجموعة من التساؤلات حول مستقبلها التي بدأت مع بدايات التغيير الذي حصل في العراق في عام 2003, ومن اجل تحقيق تلك الغاية اُنشات العديد من المؤسسات لتطبيقها على ارض الواقع ومنها , المحكمة الجنائية العراقية العليا والهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة والمصالحة الوطنية وهيئة دعاوى الملكية ومؤسسة الشهداء ومؤسسة السجناء السياسيين.
ويعتبر مفهوم العدالة الانتقالية من المفاهيم الغامضة وتثير لبساً في نظر لكثير من المتابعين , فالعدالة الانتقالية تتكون من مقطعين , الأول يشير إلى العدالة وتعني المساواة والاستقامة , أما الانتقالية فتعني نقل شيء ما من مكانه إلى موضع آخر , ومن الناحية الاصطلاحية للمفهوم فتشير إلى التحول في المجتمعات من نمط معين إلى نمط آخر مغاير له , وخصوصاً في المجتمعات التي عانت من حكم دكتاتوري ينتهك القيم الإنسانية وتعد في نظر الكثير من المختصين جرائم ضد الإنسانية مثل الإبادة الجماعية والحروب الأهلية.
وتشير منظمة الأمم المتحدة في تعريفها للعدالة الانتقالية بأنها” كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتًفهم وتجاوز تركة الماضي الواسعة النطاق بغية كفالته للمساءلة وإحقاق العدل وتحقيق العدالة , وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على حد السواء مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية ومحاكمات الأفراد والتعويضات وتقصًي الحقائق والإصلاح الدستوري”[1]. والعدالة الانتقالية منظومة القرارات التي يقررها المجتمع ازاء الانتهاكات لحقوق الإنسان بقصد تحقيق العدل لذوي تلك الضحايا.
يتعلق موضوع العدالة الانتقالية بالمجتمعات التي عانت من سطوة أنظمة دكتاتورية التي أسهمت في تراكم الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان والإبادة الجماعية وأي جرائم ترتكب بحق الإنسانية. ومن اجل ضبط المفهوم الذي يرتبط بمفاهيم متداخلة معه مثل المصالحة الوطنية وتعويض ذوي الضحايا ولجان الحقيقة وغيرها من اجل تحقيق هدف بناء الدولة قائمة على أسس من السلام والعدالة ونبذ العنف ومعاقبة مرتكبي تلك الجرائم.لذا لا بد من معرفة أسس التحول الديمقراطي في العراق وتأثيره في موضوع العدالة الانتقالية, إذ كما هو معلوم للجميع بان بدايات التحول الديمقراطي في العراق ارتبطت بقيام الولايات المتحدة الأمريكية بغزو العراق في عام 2003,ففي ايار من نفس العام اصدر مجلس الأمن الدولي قراره المرقم ( 1483) الذي اعتبر كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة دولتي احتلال, إذ انهارت مؤسسات الدولة العراقية وتولت قوات الاحتلال الأمريكيإدارة شؤون الدولة العراقية من خلال سلطة الائتلاف برئاسة (بول برايمر), وتم إصدارالأمر رقم (1) في 16 أيار 2003 القاضي بتطهير المجتمع العراقي من حزب البعث أو ما يُعرف (اجتثاث البعث) وتبعها بقرارات أخرىأسهمت بشكل أوبآخر في انهيار الدولة العراقية فتم حل الكيانات والوزارات المرتبطة بأجهزة النظام السابق مثل الجيش العراقي ووزارة الدفاع وأجهزةالأمن المختلفة وتشكيلاتها المتعددة , وبذلك أعطى دافعاً قوياً لتفشي ظاهرة العنف في العراق [2].
وبناءاً على ذلك , فقد تمت عملية تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة برئاسة ( إياد علاوي) في 31-5-2004 بعد مباحثات بين مجلس الحكم وسلطة الاحتلال والأمم المتحدة وحسب ما جاء بقرار مجلس الأمن الدولي المرقم(1546) الذي منح القوات المحتلة سلطات واسعة لإدارة العراق وبذلك لم تكن لتلك الحكومة أي سياسة حول موضوع العدالة الانتقالية , إذ اقتصر دورها على تعويض ذوي الشهداء في فترة النظام السابق من خلال تنظيم سياقات عمل وإعداد قوائم بأسماء الشهداء وإرجاعآلاف اللاجئين السياسيين إلى العراق وغيرها من الأمور التنظيمية الأخرى.
ولان حكومة إياد علاوي كانت مقيدة بقرارات الاحتلال الأمريكي وخصوصاً بعد ضرب مدينتي الفلوجة والنجف الاشرف من قبل الطائرات الأمريكية , الأمر الذي أدىإلى عدم تمكن تلك الحكومة من استمالة الشارع العراقي لمصلحتها وبالتالي عدم تطبيق ماجاء بخطتها للعدالة الانتقالية ما بعد حكم النظام السابق.
إن العدالة الانتقالية تستهدف توطيد وتقوية الأجهزة القضائية وذلك من خلال تطبيق ثقافة المساءلة والعقاب على مرتكبي الجرائم بدلاً عن ثقافة الإفلات من المسؤولية بحق مرتكبي تلك الجرائم, إذإنالأزمة التي يعاني منها العراق وخصوصاً في مجال العدالة تنطلق من أساسضعف القضاء وعدم استقلاليته مما أدىإلى عدم الثفة بتلك المؤسسة المهمة وذلك يرجع إلى عدم التوافق بين الكتل والأحزاب السياسية التي حكمت العراق بعد عام 2003[3].
وبعد انتخابات عام 2005 التي نتجت عن اختيار مجلس وطني مؤلف من (275) عضواً , تم اختيار الدكتور ( إبراهيم الجعفري) لرئاسة الوزراء , إذ عرض برنامجه الحكومي للمرحلة الانتقالية على الجمعية الوطنية من خلال الدعوة لبناء عراق ديمقراطي فيدرالي والانتهاء من صياغة دستور دائم للبلاد وعرضه على الاستفتاء الشعبي العام وكذلك العمل على تشكيل هيئة عليا للحقيقة والعدالة تهدف إلى توفير جو سياسي ايجابي بتعامل مع تركة الماضي, ومع تلك التصورات التي شرعت الحكومة بتنفيذها إلا انه لم يتحقق ذلك وخصوصاً فيما يتعلق بتشكيل هيئة الحقيقة والعدالة واستمر عمل هيئة اجتثاث البعث , وعلى الرغم من حضور الحكومة العراقية لمؤتمر عقد في القاهرة بشان المصالحة الوطنية لكن ذلك لم يؤدي إلى تقليل العنف في البلاد بل فشلت كل المحاولات الرامية لاحتواء العنف بسبب تزايد العمليات الإرهابية وتنافس الكتل السياسية بينها على الحكم في العراق ناهيك عن التدخلات الدولية والإقليمية في ذلك الموضوع.
وبما إن حكومة الدكتور ( إبراهيم الجعفري) كانت مهمتها الأساسية تتمثل بكتابة الدستور الدائم للدولة , لذا فقد نص الدستور في المادة (7) منه بخصوص إجراءات العدالة الانتقالية على ما يلي” يحظر على كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أوالإرهابأو التكفير أو التطهير العرقي أو يحرض أو يهدد أو يمجد أو يروج أو يبرر له, وبخاصة البعث الصدامي في العراق ورموزه وتحت أي مسمى كان ولا يجوز أن يكون ذلك ضمن التعددية السياسية في العراق وينظم ذلك بقانون”[4], وكذلك من إجراءات العدالة الانتقالية في العراقي هو ما قرره الدستور بشان إنشاء بعض المؤسسات الرسمية لتعويض ذوي الضحايا وإعادة الاعتبار لهم وإقامة محاكمات للمسؤولين عن ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية
وبعد الحكومة الانتقالية تم اختيار السيد ( نوري المالكي) لرئاسة الوزراء الذي طرح برنامجه الحكومي والخاص بالمصالحة الوطنية والعمل على إنشاء وزارة للمصالحة الوطنية والحوار الوطني , وكذلك تشكيل ( لجنة المصالحة الوطنية) في البرلمان العراقي.
