إفلاس النظام العالمي في مواجهة كورونا وسيناريوهات مع بعد كورونا
بقلم : الباحث والمحلل السياسي / سيد حسني على – المركز الديمقراطي العربي
لقد كشفت المصائب والأزمات على مرّ العصور عن قدرة الإنسان على عبور أكثر الطرق وعورةً في صراعه مع تحديات الحياة، لقد واجه حروبا كونية، وكوارث طبيعية مبيدة، ومجاعات وحروب عنصرية، كما واجه أوبئة حصدت وقت انتشارها الملايين، لأنه لم يكن من علاج لها، ولنتذكر كم حصدت الإنفلونزا، الجدري، الطاعون.. إلخ. لكن كل ذلك مرّ كما ستمرّ هذه المحنة ولكن للأسف الشديد كشفت أزمة كورونا العالمية عن إفلاس النظام العالمي القائم، على جميع المستويات الصحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية والعلمية!
ورأينا كيف تهاوت قيم ومبادئ كثيرة قام عليها النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، فقد غاب التضامن بين الدول والحكومات، وعادت الشوفينية الوطنية في أبشع صورها، كشف لنا زلزال كورونا عن كثير من عيوب عالمنا، فقد عرّى بالكامل عيوب “النموذج الحالي للعولمة فتحت هزّات زلزال كورونا العالمي، سقطت شعارات كثيرة عن العولمة التي كانت تبشر بتحول العالم إلى قرية صغيرة”الغربي”، وأظهر قصور النظام العالمي الحالي الذي تجاوزه الزمن، نتيجة التحلل والتعفن الذي أصابه طوال العقود السبعة الماضية فعلى الرغم من أن وباء كورونا لا يُقارَن بطاعون جستنيان ولا بطاعون الموت الأسود من حيث الفتك بالناس، فإن تأثيره الاقتصادي والاستراتيجي سيكون هائلاً، لأنه يحمل في عالمية انتشاره السريع مثالاً حياً على روح العصر الذي نعيشه، فنحن نعيش عصر العولمة بأبعادها المختلفة، وكورونا يمتطي صهوة هذه العولمة ليصل إلى كل أرجاء الكوكب، ويهدد جميع سكانه على قدر المساواة ولا نملك الآن إلا انتظار انتصار العقل البشري و انتصار العلم على فيروس كورونا ووضع حد لهذا التهديد حيث أن التأثير الصحي لجائحة كورونا سوف يزول مع الزمن، وسوف تتجاوز البشرية خطرها كما تجاوزت أوبئة وطواعين وحروباً سابقة، لكن الأثر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي سيبقى سنوات، وربما عقوداً قادمة.
إن تناقضات المصالح تفرّق الدول والشعوب، فكل يبحث عن تحقيق مصالحه التي عادة ما تكون على حساب آخرين. وفي الحروب ثمة منتصرون ومهزومون وشامتون. لكن في مواجهة كورونا ليس هناك مهزوم ومنتصر، ولا مساحة للشماتة، فلا أحد بمنأى عن الخطر، ووصوله إلى أي دولة مسألة وقت ليس إلا لذا يبدو أن متغيرات كبرى ستلحق بعالم ما بعد رعب كورونا، وقد تفضي إلى زعزعة ركائز النظام الدولي الراهن، ليفسح المجال واسعًا لإرساء نظام دولي جديد فمن الواضح ان النظام العالمي الجديد قد يجد له في فيروس كورونا وجهة جديدة لإعادة تحديد و رسم المواقع للقوى الكبرى و إعادة تحديد لهذه القوي.
حيث يرى عديد من الخبراء أن الصين تحاول التموقع كزعيم عالمي بديل و ربما تعتبر بيكين إن فشل الولايات المتحدة حتى الآن في الحرب المعلنة على كورونا و مواقف الرئيس الأمريكي الفجة يؤهلها لهذا التموقع الجديد لقد وُلِدَ النظام الدولي الحالي بعد الحرب العالمية الثانية، فعلى إثرها انهارت الإمبراطورية البريطانية، وحلت مكانها “الإمبراطورية” الأمريكية، لقد بلغت بريطانيا في أوج قوتها مرتبة “أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ”، واحتلت طوال قرن لقب “القوة العالمية الأولى”، ومع أنها خرجت منتصرة في الحرب فإنها كانت قد هَرمَت، فجاءت الحربان العالمية الأولى والثانية لكي تُطيحا بها، فما لبثت أن تخلت عن مستعمراتها التي لم تغب عنها الشمس.
كانت أمريكا قُبَيل دخولها الاضطراري في الحرب تُفضل العزلة الدولية، مستندة إلى عقلية الجزيرة الحصينة البعيدة عن مواطن النزاع في أوروبا، ولم يزد تعداد جيشها قبل الحرب على 174 ألفاً، ليحتل بذلك المرتبة الرابعة عشرة على مستوى العالم.
إن الذي ساعد الولايات المتحدة على تحقيق قفزات إستراتيجية سريعة هو الطبيعة الديناميكية المنفتحة للمجتمع الأمريكي، فهو مجتمع مهاجرين، شديد التنوع، يحتفي بالنجاح والابتكار كذلك التفوق العسكري الأمريكي صاحبه تفوق دبلوماسي واقتصادي، فغنائم ما بعد الحرب صبّت جميعاً في مصلحة أمريكا، فتأسست الأمم المتحدة وجُعِل مقرها في نيويورك، وأصبح الدولار المرتبط بالذهب عملة عالمية قياسية بفضل اتفاقية بريتون وودز، وتأسس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومقرهما في واشنطن لقد صارت الولايات المتحدة صاحبة اليد العليا، وتخلّت أوروبا عن كبريائها التاريخي، وقبلت أن تسير خلف القيادة الأمريكية.
- السؤال المطروح الآن : هل سيقضي كورونا على العولمة الأمريكية؟ويولد نظام دولي جديد؟
للإجابة على هذا السؤال يمكن القول إن التغيرات العالمية لا تحصل دفعة واحدة، إنما بشكل ممهد، ولا شك أن التمهيد لهذه التغيرات بدأ منذ أحداث 11 سبتمبر، ومن ثم انتشار الإرهاب في الشرق الأوسط، ومن ثم سيطرة تنظيم “داعش” على سوريا والعراق، في مقابل فشل الولايات المتحدة الأميركية في قيادة هذه الملفات وسط تقدم روسي صيني في صورة التفاعل الدولي، كما أن انتشار الوباء الجديد لا يشبه ما قبله من أحداث بل هو أكثر فتكاً وتطوراً بشكل يفضح ترهل الدول الأوروبية وفقدان الولايات المتحدة الأميركية على السيطرة، في مقابل تطور صيني في طرق القيادة والإدارة والمساعدة أذهل العالم، وقدرة روسيا على التعامل بشكل أفضل من الإدارة الأميركية، كل هذا ما يبنأ بتغيرات لكن في وقت يرتبط بما سترسمه خارطة انتشار الكورونا وتفاعلها.
ولا شك أن الأحداث الانفة الذكر سبّبت تغييرات جيوستراتيجية كبرى في العلاقات الدولية وسياسات الدول.
فالعالم الذي نعيشه اليوم متشابك ومتداخل، والعولمة هي السمة الأهم للمنظومة الدولية، وللعولمة ركنان أساسيان: الأول اقتصادي، والثاني تقني، وفي الوقت الذي ستتراجع فيه العولمة اقتصادياً بسبب أزمة كورونا سوف تواصل التكنولوجيا الدفع بها إلى الأمام، ولذلك فالعولمة مستمرة ولكن بوتيرة مختلفة وبقيادة متعددة الأقطاب.
لا نستطيع الجزم في هذه المرحلة على وجه اليقين بمآلات النظام الدولي وموازين قوته، ولكننا نستطيع أن نرسم ملامح للمستقبل، بناءً على توجهات إستراتيجية وسيناريوهات مستقبلية محتملة لهذا النظام الجديد.
