قراءة في المسار التاريخي للقومية العربية الثقافية والسياسية
اعداد الباحث : عبد اللطيف حيدر – باحث في الإعلام والعلاقات الدولية
- المركز الديمقراطي العربي
الحراك القومي العربي كغيره من الكيانات القومية الأخرى من مختلف الأمم والقوميات والشعوب، يحمل تاريخاً طويلاً من محاولة ابراز مشروعه القومي ومكانته الحضارية. وبالطبع فإن الحركة القومية العربية منذ بداياتها الأولى وحتى اليوم مرت وتمر بتجارب ومنعطفات كثيرة في لترسيخ كيانها القومي وهويتها العربية ورسالتها التي تحملها للعالم من حولها. ولقد تأثر طبيعة نشاطها تاريخياً -بطبيعة الحال- بالظروف السياسية والثقافية والفكرية والعسكرية كذلك من حولها. وتتميز الهوية القومية العربية باختيارها لحمل رسالة الإسلام ما يعني اكتسابها هوية أكبر وإطار أوسع عن هويتها المحددة في العرق العربي وحسب، وإنما تكن بذلك حاملة لمشروع أكبر مستنداً على رابطة روحية تؤهلها لقيادة دفة مشروع حضاري عالمي. وهذا السمة المميزة للهوية العربية بارتباطها بالرسالة السماوية الأخيرة جعلها أمام تحدي كبير وإشكالية جدلية متجددة، كون ما يمكن تسميته بالمزج الهوياتي بين القومية العربية والهوية الإسلامية في كيان موحد تجسد في الانسان العربي بقوميته وهويته، وشكّل هذا الازدواج الهوياتي مرتكز أساسي في الصراع التاريخي داخل القومية العربية ذاتها من ناحية وبين هويتها الاسلامية من ناحية أخرى. وذلك لكون الإسلام كرسالة ومشروع لا يمنح قدراً للعرق والنسب والقومية الا بالأفضلية في ميزان الصلاح الذاتي.
وهنا تظهر بجلاء دائرة الصراع بين هويتين متجسدة في انسان يحاول المزج بينهما، واخر يقدم احداهما على الأخرى وبين أخر ينفي أحدهما ويثبت الأخرى. لذلك سأحاول في هذه القراءة تقديم قراءة نقدية للقومية العربية الأمة والدولة سياسياً وثقافياً في سياق تاريخي ومن ثم مناقشتها وتفكيكها ومحاكمة بعض الافكار التي رسختها الحركة القومية في الذاكرة العربية بتناقضاتها والصور الذهنية التي رسمتها في خيال النضال العربي وتراثه القومي والوقوف على المرتكزات الأساسية التي شكلتها.
مفهوم القومية العربية:
يوجد هناك العديد من التعريفات للقومية العربية حيث تعرف القومية العربية على انها “عقيدة مستمدة من العرب، عائدة إليهم، جامعة لهم، مؤلفة بين قواهم السياسية والثقافية والاقتصادية، هدفها تحرير الامة العربية كاملاً من النفوذ بشتى مناحيه وصوره واسمائه ومن المظالم المختلفة القائمة فيها، وذلك بإنشاء كيان عربي عمراني موحد قائم على أسس سيادة الامة والتقيد بمصلحتها واخوتها اخوة شاملة والمساواة التامة بين ابناءها والعدل في مجتمعها باعث للعرب في سبيل الرقي المادي والمعني”([1]).
يلاحظ من التعريف السابق اقتصار المنظومة الفكرية للقومية العربية على فكرة النضال في سبيل التحرير من صور الاستعمار المختلفة وحسب، بل إن ارتباط الفكر القومي بعملية الدفاع من المظلومية الاستبدادية يجعل من التعريف قاصراً في قراءة الفكر القومي بشمولية والالتفات الى تعميق الرابطة القومية في الكيانات العربية والسعي الى توحيدها في إطار مظلة قومية واحدة تحمل مشروع موحد وتعمل على تعزيز الهوية الذاتية قبل ربط المشروع القومي بالوطن وحسب.
تاريخياً برز العرب كقوة في الساحة الدولية كونهم مدافعين عن ديانة جديدة ظهرت فيهم وفي ارضهم يحملون مشروع سياسي وديني وهوياتي شكل اندفاعهم الأول في نشر رسالتهم في العالم من حولهم تحت وحدة سياسية جامعة تمثلت في الخلافة الإسلامية. وعندما هاجم المغول الخلافة العباسية في عام 1258م تراجع قوة السلطة العربية سياسياً وعسكرياً ما منح المجال لمصلحة جماعات عرقية أخرى تتمثل في السلالات التركية والفارسية والمملوكية في ظل تراجع وضعف مستمر للدور العربي كحامل لمشروع الدين الجديد واستمر لفترة ممتدة من 1258م الى 1800م وتعد فترة مظلمة للحضارة العربية بينما ازدهرت الثقافة الإسلامية في ظل الامبراطوريتين العثمانية والصفوية الى مستويات عالية جداً ([2])، بعد ان كان الوجود العربي حاضراً كقوة سياسية وعسكرية لا يستهان بها.
وقد مثل انحسار مد المشروع العربي فرصة للقوى الأخرى كالإمبراطورية العثمانية والصفوية بمليء الفجوة الدولية من ناحية، ومن ناحية أخرى تعمل على حماية المشروع الإسلامي الذي يمثل رابط هوياتي بين القومية العربية والدائرة الهوياتية الاوسع المتمثلة في الكيان العثماني والدولة الصفوية. ما يعني ان دور القومية العربية تلاشى الى حد ما وأصبح خاضعاً في كنف الحكم العثماني، الذي ينظر الى الوجود العربي برابط عريق يمثل الدين الإسلامي المضلة الجامعة لذلك ويعرفون كمسلمين لا ككيانات قومية مجزئة، خصوصاً أن العرب في تلك الفترة بحاجة الى المساندة والحماية من التهديدات التي واجهوها في سبيل اجهاض رسالتهم.
وكان ظهور الحركة الوهابية على يد مؤسسها محمد عبد الوهاب في (1703-1787م( ([3])، بمثابة استعادة مركزية القيادة العربية من جديد وعودة الدور العربي كقوة في الميدان الدولي والنابع من ارض الإسلام الأولى بما يمثله من معنى روحي وارتباط بالأرض والهوية العربية.
وقد مثلت تلك محاولةً لإعادة احياء العامل العربي المؤثر في الحركة الإقليمية والدولية حينذاك، ولكن في ظل سيطرة الإمبراطورية العثمانية كممثل شرعي في حماية الدين الإسلامي ومواصلة نشر رسالته في ارجاء الأرض فيما يقبع العالم العربي تحت نفوذها. ما يعني ان أي حراك في ظل بسط سيطرتها وسحب البساط الروحي والسياسي من تحتها سيشكل خطر ضد الدولة العثمانية ويعد بمثابة انقلاب على شرعيتها وطريق نحو الاستقلال، ما حدا بمحمد علي حاكم مصر الى قمعها (1805-1848) وخَفَت نشاطها حتى أوائل القرن العشرين. ([4])
وقد شكلت هيمنة الإمبراطورية العثمانية على الوطن العربي والتوسع الكبير الذي حظيت به، شعوراً بالدونية والاضمحلال لدى القومية العربية التي تلاشت خلف الوجود العثماني القوي وانحسر دورها الى الحد الذي لم تشعر بذاتها في ظل غياب دورها الفاعل لقرون من الزمن، الامر الذي دفع الى بروز العديد من محاولات التحرر من الوجود العثماني والاستقلال بكيانات عربية تحفظ هويتها العربية وتعمل على اثبات ذاتها بين الأمم والقوميات الأخرى.
يظهر دور المؤثر الديني لإزاحة العامل القومي وتضييق الفجوة بين القومية التركية والقومية العربية في بوتقة مشتركة تسمى “الهوية الإسلامية”، حيث يتضح ذلك من خلال سعي تيارات عربية في دعم السلطة المركزية المتمثلة في الدولة العثمانية وباستخدام لفظ “خلافة ” والذي يشير الى الرابطة الدينية في الفكر الإسلامي بين السلطان المسلم والأمة المسلمة. ولذلك فإن المؤثر الديني ورابطة الدين وقفت عائق أمام الاستقلال العربي عن السلطة العثمانية، فضلاً عن التسامح الذي أظهره العثمانيين في التعامل مع القومية العربية كما يقول الشويري ([5])ومرونة النظام السياسي الذي سمح بتكوين كيانات عربية مستقلة وحافظ على هويتها وعاداتها وتقاليدها، بل ترك لهم إدارة شؤونهم مقابل الولاء الجمعي الذي تفرضه طبيعة الحكم السياسي وكذلك صد التدخل الأجنبي.
ويقول الغزالي لتوصيف مشهد العلاقة المزدوجة بين القومية العربية والهوية الإسلامية “اقترنت العروبة والإسلام من أمد بعيد في حضارة واحدة وتاريخ مشترك وشعر العالم كله بهذا الرباط القوي الجامع، فهو إذاً تصور الإسلام لا يستطيع أن ينسى العرب الذين امنوا به وطوفوا به ارجاء العالمين برسالته، وهو اذاً تصور العروبة لا يستطيع ان ينسى الدين الذي أعلى من شانها وخلد أدبها وجمع من شتاتها دولة قدمت للإنسانية أزكى المٌثل وأرجح القيم، إن الإسلام لا ينفك عن العروبة أبداً” ([6]) وهو تعبير عن مدى الاشتباك بين الفكر القومي كوطن ولسان وبين الهوية الواسعة المتمثلة في الإسلام.
ولتعميق تلك الهوية الواسعة – بالرغم من الانتقادات التي كانت تواجهها الدولة العثمانية من الفساد والتردي الإداري- فقد سارعت لتفادي الثورة عليها وشرعت بعملية اصلاح شاملة لمختلف الجوانب لمحاولة احتواء الاقاليم وتحسين صورتها ولملمة قوتها الداخلية. وكان من ابرز اصلاحاتها هو “فرمان 1839” الذي حاولت الدولة العثمانية فيه الى تعميق سلطانها وتذويب جميع الفوارق القومية والثقافية في اوساط اقاليمها المختلفة وصهرها في بوتقة واحدة تتمثل في الدولة العثمانية كهوية اسلامية وحسب تحت مسمى “الوطن العثماني” ويصبح كل اعضاءها مواطنين في الوطن العثماني الكبير وهذا ليس فقط للقومية العربية او التركية وحسب بل لكل الهويات الموجودة بما فيها المسيحية واليهود ([7]). وهذا برأيي يعد تحدي كبير بالنسبة للقومية العربية خصوصاً ذو النزعة القومية المناهضة لأي محاولة لدمج هويتها او ذوبانها في اي بوتقة تنتقص من مكانتها وقيمتها الاعتبارية الكاملة ، لإن ذلك يعني جمود اي فكر مستقل وادانة اي حركة معارضة للنظام العثماني وهي معادلة سياسية لصالح النفوذ العثماني وتعميق سلطته على كامل الامبراطورية تحت مسمى واحد وكيان واحد هو الوطن العثماني الكبير، لكنه بالمقابل في الفكر العربي ذو الاتجاه الديني عامل قوة في سبيل توحيد (الخلافة الاسلامية( التي ينظر اليها كممثل شرعي للنضال الاسلامي في مواجهة المد المسيحي الاوربي والحركات المناهضة لرسالة الإسلام.
الولاء الهجين للهوية العربية المصبوغ بالصبغة الدينية المرتبطة بالفكر الاسلامي من ناحية ومن ناحية أخرى النزعة الذاتية نحو العرق العربي المتمثل باللسان والهوية الخالصة بالسلالة العربية بعيداً عن أي مؤثر آخر يتضح أكثر من خلال الانشطار الداخلي في المكون العربي تحت الوجود العثماني، حيث يذكر يوسف الشويري ([8])على سبيل المثال بعض الحركات المتمردة من قبل شخصيات وزعامات عربية في مصر على محمد علي ك شخصية الزعيم الديني عمر مكرم وكذلك الوهابية في شبه الجزيرة العربية حيث عمد السلطان العثماني على احتواءهم ووضعهم تحت سيطرته. وذلك حتى يضمن اجهاض اي حركة تساهم في تقويض حركة النفوذ العثماني، والذي يعمق في نفس الوقت الصراع الداخلي بين كيان الدولة العثمانية في اقاليمها مما يقلل من فرص المواجه للقوى الاوربية الاستعمارية، والذي كان يتمثل في اقوى جيشين في ذلك العصر وهو الفرنسي والبريطاني.
يظهر لنا جانب آخر من الدور الايجابي للدولة العثمانية في الحفاظ على الهوية العربية وتعزيزها وليس العكس كما كان يتم تصويره من قبل الفكر القومي العربي، حيث تتهم القومية العربية طغيان النفوذ الهوياتي للإمبراطورية العثمانية. بينما الحاصل هو مغاير لذلك باعتقادي لسببين، هما أولاً: أنها كانت محاولة لتشويه الصورة العثمانية والانتقاص من شرعيتها بصفتها الحامي الاول للدين الاسلامي وبالذات من المذهب القومي المتعصب للجنس السلالي الهوياتي بكينونته اللسانية والعرقية وحسب، ثانياً خلق مبرر شرعي للصراع مع النفوذ العثماني تحت مبرر الدفاع عن الهوية العربية التي تلاشت في الإطار العثماني؛ لتحقيق الاستقلال العربي والانفصال عن المكون العثماني.
يتضح مما سبق أن الواقع كان غير ذلك التصوير الذي تم ترسيخه في الذاكرة القومية، فالدولة العثمانية من المنطلق الديني تعتبر اللغة العربية شريعة اسلامية أصيلة كجزء من الدين، وهي في ذات الوقت تسوق نفسها على انها الحامل للدين الاسلامي بل هي الدولة الدينية التي قامت بمهمة الحفاظ على المقدسات الاسلامية ونشر الرسالة التي هي بالأساس بلسان عربي. فبذلك كما يوضح الشويري انها ([9]) استخدمت اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة وكانت تقوم بإصدار القرارات والمجلات باللغتين العربية والتركية بل ان اللغة العربية مؤخراً كانت هي الطاغية.
اذن يمكننا ان نفهم من ذلك دورها في تعزيز الهوية العربية واعتزازها بها بل ونشرها في اطار اوسع من انحصارها فقط على اطار جغرافي ضيق ، بل أن العربية استمدت قوة من قوة وهيبة الامبراطورية بعد أن كانت ضعيفة وهشة بعد التراجع العربي في تلك الفترة.اضافة الى ان هناك حوالي 3000 مفردة متشابهة باللفظ والمعنى بين اللغة التركية والعربية ([10]) وهذا يظهر مدى تأثر الهوية التركية كقومية تركية باللغة العربية كهوية عربية وبالتالي فالنتيجة هي استفادة للغة العربية بتصدر المشهد في ظل امبراطورية عظمى، وهو ما يعني ان القومية العربية استفادت في ابراز هويتها اللسانية كثقافة دون ان تبذل جهداً في ذلك . بل أبعد من ذلك وهو التقارب التركي القومي مع الثقافة والهوية العربية كون الاسلام نزل بلسان العرب وأثنى عليهم في صفات حميدة وهو ما عزز الصلة بين العثمانية كهوية وبين العربية كذلك برباط روحي معقد.
عامل الهيمنة الاوربية كان له دور مؤثر غير مباشر في توليد الحس القومي وتصويره على انه الحل المثالي والملاذ الأخير للتخلص من الحدود السياسية المفروضة من قبل المحتل الأجنبي، حيث منح مؤتمر برلين 1878 صراحة أو ضمناً الدول الأوربية الحق في مد نفوذها في مناطق معينة ليساعد على السيطرة علي أي تمرد او تحرر محلي وهو ما منح فرنسا الحق في احتلال تونس عام 1881 إضافة الى تصاعد الحركات الوطنية المحلية الساعية الى التحرر والاستقلال وتقديم نفسها للخارج على انها بديل افضل للحكم والحفاظ على علاقات ودية مع الدول الاوربية، ولكن عجز تلك الحركات الوطنية في تحقيق ذلك عمق أهمية القومية كعامل أساسي في عملية الاستقلال([11]).
بإمكاني هنا عمل مقارنة تأثير بين نموذجين من مأزق الخطر على الهوية العربية أولها السيطرة العثمانية وثانيها الاحتلال الأوربي، القومية العربية تنظر الى كليهما كاحتلال وانتكاسة للهوية العربية. وأن الواجب في ذلك هو بطرد الأجنبي والمستعمر وحسب وإقامة كيان عربي متأصل بثقافته وهويته اللسانية والانتماء العرقي، الان اننا نجد في نهاية المطاف المفارقة الاتية: انتهت السيطرة العثمانية بسقوط الخلافة العثمانية في عشرينيات القرن العشرين. وتحلل الجسد العربي مؤخراً في ستينيات القرن الماضي من الاحتلال الأوربي، مع وجود فارق واضح بينهما، فالاحتلال الغربي ضرب الهوية العربية في مقتل وغرس هويته في المجتمع العربي وفرض لغته وثقافته وهويته وأسلوب حياته خصوصاً في بلاد المغرب العربي المغرب والجزائر وتونس. بينما انتهى الوجود العثماني وهو يُدَرّس العرب لغتهم ويحافظ على كيانهم العربي وتعلّم هو ذاته لغتهم ولم يفرض لغته او ثقافته في تلك المجتمعات، وباعتقادي هنا ان القومية العربية نجحت كثيراً في ربط العقل العربي بهويته على أنها أرض وأخفقت في تعليمه ان الهوية لسان وأسلوب حياة وثقافة عامة أيضاً.
جاءت بعد ذلك القومية العربية الحديثة بطابع ثقافي تمخض عن بعض المؤثرات والمتغيرات في البيئة الدولية المحيطة بها، وتتمثل هذه المؤثرات في: عملية الإصلاح العثماني في منظومة الحكم والنمط الأوربي والحضارة العربية([12]) ،وبالتالي كانت الفترة 1880-1990 نشأة الشعور بالعروبة الثقافية والاثنية في الأقطار العربية التي كانت خاضعة للحكم العثماني والتوسع الأوربي، وكان إعادة اكتشاف الحضارة العربية في عصرها المجيد والرغبة الشديدة في اكتساب معارف العالم الأوربي الحديث شكّل أبرز ملامح الحركة الثقافية العربية، ولذلك تمثلت الحركة الثقافية من خلال ثلاث مجموعات اجتماعية رسمت ملامح القومية الثقافية العربية ([13]) ، وتمثلت المجموعة الأولى في علماء الدين والقادة البارزين الذي ادعوا نسبهم للرسول صلى الله عليه وسلم، واحتفظت بمكانة خاصة لها كحامية للثقافة والقيم العربية. ثم جعلت الفكرة من بعد ذلك في كون علماء الدين هم الوريث الشرعي للنبي صلى الله عليه وسلم في ظل وجود سلالات اجنبية والاسر الحاكمة من غير العربية. وهذه الفكرة أعطت الحق للمجتمعات العربية في أنها هي المسؤولة عن حماية إرثها الحضاري واتباع القران والسنة النبوية كمنهاج حياة.
كما يتضح من خلال عملية الاحياء الثقافي للقومية العربية استفادتها المستمدة من القيمة الروحية التي يمثلها الإسلام، ولذلك فإن ابراز العلماء كونهم يحملون مكانة مميزة في المجتمعات بالذات في الأوساط المتدينة، حيث يمثلون عامل قوة في عملية التأثير في المجتمع. إضافة الى ابراز اللغة العربية كشرط أساسي لتعلم العلوم الإسلامية ما عمل على تعميق عملية الإنعاش الثقافي وضمان استمرارها وازدهارها. كما تمثلت المجموعة الثانية في النخبة المثقفة المسيحية في سوريا ولبنان إضافة الى صحفيين ومحررين ومدرسين ومترجمين. في حين تمثلت المجموعة الثالثة في طبقة من الوجهاء الحضريين ومالكي الأراضي الذين دخلوا المؤسسات الجديدة للدولة العثمانية بعدا عملية الإصلاح التي شملتها حيث تصدرت هذه المجموعة قادة القومية السياسية.
حققت هذه المجموعات نقلة نوعية وجذرية في عمر القومية العربية بل تعد محطة فارقة في مسيرتها التاريخية، اتضح ذلك من خلال كونها مرحلة نشطة يسميها يوسف الشويري ” هوية ثقافية مستقلة” ، ويقصد بها عملية تحديث اللغة العربية لتتلاءم مع المصطلحات الجديدة في الحضارة الأوربية الحديثة والمفاهيم الفلسفية والبحث عن ما يقابلها في العربية مثل النظام الجمهوري بعد الثورة الفرنسية ومصطلح الديمقراطية وغيرها” وهكذا أصبحت اللغة أداة أعيد تجهيزيها لفهم العالم الحديث وجعله واضحاً للوصول الى اسراره” وكان من ابرز رواد هذه الحركة السوريان-اللبنانيان بطرس البستاني وفارس الشدياق وفي مصر رفاعة الطهطاوي ([14]).
ما ينبغي الإشارة اليه هنا بالرغم من أن رواد حركة التحديث اللغوي قد واجهوا انتقادات حادة بسبب تشربهم للثقافة الاوربية والدعوة اليها بل واتجهوا الى محاكاة النمط الغربي في التدريس والتعليم واعجابهم بأسلوب الحياة في المجتمعات الأوربية باعتبار ذلك نوعاً من ذوبان الهوية واتجاههم لتعلم اللغات الفرنسية وغيرها. الا أنني اعتقد بخلاف ذلك وأدعمه بشدة فالتعرف على هويات الاخرين وإتقان لسانهم والمقارنة بين الحضارة العربية وغيرها لا يعد ذوبان إنما تدعيم لشخصية تحررية من دائرتها الضيقة الى فضاء العوالم الاخرى.
“انتشر في القرن التاسع عشر في البقاع العربية ولا سيما بعد عام 1839 مفهوم “الوطن” بوصفه أرضاً واضحة الحدود وكان ذلك جهداً عقلانياً وواعياً لخلق شكل جديد من التنظيم البشري، وهكذا برز الوطن الذي يقتصر على بلد عربي معين الى المقدمة باعتباره اقليماً متكاملاً ، وأصبحت الوطنية في هذه الحالة علامة دائمة في عالم متغير” ([15])ويعد ظهور مصطلح الوطن تحول جديد في مسار القومية العربية بالرغم من انه كان قد ظهر في اطار ما سمي الوطن العثماني، فمصطلح الوطن يعني إطار محدد للهوية الثقافية العربية حيث لم تعد تطالب فقط بتمثيلها على صعيد الهوية فقط، بل امتد الخطاب الى لغة سياسية تعمل من منظور الاخر اي بمعنى ان هذه القطعة المحددة من الارض هي ملك لهويتي وقوميتي وسيمهد لنضال اكثر تنظيماً تحت مظلة الوطن المشترك وهو الامر الذي عملت القومية العربية على ترسيخه في العقل الجمعي العربي على مر التاريخ.
ظهر بعد ذلك العامل الثقافي والسياسي للقومية العربية من خلال اعادة اكتشاف دور ابن تيمية الذي عُرف عنه تشدده وتمسكه بالإطار العربي للرسالة الإسلامية، مع انه كان ذو اتجاهه ديني محض والذي يرى ان الصلاح في جوهر الانسان لا عرقه او جنسه. وكانت تتصاعد المطالبات للدولة العثمانية بالوقوف بحزم في وجهه النموذج المتصوف من الإسلام حينها، ما يعني انتلك المطالبات تحمل مضمون سياسي في محاولة الضغط على الدولة العثمانية والسعي الى اضعاف مشروعية الخلافة. حيث مثّل بروز الانتاج الثقافي عاملاً حاسماً في التأكيد على قيم الهوية العربية وقوميتها، ومنها مثلاً اصدارات محمود شكري ونضال عبد القادر الجزائري قائد المقاومة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي وطاهر الجزائري في دمشق الذي عمل على احياء الهوية والثقافة العربية ([16]). وهنا يتضح لنا مدى التعقيد الذي يكتنف القومية العربية والمزج الهوياتي بين العربية والاسلامية حيث عبد القادر الجزائري الذي أبرز نفسه في الدفاع عن الهوية والقومية العربية لكنه بالمقابل احتفظ بولائه واعترافه بالسلطان العثماني كزعيم روحي للأمة الاسلامية.
وقد كان للطلبة العرب في إسطنبول دور بارز في عملية احياء الروح العربية من خلال تأسيس بعض الجمعيات المماثلة لحلقة دمشق الصغرى بقيادة طاهر الجزائري، فقد لعبت الكثير من الجمعيات مثل ” جميعه النهضة العربية ” و “جمعية النهضة السورية “وجمعية ” الاخاء العربي العثماني” وبعض الجمعيات السرية دوراً مهما في بعث الروح العروبية وانعاشها، والتي تم تأسيسيها بهدف خلق كيان عربي موحد يهدف ولو ضميناً بمسألة القومية العربية المستقلة عن أي هيمنة عرقية أخرى. وقد لعبت المنظمات السياسية التي بدأت في الانتشار في الوطن العربي من 1905 دوراً في تشكيل الهوية العربية، حيث كانت تضم نخب مجتمعية ذات تأثير مجتمعي عالي، وهو ما اضطر السلطات العثمانية عن فرض بعض القيود مؤخراً على بعضها ([17]).
يمكن هنا الاشارة الى نقطة هامة في ظل انتشار العديد من الجمعيات التيتم تشكيلها سواء العربية منها او التركية او تلك التي تم انشاءها بالاشتراك بين الاتراك انفسهم والعرب ك حزب تركيا الفتاة) الشبان الاتراك(وجمعية الاخاء العربي التركي، الدور الذي كانت تلعبه القومية العربية للكشف عن نفسها والحفاظ على هويتها بالذات التي كانت تؤمن بضرورة التخلص من الهيمنة العثمانية ، حيث يوضح جورج انطونيوس([18]) نشاط القوميين العرب من خلال مشاركتهم في دعم وتأييد حزب الشبان الاتراك ومعظم المشاركين فيها من ضباط الجيش ليس بكونهم عرباً وإنما بكونهم مواطنين عثمانيين . لذلك لا تجمعهم الهوية هنا وانما يجمعهم هدفاً سياسياً أبعد للوقوف في وجه الاستبداد العثماني ومحاولة التخلص منه. ويتضح من ذلك ان نشاط القومية العربية كان مشروع منظم ومدروس يعمل في اغلب مفاصل السلطة العثمانية وأبرزها الجيش الذي يعد السلطة الأقوى والأهم في كيان الإمبراطورية، اضافة الى انخراط القومية في أكثر من سبيل حتى في كيانات ليست عربية تحقيقاً لهدف سياسي بالتعاون مع اطرافاً اخرى تشترك معها في بعض المصالح المشتركة لتحقيق هدفها القومي.
انتقلت القومية العربية الى مسار اخر واخذت طابعاً سياسياً تم التعبير عنه بالاستقلال وتحديد المصير في إطار وطن عربي مستقل واستغلت تلك الفترة كونها في نهايات عمر الدولة العثمانية وبدايتها في التساقط. وبالرغم من انهيار الدولة العثمانية في عشرينات القرن العشرين، الا ان الحركات العربية أخفقت في تحقيق الاستقلال التام وان تقود حركات تحررية من الاستعمار وخاضعت صراع مريراً معه. لكنها اتجهت الى تطوير الفهم القومي وإيجاد نظام سياسي قومي دقيق في محاولة لتكوين منظومة عربية قومية شاملة لمواجهة الاستعمار الأوربي وشكلت على ضوء هذه الفكرة أحزابا سياسية في اقطاب عربية مختلفة ([19]).
ظهرت القومية الحديثة وتطورت بمذهب سياسي حديث يستقي من الارث السابق للقومية والروح العروبية ويعززها وينحو بالنضال القومي منحاً آخر علي يد العالم والمفكر الاسلامي السوري عبد الرحمن الكواكبي، بما أسماه “الاستبداد السياسي” في كتابه الذي صدر 1900″طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” ،الذي كان موجه ضد الخليفة العثماني ، وطور الكواكبي مفهوم الوطن الى الامة العربية حيث كان يعتقد بضرورة احياء الارث الحضاري والخلافة العربية كممثل حقيقي للأمة، وبذلك يكون الكواكبي قد اعطى القومية العربية معنى اخر يتمثل في القومية السياسية بعد القومية الثقافية، للحفاظ على كيانها الهوياتي العروبي.([20])
وهنا تظهر مفارقة عجيبة في مذهب الكواكبي، حيث يعتبر الكواكبي رجل وعالم دين -وبطبيعة الحال – كانت الفئات ذات الولاء الديني القوي تدعم توجه الحفاظ على الخلافة الاسلامية ممثلة في السلطان العثماني الممثل الشرعي لدولة الخلافة الا ان الكواكبي أتى من الداخل الديني لنقد السلطان مستشهداً بالدليل العقلي والنقلي وداعياً للانتفاضة ضد السلطان الذي جسده على هيئة المستبد في كتابه. وبذلك يكون قد رسم بعداً جديداً وهوية أوسع لاحتواء الكيان العروبي في مواجهة المشاريع الخارجية ضد مفهومي الوطن والأمة على السواء. وهذا يعد من دهاء الكواكبي وسعة ادراكه وفهمه باعتقادي كون رواد القومية السابقين- كما أوضحت سابقاً -عملوا على تجسيد الهوية العربية في الارض وحسب، وعمقوها في الذاكرة القومية العربية بينما اتجه الكواكبي على نحو أعمق للتهيئة لنضال عربي حقيقي نابع من قوميته وهويته الى جانب تمسكه بالدين ومبادئه بالرغم من ان الخطاب الديني لا يعطي ميزاناً للجنس والعرق وهو ما ينتفي افضلية القومية والعرقية التي سارت عليها معظم الحركات القومية حتى يومنا هذا.
أخيراً ومن خلال قراءتنا للمسار التاريخي للقومية العربية يمكننا القول ان القومية العربية بتاريخها تحمل سمة معقدة في المزج بينها كقومية وبين الاسلام كهوية أكبر، ولذلك فقد كانت تتأثر وتأثر بها في مختلف المراحل التاريخية، وكان هذا المزج الهوياتي برأيي يساهم في تعزيز الهوية العربية على الاقل كهوية وقيم وارث حضاري إن استثنينا البعد السياسي للهيمنة العثمانية، مقارنة بالتحدي الذي كان يمثله الاستعمار الاوربي والذي كان فقط لا يكتفي بالسيطرة والنفوذ على الأرض، بل كان يشكل تحدي أكبر في وجه القومية العربية، حيث كان يهدف الى محوها في الذاكرة العربية ويسعى الى صبغ هويته الاستعمارية وفرض لسانه بطريقة أو بالأخرى بدليل التأثير الفرنسي على بلاد المغرب العربي والذي لا يزال حتى اليوم، وذلك بالعكس من الدولة العثمانية مثلاً. وكان العامل الديني أحد أبرز العوامل التي استفادت منها القومية العربية على مر تاريخها مروراً بالقومية الثقافية واخيراً بالقومية السياسية التي ساهمت في تشكيل رؤية مغايرة للبقاء تحت الهيمنة العثمانية.
ولهذا باعتقادي سيظل العامل الديني مؤثر حي وفعال في صيرورة الحراك القومي، وهو ما تحاول التيارات الاسلامية السياسية المعاصرة تجاوز هذا الازدواج المتأصل. إضافة الى سعيها لترسيخ هوية أعم وأوسع من جغرافية الحدود السياسية واللسان المشترك الى هوية عالمية بنظرها تحت كيان رؤية اسلامية بمفهوم” العالم الاسلامي “أو” الامة الإسلامية” وهذا بالطبع متعارض مع دعوات القومية الحالية، وهذا يساهم في تعميق الفوارق بين هذه الكيانات المختلفة وهو ما يكون له أثر سلبي ومباشر على الصراع الحالي في الوطن العربي وخصوصاً بعد الثورات العربية. ولذلك عند العودة الى جذور الصراع وأبعاده الخفية سيتم ملاحظة بدقة الدور الذي يلعبه هذا الانقسام أو الازدواج الهوياتي بمعنى أوضح.
المصادر والمراجع:
- الشويري، يوسف. القومية العربية: الأمة والدولة في الوطن العربي: نظرة تاريخية، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، بيروت- لبنان،2002.
- المجذوب، محمد. الموسوعة الشاملة في اللغة التركية، نسخة الكترونية متوفرة في موقع الموسوعة: https://mawsoaalshamla.blogspot.qa/2016/09/036.html ، تم الاطلاع بتاريخ. 16/2/2018
- الغزالي، محمد. حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، القاهرة، 2005.
- انطونيوس، جورج. يقظة العرب: تاريخ الحركة القومية، دار العلم للملايين، ط8، بيروت- لبنان،1987.
- الهنيدي، هاني. الحركة القومية العربية في القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، بيروت – لبنان، 2015، (نقلاً عن فريق من شباب العرب المؤمنين، المنهج القومي العربي، مطبعة المعارف، بغداد، 1935).
- Ajami, Fouad. “The End of Arab Nationalism.” The New Republic 12 (1991).
[1] – هاني الهنيدي، الحركة القومية العربية في القرن العشرين، (مركز دراسات الوحدة العربية بيروت – لبنان،2015)، ص178-179.
[2] – يوسف الشويري، القومية العربية: الأمة والدولة في الوطن العربي: نظرة تاريخية، (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان،2002)، ص78.
[3] – المصدر نفسه، ص 78.
[4] – المصدر نفسه، ص78.
[5] – المصدر نفسه، ص80.
[6] – محمد الغزالي، حقيقة القومية العربية وأسطورة البعث العربي، (نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2005)، ص12.
[7] – يوسف الشويري، المصدر السابق، ص81.
[8] – المصدر السابق ص82.
[9] – المصدر السابق، ص83.
[10] – محمد المجذوب، الموسوعة الشاملة في اللغة التركية، نسخة الكترونية متوفرة في موقع موسوعة: https://mawsoaalshamla.blogspot.qa/2016/09/036.html تم الاطلاع في 16/2/2018.
[11] – يوسف الشويري، مصدر سابق، ص 84.
[12] – المصدر نفسه، ص86.
[13] – المصدر السابق، ص 87-88.
[14] – المصدر نفسه، ص 89.
[15] – المصدر السابق، ص91.
[16] – المصدر نفسه، ص95-96.
[17] – المصدر نفسه، ص98-99.
[18] – جورج انطونيوس، يقظة العرب: تاريخ الحركة القومية، (دار العلم للملايين، بيروت- لبنان،1987) ، ص 176.
[19] – المصدر نفسه، ص104.
[20] – المصدر نفسه،105.
- خاص – المركز الديمقراطي العربي