وبالرغم من تلك الإجراءات المتحققة في سبيل الوصول إلى سلام وعدالة مجتمعية في البلد بعد عام 2003 وما نتج عنه من تصاعد أعمال عنف مستمرة لاسيما بعد تفجير المرقدين المقدسين للطائفة الشيعية في سامراء , إلاإن الملاحظ بان تلك الاجراءات الحكومية التي كانت تأمل منها الحكومات المتعاقبة على تحقيق العدالة الانتقالية في العراق لم تؤدي إلى شيء ملموس عملياً بشأنها ما عدا بعض التعويضات المادية لذوي الشهداء ويرجع ذلك إلى التنافس الكبير الذي شهدته الساحة السياسية العراقية من خلال الكتل والأحزاب السياسية وكذلك عدم وجود رؤية واضحة للأحزاب العراقية بشان موضوع العدالة الانتقالية .
ومن اجل تفعيل دور العدالة الانتقالية في تحقيق مصالحة حقيقية بين أبناء الشعب العراقي , يجب اتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تسهم في تحقيق المصالحة الوطنية وذلك من خلال:
1-تعزيز جانب الثقة بين الكتل والأحزاب السياسية وبما ينعكس على حالة التعاون بين مكونات الشعب العراقي.
2-العمل على إزالةأيآثار تتعلق بالماضي والعمل على تعويض ذوي الضحايا عن ما لحق بهم نتيجة تلك الفترة السابقة وان لا تقتصر تلك التعويضات عن الجانب المادي فقط بل يتعداها إلى شمولهم بكل الامتيازات التي تمنح لهم وذلك يساعد على تحقيق نوع من العدالة والإنصاف.
3-إن جهود الحكومة العراقية بشان العدالة الانتقالية لا يمكن أنتأتي بنتائجإلا من خلال البدء بخطوات ملموسة عملية فيما يخص المصالحة الوطنية ومن خلال بناء عامل الثقة المتبادلة بين الجميع وبما يعمل على تحقيق عدالة انتقالية حقيقية قائمة على أساسإحقاق الحق .
4-محاكمة المسؤولين على ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية ولاسيما بقاء بعضهم لغاية الآن وعلى الرغم من صدور أحكام بحقهم وبالتالي فان بقاء هؤلاء يشكل خطراً على امن البلد من خلال عدم الجدية بتنفيذ الأحكام الصادرة بحقهم, لذا لا بد من حسم تلك القضايا والتي لها من التأثير على تحقيق العدالة وإنصاف ذوي الضحايا.
المراجع:
1-تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن الدولي بشان سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع وبالوثيقة المرقمة S\616\2004.
2-آمنة داخل مسلم, العدالة الانتقالية , دراسة مقارنة ما بين دولة جنوب أفريقيا والعراق, ط1, دار الكوثر للطباعة والتصميم, بغداد , 2016.
3-زينب محمد صالح, العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية واليات تطبيقهما في المجتمع العراقي , مجلة لاركللفسلفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية , جامعة واسط, العدد 16, السنة السادسة, 2014.
4-المادة السابعة من الدستور العراقي الدائم لعام 2005.
[1] تقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن الدولي بشان سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع وبالوثيقة المرقمة S\616\2004 ص 2.
[2]آمنة داخل مسلم, العدالة الانتقالية , دراسة مقارنة ما بين دولة جنوب أفريقيا والعراق, ط1, دار الكوثر للطباعة والتصميم, بغداد , 2016ص 253.
[3]زينب محمد صالح, العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية واليات تطبيقهما في المجتمع العراقي , مجلة لاركللفسلفة واللسانيات والعلوم الاجتماعية , جامعة واسط, العدد 16, السنة السادسة, 2014, ص 163.
[4]المادة السابعة من الدستور العراقي الدائم لعام 2005.
المصدر: مجلة اتجاهات سياسية – العدد الأول ديسمبر – كانون الأول – سنة “2017” احدى اصدرات
المركز الديمقراطي العربي