تحليلات

مدخل :العنف الجانب المظلم من القانون

بقلم : الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ – المركز الديمقراطي العربي

 

اصبح العنف ظاهرة مألوفة في المشهد العالمي المعاصر. وتُطرح في هذا السياق مسألة العلاقة بين العنف والقانون. أننا بحاجة الى أن  نعرف ما هو الدور الذي يمكن ويجب أن يلعبه القانون فيما يتعلق بالعنف. يبدو واضحا أنه يمكن أن يحدث العنف في غياب الأنظمة القانونية العاملة، ولكن أيضا يمكن أن يحدث عندما توجد هذه النظمة وتعمل بشكل جيد. كما يفترض الكثيرون أن النظم القانونية، من الأنواع التي نعرفها جميعاً تقريباً، ضرورية بالفعل لمنع العنف، أو على الأقل تقليله إلى أدنى حد. هناك سؤال مهم حول ما إذا كان بإمكاننا الحصول على قانون بدون عنف. هل يمكن لأيً نظام قانوني فعلي في المجتمع أن يمتنع عن العنف؟ أم  أن العنف، في بعض المقاييس، سمة متأصلة لا يمكن تجاوزها في القانون؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل قد يكون العلاج أسوأ من المرض؟

يعتبر العنف أحد أهم اسباب تشريع القوانين”،[1] طبيعياً كانّ أو وضعياًّ.[2] فالتشريع يأتي أساساً من أجل وقف حصول العنف والعدوانيّة.[3] وعليه فإنّ القانون ليس سوا وعدًاً[4] بالتّغلّب عليهما، ويأتي ايضا لترويض وتدجين السّلطة، وإخضاع العمل والغريزة للعقل والإرادة.[5]

يمثل العنف بوصفه تعبيّر عن يوتوبيا منحرفة وضارّة لفعل غريزيّ يفتقد التّفكير بتروٍّ،[6] تحديا لوظيفة القانون في حماية المجتمع ممّا لهذا للعنف من نتائج مدمرة،[7] لكن المشكلة أن هذا

العنف يفرض على القانون أن ينخرط معه باتّخاذ سماته الأكراهية والقسريًة في مجريات محاولة ردعه والرّدّ عليه بما يحدّ من مضاعفاته وتفاعلاته[8] بأعتبار أنّ تطبيق القانون بشكل كامل من غير اتّخاذ هذه السّمات أمر غير ممكن،[9] ولأنّ مهمّة القانون بحسب النّظريّة القانونيّة هي التّأكيد على الفرق بين الإكراه الذي يستعمله القانون، وبين الإكراه القسريّ الجامح الذي يتجاوز كلّ الحدود والقيود.[10] يُطلق المنظّرون القانونيّون على الإكراه الأوّل صفة الشّرعيّة[11] الذي يُعنى بتطهير العنف الذي يتصل  بالقانون.[12]

أذن يستدعي العنف سنً القانون، لكن ما إن يصبح العنف جزءاً من القانون حتى تصبح  مهمّة تطبيقه أو على الأقلّ تطبيق جزء منه متعذّرة. يحبط أقتران العنف بالقانون الأمل في أن لايكون القانون منخرطاً فيه.[13]وبما أنّ العنف سبب تشريع القانون فإنّه يُلقي ظلاله بشكل مستمر عليه، لذلك يصبح لازما أن نسأل كيف يختلف إكراه القانون عن إكراه يستدعي وجوده من أجل الضّبط والتّنظيم. وكيف يمكن للقانون أن يستوعب العنف ويسيطر عليه دون أن يصبح أسيرًا للعنف ذاته. إنّه في الحين الذي يوفّر فيه التّهديد باستعمال الإكراه تبريرًا دائمًا تحت غطاء الدّفاع عن القانون، فإنّه يصبح تذكيرًا دائمًا أيضًا بما هو القانون حقّاً. يكتب والتر بنيامين قائلًا: “لقد كشف العنف عن شيء متعفّن في القانون.”[14]

أكّدت النّظريّات القانونيّة في كثير من الأحيان على ادّعاء شرعيّة العنف القانونيّ لكن دون الالتفات إلى “تعفّن القانون بالقسر والإكراه أو إلى ماذا يريد أن ينتزع ذلك القسر والإكراه من القانون.[15] أننا نسأل عن الفرق والاختلاف الذي يُحدثه العنف في القانون، وعمّا إن كان بوسع القانون أن يصنع السّلام في ظل وجود العنف. ونطرح السؤال هنا على عدّة مستويات:

هل يمكن للقانون أن يقوم بأعمال جرميّة، أي بأعمال قتل[16]دون ممارسة حكم طبيعته أن يأمر ويقرّر وأن يملك سلطة القمع، وإبادة القيم المعارضة؛ أيً بدون أن تكون له “سلطة ترجيح أو فرض معنى على آخر من بين المعاني المتعدّدة عند اتّخاذ أيّ قرار (Jurispathic)”؟[17]

[1] Nietzsche, F., The Birth of Tragedy and The Genealogy of Morals, Trans, Golffing, F., (Garden City, N.Y.: Doubleday, 1956). Benjamin, W., “Critique Violence”, p277.

[2] Nietzsche, The Birth of Tragedy, p.217

يُشير بنايمين أيضًا، إلى أنّه في حين يعتبر القانون الطّبيعيّ العنف كنتاج للطّبيعة، فإنّ القانون الوضعيّ يعتبر العنف نتاجا للتّاريخ انظر:

Critique of Violence, p. 278. “Benjamin, W.,

[3]  Hobbes., Leviathan, ed C.B. MacPherson (New York: Penguin Books, 1986).

. قال مارك تايلور: “إنّ القوّة مفهومة في القانون بما أنّ بنية القوّة متماثلة مع بنية القانون، لذلك فإنّ كلّ واحد منهما يعكس الآخر بشكل مثاليّ”

Taylor, M., ‘‘Desire of Law/Law of Desire,” Cardozo Law Review 11 [1990]:1269-70)

[4] يقول بول ديمان: إنّ القوانين توجّه نحو المستقبل المحتمل، وطريقتها هي الوعد. من ناحية أخرى، فإن كلّ وعد يفترض تاريخا حيث يتمّ تنفيذ ذلك الوعد إذ بدونه لن يكون للقانون أيّ مفعول أو صلاحيّة. إنّ القوانين هي السّندات الإذنيّة حيث حاضر الوعد هو الماضي فيما يتعلق بتحقيقها

Laws, Paul de Mann, Allegories of Reading: Figural Language in Rousseau, Nietzsche, Rilke, and Proust [New Haven: Yale University Press, 1979], p.273.

[5] يصف غولدستن هذا الوعد على النّحو التّالي فيقول: “يُشكل القانون الطّبيعيّ جزءًا من القانون المحلّيّ بطريقة مناسبة.. فالقتل مُبَرَر ليس لأنّ القانون الطّبيعيّ قد قلب القانون المحلّيّ، ولكن لأنّه لا يوجد حكم في القانون المحلّيّ يجعل من القتل في مثل هذه الحالات عملا جنائيّا.” حول تفاصيل هذا انظر

Joseph Goldstein, Alan Dershowitz, and Richard Schwartz, Criminal Law: Theory and Process (New York: Free Press, 1974) P. 1028.

مع ذلك فإنّ الوعد يتحقّق جزئيًّا في أحسن الأحوال، لأنّ القانون بحد ذاته إكراه يثير الاضطراب في العلاقات الاجتماعيّة

[6] انظر Benjamin, W., “Critique Violence” of in Reflections trans, Edmund Jepchott, New York Harcourt, Brace, 1978, p.286.

لتعليق مهمّ حول بنيامين والبحث عن أصل القانون  انظر:

Derrida, J., ‘‘Force of Law: T ‘‘Mystical Foundation of Authority,’ trans. Mary Quittance, Cardozo Law Review 11, 1990, p 919. And Benjamin, W., “Critique Violence

[7] للحصول على أكمل وصف لعمل وصورة العنف الجامح في النّظريّة القانونيّة انظر

Austin Sara and Thomas R. Kearns, “A Journey Through Forgetting: Towards a Jurisprudence of Violence,” in The Fate of Law, ed. Austin Sara and Thomas R. Kearns (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1991)

[8]Taylor, M., “Desire of Law/ Law of Desire.

[9] قال دريدا: “إذا كان أصل القانون هو التّموضع العنيف، فإنّ هذا التّموضع يتكشّف في أكمل صورة عندما يكون العنف مطلقًا، أي عندما يمسّ الحقّ في الحياة والموت” ( “Force of Law “، 1005).

[10] انظر  Sara and Kearns, “ A Journey Through Forgetting.”

يؤكّد روبرت وولف أنّ القتل في نظر القانون والنّظريّة القانونيّة “من أعمال العنف، لكنّ عقوبة الإعدام من قِبَل الدّولة الشّرعيّة ليست كذلك؛ إنّ السّرقة والابتزاز من أعمال العنف، لكن جباية الضّرائب من قِبَل الدّولة ليست كذلك”.

(Violence and the Law,” in The Rule of Law, ed. Robert Wolff [New York: Simon and Schuster, 1971], P. 59.

[11] انظر:

Gerth, H.H., and Wright., Mills, eds and trans., Max Weber: Essays in Sociology (New York: Oxford University Press, 1946), p.78. Robert Paul Wolff, “Violence and The Law”, Edgar Friedenberg, “The Side Effects of The Legal Process, “ in The Rourle of law, 43; and Bernhard waldenfels,  ‘ ‘ The Limits of Ligitimation and Question of Violence in Justice, Law and Violence , ed. James Bradley and Newton Garver (Philadelphia: Temple University Press, 1991).

للإطّلاع على دراسة أكثر أهمّيّة عن كيف يشرعن القانون نفسه، انظر:

Weber, S, “In the Name of The Law,” Cardozo Law Review 11 (1950): p.1515.

[12] لقد دعا Karl Olivecrona إلى اعتراف واضح بأنّ عنف القانون ليس متحوّلًا ولا صافيًا، ففي معظم ما كُتِب عن القانون “فإنّ العنف الفعليّ قد بقي هو الأساس بشكل كبير في مثل هكذا حالة، وإنّه من الملائم خلق الاعتقاد بأنّ العنف هو غريب عن القانون، أو أنّه ذا أهمّيّة ثانويّة. بالتّالي، هذا هو الوهم القاتل… إنّ الطّابع الحقيقيّ للقانون محجوب إلى حدٍّ كبير، ويتمّ ذلك من خلال الأفكار الميتافيزيقيّة والمصطلحات. عن سبيل المثال، فإنّه لا يقال صراحة إنّ وظيفة المحاكم هي تحديد استخدام القوّة، لكن بدلًا من ذلك، يُقال إنّ وظيفتها هي في ’إدارة العدل’ أو التّأكّد من ’الحقوق’ و’الواجبات’”.

Olivecrona, K. Law as Fact, Copenhagen: E. Munksgaard, 1939, p. 125.

[13] تقول Sarat and Kearns, إنّ القوّة تترفّع عن العقل وتضعه جانبًا لتستولي على السّلطة تمامًا. لا يملك العقل ولا القوّة أيّ وسيلة لتشارُك السّيطرة على الوكالة البشريّة، ومتى ما التقى الإثنان في معركة فإنّ واحدًا يمكنه الفوز. وبالنّظر إلى وضع مستويات القوّة والألم، والعنف في تصرّف القانون، فإنّ القانون سوف يكون مؤكّدًا انتصارُه حينما يريد ذلك. يبدو إذن أنّ أعمال عنف القانون لا تتوافق جيّدًا، بل بالحقيقة تتعارض مع مفهوم الوكالة البشريّة التي بنيت وتحمّلناها من خلال فقه القواعد”.

A Journey Through Forgetting,” p.269.  Sara and Kearns,”

[14] Benjamin “Critique of Violence” p.286

في هذه الجملة يؤكّد دريدا أنّ بنيامين كان يعني في إشارته أنّ “القانون هو عنف ضدّ الطّبيعة””

(“Force of Law, p.1005).

[15] خير مثال عن هذا الاتّجاه في النّظريّة القانونيّة قد قُدِّم من قِبَلRonald Dworkin  الذي تعامل مع موضوع عنف القانون كما أن الأمر يتطلب دراسة لمدى كفاية “المبادئ” التي تبرّره. انظر:

Dworkin’s Taking Rights Seriously (Cambridge: Harvard University, 1977, p. 15

[16] تعتبر عقوبة الإعدام أكثر الأعمال الجرميّة وضوحًا وأهمّيّة يقول Benjamin: عند ممارسة العنف على الحياة والموت في أيّ عمل قانونيّ، فإنّ على القانون أن يعيد تأكيد أو تأهيل نفسه. (“Critique of Violence” 286)

[17] استُعملت هذه الجملة من قبل كوفر لوصف الميل أو النّزعة إلى قتل أو إلى تدمير المعنى القانونيّ. انظر مصطلح المحكمة العليا.

The Supreme Court, 1982″ Nomos and Narrative Narrative” Harvard Law Review 97, 1983 4,40

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى