انفصال جنوب السودان بين التحديات الداخلية والتداعيات الاقليمية
اعداد : صونية مسعودي – طالبة دكتورة وباحثة مهتمة بالشؤون الدولية تخصص الدراسات الأفريقية
جامعة الجزائر 3 كلية العلوم السياسية والعلاقات الدولية
- المركز الديمقراطي العربي
ملخص:
تمثل حّالة جّنوب اّلسودان ظّاهرة اّفريقية بّكل اّمتياز مّن حّيث الصراعات وّالحروب اّللامتناهية وّالتيّ أفضت بّعد سّلسلة مّن اّلحروب اّلأهلية مّع اّلسودان إّلى اّلانفصال ،ّحيث يُّعتبر هذا اّلانفصال نقطة تحول تاريخية مهمة أدخلت جنوب السودان فّي المجتمع الدولي كدولة مستقلة ، وإن بروز دولة جديدة تصاحبه تحدياتّ كبيرة تحتاج معالجتها إلى بعد نّظر لكي يُترجم الاستقلال السياسي إلى مستوىّ معيشي عال لشعب جنوبّ السودان . وعليه فّإن دراسة اّلدولة اّلوليدة تّعتبر جّديرة بّالاهتمام مّن حّيث تّحديات بّناء اّلدولة وّالتهديداتّ المحيطة بّها،
وبناءا على ذلك تحاول هذه المقالة إبراز أهم العوامل التي كانت وراء انفصال جنوب السودان من عوامل تاريخية وبيئة داخلية متمثلة أساسا في التهميش الاقتصادي والاجتماعي التي منها مواطن الجنوب بالإضافة إلى البيئة الخارجية المتمثلة في دور القوى الخارجية والكبرى التي حاولت استغلال النزاعات الداخلية من أجل مصالحها الخاصة ومن بينها اسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
كما تعالح هذه المقالة التحديات التي واجهت جنوب السودان بعد الانفصال من بينها هشاشة وضعف الدولة ، ومشكلة المناطق المتنازع عليها نظرا لسهولة عسكرة وتسليح المجتمعات الملية و تدني مستويات المعيشة وانتشار الفقر والفساد بالإضافة إلى انتشار النزاعات الإثنية والقبلية لاسيما النزاعات المتعلقة بالموارد وانتشار العنف والأسلحة والصراع العسكري والسياسي لدولة جنوب السودان الوليدة..
وفي الأخير تتناول المقالة تأثيرات النزاع في دولة جنوب السودان على دول الجوار بما فيها جمهورية السودان واثيوبيا وغيرها نظرا للموروث اّلصعب مّن اّلتدخلات اّلطبيعية وّالإثنية وّانعكاساتها عّلى اّلواقع اّلجيوبولتيكي التي سّتفرض نّفسهاّ بقوة ،ّفانفصال جنوب اّلسودان الذي أصبح واقعاًّ بعد اّستفتاء 2011.
Abstract :
This artical entitled “the secession of southern sudan between internal challenges and regional implications”, in order to study the Factors and Causes of Southern Sudan Secession , Refering to the Historical Evolution wich is necessary to understand the North/ South Conflict , there were many attempts to resolve the crisis in southern Sudan, and the successive Sudanese governments used different methods to resolve the crisis, such as the use of military forces to integrate the north with southern Sudan and the political solution that recognizes the differences between the two parties and grants autonomy to the south. The Naivasha agreement in 2005 was the best of those attempts because it was the one which stopped the war and laid the groundwork for the sharing of power .
the Global Peace Agreement and the process of independence of South Sudan have left unsolved some key issues that might in the end endanger the full peace process. In particular, unresolved issues over citizenship, Abyei, border and the sharing of resources represent issues over which confrontation with Sudan can escalate, the decisions makers of South Sudan also face a variety of challenges: the challenge of establishing the state security and the challenge of the spread of violence and armed militias, confronting the economic drivers of instability and conflict.
This Thesis examines the regional political impact of South Sudan’s independence on its neighbours. It takes into account the emergence of South Sudan as an independent nation, which has resulted in a new “rapport de force” among the neighbouring states. This region of Africa is made up countries with a history of conflicts and poor govern-ance. State authority is weak –particularly in the border areas between Sudan, South Sudan and Uganda to the east; and Chad, the Central African Republic and the Democratic Republic of Congo to the west. Referred to here as an ‘ellipse of insecurity’, this vast area of instability.
مقدمة:
السودان اّلقطر اّلواسع اّلمترامي اّلأطراف وّالمتنوع اّلخصائص الجغرافية وّالاجتماعية، اّلمتعدد اّلثقافاتّ الإثنية وّالعرقية فّي تّجمعاته اّلسكنية وّنمط حّياته والزاخر بّالموارد اّلطبيعية وّالبشرية،فرغم كّل هّذهّ الخصائص ،ّإلا أّنه مّنذ تّكوينه وّتأسيس أقاليمه يّحمل فّي دّاخله عّناصر مّتضادة وّقوى مّتصارعة، فّلاّ يمكن فّي مّحاولة اّلبحث عّن أّسباب اّنفصال جّنوب اّلسودان، اّلفصل بّين اّلعامل اّلتاريخي كّالسياسةّ الاستعمارية ذّات اّلنهج اّلانفصالي ،ّفقد اّنتهج اّلاحتلال اّلانجليزي سّياسة تّعمل عّلى تّعزيز اّلاختلاف بّينّ الشمال وّالجنوب.1والعامل اّلاقتصادي اّلمتمثل فّي اّختلاف مّستوى اّلتنمية بّين اّلشمال وّ اّلجنوب، أّوّ التهميش اّلسياسي وّ اّلمتمثل أّيضا فّي أّخطاء اّلحكومات اّلسودانية اّلمتعاقبة وّغياب دّور اّلدولة ،ّ أوّالعامل الديمغرافي اّلمتمثل فّي اّلتباين اّلثقافي وّ اّلاختلاف اّلعرقي، فّكل هّذه اّلعوامل سّببت فّي تّأزمّ مشكلة جّنوب اّلسودان.
تعد مّشكلة جّنوب اّلسودان مّشكلة مّعقدة وّمتعددة اّلجذور تّتداخل فّيهاّ عناصر وّعوامل عّديدة ،ّوقد تّعددت مّحاولات إّيجاد حّل لّلأزمة فّي جّنوب اّلسودان مّثل اّلحل اّلعسكريّ باستخدام اّلقوّة اّلعسكرية لّدمج اّلشمال مّع جّنوب اّلسودان ،ّوالحل اّلسياسي اّلذي مّنح اّلحكم اّلذاتيّ للجنوب ،ّ وّنتيجة لّلضغوط اّلداخلية وّالخارجية اّستمر مّسار اّلسلام فّي اّلسودان لّيصل فّي اّلأخير إّلى مّاّعرف بّاتفاق اّلسلام اّلشامل اّلذي مّثل نّهاية اّلحرب اّلأهلية اّلتي وّصفت بّأنها أّطول حّرب أّهلية فّيّ أفريقيا2 .حّيث تّم وّضع أّسس اّلتوصل إّلى حّل يّنهي مّشكلة جّنوب اّلسودان تّلك اّلمشكلة اّلتي طّالما شّكلتّ تهديدا لّلأمن وّالأمان لّيس فّقط فّي اّلسودان وّلكن أّيضا فّي شّمال وّوسط أّفريقيا ،ّ وّقد تّمت اّلموافقة عّلىّ مبدأ تّقرير اّلمصير بّواسطة غّالبية اّلقوى اّلسياسة اّلتي لّم تّبدي أّي مّعارضة لّاتفاق اّلسلام بّل تّعهدتّ معظمها عّلى دّعمه ،ّ وّقد نّص اّلاتفاق أّن اّلمواطنين فّي جّنوب اّلسودان لّهم كّامل اّلحق فّي مّمارسة حّقّ تقرير اّلمصير بّما فّي ذّلك اّلتصويت فّي اّستفتاء بّعد سّت سّنوات لّتحديد مّستقبل إّقليمهم سّواء اّلوحدة أّوّ
الانفصال ،ّ وّقد اّختار اّلجنوب اّلانفصال .
المحور الأول :البيئة الداخلية والخارجية المساعدة على انفصال جنوب السودان
- دور التهميش الاجتماعي والاقتصادي في انفصال جنوب السودان:
الارتباط بين مّستوى التهميش الاجتماعي والاقتصادي ومستوى الانفصال،ّيظهر في أن فّشل اّلنخب اّلحاكمة فّي تّحقيق اّلعدالة وّ اّلتوازن بّين اّلمجموعات اّلإثنية ،ّمما يّخلقّ هوة عّميقة دّاخل اّلدولة مّما يّهددها بّالانقسام وّ اّلتفتت، وّهو ما اتضح جلياًّ بالنسبة لّحالة جّنوبّ السودان،أين مّارست اّلحكومة اّلسودانية سّياسات اّلتهميش اّلاجتماعي وّالاقتصادي ضّد اّلجماعات اّلعرقيةّ في جّنوب اّلسودان ،ّ حّيث وّصف اّلجنوب بّأنه مّن أّكثر مّناطق اّلعالم تّخلف نظرا لّعوامل اّلعزلةّ الطبيعية وّالسياسية اّلتي حّالت دّون اّتصاله بّالعالم اّلخارجي وّاستفادته مّن إّمكانية اّلتقدم ،ّوانعدام االثقة بين اّلجنوب وّ اّلشمال وّ اّلذي كّان تّمهيدا وشرارة كّل تّمرد وّ كّل اّلحروب إّلى جّانب اّلتمهيش اّلسياسي وّانعدام اللااستقرار وّ اّللامبالاة اّلموجهة لّلجنوب مّن طّرف اّلحكومة اّلسودانية أّفرز فّي اّلوقت نّفسهّ منظمات وأحزاب وّ جّبهات تّعمل مّن أّجل اّنفصال اّلجنوب عّن اّلشمال.
كما أّن هّشاشة تّكوينّ الدولة فّي اّلسودان ظّل يّلقي بّتبعاته وّيؤثر فّي حّاضر اّلبلاد اّلسياسي وّالاجتماعي ،ّ وّمشكلة اّلجنوبّ والحرب اّلأهلية اّلمدمرة اّلتي تّمخضت عّنها تّعكس هّذه اّلهشاشة ،ّ حّيث إّنه لّم تّتح اّلظروف اّلملائمةّ أمام جّنوب اّلسودان لّلتفاعل مّع الأجزاء اّلأخرى فّي اّلبلاد فّقد ظّل فّي وّضع أّشبه بّالانطواء عّلى اّلذات،هذه اّلتجربة اّلفاشلة مّن اّلحرب وّالقمع لّعقود دّفعت بّالقيادات اّلجنوبية إّلى طّلب اّلانفصال عّن شّمالّ السودان .3
2-دور الأطراف الخارجية في انفصال جنوب السودان:
هناك علاقة بّين تّدخل الأطراف اّلخارجية مّن أّجل تّحقيق مّصالحها الاستا رتجية وّتدهور اّلأوضاع اّلداخلية، . ذلك أن، حّالة جّنوب اّلسودانّ وما تّطرحه مّن تّدخلات خّارجية وّاضحة تّمثل صّورة مّصغرة لّلمشهد اّلأفريقي اّلعام،حيث أّن اّلسياسةّ الغربية وّالأمريكية فّي مّنطقة جّنوب اّلسودان وّحتى مّنطقة اّلقرن اّلأفريقي إّنما هّي استمرار لّلجهود اّلغربيةّ الرامية لّإعادة صّياغة اّلعالم غّير اّلغربي فّكا وّتركيبا بّما يّخدم مّصالحها وّأهدافها اّلعليا، وّفي مّقابلّ ذلك اّرتبطت اّلقوى اّلجنوبية غّالبا بّقوى خّارجية لّتدعيم مّوقفها ،ّالأمر اّلذي جّعل اّلجنوب مّدخلا لّلتدخلّ في اّلشؤّون اّلداخلية ،ّفقد لّعبت اّلقوى اّلخارجية دّو ا ر فّاعلا فّي كّل اّلاتفاقيات اّلسياسية اّلتي تّم اّلتوصلّ إليها ، وّيظهر ذّلك مّن خّلال عّمليات اّلتفاوض اّلتي تّمت بّوساطات خّارجية تّداخلت فّيها أّجندة قوى إ قليمية وّدولية ،ّ وّقد لّعب تّقاطع مّصالح هّذه اّلقوى اّلخارجية دّو ا ر مّهما أّحيانا فّي تّأجيج اّلحروب اّلأهليةّ4، كّما اّستطاع اّلتأثير عّلى مّسار اّلتسويات اّلتي تّمت .
ومن بين أبرز القوى الخارجية الفاعلة في أزمة جنوب السودان اسرائيل حيث تواصل الكيان الاسرائيلي مّع حّركة تّحرير جّنوب اّلسودان وّالفصائل اّلمتمردة فّي عّامّ بّتقديمه اّلدعم اّلمالي وّالعسكري لّلجيش اّلشعبي لّتحرير اّلسودان بّقيادة غرانغ وّمن بّعده سّلفاكيرّ الذي بّات رّئيس حّكومة جّنوب اّلسودان، وّتزويده بالخبرات اّلعسكرية وّالمعدات اّللوجيستية وّالتقنياتّ والأسلحة اّلمتقدمة عّبر دّول أّفريقية تّرتبط بّعلاقات وّثيقة مّع اّلكيان الاسرائيلي مّثل أّثيوبيا وّكينيا وّتدريبّ قياداته اّلعسكرية فّي قّواعد عّسكرية إسرائيلية وّمشاركة هّذه اّلقيادات فّي وّضع اّلخطط وادارة اّلعملياتّ العسكرية.5
وّتمثل أّهداف اّلسياسة الإسرائيلية إزاء اّلسودان فّي استمرارية اّلدولة الإسرائيلية عبر إكتساب عّنصرّ الشرعية اّلسياسية والاعتراف اّلقانوني لّلدولة اّلصهيونية مّن خّلال إّقامة عّلاقات دّبلوماسية تّرسخ مّفهومّ الوجود اّلصهيوني، وإحباط مّحاولة بّناء دّولة قّوية مّوحدة وّمنافسة بّموارده وّمساحته اّلشاسعة مّن خّلالّ تأجيج مّشاعر اّلانفصال فّي اّلجنوب لّتغيير مّجرى اّلأوضاع فّي اّلبلاد نّحو الصراع وّالانقسام وّتوليدّ الأزمات اّلمزمنة اّلمستعصية عّلى حّساب تّعظيم القدرات بّما يّفسح اّلطريق أّمام اّلتدخل الإسرائيلي .6
أما عن اّلولايات اّلمتحدة اّلأمريكية فقد انحازت بّكل ثّقلها وّدعمت تّماما مّبادرة اّلإيجاد اّلتي أّكدت عّلى حّقّ تقرير اّلمصير لّلجنوب ،ّوقد اّستمرت اّلجهود اّلأمريكية اّلضاغطة عّلى اّلحكومة اّلسودانية فّي ذّات اّلوقتّ الذي قّدمت فّيه اّلدعم لّحركة اّلتمرد فّي اّلجنوب ،ّكما دّعت حّلفاءها اّلدوليين مّثل بّريطانيا واسرائيل والإقليميين مّثل دّول اّلجوار اّلأفريقية لّلسودان بّتقديم اّلدعم لّلجنوبيين ،ّوهو اّلأمر اّلذي دّفع بّالحكومةّ السودانية إّلى اّلرضوخ لّلشروط اّلأمريكية وّالموافقة عّلى اّتفاق مّشاكوس اّلإطاري فّي عّامّ 2002.7
المحور الثاني : تحديات جنوب السودان ما بعد الانفصال
مع اّنفصال جّنوب اّلسودان ظّهرت جّملة مّن اّلتحديات ،ّترتبت عّليها تّحولات دّستورية وّسياسيةّ ودبلوماسية وّأمنية اجتماعية وّاقتصادية وّثقافية تّتبدى أّثارها فّي مّناحي اّلحياة، تّتمثل بّتحديد فّي بّناءّ دولة اّبتداء مّن وّضع هّياكلها وّدستورها وّخدمتها اّلمدنية وّتحدي تّوحيد اّلقوى والأحزاب اّلسياسية اّلجنوبيةّ والصراعات اّلقبلية اّلمستشرية،إضافة إّلى اّلتحدي اّلأمني اّلمتمثل بّالميليشيات اّلمسلحة اّلمنتشرة وّكلّ المتعلقات اّلاقتصادية 8 ،ّوما تّتطلبه مّن بّنى تّحتية يّفتقر إّليها اّلجنوب، بّالإضافة إّلى تّحديات أّخرى،ّكمشكلة حّدود الأراضي اّلمتنازع عّليها وّمشكلة اّلمياه ،ّ وّتنمية مّناطق اّلجنوب.
- . تحدي بناء الدولة في جنوب السودان:
تّختلف دّولة جّنوب اّلسودان عّن سّائر اّلدول اّلأفريقية اّلتي نّالت اّلاستقلال قّبلها فّي أّنها كّانت شّبةّ مستقلة لّمدة سّت سّنوات قّبل اّستقلاله اّلرسمي فّيّ 9 تّموزّ 2011 ،ّخلال تّلك اّلفترة كّانت حّكومة جّنوبّ السودان تّتمتع بّموارد مّالية وّسلطة سّياسية إّلا أّنها لّم تّتمكن مّن إّرساء قّاعدة لّدولة اّلجديدة ،ّبرغمّ من أّن اّتفاقية اّلسلام اّلشامل كّانت تّهدف بّنهاية اّلفترة اّلانتقالية لّأن يّكون جّنوب اّلسودان قّد تّطورّ ليكون عّلى مّستوى اّلولايات اّلشمالية إّما لّإبقاء اّلجنوبيين فّي إّطار وّحدة اّلسودان فّي اّلاستفتاء عّلىّ تقرير عّلى تّقرير اّلمصير أّو لّإرساء أّساس قّوّي لّدولة جّديدة ،ّو جّاء خّيارهم لّصالح اّلانفصال عّنّ السودان فّوجد بّذلك اّلجنوبيين أّنفسهم أّمام تّحديات هّائلة كّان يّمكن مّواجهتها مّنذّ 2005 عّندما تّم تّكوينّ
حكومة جّنوب اّلسودان.
وّفي هّذا اّلإطار يّواجه مّختلف اّلقائمين عّلى عّملية اّعادة اّلبناء تّحديات جّديدة تّتمثل فّي تّحول أطراف النزاع مّن اّلعقلية اّلأمنية إّلى اّلمجال اّلسياسي اّلذي يّهتم بّالمسائل اّلتنموية ،ّفضلا عّن تّغير نّمط اّلحياةّ العسكرية وّالقيم اّلمعمول بّها أّثناء الحروب بّنمط حّياة مّدنية وّاستبدالها بّقيم اّلشفافية وّالمساواة والديمقراطية وغيرها ،ّوتحدي اّلحفاظ عّلى سّلام دّائم وّالابتعاد عّن إّمكانية تّجدد اّلن ا زعات اّلمسلحة. 1 وّأول تّحدي وّاجهته اّلنخبة اّلسياسية اّلحاكمة فّي جّنوب اّلسودان هّو اّلإخفاق اّلمؤسسي فّما ا زلت اّلقبليةّ بعاداتها اّلتقليدية هّي اّلمؤسسة اّلاجتماعية وّالسياسية وّالاقتصادية اّلتي يّلجأ اّليها اّلمواطن وّالإخفاق فّيّ بناء هّوية مّوحدة فّقد ظّلت قّدرة اّلحركة اّلشعبية وّالجيش اّلشعبي عّلى قّيادة عّملية اّلبناء اّلسياسي وّالإداريّ ضعيفة، فّدولة جّنوب اّلسودان هّي كّيان فّي إّطار اّلتشكل وّمن اّلمتوقع نّدرة أّو غّياب اّلعناصر اّللازمةّ لتكوين دّولة وهناك مّخاوف مّن أّن يّصبح جّنوب اّلسودان دّولة فّاشلة جّديدة فّي شّرق أّفريقيا.9
كما تعاني دولة جّنوب اّلسودان عّلى غرار غّيرها مّن اّلدول اّلأفريقية مّن مّشكل تّدخل اّلعسكرّ في اّلحياة اّلمدنية بّلا قّيود وقد سّاعد اّلعسكر عّلى ذّلك اّلنظر إّلى أّنفسهم كّمؤسسة خّاضت اّلحرب ضّدّ حكومة اّلخرطوم وّبقيت تّمارس مّهامها بّنفس اّلطريقة بّعد اّنهاء اّلحرب ،ّ حّيث لّم يّستطع اّلحزب اّلحاكمّ الانتقال مّن حّركة مّسلحة إّلى حّزب سّياسي يّقود عّملية تّحقيق تّطلعات وّتوقعات مّجتمع جّنوب اّلسودانّ بعد اّلتوصل إّلى اّلسلام ،ّفي حّين تّحول مّشروعه إّلى صراع مّستميت حّول اّلسلطة بّين مّجموعاتهّ المختلفة ،ّكما لّم يّتم تّحويل اّلجيش اّلشعبي لّتحرير اّلسودان إّلى جّيش قّومي مّوحد يّدين بّالولاء لّلدولة ، فقد ظّل كّما كّان أّيام اّلحرب ضّد اّلخرطوم مّجموعات قّبلية وّلاؤها لّلقادة اّلمحليين، اّلواقع في جنوب السودان هو أن الحركة الشعبية لتحرير السودان تسيطر على المسرح السياسي ليس لقوة تنظيمها الداخلي وّلا لمقدرتها على تعبئة الجماهير، وإنما للوضعية الخاصة التي حصلت عليها في اتفاقية السلام الشامل مدعومةّ بتكتيكاتها في تضييق مساحة حرية التنظيم والتي نفذتها بلا هوادة خلال الفترة الانتقالية وما بعدها.
وّحسب تّصنيف صّندوق دّعم اّلسلامّ fund for peace سنةّ 2014 وّ 2015 1 جاءت جّنوبّ السودان فّي اّلمرتبة اّلأولى لّأكثر اّلدول هّشاشة بّعدما كّانت فّي اّلمرتبة الرابعة سّنةّ 2013 مّن بّينّ 178دولة فّي اّلعالم وّفقّ 12 مؤشرا اّجتماعيا وّاقتصاديا وّسياسيا وّهي تّشمل مّعايير : شّرعية اّلدولة، احترام حقوق اّلانسان ،ّ وّسيادة حّكم اّلقانون وّالتنمية وّغيرها.10
- مشكلة الحدود بعد انفصال جنوب السودان :
اّلانفصال لّم يّحسم سّوّىّ وّجه وّاحد مّن وّجوه اّلعلاقات اّلمتشابكة بّينهما. فّثمة قّضايا عّالقة لّم يّتمّ حسمها بّعد، مّنها مّا يّعرف بّه “قضايا مّا بّعد اّلاستفتاء”، أّو اّلقضايا اّلمصيرية وّهي عّشر قّضايا، كّانّ قانون اّلاستفتاء عّلى حّق تّقرير اّلمصير، اّلذي تّم إّق ا رره فّي نّهاية دّيسمبرّ 2009 ، قّد نّص عّلي وّجوبّ الوصول إّلي اّتفاقات بّشأنها فّي حّالة اّختيار اّلجنوبيين لّلانفصال، هّذه اّلقضايا هّي ) الجنسية، اّلعملة،ّالخدمة اّلعامة، وّضع اّلوحدات اّلمشتركة وّالمدمجة وّالأمن اّلوطني اّلاتفاقيات وّالمعاهداتّ الدولية، اّلأصول وّالديون، حّقول اّلنفط وإنتاجه وّترحيله وّتصديره، اّلعقود اّلبيئية فّي حّقول اّلنفط، اّلمياه،ّ الملكية(، وّكان يّنبغي حّسم تّلك اّلقضايا قّبل اّلإعلان اّلرسمي لّانفصال اّلجنوب فّيّ 9 يّوليوّ 2011 ، ولكن لّم يّتمكن اّلطرفان مّن اّلوصول إّلي تّفاهمات أّو اّتفاقات بّشأنها.
ونظرا لّغياب اّلثقة اّلتي مّيزت اّلمشهدّ السياسي اّلسوداني طّيلة أّعوام،إضافة إّلى سّهولة تّسليح وّعسكرة اّلمجتمعات اّلمحلية عّلى جّانبي اّلحدودّ بين اّلشمال وّالجنوب، أّضحت تّلك اّلمناطق اّلحدودية تّشكل بّؤر تّوتر تّنذر بّالانفجار فّي أّي وّقت، والسياق اّلاجتماعي وّالاقتصادي لّهذه اّلمناطق بّالغ اّلضعف وّالهشاشة ،نظرا إّلى مّحدودية قدرات أّجهزةّ الحكم وّالإدارة فّي اّلتعامل مّع قّضايا الأراضي وّتسوية النزاعات اّلمحلية وّما شّابه ذّلك والمصالح اّلمتناقضة وّالولاءات اّلمعقدة وّثقافة اّلعسكرة وّسهولة اّلحصول عّلى اّلسلاح فّي اّلمناطقّ الحدودية تّدفع إّلى عّودة الصراع المسلح عّلى نّطاق وّاسع ،ّولاسيما إّذا لّم تّلبى مّطالب اّلمجتمعاتّ الحدودية فّعلى سّبيل اّلمثال فّإن هّذه اّلمجتمعات تّعتقد أّنها قّد هّمشت وّلم يّتشاور مّعها عّند اّلتفاوضّ على اّلحدود بّين اّلشمال وّالجنوب .
وّتخشى اّلمجتمعات اّلحدودية مّن أّن تّعاني مّزيدا مّن اّلتهميش ،ّكما أّن مّفهوم اّلانفصال لّيس جّزءاّ من ثّقافة هّذا المجتمعات اّلتي دّخلت فّي شّبكة اّلتفاعلات فّما بّينها عّبر قّرون طّويلة ،ّوفي ظّل غّيابّ أطر إّدارية مّحلية يّعتد بّها لّلمناطق اّلحدودية إّذا اّعتمدت اّلمجتمعات اّلرعوية وّالاستهلاكية عّلى مّفهومّ الحدود اّلناعمة soft borders )) الذي يّسمح بّحرية اّنتقال الأفراد وّالسلع مّن دّون أّي مّعوقاتّ.
- تحدي بناء هوية مشتركة في جنوب السودان :
منذ اّنفصال جّنوب اّلسودان فّيّ 2011 ، شّهدت اّلبلاد صراعات عّرقية دّاخلية، وّلاسيما تّلك النزاعات المتعلقة بّالموارد اّلطبيعية والنزاعات حّول المراعي وّالماشية وّخاصة فّي وّلايتي جّونغلي وّأعالي اّلنيل ،ّعلىّ الرغم مّن اّلجهود اّلوطنية اّلمتعددة لّتفادي قّيام مّثل هّذه النزاعات اّلقبلية ،ّووفقا لّلأمم اّلمتحدة يّرى مّفوضّ شؤون اّللاجئين فّي جّنوب اّلسودان أّن هّذا اّلبلد يّواجه مّجموعة مّن اّلتحديات اّلسياسية وّالاقتصاديةّ والأمنية بسبب الاستمرار فّي اّلعداء بّين اّلطوّائف وّانتشار اّلجماعات اّلمتمردة، وّنجد هّذه الصراعات حتى دّاخل اّلقبيلة نّفسها مّثل الصراع بّين اّلدينكا )بحر الغزال (وّالدينكا ) بور(. .11
إّن اّحتمالات فّشل اّلمشروع اّلقومي وإخفاق بّناء هّوية مّوحدة ثّقافية – اجتماعية لّلشعب اّلجنوبيّ ،تتداخل فّيها الاعتبارات اّلقبلية فّي مّختلف اّلمشاكل، حّتى اّلسياسية مّنها، وّتزيد مّن عّمقها ،ّفبعد تّوقيعّ اتفاقية اّلسلام اّلشامل عّامّ 2005 أّصبحت اّلمنافسة اّلقبلية أّكثر تّعقيدا، لّأنها اّمتدت مّن اّلمنافسة عّلىّ الموارد اّلطبيعية والأراضي وّالماشية إّلي اّلمنافسة عّلى عّد اّلموظفين فّي حّكومات اّلولايات وّالتمثيل فّيّ المحليات وّغيرها،وترجع هّذه الصراعات اّلقبلية فّي جّنوب اّلسودان إّلى غّياب اّلكفاءة فّي اّلإدارة اّلعامةّ وغياب اّلشفافية اّلمالية 12،ّوغياب عّدالة اّلتوظيف اّلحكومي وّاستبعاد جّماعات عّرقية صّغيرة مّن حّقوقهاّ السياسية وّالاقتصادية.
إن مّستوى اّلنجاح فّي بّناء دّولة يّتوقف عّلى حّجم اّندماج جّميعّ العناصر اّلمكونة لّلمجتمع ،ّ فّالدولة اّلتي لّا تبنى على مؤسسات ت ا رعي مختلف المكونات الاجتماعية تميل إلى أن تّكون دّولة فّاشلة ،ّ فّتكوين اّلمؤسسات اّلوطنية هّو مّرآة تّعكس مّستوى وّحجم اّندماج جّميعّ العناصر اّلمكونة لّلمجتمع فّي إّطار اّلدولة، وّعلى اّلمنوال نّفسه تّوضح أّماكن اّنتشارها وّطريقة عّملهاّ مدى فّاعليتها فّي تّقديم اّلخدمات إّلى جّميع اّلمواطنين دّون تّفرقة أّو تّهميش ،ّوهو مّا تّعيشه جّنوبّ السودان أّين لّم يّتمكن وّلاء الأفراد وّالجماعات مّن اّلخروج مّن وّلاءات اّلاثنية وّالقبلية نّحو وّلاء أّسمى وّهوّ الدولة اّلقومية . وّالإشكال لّيس فّي اّلتعدد اّلاثني ذّاته بّقدر مّاهو فّشل اّلسلطات فّي اّلتعامل مّع هّذاّ التعدد بّشكل يّسمح بّاندماج كّل اّلمكونات الديمغرافية والاجتماعية ،ّ وّهو مّا يّرشح ضّعف هّيكل اّلدولة فّيّ الجنوب مّع اّلحضور اّلقوي لّلعامل اّلقبلي.
- تحدي تحقيق التنمية الاقتصادية في جنوب السودان :
يعاني اّلجنوب من ضّعفّ قدرة إّدارة مّؤّسساته بّصورة أّكثر فّاعلية وّمعظم اّلمصروفات تّتمثل فّي اّلأجور ،ّما يّحد مّن اّلقدرة عّلىّ الاستفادة مّن اّلموارد اّلاضافية بّشكل فّاعل )ّ ظّلت حّكومة جّنوب اّلسودان تّصرف أّكثر مّنّ 90 فّي اّلمئةّ من ميزانيتها فّي إّدارة عّجلة اّلحكومة (،ّضف إّلى ذّلك أّن اّلدولة اّلجديدة فّي جّنوب اّلسودان سّوف تّكونّ من دّون مّوانئ بّحرية وّيجب أّن تّتوصل إّلى اّتفاقيات مّع دّول اّلمنافذ اّلبحرية شّمال اّلسودان وّكينيا لّكيّ تستورد وّتصدر عّبرها .
حيث هناك ارتباط بين مستوىّ التنمية ومستوىّ الاستقرار اّلسياسي . فالدول اّلتي لم تنجح في تحقيق تنمية متوازنة تراعي اّحتياجات مختلف الأطراف، تعاني من اللااستقرار سّياسي وّاختلال الوضع الأمني الداخلي . وتعثر اّلدول في توفير الاحتياجات الأساسية والضرورية لّمكوناتها المجتمعية تزداد خطورته عند تعدد هذه المكونات اثنياًّ أو دينياًّ . وهو ما كان واضحاًّ بالنسبة لجنوب اّلسودان، ففشل اّلسلطة المركزية والسلطات اللامركزية المتفرعة عنها في توفير أبسط الضروريات لجنوب اّلسودانيين جعلهم يوالونّ للقبائلّ التي ينتمونّ إليها بدل الدولة،و فّشل اّلأبنية اّلإقتصادية فّي تّلبية حّاجيات كّل اّلفئات اّلوطنية ،ّ واقامةّ المشروعات ذّات اّلخدمة اّلعمومية خّاصة فّي اّلدول اّلنامية اّلتي تّعاني مّن اّنتشار اّلبطالة وّالفقر ،ّ وانتشار أّوضاع اّلتخلف اّلمزمنة وّالمعززة بّما خّلفته اّلحرب اّلطويلة ،ّوهو مّا يّرشح دّولة اّلجنوب لّعدمّ استقرار مّزمن.
ولذلك يّحتاج جنوب السودان إلى إعادة هيكلة الاقتصاد من أجل تحقيق نمو مقدر، وهذا يتطلب نمو الإنتاج القومي ووضع وّتطبيق ضوابط نقدية ومالية صارمة لضبط التضخم وتوسيع الاقتصاد، بدونّ نمو حقيقي في الاقتصاد ستظل الأغلبية اّلساحقة للشعب تحت حد الفقر،وستظل البطالة في ارتفاع دائم، وستظل المؤشرات الاقتصادية الأخرىّ تسجل أرقامًا ضّعيفة،لابد من تنويع مصادر الدخل القومي بدلاًّ من الاعتماد الكلي على النفط والذي هو مصدر للطاقة غير مّتجدد وأسعاره متذبذبة، يصاحب كل ذلك وضع خطة متكاملة للتنمية والتي هي مفتاح التطور الاجتماعي والنمو اّلاقتصادي والرفاهية في دولة جنوب السودان،تضع مثل هذه الخطة في اعتبارها نقاط قوة الدولة في الزراعة والسياحة،والنقل النهري، وغيرها، واستغلال النفط كمحرك لعملية التنمية .
- تدهور الوضع الأمني بعد انفصال جنوب السودان:
يّبذل اّلسياسيون اّلجنوبيون مّجهودا خّارقا لّفك اّلارتباط بّين اّلصورة اّلذهنية اّلتي كّرسها تّاريخ اّلحربّ الطويلة فّي جّنوب اّلسودان، وّالعنف اّلمتبدي فّي الصراع اّلعسكري وّالسياسي لّدولة جّنوب اّلسودانّ الوليدة، وان كّان وّاضحا أّن اّلحرب بّين اّلشمال وّالجنوب اّلتي اّستمرت لّنصف قّرن مّن اّلزمان لّهاّ أسبابها اّلمتمثلة فّي تّهميش اّلمواطن اّلجنوبي وّأجندات أّخرىّ، فّإن الصراعات اّلداخلية بّين اّلجنوبيينّ أنفسهم تّتشكل بّسبب اّستيقاظ اّلهويات اّلعرقية مّن حّين لّآخر ،ّوبهذا تّواجه دّولة اّلجنوب اّلوليدة تّحديّ الاستقرار اّلسياسي وّالعسكري، فّي دّولة تّعاني مّن الصراعات اّلمترسخة، وّهو مّا يّجعلها فّي مّواجهة أّنواعّ متعددة مّن اّلعنف اّلنابع مّن التوترات اّلمحلية فّي إّقليم طّالت خّبرته لصراعات، نّتيجة لّانتشار اّلسلاحّ وتكاثر فّصائله اّلمكونة عّلى أّساس إّثني. أمنيا فّإن تّداول اّلأسلحة وّالفشل فّي نّزعها مّن اّلجماعات اّلمتمردة، وّانتشار اّلمليشيات اّلمتعددة يّمثلّ خطورة كّبيرة عّلى استقرار وّأمن اّلجنوب، وّهو مّا أّثر عّلى عّملية اّلتحول الديمقراطي، فّبدلا مّن أّن يّحتويّ تكوين اّلدولة اّلجديدة اّلتناقضات اّلعرقية والصراعات اّلداخلية لّتحقيق الاستقرار، فّإن اّلمطالب اّلتي بّرزتّ لم تّنته بّحق تّقرير اّلمصير، حّيث تّرى بّعض اّلمجموعات اّلمنشقة أّنه تّم تّهميشها فّي اّتفاقية اّلسلام،ّ وأنها تّخضع اّلآن بّعد اّلحصول عّلى اّستقلال اّلجنوب إّلى هّيمنة اّلحزب اّلواحد وّوفقاً لّهذا اّلإحساس لّم تّتكيف هّذه اّلمجموعات عّرقيا وّلم تّستطع تّجنب الصراع وّالغارات عّلىّ المراعي وّالعنف اّلقبلي وّالقتال فّيما بّينها، مّما اّ زد مّن حّدة اّلتنافر بّين اّلحركة وّالمنشقين عّنها،وأصبحتّ الحاجة عّوضا عّن ذّلك لّيس إّلى إّشباع اّلحاجة اّلسياسية فّحسب وانما حّاجة أّمنية اّقتصادية وّاجتماعيةّ ملحة.
وّلذلك فّإن حّق تّقرير اّلمصير وّاستقلال اّلجنوب لّا يّقف عّند حّد اّلحصول عّليه، بّل يّتعداه إّلىّ الحفاظ عّليه بّمعالجة أّسباب الصراع اّلأزلية اّلتي تّسهم فّي إّعادة إّنتاج اّلأزّمة،فالخروج مّن مّرحلة اّلحربّ والعنف إّلى حّالة اّلسلم وّ إّلى الديمقراطية، وّتحقيق نّوع مّن الاستقرار بّالجنوب رّغم أّنه أّمر مّستعصٍّ حدوثه فّي ظّل الصراعات اّلقبلية وّتجارب اّلجنوبيين اّلماضية ومرارتهم اّلسابقة، فّهو يّتطلب اّلتركيز عّلىّ أسباب اّلعنف عّن طّريق اّلكشف عّن وّسائل مّساهمة اّلمؤسسات اّلجنوبية وّالتدخلات اّلخارجية فّي خّلقّ الأزمات واستمرار تّأجيج الصراع.
المحور الثالث : تداعيات انفصال جنوب السودان على الجوار الإقليمي
الدولة اّلقومية اّليوم حّتى وّلو كّانت قّادرة عّلى اّلحفاظ عّلى الاستقرار وّالأمن، إّلا أّنها لّا تّستطيع تّحقيقهّ على اّلمستوى اّلخارجي فّهي خّاضعة لّمنطق اّقليم يّجعلها تّتأثر بّالأحداث اّلمحيطة بّها ،ّفهي تّتأثر بّماّ يحدث فّي نّطاقها الجغرافي مّن توترات واضطرابات ،ّيمكن أّن تّتطور إّلى حّد زّعزعة أّمنها نّتيجة لّماّ تفرزه اّلأحداث اّلاقليمية ،ّ فّبرغم مّن اّلطابع اّلداخلي لّانفصال جّنوب اّلسودان،إلا أّنه تّمكّن مّن أّن يّكونّ له تّجليات وّمظاهر تّتخطى اّلحدود اّلاقليمية لّجنوب اّلسودان ،ّفبعد اّلانفصال تّكونت خّريطةّ جيواستراتجية جّديدة فّي اّلمنطقة ،ّوكانت لّها تّداعيات سّلبية عّلى اّلدول اّلمجاورة خّاصة تّلك اّلتي تّتشابهّ أوضاعها فّي بّعض أّوجهها مّع قّضية جّنوب اّلسوّدان ،ّوالتي تّوجد فّيها أّقليات لّديها تّطلعات اّنفصالية ، وانفصال جّنوب اّلسودان يّشكل وّاقعة سّابقة تّحثهم عّلى تكرار اّلتجربة ذّاتها فّي بّلدانهم.ومن بين هاته المناطق اقليم دارفور وشرق السودان وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
طّرحت اّلحركة اّلشعبية فّي وّلاية اّلنيل اّلأزرق، مّقترح اّلحكم اّلذاتي ،ّ فّقد عّبّر عّنه رّئيس اّلحركة، مّالكّ عقار، فّي أّبريلّ 2011 إّبان تّوليه رّئاسة حّكومة وّلاية اّلنيل اّلأزرق، بّاعتباره حّقاً دّستورياً وّقانونياً لّولايتهّ وكافة وّلايات اّلسودان ،ّ وّقد أّثارت جّدلاً وّاسعاً دّاخل اّلأوساط اّلسودانية، وّخصوصاً أّن الأطراف وّضعتّ نصب أّعينها تّجربة دّولة جّنوب اّلسودان، اّلتي مّنحت حّكماً ذّاتياً وّفقاً لّاتفاقية “نيفاشا” مّقروناً بّتقريرّ مصير، قّاد فّي اّلنهاية إّلى اّنفصال اّلجنوب، مّما يّثير هّاجسا لّلحكومة اّلسودانية مّن عّودة شّبحّ الانفصال.
و اّلواقع فّي اّلسودان يّؤكد أّن مّناطق اّلسودان كّلها تّعاني ضّعفا فّي اّلخدمات وّالتنمية ،ّوليس هّناكّ إقليم يّحظى دّون غّيره بّذلك ،ّفالمطلوب مّن أّقاليم اّلسودان عّدم اّلانزلاق وراء اّلتوجهات اّلإثنية وّالجهويةّ والعمل عّلى مّعالجة مّشاكل اّلوطن وّفق مّنهج استراتجي يّعزز اّلوحدة وّيرفض اّلتجزئة وّالبحث عّن حّلولّ قومية فّي إّطار اّلسودان اّلموحد ،ّعلى أّن تّكون عّادلة لّكل أّقاليم اّلسودان ،ّحتى لّا يّكون اّلمدخل لّتحقيقّ العدالة وانتزاع اّلحقوق هّو حّمل اّلسلاح وّتخريب اّلوطن وّفتح بّوابات اّلتدخل اّلخارجي عّلى مّصرعيه ، ومن ثم، فإن هذه النزعات الانفصالية تّمثل اختيارا للسودان حول مدى قدرته عّلى تطويق منهج تقريرّ المصير، وّالحيلولة دونّ انتشاره إلى المناطق اّلملتهبة، لاسيما دارفور وجنوب كردفان،وهو ما سينعكسّ بدوره عّلى الوضع اّلأمني من حيث جعل السودان في حالة تّأهب واستنفار دائمين، الأمر الذي سّيؤدي إليّ إرهاق وّتشتيت قوته.
فالموروث اّلصعب مّن اّلتدخلات اّلطبيعية وّالإثنية وّانعكاساتها عّلى اّلواقع اّلجيوبولتيكي سّتفرض نّفسهاّ بقوة ،ّفانفصال جنوب اّلسودان الذي أصبح واقعاًّ بعد اّستفتاء 2011 ؛ وصفه الرئيس التشادي بأنه كارثةّ على إفريقيا كلها، فما من دّولة إفريقية إلا وفيها شّمال وجنوب ومسلمونّ ونصارى، فهو يحمل في طّياته من الكثير مّن اّلتداعيات وّالحسابات، وليس مّن يّرى فّي اّلانفصال ايجابيات يعظّمها دعاته لّحجب رؤية مخاطره ومهدّداته وسلبياته.13
يّثير تّدهور اّلأوضاع اّلأمنية فّي جّنوب اّلسودان قّلقا وّسط المراقبين اّلدوليين وّالإقليميين ،ّ وّيقود هّذاّ التخوف دّول اّلإقليم مّن اّنتشار اّلعنف وّتدفقه عّبر اّلحدود ،ّفوفقا لّتقويم اّلأخطار اّلسنوي اّلذي قّدمتهّ المؤسسات اّلاستخبارتية لّلجنة الاستخبارات فّي مّجلس اّلشيوخ اّلأمريكي شّباطّ 2010 ،ّفإن تّناميّ النزاعات اّلقبلية فّي جّنوب اّلسودان ،ّوانتشار اّلفساد ،ّيتهددان استقرار اّلمنطقة ،ّوأشار اّلتقرير إّلى أّن اّلمنطقة سّتعاني مّن اّلآثار اّلسلبية لّانفصال جّنوب اّلسودانّوخاصة اّلدولة اّلمجاورة لّجنوب اّلسودان اّلتي سّتتأثر بّشكل مّباشر.
تّضاف إّلى ذّلك اّلأبعاد اّلاجتماعية لّلعائدين إّذ تّثير قّضية إّعادة دّمج اّللاجئين وّالنازحين نّقاشاّ واسعا ،ّ حّيث يّرى بّعض اّلباحثين ضّرورة اّلحديث عّن دّمج لّا إّعادته ،ّوذلك لّأن اّلعائدين وّفدوا مّنّ مناطق مّّختلفة مّن دّاخل اّلسودان وّخارجه، وّقاد ذّلك إّلى وّجود اّختلافات فّي اّلقيم وّالسلوك بّينّ العائدين وّهو ما يّتطلب قدرا مّن اّلوقت لّبناء اّلثقة واقامة اّلعلاقات ،ّمع دعاة تّمثيل هّذه اّلمجموعات فّيّ الحكومة اّلمحلية وّأطر اّلقيادة.14
يّضاف إّلى ذّلك أّن وّجود نزاع حّول اّلأرض بّين اّلعائدين مّن جّهة وّالقبيلة اّلتي تّتمسك بّالملكيةّ المشاعة سّيؤثر فّي تّقديم اّلخدمات وّفي اّلاستثمار، لّذا فّإن عّدم الاستقرار اّلمتمثل بالنزاعات اّلاثنيةّ وحركات اّلتمرد وّالعصيان سّوف تّدفع بّانتقالها إّلى اّلدول اّلمجاورة .
تعاني أّغلب اّلدول اّلمجاورة مّن مشاكل جراء الانقسامات الاجتماعية الموجودة بها، وهي ناتجة عن التعددية اّلإثنية و اّلدينية الكبيرة وتتراوح من البسيطة اّلعابرة إلى المعقدة مثل الدخول في دوامة من الحروب الأهلية، أو ضّعف و تّفتت الدولة وّما يصحبه من التدخل في شؤونها الداخلية، وهذا يعتبر إشارة على أن تلك الدول قد فّشلت فّي تحويل التعددية الاجتماعية إلى مكسب وعامل ايجابي داعم لبناء للدولة،وهو مّاّيزيد مّن دّرجة تّأثرها بّحالة جّنوب اّلسودان.
حيث تخشى اثيوبيا مّن اّحتمالات فّتح اّنفصال اّلجنوب اّلمجال أّمام اّرتفاع أّصواتّ مطالبة بّحق تّقرير اّلمصير، وّتكرار سّيناريو اّنفصال اّريتريا، اّلذي لّا تزال إّثيوبيا تّعيش حّتى اّليومّ تداعياته اّلسلبية، بّعدما حّوّلها إّلى دّولة حّبيسة مّن دّون مّنفذ بّحري، مّا حّتّم عّليها تّحسين عّلاقاتها مّعّ دول اّلجوار، بّما فّي ذّلك رّسم خّريطة جّديدة لّلتعامل مّع حّكومة اّلخرطوم . وترى إّثيوبيا أّن دّولة اّلجنوبّ الوليدة تّفتقر إّلى مّقومات اّلدولة اّلقوية، اّلأمر اّلذي سّيضعها أّمام مّجموعة مّن اّلتحديات اّلمؤثرة فّيّ أمنها اّلقومي، إّضافة إّلى دّولة فّاشلة جّديدة إّلى جّوارها بّعد اّلصومال وّاريتريا، كّما أّن تّكلفة عّودةّ الحرب مّرة أّخرى إّلى جّنوب اّلسودان سّوف تّؤدي إّلى خّسارة دّول اّلجوار نّحوّ 34 % مّن إّجماليّ ناتجها اّلمحلي خّلال ،ّ وّربما تّخسر كّل مّن كّينيا واثيوبيا نّحو مّليار دّولار سّنويا فّي حّالة عّودة اّلحربّ إلى جّنوب اّلسودان.
خاتمة:
تمثل حّالة جّنوب اّلسودان ظّاهرة اّفريقية بّكل اّمتياز مّن حّيث الصراعات وّالحروب اّللامتناهية وّالتيّ أفضت بّعد سّلسلة مّن اّلحروب اّلأهلية مّع اّلسودان إّلى اّلانفصال ،ّحيث يُّعتبر هذا اّلانفصال نقطة تحول تاريخية مهمة أدخلت جنوب السودان فّي المجتمع الدولي كدولة مستقلة ، وإن بروز دولة جديدة تصاحبه تحدياتّ كبيرة تحتاج معالجتها إلى بعد نّظر لكي يُترجم الاستقلال السياسي إلى مستوىّ معيشي عال لشعب جنوبّ السودان . وعليه فّإن دراسة اّلدولة اّلوليدة تّعتبر جّديرة بّالاهتمام مّن حّيث تّحديات بّناء اّلدولة وّالتهديداتّ المحيطة بّها، ودراسة اّلتداعيات اّلتي تّنجم عّن هّذا اّلانفصال نظرا لّلارتباط اّلوثيق بّين أّزمات جّنوب اّلسودانّ ومحيطه اّلإقليمي.
كما تّحتاج حالة جّنوب اّلسودان اّلمعقدة منهجية شاملة تراعي مختلف احتياجات مكونات مجتمع جنوبّ السودان،السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وّالإقليمية، ويؤسس لهندسة سياسية واجتماعية فاعلة تّأخذّ في عين اعتبارها تلك الحقائق.
حيث عّانى اّلسودان مّنذ اّستقلالهّ 1956 مّن صراعات سّياسية وّانقلابات عّسكرية ،ّوحروب أّهلية فّي اّلشرقّ والغرب وّالجنوب أّثرت عّلى استقرار اّلدولة وّعلى مّشاريع اّلتنمية فّي مّختلف اّلمجالاتّ والأطراف،واستنزفت مّوارده اّلاقتصادية وّالبشرية وّأعاقته مّن اّلقيام بّدوره مّحليا وّأفريقيا وّدوليا،وبعد إّعلانّ الانفصال رّسميا فّيّ 9 يّوليوّ 2011 طّرحت اّلعديد مّن اّلأسئلة بّشأن اّلمستقبل وّمدى مّساهمة اّلانفصالّ في صّناعة الاستقرار أّو اّنتاج اّلحرب،لاسيما فّي ظّل وّجود اّلعديد مّن اّلملفات اّلعالقة ،ّ فّعندما طّالبّ الجنوبيون بّحق تّقرير اّلمصير كّانوا يّرغبون فّي أّن يّقرروا بّحرية وّضعيتهم اّلسياسية وّالاقتصادية ،ّبناءاّ على ذّالك فّإن نّجاح أّو فّشل اّلدولة اّلجديدة سّيقرر بّمدى تّحقيق هّذه اّلتطلعات .
المراجع:
1-Oliver Albino, the Sudan : a Southern View point ( London :Oxford University press , 1970),p.36.
2- محمد صّادق صّبور ،ّ مّناطق الصراع في أفريقيا ) اّلقاهرة : دّار اّلأمين ,2006 ) ،ّ صّ.77.
-3-إجلال رأفت وأخرون ، السودان على مفترق الطرق بعد الحرب .. قبل السلام ) بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية ، ط.. 1 ،2006) ، ص.. 78
4-أماني طّويل ،ّ “الموقف اّلأمريكي مّن اّلسودان : مسارات اّلتفاعل وّطبيعة اّلمخططات ،ّ” فّي أّماني طّويل محرر(، انفصال جنوب السودان المخاطر والفرص) بّيروت : اّلمركز اّلعربي لّلأبحاث وّدراسة اّلسياسات،ط. 1،2012)،ص . 195 .
5- عبد اّلقادر اّسماعيل ،ّ جّنوب السودان صراعات الحرب وصراعات السلام دور الأحزاب السياسية ) اّلقاهرة : مكتبة مدبولي،،2011) ،ّص. 448 .
6–عبده مّختار مّوسى ،ّ “مستقبل اّلعلاقات اّلسودانية اّلأمريكية بّعد اّتفاقية اّلسلام ،ّ” فّي عّبده مّختار مّوسى ) مّحرر (،
السودان على مفترق الطرق بعد الحرب قبل السلام ) بّيروت : مركز دراسات اّلوحدة اّلعربية ،ّط . 1 ،ّ 2006) ،ّ صّ. 219 .
7- أّحمد أّبو سّعدة ،ّ جنوب السودان وأفاق المستقبل ) اّلقاهرة : مكتبة مّدبولي، طّ.1 ،ّ 2011) ، صّ. 308 .
8- عبد اّلقادر اّسماعيل ،ّ جّنوب السودان صراعات الحرب وصراعات السلام دور الأحزاب السياسية ) اّلقاهرة : مكتبة
مدبولي،2011) ،ّص. 448 .
9- Jok Madut Jok ,” South Sudan: Building a diverse nation,” in Sudan after Separation New Approaches to a New Region , Edited by the Heinrich Böll Foundation and Toni Weis , Vol . 28, (the publication series on democracy, 2012), p.20-58.
10- -Fund for Peace , « Fragilestates index 2015, » Availble from : http://fsi.fundforpeace.org/ (05,12, 2015).
11-Cook Traci ,Building a Nation : South Sudanese Share their Thoughts on the Creation of a Seccessful State Report on Focus Group Discussions (Washington : National Democratic Institute for International Affairs ,2011) ,p.7.
12- مضوي الترابي ،ّ تّداعيات اّلانفصال عّلى اّلأمن اّلوطني فّي اّلسودان ،ّ” اّنفصال جنوب السودان :المخاطر والفرص، مرجع سّابق ،ّ صّ. 280 .
-13 محمد نّبيل اّلشيمي ،ّ ” جّنوب اّلسودان جّذور اّلمشكلة وّتداعيات اّلانفصال،” اّلحوار المتمدن،الع. 3209
– خاص – المركز الديمقراطي العربي