الشرق الأوسطتقدير الموقفعاجل

المشكلة الأساسية للسياسة وبداية العثرات السياسية في العراق الحديث

بقلم : د. شوان نافع خورشيد – دكتوراه في النظريات السياسية من جامعة كارديف البريطانية/جامعة جيهان بكوردستان العراق

  • المركز الديمقراطي العربي

 

المشكلة السياسية في العراق هي نفس المشكلة التي واجهتها البشرية منذُ أقدم العصور. انها مشكلة الصراع على السلطة السياسية.

خرج الانسان الحديث من افريقيا، حسب أحد التقديرات، منذ حوالي 60 ألف سنة. الا ان بداية الانتقال للزراعة كمصدر أساسي لقوتهم كانت ليس أكثر من 12000 سنة (مع انهم عرفوا الزراعة قبل هذا التاريخ بـحدود 10000 سنة (Snir, 2015). وأول دولة لهم كانت في سومر في العراق الحديث قبل 5300 سنة. ولكن ظهور الانسان الحديث Homo sapiens  حدث قبل 300 ألف سنة.

اذن لماذا حصل كل هذا التأخير. لماذا لم يتمكن الانسان من مزاولة الزراعة وإقامة الدول منذ بداية ظهورهم كنوع حيواني؟

كان ذلك بحسب تقديري لقلة قدراته الأخلاقية او امكانيته في فرض الاخلاق. فمزاولة اية حرفة او زراعة تطلب من الاخرين احترام العاملين وعدم نهبهم عن طريق القوة او التحايل.

أي ان إمكانية انتاج الموارد تتطلب ليس فقط القدرات التكنيكية، بل وكذلك الأخلاقية. ويبدو ان المنافسة من اجل البقاء أعطت الأفضلية لمن تمكنوا من انتاج مواردهم او تمكنوا من الدفاع عن منتجي الموارد وهذا ما سمح بإقامة الزراعة البسيطة.

في الأماكن التي كانت تستطيع إيواء اعداد كبيرة من المزارعين، مثل احواض الأنهار، وكان صعبا على السكان الإفلات من الرضوخ لسلطة ما (ان كان ذلك بسبب عدم بقاء أماكن غير مأهولة او لكون الأماكن المحيطة مأهولةً بجماعات معادية) ظهرت الدول الأولى. واتاح ظهور الدولة فرصة لتقدم العلم والحضارة.

يعرف ماكس فيبرMax Weber الدولة على انها ’ مجتمع بشري يدعي (بنجاح) احتكار الاستخدام المشروع القوة الجسدية او العنف داخل مقاطعة معينة‘ (Munro, 2013). قد لا يدل ظهور الدولة على احراز تقدم في القدرة الأخلاقية. لو كان الامر كذلك لما احتجنا لا الى مؤسسة تلوح باستعمال القوة، ولكنه يدل على نمو إمكانية خاصة متمثلة في قدرة قيادات معينة ومعاونيهم من تقديم انفسهم كأصحاب صلاحية للقرار وحرمان او تجريد الآخرين او معظمهم من حكم انفسهم بأنفسهم وتحويلهم الى رعية، ومنعهم من فرض اراداتهم على الرعايا الاخرين، باستثناء عندما يفعلون ذلك بتخويل ولصالح السلطة. اعتقد الفيلسوف البارز توماس هوبز بان ظهور الدولة نابع من عقلانية الانسان. فالإنسان اذا وجد نفسه في الحالة الطبيعية حيث لا دولة ولا حتى اخلاق تحمي الناس من بعضهم البعض، واذا انتبه هذا الانسان الى وضعه المزرى في حياة مرعبة، قاسية ودموية وقصيره فانه فهو سيفضل اخضاع نفسه طواعية للحكم المطلق للطاغوت او اللوثيان مقابل الحياة في امان وسلام. (Sorell, 2022). ورفض جون لوك السيادة المطلقة للحاكم واراد ان يحتفظ الرعية بحقوق تمكنه من محاسبة وازاحة الحاكم. بالنسبة للوك الحاجة الى حاكم ذوو سيادة تنبع ليس لان الانسان هو كائن اناني وعنيف بطبيعته، كما افترضه هوبز، بل لأنه ’بطبيعته حر ومتساوٍ بموجب قانون الطبيعة، ولا يخضع إلا لإرادة “الخالق ذوو الحكمة اللامتناهية”. ويترتب على كل شخص الامتثال لهذا القانون وفرضه على الاخرين. وهذا هو الواجب الذي يعطي الإنسان الحق في معاقبة الجناة. ولكن إعطاء حق المعاقبة لكل شخص، تحت ظروف الحالة الطبيعية، قد يؤدي إلى الظلم والعنف. معالجة هذه المشكلة يمكن ان يتم بأبرام البشر لعقد مع بعضهم البعض للاعتراف بحكومة مدنية لها سلطة تنفيذ قانون الطبيعة بين مواطني تلك الدولة‘ (Duignan, 2010, p.128).  أي ان المشكلة هي فقط الغلو او الخطأ الذي قد يحصل جراء تطبيق قانون الطبيعة.