السيناريو الأول :
نلاحظ قبل وباء كورونا كانت أمريكا تعلم علم اليقين أن الاقتصاد الصيني الصاعد بقوة الصاروخ سيزيحها عاجلاً أو آجلاً عن عرش العالم الاقتصادي والمالي، فالنمو الاقتصادي الأمريكي لا يزيد عن اثنين في المئة منذ زمن بينما معدل النمو الصيني وصل قبل مدة إلى ثلاثة عشر في المئة ثم انخفض إلى ثمانية في المئة والآن استقر على ستة في المئة. بعبارة أخرى، فإن الاقتصاد الصيني ينمو بمعدل ثلاثة أضعاف الاقتصاد الأمريكي. ولو استمر هذا النمو لعشرة أعوام فقط فهذا يعني أن الصين ستكون صاحبة أكبر ناتج إجمالي قومي في العالم، بينما ستتراجع أمريكا إلى المرتبة الثانية. وقد جاءت جائحة كورونا الآن لتزيد مخاوف أمريكا من النهوض الصيني العظيم. ماذا لو تمكنت الصين من إنتاج لقاح ناجع لفيروس كورونا أفضل من اللقاح الأمريكي وبسعر تنافسي جداً.
لذا يمكن القول إذا نجحت الصين في اكتشاف لقاح أو دواء للمرض، فستكون أقدر من الولايات المتحدة على تصنيعه بسرعة أكبر وتكلفة أقل، وسيكرس ذلك ريادتها العلمية والتقنية.
كم أن المهم استراتيجياً هو سرعة تعافي الصين اقتصادياً وقدرتها على استئناف الإنتاج في مصانعها، وهو ما يتحقق بالفعل، وتأمل الصين أن تحقق معدلات نمو عالية تعوض فيها النقص الذي طرأ في الشهور الماضية، وغالباً ستنجح الصين في ذلك، لا سيما إذا طال أمد الأزمة في أمريكا وأوروبا، ويبدو أن الأزمة لا تزال في بداياتها، وهو ما سيخدم الصين، ويمنحها نقطة تفوق لن تتردد في استخدامها إلى أبعد حد فقد حرصت الحكومة الصينية خلال العقود الماضية، على ضمان امتلاكها القدرة على تصنيع وتوفير كافة السلع والمواد الاستهلاكية على اختلاف أنواعها، للأسواق الخارجية، كوسيلة لضمان تفوقها في الجوانب السياسية والإقتصادية من سياستها الخارجية، ضمن مسار أكبر يؤدي إلى نشر ثقافة (الحوكمة العالمية) بين الصين والدول الصديقة والحليفة لها، خاصة في إفريقيا. وقد مثلت أزمة فيروس كورونا، فرصة سانحة لإختبار مدى قدرة بكين على تطبيق هذه الحكومة في علاقاتها الخارجية. فقد عرضت الصين بشكل سريع وفعال على معظم الدول التي بدأ الفيروس في الانتشار على أراضيه، مساعدتها بشكل مادي وتقني، عن طريق إرسال معدات التطهير والوقاية اللازمة، من أقنعة واقية واجهزة تنفس صناعي وأدوية وغيرها.
وقد كان الإختبار الأول في هذا الصدد، استجابة بكين لمناشدات إيطاليا، التي تعاني من اجتياح الفيروس لأراضيها، ولم تجد أية استجابة من الدول الأوروبية المجاورة لها، فأرسلت إليها بكين ألف منظومة تهوية، ومليوني قناع واقي، و 100.000 جهاز تنفس اصطناعي، و 20.000 بدلة واقية، و50.000 مجموعة اختبار للفيروس، وأرسلت كذلك فرقاً طبية ومساعدات مماثلة إلى دول عديدة من بينها صربيا وفنزويلا وأسبانيا وإيران.
وقد اتضح أثر هذه المبادرات جلياً، من خلال تصريحات الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، الذي أعتبر التضامن الأوروبي (محض خيال)، مؤكدا ان الصين هي الدولة الوحيدة التي تستطيع مساعدة بلاده
إن نجاح الجهود الصينية لتبوء مركز قيادي عالمي في المرحلة المقبلة، يبقى رهن أستمرار القصور الحالي في الأداء الأمريكي حيال أزمة هذا الفيروس، وغرق واشنطن في شأنها الداخلي، دون النظر إلى الدول الأخرى،
السيناريو الثاني:
هناك حقيقة مؤداها أن الأجهزة الإدارية القوية والثراء الكبير والإمكانيات الضخمة لكل من الولايات المتحدة التي تقود العالم حالياً، والاتحاد الأوروبي حليفها الاستراتيجي، سوف يسمح لهم باتخاذ كثير من الإجراءات اللازمة لمواجهة الفيروس في حالة عدم فوات الأوان، لذلك نجد أن الولايات المتحدة أقرت تخصيص مبلغ تريليوني دولار أمريكي لمواجهة الآثار الاقتصادية السلبية لفيروس “كورونا” على اقتصادها، منها 300 مليار دولار لتعزيز القطاع الصحي، كما بدأت في اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لمنع انتشارها في البلاد، هذا بالإضافة إلى القرار الأمريكي بشأن إرسال عيادة طبية تابعة للقوات الجوية الأمريكية إلى إيطاليا فالولايات المتحدة ستسعى بكل ما أوتيت من قوة للاحتفاظ بريادتها العالمية ويمكن القول إن وضع أميركا كقائدة للعالم خلال العقود السبعة الماضية بُني ليس على الثروة والقوة فقط، بل أيضا تحكمها بالعالم، من خلال المساعدات وتسهيل تزويد العالم باحتياجاته، والقدرة والرغبة في حشد وتنسيق الاستجابات الدولية للأزمات، واليوم فإن وباء كورونا يختبر السياسة الأميركية، إلا أن واشنطن فشلت في الاختبار حتى الان كما بدأ الاتحاد الأوروبي حركته للتعويض عن الفشل الأولي؛ حتى لا تسقط الفكرة الأوروبية واتفاقية شينغن ومكاسب عقود من العمل المشترك، ومنها إقرار بتخصيص 300 مليار يورو على شكل قروض للشركات المتعثرة، كما يجري البحث باقتراح إنشاء سندات “كورونا بوند” لتكوين صندوق ضمان أوروبي للمبادرات الوطنية لحماية الاقتصاد ومكافحة أثار أزمة “كورونا”. ومع ذلك فهذه الإجراءات وحدها لن تكون كافية في حال عدم استخلاص الدروس والعبر، من دعم أولوية التنسيق الأمريكي-الأوروبي، والأوروبي-الأوروبي، والتعاون مع كل دول العالم في التصدي لهذا الوباء العالمي من ناحية، وتعزيز الميزانيات الصحية، إضافة إلى دعم استمرار حرية التجارة والتخلي عن الحمائية التي ظهرت خلال السنوات الماضية، مع التطبيق الكامل لاتفاقات منظمة التجارة العالمية.
السيناريو الثالث :
إننا مقبلون على نظام عالمي جديد لا نقول بقيادة الصين، بل على الأقل بمشاركة الصين وغيرها من القوى الصاعدة بعد أن ظلت مقاليد النظام الدولي في أيدي الولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي؟
فعلى العالم أن يتخلص من انتهازيته، ونفاقه، وتجاهله الأخطار المماثلة التي يمثلها وجود أنظمةٍ تُبيد شعوبها، يُسكَت عنها بسبب ارتباطها بنيويًا بسياق متواطَأ عليه، قوامه نهْب مقدّرات الشعوب وثرواتها، من دون أن تستفيد ممّا تملكه، حتى في بناء خدمات صحية مناسبة. وهذا فعليًا غير ممكن، ما دامت تلك الشرائح الاجتماعية التي تسيطر عليه، وتتحكم بقواه وثرواته وإعلامه أيضا، لا ترى سوى ذاتها ومصالحها، فتغمض عيونها عمّا يجري في الأقاصي البعيدة، ولا تستنفر قواها لمعالجة الأزمات إلا إن اقتربت منها وبرغم الأزمة الحقيقية التي تجد الإنسانية نفسها في مواجهتها في ظل عدم وجود دواء أو لقاح للوقاية من المرض، فإن المؤكد أن العلماء يواصلون الليل بالنهار للتوصل لهذا اللقاح، وبلا شك سيصلون إليه؛ لأن الجميع مستعد للعطاء والمساهمة بقدر استطاعته مستبشر ببذوغ فجر نظام دولي جديد يرعى مصالح الكل من أجل المنفعه العامة.