البرلمان الليبي بين الثوابت الوطنية والمساومات الاوربية !
اعداد : أبوالقاسم المشاي – أكاديمي وسياسي ليبي
- المركز الديمقراطي العربي
اتفاق الحرب بالوكالة:
منذ بدايات الصراع على تقاسم السلطة في ليبيا، والذي جاء على طاولة “الناتو” والرهانات الفاشلة على المؤتمر الوطني العام.. الذي أجج الصراع ودعم الحروب والابادات الى ما يعرف بحروب فجر ليبيا والتدخلات الاجنبية وكل ما حاكته من مؤامرات مخابراتية الى المحطة الثانية من الانتخابات، التي حضرت في ظروف أكثر تعقيدا وانتجت ” البرلمان” .. وما رافق ذلك من ازمات وويلات عصفت بالبلاد وذهبت به الى حافة التقسيم وكان المواطن والمجتمع ضحيتها الاولى حيث وصلت اعداد النازحين والمهجرين بالقوة داخليا الى أكثر من مليون مواطن.. وكانت معاناة النساء والاطفال اكثر وطأة وقسوة في ظروف انعدام الامن والغداء والدواء.. هذا أنتج صراعات فوق – اقليمية بين الاطراف الدولية المتظافرة لتدمير البلاد ونهب ثرواتها والتي يمكن وصفها “كأكبر عملية سطو على اموال شعب في التاريخ المعاصر”… هذه المعطيات والأزمات حولت الامم المتحدة الى مجرد قائد اوركسترا جنائزية حيث انتجت صورة درامية لفتح ابواب المسرح امام المتصارعين على السلطة باسم الدول الاستعمارية وامتداداتها الاقليمية من الخليج العربي الى تركيا .. وظهرت قطر دائما كراعي للقافلة المحملة بالأسلحة والارهاب.. حيث اعلن عن سيناريو المفاوضات والمباحثات على تقاسم السلطة من غدامس لتستقر القافلة في الصخيرات وتلد اتفاق “سياسي” هزيل وميت في الرحم ! وتتكالب المحطات الاعلامية لتبشر بولادة الجنين المحّرم الجنين الميت الذي تم تقديم وثائق نعيه قبل ولادته !
تمت مراسم التوقيع على أوراق اتفاق الجنازة في مشهد احتفالي ساخر يذكرنا بمسرحيات الظل “البوبيت Puppet” ويرسم صورة جديدة للمشهد الاجتماعي السياسي أكثر تعقيدا وحضرت بكل خطوطها وتفاصيلها لتصب الزيت على النار وتزيد من حدة الانقسامات وحالة التفكك بين المؤسسات من جهة ومن جهة تحولت إلى وقود لصعود الإرهاب وتمديد الصراع والنزاعات الأهلية في أكثر من مساحة !
الابتزاز والمساومات فوق دولية:
وعبر كل الأحداث والمحطات التي أدارها البرلمان ومن خلال رئاسة ” المستشار عقيلة صالح ” بالرغم من المقاطعات بين أعضاء البرلمان والانقسامات الداخلية التي كانت ولازالت تلهث وراء مصالح فردية وفئوية .. وكان رفضه القاطع لمختلف أشكال الضغوط والمساومات والتي وصلت إلى وضع اسمه على قوائم العقوبات والحظر الأوربي من أجل تمرير مصالح استعمارية وأجندات استخباراتية هدفها الهيمنة على ثروات البلاد حتى ولو أدى ذلك إلى سفك دماء كل الليبيين على أكثر من مذبح .. كل تلك الممارسات والتي تكشّفت إبعادها ودلالاتها وشكّل الإرهاب مادتها السامة، منحت لرئيس البرلمان الورقة الرابحة دائما والتي استطاع عبرها إدارة مجلس النواب في ظروف صعبة وقاسية ولم يفرط بثوابته الوطنية .. وكان الحلقة القوية التي أنقذت البلاد من الكثير من الويلات بدء من رفضه للاتفاق السياسي ” اتفاق الهزيمة ” والذي نشهد على نتائجه وهزيمته وما حققه من مآسي وإذلال للشعب الليبي وتحول مجرد صك للفساد وانتهاك الحقوق والاعتداء على وحدة ليبيا ومواردها ..!
رئيس البرلمان اثبت جدارة وحنكة سياسية تخطت كثير من المفاهيم الضيقة للعبة وتجاوزتها لتمنحنا مدى عمق تفكيره في ماهية الاجتماع السياسي الذي يتحرك فوق صفيح من النار ليس اقلها حروب الهلال النفطي والحرب على الإرهاب والصراعات القبلية التي حولت الجنوب إلى مجرد أراضي منتهكة السيادة بفعل إدارة حكومة السراج الهزلية مع تحفظنا على حكومة البرلمان التنفيذية (الحكومة المؤقتة) التي كانت ضعيفة وهامشية لم ترتقي إلى مستوى ما كان على رئاسة البرلمان تحقيقه وانجازه!
الأحداث والمستقبل:
العقوبات التي أصدرها الاتحاد الأوربي ضد البرلمان الليبي (رئاسته) لم تستند إلى حجة يمكن من خلالها استيعاب الموقف السياسي الأوربي وأدواته التنفيذية .. إذا كانت الهدف مرتبط بشيء من العدالة فهو بالضرورة يجب أن يحقق الوضوح واليقين .. وهل صارت تملك أوربا اليقين وسلطة العدالة التي تجعلها تصدر عقوبات ضد رئيس برلمان دولة أخرى، وهذا بذاته سابقة خطيرة … وخاصة عندما تجد تضامنا دوليا، ؟ .. هذا يكرس إلى سابقة قد تطول رؤساء برلمانات دول أخرى غير أوربية .. وهل يعني ذلك أن رئيس البرلمان الليبي القادم في إي مرحلة مستقبلية معرّض للعقوبات الأوربية وفقا للأهواء السياسية التي تريدها أوربا أو أي دولة أوربية أو عبر مجموعة سياسية ؟
هذه السلة الجاهزة من الأحكام المسبقة والمبيتة والتي لا يمكن سبر دوافعها بل يمكن وصفها بأنها عقوبات تهديد غائية تم توجيهها لتحقيق أهداف خاصة (ومارقة عن أدبيات تأسيس الاتحاد الأوربي مع عدم احترام حسن الجوار)، بل تنطلق من دوافع الهيمنة والاستعمارية التي مازالت تعشش في منهجيات أوربا المعاصرة.
كنّا نتوقع دعم أوربا ووقوفها مع ليبيا شعبا ومؤسسات خاصة أنها تخطو باتجاه الديمقراطية وتواجه حربا ضد الإرهاب وتدخلات أجنبية متعددة تهدد الأمن والسلم في المنطقة والعالم، ولكن حتى تلك الخطوات الأولى باتجاه الاستقرار والانتقال الديمقراطي تم وأدها في المهد عبر دعم الإرهاب والفساد والذي لم تكن أوربا بمعزل عنه… هذا التلاعب بالمصير من اجل الهيمنة ينزع عن الاتحاد الأوربي المعيار الأخلاقي الذي يمكن أن نتفق عليه جميعا .. حتى لو كنّا وسط المحرقة !
عندما يتحكم الفكر الفقير والمصالح السياسية الضيقة وتنتصر الشعوبية وتوجه قرارات أوربا الاتحادية بما يخدم (حفنة) من السياسيين والأحزاب المتطرفة هذا بالضرورة سيقودنا إلى الطريق الذي لن يفضي إلا إلى مزيد من الشقاق .. لان الاتحاد الأوربي سهّل للشعوبية والإرهاب أن ينتصران كل لمشرعه .. وهذا ما نحن عليه اليوم من مشهد انجرت وراءه المؤسسات الأوربية بسهولة عندما أصدرت قراراتها العقابية ضد (رئيس البرلمان الليبي)، هل ما حدث هو قراءة أولية لتوجه أوربا المعاصرة التي لم ترى المشهد المستقبلي من خلال الاحترام المتبادل والحوار المشترك بل على أساس تعظيم المصالح بلغة المساومات والترهيب .. هل تتجه أوربا لأن تكون شرطي وقاضي على مصير الشعوب (خاصة جنوب المتوسط) !