العقد الاجتماعي شيء افتراضي. وقد نعتقد بان دولا مثل الولايات المتحدة الامريكية تشكل امثلة تطبيقية له ولكن حتى في هذه الحالات فالمتفقون كانوا نخبة مثقفة وصغيرة جدا بالنسبة لبقية سكان الولايات الذين لم يكن لهم أي مساهمة في المشاورات حول دستور الدولة. الا ان الولايات المتحدة يمكن ان يعتبر مثالا لدولة نوقشت دستورها على العلن وقدمت من اجلها طروحات لمفكرين ليبراليين بارزين. النمط المألوف لإقامة الدول، برأي، يبدأ بتالف شلة صغيرة من الأصدقاء ضمن عشيرة او مجموعة اثنية؛ يعبرون عن عدم رضاهم على الوضع القائم والحاجة الى التغيير؛ او يتبنون عقيدة معينة التي تدفعهم الى عدم قبول بالأمر الواقع؛ يتفقون على عمل ما؛ قد تحدون السلطات، وهي خطوة ضرورية لكسب الشهرة؛ يستعملون طرق مباشرة او غير مباشرة لأعلام الناس حول مدى نبلهم وطيبتهم، كرم اخلاقهم، اخلاصهم اللامتناهي في خدمة المضطهدين، ايمانهم بالمساواة بالمحبة. الا ان جانب آخرا تنكشف عنهم متى ما تحقق الانتصار لهم ومنها: ان الأصدقاء والاحباب باتوا يقتلون بعضهم البعض في سبيل السلطة. هناك غلاظة وقسوة واستغلال لامتناهية في سلوك القادة. الوصول الى القيادة ليست مفتوحة للكل، بل انها مقتصرة لفئة معينة فقط وخاصة لعائلة الزعيم الأوحد. القيادة تفضل اتباعا وخدما وليس اخوة وانداد. الادعاءات حول النبل والأخلاق الرفيعة والنادرة مازالت قائمة ولكن عمليا ليس في المنال. سيكون هناك خاسرين ورابحين. الخاسرين يقتلون وينهبون وستنهب حتى نسائهم وتوزع على الاتباع. الاتباع يكافئون، ولكن يطالب منهم ان ينسوا المساواة والعدالة والمحبة بين البشر جميعا، بل ان يفترضوا بانهم افضل من الاخرين. ان يميزوا بين “نحن” و”الاخرين،” بحرص كبير، وان لا يختلطوا بهم. يدعوا النبل ويحتقروا الاخرين “وضيعين، اشرار، حاقدين”، الخ. الواضح ان معظم الدول التي أقيمت على أساس الأديان والأيديولوجيات الشيوعية والقومية تنتمي الى هذا النمط.

ولكن النمط الأمريكي مختلف. فبالرغم من الانتقادات التي توجه اليها عن حق او باطل، فهي تمكنت ليس فقط من تجنب النكوص عن وعود مؤسسيها، بل ان دائرة العدالة والمساواة (التي كانت موعودة للكل ولكن متوفرة تطبيقيا للبعض فقط) أصبحت اكثر شمولا. ومع ذلك فإن المكاسب الامريكية أصبحت مهددة حاليا.

اذن فلنسأل ما هو مصدر التهديد للديمقراطية؟ لماذا التناقض بين الواقع وحول توقعات النظرية التي تفترض العقلانية وقبول المساواة؟ لماذا تظهر عقائد تدعوا الى التفرقة وحتى الحقد والاقتتال؟ الجواب علي هذا السؤال يحتاج الى تغيير فهمنا للسياسة برمتها.

دراسة السياسة في الجامعات تبدأ بعرض لتعاريف حول ماهي السياسة والسلطة والدولة والايديولوجيات ومكونات الدولة وأنواع الانظمة وسيجد بان هناك العشرات التعريفات والنظريات، والاختلاف بين ما يطرح يتفاوت من القليل الى التناقض. وبشكل عام فان ما نقرأه في كتاب مداخل السياسة هو تسجيل انطباع او وصف مشاهد لهذه الظواهر. فاول ما ندركه ونحن نتأمل السياسة هو أوجه الظاهرة السياسية مثل السياسة نفسها، الدولة، السلطة والايديولوجيات وهكذا. ما نفتقده في دراسة السياسة هو تشخيص العامل الذي بتفاعله يؤدي الى ظهور هذه الأوجه.

من وجهة نظري، ان المسألة المحورية في السياسة هي كيفية تنظيم الصراع على السلطة. الصراع على السلطة تحدث داخل كل الوحدات البشرية، من العائلة الى شلة أصدقاء الى الدول وما بين الدول. من غير التنظيم قد تتفاقم الأمور وتصل أحيانا كثيرة الى العنف الداخلي او الاقتتال الداخلي وتشتت وحتى انتهاء الوحدة الاجتماعية. قصدي هنا ليس التعبير عن وجود الصراع على السلطة. ما لم يتم الانتباه له هو كيفية تنظيم الصراع على السلطة.

إن وجود كيانات سياسية واجتماعية يعني بان هناك طرق معينة لتنظيم الصراع على السلطة. واعتقد بان هذه الطرق تندرج تحت نمطين أساسيين.

الأولى هي الاعتماد على احتكار السلطات بيد قائد يقلص الى ابعد الحدود احتمالات نجاح الآخرين في تحديه وهذه الطريقة اسميها بطريقة احتكار السلطة كوسيله لتنظيم الصراع على السلطة (اسلتص)، وهي تتطلب: أولا، تركيز القدرات العسكرية (احتكار السلاح وقيادة المسلحين)؛ والمعلوماتية او الاستخباراتية؛ والاقتصادية (التحكم بـ او الاستيلاء على اكبر قدر من ما يدر الموارد الاقتصادية المال العام، بما فيه تجفيف منابع اقتصاد المعارضين او حتى المعارضين المحتملين)؛ والفكرية (السماح للموالين فقط ان يعرضوا نتاجاتهم الفكرية وتنظيراتهم الأخلاقية)؛ وحتى الجنسية (تحديد من تمكن الزواج بمن وعدد الزيجات وشروط الزواج، والسماح للرجل بالتحكم بالمرأة كتنازل للرجل لكسب ولاءه).

ثانيا، إعطاء المناصب الحساسة للموثوقين بهم او لمن يرتبطون معهم بصلة الرحم باعتبار بان الاقرباء يرتبطون بالمصلحة الوراثية المشتركة.

هذا الاسلوب يؤدي في النهاية الى ظهور الملكيات بسبب تكون عائلة متنفذة ومسيطرة، المَلَكيات ظهرت في كل الأنظمة التي اعتمدت على طريقة تنظيم الصراع على السلطة عن طريق احتكار السلطات والموارد. فهي ظهرت ضمن الدول الدينية والشيوعية والقومية. وهذه الطريقة تؤدي أيضا الى ظهور تفاوت طبقي حيث الموالين يتحولون الى الطبقة الثرية. اما الآخرين ان كانوا معارضين او الفئات التي تعتبر غير مهمة سياسيا (ومن ضمنهم النساء لإنهن غير فعالين في القتال) فسوف يسقطون الى القاع في الهرمية الاجتماعية.

ثالثا، اضعاف الرعايا نفسيا واخلاقيا ومعرفيا (عن طريق حرمانهم من المعرفة، والاعتزاز بالنفس، ومعاملتهم بازدراء، وعدم السماح لهم بإنجاز ما قد يفتخرون به ويكسبون احترام الاخرين).

رابعا، تبني منظومة فكرية (دين او أيديولوجية) والاعتماد على القاعدة الاجتماعية التي تقبل بتلك المنظومة الاجتماعية وتفضيلهم على الاخرين واحتقار غيرهم. السماح بقلة قليلة من المنظرين الموثوقين بان يبتوا في أمور الدين او الأيديولوجية. التزمت في فرض الصيغة “الرسمية” او المعتمدة من قبل السلطة. وهذه وسيلة لحماية وحدة الوحدات الاجتماعية والعسكرية. منع تحدي الفكر الرسمي. المسألة الفكرية مهمة فوجود أساس فكري او عقائدي موحد ضرورة لوجود سلطة موحدة. والقبول او حتى الافراط بإعلان الولاء للفكر هو ضروري لغربلة واستثناء غير المنسجمين مع السلطة.

خامسا، الاستعداد والتهيئة للقيام بكل الاعمال لا أخلاقية والعنيفة والدنيئة. ولذلك فاغلب الذين يغلبون في الصراع هم الأشخاص الغلاظ والقساة. اما من كانوا يتعففون عن الضلوع في الاعمال الدنيئة فانهم كان يخسرون الصراع وفي بعض الأحيان أبشع خسارة.

طريقة تنظيم الصراع على السلطة عن طريق الاحتكار هي الأقدم والأكثر اتباعا من قبل الانسان. وهذه الطريقة اتخذت اشكالا ومسميات عديدة مثل الاستبداد، الدكتاتورية، الشمولية. هذه الطريقة سهلة للإفراد الذين قد يجدون أنفسهم في مركز سلطة. ولكنها تحتاج الى سياسيين من ذوي نفسيات خاصة. يجب ان يتمكنوا من التلاعب بمقدرات ومشاعر الاخرين، وان لا يرتبطوا عاطفيا او أخلاقيا بالآخرين حتى لا يجدوا في أنفسهم مانعا من التضحية او ابادتهم متى ما اقتضت الحاجة. باختصار هذه الطريقة تحتاج الى الشخصية الميكافيلية (الاختلاف بين ما اطرحه هنا وبين تعليمات ميكافيلي للأمير هو انني اربط بين الطريقة الميكافيلية واحد الاسلوبين الرئيسيين لتنظيم الصراع على السلطة. واسلوبه لا يصلح للطريقة الثانية لتنظيم الصراع على السلطة، كما سنأتي الى ذكره بعد قليل. ومن يتمكن من القيام بهذا الدور يجب ان يمتلك غرورا كامنا بأفضليته ودونية الاخرين او انه مكلف بدور تاريخي او حتى كوني. ولهذا فان الاناس الطيبين لن يتمكنوا في قيادة كيان سياسي يعتمد على اسلتص.

الكيانات التي تقوم على مثل هذه الطريقة قد تدوم لقرون عديدة، ولكن ستسقط في النهاية بسبب طبيعة النظام الذي يعتمد على حرمان معظم أعضاء المجتمع من الحرية والارادة، والمعرفة، وحتى من احترام الذات. وهو أسلوب ينتج شخصيات هزيلة ومهزومة نفسيا لا تقوى على المبادرة والدفاع عن النفس ودولتها.

لقد لاحظ ابن خلدون بان الدول التي كانت تنشا في عصره لا تدوم لأكثر من ثلاثة او أربعة أجيال. وعزى ذلك الى طبيعة الحضارة التي تؤدي بالطبقة الحاكمة الى الفساد. ولاحظ أيضا بان حكام هذه الدول يلتجئون الى تجنيد المرتزقة وقد فسر ذلك بان الجنود السابقين يفقدون عصبيتهم القبلية بسبب الترف والفساد (ّIbn Khaldun, Al-  Muqaddimah, 380-377). ولكنني هنا أعزو سقوط الدول الى طريقة تنظيم الصراع على السلطة التي تؤدي الى كسر شخصية الفرد، واحتكار السلطات والأموال، واعزو تجنيد المرتزقة الى نمو العداء بين الجنود القدامى او السكان المحليين ضد الطبقة الحاكمة وذلك لالتجاء الأخيرة الى احتكار السلطة وتجريد الاخرين منها.

الا ان الالتجاء الى السلاح كأداة للإرضاخ يؤدي الى انتقال السلطة الى المسلحين. نرى هذا بوضوح في العهد العباسي للدولة الإسلامية، حيث كانت المرتزقة هم من يختارون الخلفاء ويزيحونهم من السلطة. وهم أيضا كانوا في صراع مستمر فيما بينهم. ومن منطلق هذه النظرية يمكن ان نشير الى خلاف ثالث مع ابن خلدون. فهو اعتقد بان كل الكيانات السياسية آيلة الى السقوط في النهاية. ولكن لا نحتاج الى افتراض ذلك من منطلق هذه النظرية بشرط ان تلتزم الكيان السياسي بالطريقة الثانية لتنظيم الصراع على السلطة والتي سناتي الى ذكره بعد ادناه.

الطريقة الثانية لتنظيم الصراع على السلطة تنشا عندما تتعاون النخبة في الكيان السياسي لتحافظ على فاعلية كيانها المشترك، من غير ان تسمح باحتكاره بأيد فرد من الافراد. سأسمي هذه بطريقة توزيع وحماية السلطة لتنظيم الصراع على السلطة (تحست للاختصار). هذه الطريقة تحتاج الى حصول حالة توازن حيث تتعاون النخبة فيما بينها لإقامة توازن بين المتنافسين على السلطة، من غير ان تُسمَح باستعمال العنف (الذي هو وسيلة لخلق عدم توازن في لانه يؤدي اما الى إفناء الغريم، تعطيله جسديا او نفسيا او ترهيبه). نخبة كهذه، ستدرك أيضا بان عليها ان تعتمد على التصويت لكي تستطيع ان تقرر الأمور الحيوية، ومنها من سيحكم، وكيف يحكم. أي بعكس النظام القائم على طريقة الاحتكار فان نجاح النظام كهذا يحتاج الى شخصيات غير ميكافيلية وغير انانية يقبل الخسارة من غير التخلي عن دعم النظام. نستطيع ان ندرج الديمقراطية اليونانية القديمة و الليبرالية الديمقراطية الحديثة ضمن أساليب ’تحست‘ بمعنى انه يمكن لهذه الطريقة ان تتخذ اكثر من شكل واحد. ولربما قد نجد طريقة حتى أفضل من الليبرالية الديمقراطية (ساترك المقارنة بين ما اطرحه والليبرالية الديمقراطية الى المقالة القادمة). وفيما يلي ادرج ثلاثة ملاحظات توضيحية للطريقة تحست وانهي المقالة مع بعرض تفسير ملخص جدا للازمة في العراق الحديث منذ أواخر الخمسينات من منطلق هذه النظرية.

الأولى هي ان إقامة هذه الحالة من غير تخطيط مسبق صعبة الى ابعد الحدود. صعوبة طريقة تحست تفسر ظهورها مرتين فقط في التاريخ الإنساني. المرة الأولى في اليونان القديمة والثانية في بريطانيا بعد1689، كما قيل أعلاه. غير ان بوادر التحول نحو طريقة تحست كانت تظهر في بعض البلدان. فعادة التحول الى تحست يبدأ مع انتزاع بعض السلطة من المركز. وقد تتجسد في نشوء مجالس محلية قوية لحد كاف لتستطيع ان تفرض نفسها على السلطة مركزية؛ ظهور حركة فكرية باعتبار ان سلطات اسلتص لا تسمح بالحرية الفكرية؛ وحتى النمو الاقتصادي للسكان يمكن ان يعتبر كبادرة لتحول معين باتجاه تحست. ووفقا لهذا التشخيص فيمكننا من ادراج روما في مرحلتها الجمهورية، فقد كان لها مجلس شيوخ قوي، وهي الفترة التي اقترنت باهتمام قوي بالفلسفة والحضارة اليونانية، الا ان توازن القوى اختل لصالح القادة العسكريين ويبدو ان ذلك كان نتيجة لاستيلائهم على أموال المجتمعات التي كانوا يدحرونهم في المعارك. وربما مرت الدولة العباسية في مثل هذه المرحلة أيضا في عهدي هارون والمأمون وشهدت الدولة تقدما فلسفيا وعلميا واقتصاديا كبيرا. الا ان الخلفاء اللاحقون أصبحوا يستقدمون المرتزقة لفرض حكمهم الاستبدادي. واصبحت مدينة فلورنس جمهورية تحكمها مجلسا محليا ذو صلاحيات واسعة، ولكن عائلة مديجي تمكنت من استرجاع الاستبداد. ونفس الشيء يمكن قوله بخصوص جمهورية هولندا. بمعنى آخر ان التحول نحو الديمقراطية وتحقيقها وثم المحافظة عليها هي أمور صعبة. ويتطلب توفر عدة عوامل ليس اقلها الفكر والاهتمام الفلسفي لدى السكان والتزامهم بعمل مستمر في سبيل منع احتكار السلطة وتفكيكها ان حدث ذلك.

ثانيا، هذه الطريقة لاتفترض وجود برلمانات او حتى دولا مع انها لا تعترض بالضرورة على البرلمانات او الدول طالما يتم تطبيق شكل من اشكال تحست. التصويت لاتخاذ قرار يصبح ضروريا عندما لا يصل جماعة الى اجماع. ولكن مجرد التصويت لن يكون مهما، اذا لم يكن هناك توازن قوى بين المتنافسين على السلطة.

ثالثا، أهمية الليبرالية تنبع من انها فكر يضمن عند التطبيق قدرا مهما من التوازن فى قوى المتصارعين على السلطة. فحق الحياة يعني الحماية ضد العنف، وحق التعبير عن رأي يعني إعطاء حماية إمكانية التعبير عن الرأي وبالتالي بتحد أصحاب السلطة. وحق الامتلاك يترجم كأساس للتخلص من الابتزاز الاقتصادي من قبل القوي ضد الضعيف. ولكن حقوق المنصوصة في الليبرالية حقوق عامة وغير محددة. فحق التعبير عن الرأي الليبرالي غير محدد، ولكن الكثير من القوانين تمنع بعض ممارساتها. فمثلا التعديل الأول في الدستور الأمريكي يسمح ببعض التقييدات كمنع التحريض، والتشهير، واستخدام للأطفال في الأفلام الإباحية (Volokh, 2020).

وهنا يمكن ان نلاحظ بان التقييدات تطبق على ما يخل بتوازن القوى. فالتحريض والتشهير يهدفان الى اما الاخلال بالتوازن عن طريق الحاق الضرر الجسدي بالمستهدف او الى تجريده من الدعم الاجتماعي. واستغلال الأطفال جنسيا هو تعبير عن استغلال لحالة الافتقاد الى التوازن في القوى مفقود. بمعنى اخر نستطيع ان نفهم الليبرالية على انها أداة فكرية لتحقيق شيء من التوازن.

ما طرح أعلاه يمكن اعتباره اقتراح لتغيير كيفية فهمنا للسياسة. ولكن اخر نقطة سأذكرها هنا ستكون حول العراق. وبالتحديد، ماذا يفسر التاريخ الدموي في النصف الثاني للقرن الماضي حتى بداية هذا القرن. النظرية التي طرحتها تستطيع تقديم تفسير بسيط. وهو ان القيادة العسكرية التي نفذت الانقلاب على الملكية. كانت تجهل ضرورة التفكير المسبق بطريقة تنظيم الصراع على السلطة. وهذا الجهل هو ما جعلهم يتخبطون ثم ينغمسون في قتل بعضهم البعض وتدمير العراق. التشكيك بالليبرالية الديمقراطية والجهل حول مسألة تنظيم الصراع على السلطة سهلت التجاء زعماء الأحزاب وخاصة حزب البعث الى اسلتص. اما النظام الملكي فانه أقيم على غرار النظام البريطاني وبالرغم من كل عيوبه (والعيوب تكتنف كل الأنظمة الديمقراطية في العالم) فانه كان ينظم الصراع بشكل سلمي مقبول جدا وهو ما مكن العراق من التقدم. واعتقد بان لولا كارثة الجهل التي يطلقون عليها ثورة 14 تموز فان العراق كان سيصبح في مصاف الدول الأكثر تقدما في العالم.

المقالة التالية ستتناول الوضع السياسي الحالي في العراق وطبيعة الأحزاب المتنفذة.

3.5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى