الشرق الأوسطتقدير الموقفعاجل

الوضع السياسي الحالي في العراق وطبيعة الأحزاب المتنفذة – كيف يمكن حل مشاكل العراق السياسية؟

بقلم : د. شوان نافع خورشيد – دكتوراه في النظريات السياسية من جامعة كارديف البريطانية/جامعة جيهان بكوردستان العراق

  • المركز الديمقراطي العربي

هناك سؤلان يجب علينا الإجابة عليهما: –

  • الأول هو كيف يمكن قراءة الوضع الحالي؟
  • الثاني كيف يمكننا من إيجاد الحالة التاريخية التي قد تؤدي بنا الى اقامة نظام معتمد على حفظ توازن بين المتنافسين وتنظيم سلمي وعادل للصراع على السلطة، او تحست؟

إذا قارنا سنوات ما بعد سقوط صدام مع الوضع الحالي نرى تحولا واضحا.

الحركات العلمانية والديمقراطية اختفت تقريبا، وطغت الحركات الدينية (مسلحة بطريقة مباشرة او غير مباشرة) على الساحة السياسية في الوسط والجنوب، اما في كردستان العراق فنرى بان الأحزاب التي كانت تمتلك السلاح سابقا بقيت مهيمنة، بالرغم من فضح مدى انخراطهم في الفساد والتجاوز على حقوق الانسان.

كل هذه الحركات الدينية والقومية استغلت سلاحها والفرص الأولية التي سنحت لها وتمكنت من نهب كميات هائلة من المال العام واستثمرت قسم من المال المنهوب في شراء ذمم البعض وحولت اعدادا كبيرة من الاشخاص الى مرتزقة مستعدين لقتل من يشاركونهم الوطن.

هذه الحركات لم تعرف شيئا عن الديمقراطية. فقياداتها اعتمدت وتعتمد على أسلوب احتكار السلطة (أي طريقة اسلتص) مع معارضيها على السلطة ضمن إطار أحزابها. ولذلك فليس في وسعها غير ان تستعمل اسلتص ضد خصومها خارج أحزابها، فمن يمارس العنف والتعسف سوف لن يتحمل المسائلة ان كانت داخل الأحزاب او خارجها. اي انه من الخطأ ان نتوقع الديمقراطية من مثل هذه القيادات. وهذه القيادات عندما تشترك في السلطة المركزية فان هدفها على الاغلب هو ان تستحوذ على أكبر قدر من المال والسلاح والحصص في السلطة واختراق هذه السلطة بحيث تجعلها مشلولة تجاه هذه الأحزاب. وهذا ما يمكنها ليس فقط من المحافظة على نصيبها من القوة والنفوذ بل وتعززهما على امل ان تصبح القوة الأولى او على الأقل الشريك الذي لا يستغنى عنه.

ولكن ما هو سبب اضمحلال الحركات العلمانية والديمقراطية في العراق والكثير من الدول؟ المال وحتى السلاح لوحدهما لا يكفيان لتفسير ضعف هذه الأحزاب. فقد كان هناك علمانيين اختلسوا الملايين وكان لديهم مسلحين او كان بإمكانهم تجنيد مسلحين ولكنهم بقوا ضعفاء.

احد الأسباب الرئيسية هو عدم التأكيد بان الديمقراطية من غير الليبرالية (او منظومة فكرية تضمن توازن القوى) غير ممكنة وان الليبرالية يجب ان تحكم العلاقات في الدولة وربما الأهم من ذلك داخل الأحزاب. كان على دستور الدولة ان تؤكد على هذا الموضوع. ولأهمية الأحزاب لمستقبل الدولة وحياة المواطنين، كان ينبغي إنشاء هيئات خاصة تتابع هذه المسائل. (هذا لا يعني هذا بان الليبرالية هي المنظومة الفكرية الوحيدة التي تتمكن من دعم تحست ولكنها الوحيدة حاليا.)

يعرف مرجع اكسفورد الليبرالية بانها أيديولوجية سياسية تتمحور حول الفرد، باعتبار انه يمتلك حقوقًا ضد الحكومة، بما في ذلك حق المعاملة حسب إجراءات قانونية، والمساواة في التمتع بالاحترام، وحرية التعبير والعمل، والحرية من القيود الدينية والأيديولوجية. وضمن هذا التعريف الاولي، يذكرنا مرجع أكسفورد بان الليبرالية تنتقد من قبل اليسار على أنها إيديولوجية السوق الحر، مع عدم توفيره لقيود ضد تراكم الثروة والسلطة في أيدي القلة، وعدم توفيره لأي تحليل للطبيعة الاجتماعية والسياسية للأفراد.  وتنتقد من اليمين الليبرالية  باعتباره غير حساس بشكل كاف لقيمة المؤسسات والعادات الراسخة، أو للحاجة إلى البنية الاجتماعية والقيود في توفير أطر للحريات الفردية (Liberalism. Oxford Reference). أي ما يهم في الليبرالية هو ليس الجانب الاقتصادي وما يخص الاعتقاد بان هدف الحياة هو تحقيق السعادة، بل حرية الاعتقاد، حرية التعبير، وضمان الحماية القانونية على أساس المساواة بين الجميع.

ولكن عند وجود حركات او أحزاب قوية لا تؤمن بهذه الحريات فان الديمقراطية سوف لن تتوفق. وهذا ما يلاحظه ايضا فوكوياما بقوله ان ’أنواع التنوع التي تستطيع المجتمعات الليبرالية إدارتها بنجاح ليست بلا حدود. إذا كان جزء كبير من المجتمع لا يقبل المبادئ الليبرالية بنفسه ويسعى إلى تقييد الحقوق الأساسية للآخرين، أو عندما يلجأ المواطنون إلى العنف للحصول على ما يريدون، فلن تكون الليبرالية قادرة على الحفاظ على النظام السياسي‘ (Fukuyama, 2022, p. 34). ما قيل يعني بان وجود قوى غير ليبرالية تتنافس على السلطة ضد الأحزاب ليبرالية ستؤدي في النهاية الى خسارة القوى الليبرالية.

السبب الثاني للخسارة هو ضعف الأيدولوجية الليبرالية فكريا. القصد هنا ليس ضالة أهميتها. فبرأي فإن إسهام الليبرالية في الحضارة الإنسانية لا يجاريه شيء. ولكن الظاهر هو اننا نحمل الليبرالية أكثر مما في وسعها. ويقول رايموند جيس:

في الأصل، لم يكن لليبرالية أي طموح لأن تكون عالمية بمعنى الادعاء بأنها صالحة للجميع، ولكل مجتمع بشري، أو ان تزعم بتقديمها إجابات على جميع الأسئلة المهمة في الحياة البشرية. لا توجد نظرية معرفية واحدة مطورة بوضوح لليبرالية الكلاسيكية، ولكن يبدو أن الليبرالي يجب أن يعتقد بأن الآراء الليبرالية يمكن إستنتاجها بسهولة من قبل البشر الذين ليس لديهم خبرة خاصة أو موقع ذو امتياز معرفي. إن المثل الأعلى لليبرالية هو فلسفة سياسية ملتزمة عمليًا، وتتقشف بشدة من الناحية المعرفية والأخلاقية [بمعنى انها لا تقدم الكثير حول أسس الاخلاق، بل في الحقيقة انها تعتقد بان البشر لا يتمكنوا من الاتفاق على ما هو احسن حياة]. هذا، في أحسن الأحوال، مشروع صعب للغاية وربما ميؤوس منه تمامًا. لذلك ليس من المستغرب أن يستسلم الليبراليون مرارًا وتكرارًا لإغراء تجاوز الحدود التي يضعونها لأنفسهم بشكل مثالي ومحاولة جعل الليبرالية فلسفة كاملة للحياة‘ (Geuss,2002).

وفي الجملة الافتتاحية حول الليبرالية في موسوعة  ستانفورد الفلسفية، يقول كورتلاند وجاس وشميت بان ’الليبرالية هي أكثر من شيء. عند أي فحص دقيق، يبدو أنه ينقسم إلى مجموعة من الرؤى ذات الصلة ولكن المتنافسة في بعض الأحيان‘ (Courtland et al, 2022).  هذا الانقسام متوقع فالليبراليين يستندون على العلم، والعلم في تطور دائم. يلاحظ  فوكوياما بان الليبرالية كانت ’منذ البداية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمنهج معرفي مميز، وهو منهج العلوم الطبيعية الحديثة‘ (Fukuyama, 2022, p. 182). وجون لوك، الذي يعتبر أبا لليبرالية، كان طبيبا، وكان له ايمان راسخا بالعلم وإمكانية ’استخدام العقل ، للوصول ’إلى الحقائق الأخلاقية الأساسية‘. غير انه لم ينجز نظرية أخلاقية ليبرالية بنفسه (ٍRogers, 2022). المقصود هنا هو ان الليبرالية لم تقدم كنظرية متكاملة ولم تزعم بانها عالمية. ولان اسسه علمية وقد عانت من الانقسام الداخلي فليس لها مرجع اعلى مثل الأديان ليتكلم باسمها. وهي في تطور دائم. واعتماد الليبرالية على العلم يعني بانه ليست لها نظرية متكاملة اخلاقية وتاريخية وسياسية تماما كما ان العلوم الإنسانية لا تعطينا أجوبة نهائية وموحدة. أي ان الفراغات الموجودة في البنية النظرية لليبرالية لا تعطي انطباعا بقوة الليبرالية، وخاصة عندما تأتي خطابات اتباع الأديان والايديولوجيات وكأنها نابعة عن اليقين. وما يزيد صعوبة الليبرالية في البلدان النامية هو اقتران الحكومات الليبرالية في الماضي بالسياسات الاستعمارية.

السبب الثالث، عدم التأكيد على ضرورة قبول المنهج العلمي والفلسفي كأداة لحسم الخلافات الفكرية والمعرفية. نعرف بان العلم والتكنولوجيا الناتج عنه هو ما جعل التقدم والرفاهية في حياة الإنسانية ممكنا. اسهام اخر للعلم هو انه طريقة لحسم الخلاف الفكري. الخلافات العلمية دائمة الحدوث. ويتمكن اي شخص من اتخاذ موقف من هذه الخلافات، ويدلي بدلوه كما يقال. الا ان حسم الخلافات لا يتم عن طريق قهر البعض للبعض. قد يحدث ان عالما هنا او هناك يرغم على قبول رأي محدد حتى ضد قناعته، الا المجتمع العلماء واسع. فقد تنفع الرشوة او الإرهاب مع شخص لفترة قصيرة. الا إنهما لا ينفعان مع الجميع وللابد. وبشكل عام فان الحسم ان تم فانه سيكون عن طريق التجربة وتقييم التنبؤات التي تستند منطقيا على نظرية ما. اما النظريات غير العلمية فلا تعتمد على أرضية تجريبية. ولذلك فان حسمها لا يتم الا اذا التجأ مناصروه الى أساليب غير أخلاقية مثل الإرهاب، او شراء الذمم او العنف.

التفكير الفلسفي ضروري أيضا لإنه الأداة لكشف التناغم او التناقض في الأفكار التي تشكل جزء من منظومة فكرية. وقد نستطيع ان نضيف الى مهمة اخرى الى مهام الفلسفة الا وهي السعي الى تكوين رؤية كونية شاملة بربط مدلولات الاكتشافات العلمية او الافتراضات الدارجة في عصورهم. فأفلاطون، وارسطو، وهوبز، ولوك وروسو، وهيجل، وماركس جميعهم انجزوا ذلك. وأخيرا، الفلسفة مثل العلم تبقي الباب مفتوحا دائما للنقاش، والنقد والتطوير، والنقض. اذن يجب على الأحزاب العلمانية ان تؤكد على ضرورة قبول بالأساليب العلمية والفلسفية في النقاش. فليس من المعقول ان نطلب حظر الأفكار غير علمية. فنحن لا نتمكن حتى من معرفة ان كانت نظرية علمية او غير علمية من غير اخضاعها للنقاش والتجربة. ولكن علينا ان نطالب من الجميع الأطراف ان لا تعترض على معالجة افكارها بالطريقة العلمية والفلسفية. هذا يعني بان على حزب يهدف الى تحقيق الديمقراطية ان تدافع عن حق المناقشة والتدقيق في الأفكار والمعتقدات طالما تستعمل هذه الأفكار والمعتقدات في سبيل كسب افراد المجتمع ومن خلاله كسب السلطة. وحزب علماني ويهدف الى الديمقراطية ويتخلى عن هذا المطلب فسوف يجد نفسه يخسر امام الأحزاب غير الليبرالية. فقيادات هذه الأحزاب كما ذكرت في مقالتي الأولى تتعامل مع معارضيهم من داخل احزابهم بطريقة احتكار السلطة. بسبب هذه الممارسة فلن تكون قادرة فكريا واخلاقيا من مواجهة الخصوم بطريقة علنية ومباشرة، بل يجب ان تلجأ الى الترهيب، العنف او شراء الذمم او عقد الصفقات في جلسات مغلقة داخل الأحزاب ومع الأحزاب او القوى الاخرى. ومع ذكر الجلسات المغلقة، يمكن ذكر وضع كوميدي وصل اليه احزابنا. فنري بان هذه الأحزاب قيادة وقواعد وكوادر منهمكون دائما في اجتماعات مغلقة، وهم يدخلون الاجتماعات المغلقة حتى إذا لم يجدوا شيئا ليناقشوه (وهذا ما يحدث للأعضاء في القاعدة، وهذا ما يجعلهم يبحثون عما يمكن ان يناقشوه، وهذا ما يطبع نفسياتهم ولذلك فهم يتصرفون وكأنهم مشغولين في اجتماع مغلق).

السبب الرابع، ولربما الأكثر أهمية، هو ان هذه الأحزاب تخلق انفصاما او معرفيا اعتمادا على ستة أمور: الأولى انها تخلق خطابات وتضع رموزا وافكارا معينة في مرتبة التقديس. قد لا يشترط حزب علماني غير ليبرالي عبادة خالق كما تفعل الأحزاب الدينية، ولكن العلمانيين أيضا يضعون اسلافهم من القياديين كقدسين، وتبنى لهم اضرحة لتتحول الى مزارات مباشرة. وحتى وتشخيصهم للهدف الرئيسي للصراع، كان يكون قوميا، او طبقيا (بالنسبة الى الأحزاب الشيوعية، مع ان هذه الأخيرة صارت في عداد المندثرين)، يطرح كحقائق لاتقبل النقاش.

ثانيا، تشترط الاحترام تلك الخطابات ليس فقط على أعضائها، بل وحتى على المنافسين المحتملين. بمعنى آخر لا يسمحون بإجراء نقاش حول المواضيع التي يطرحونها وكأنها حقائق مؤكدة.

ثالثا، تطرح وتؤكد على قراءة خاصة للتاريخ بحيث يحط من شان الاخرين ويرفع من مقامهم الذاتي.

رابعا، التعمد بالاعتماد على العوامل النفسية والبدنية لفرض اطروحاتهم. فحسب الظرف السائدة فانهم قد يحاولون المعاتبة، او الرد الغاضب ،او استعمال العنف او الاستمالة لكي يكسبوا المعارض الى جانبهم او على الأقل كسب سكوته. وفي كل الأحوال فان تصرفهم سيعتمد على افتراض مبطن بان المقابل او الناقد قد تجاوز عليهم او لم يظهر إحساسا كافيا لشعورهم “الرقيقة للغاية”.

خامسا، هذه الأحزاب لا تسمح لأعضائها ليس فقط بان تتفاهم مع المنتقدين، بل ولا تسمح لهم حتى بالاختلاط بهم ومصادقتهم. أي ان أعضاء هذه الحركات لا يمتلكون الحرية، بل يتحولون الى مجندين موكلين بالقيام بأمور محددة، ومنها تجنيد الاخرين، إرهاب النقاد ومعاقبتهم او تهميشهم، رصد حركات الاخرين، المساهمة في الانتخابات بحيث يسوقون المناصرين للانتخابات ويحبطون ويعرقلون وصول المناهضين للصناديق، وبالطبع مزاولة أكبر قدر من التلاعب في الانتخابات. ومقابل المثول لإرادة القيادة، يتم مكافأة الاعضاء بطرق شتى، قد تكون ماليا او نفسيا (الاهتمام المتزايد بهم) او قد تكون مناصبا او حتى السماح لهم بالتجاوز على أملاك وكرامة من هم ليسوا بتابعين للحزب. أي ان هذه الأحزاب تخلق حواجز سيكولوجية لتفصل بين الموالين والأخرين. اما في حالة الفشل بالقيام بما يعتبر واجبا، فإن العضو يتعرض الى عقوبة قد تتفاوت ما بين القتل حتى النبذ.

سادسا، تبني أخلاقية تطبق ضمن الجماعة واخلاقية خارجها. وهذا واضح فهذه الأحزاب تسمح لنفسها بنهب مقدرات الدولة والتجاوز على حقوق وكرامة الافراد غير الأعضاء. سلطات معظم قيادات الأحزاب والحركات المتنفذة حاليا تعتمد على الانفصام المعرفي والعلاقة المصلحية التي تكونت بين هذه القيادات وقواعدها.

لا يمكنني مناقشة كل المؤلفين الذين حاولوا تفسير الفشل في إقامة الديمقراطية او حتى الدفاع عن الديمقراطيات الراسخة.

ولكن اكتفي بان اناقش واحدا من اشهر الفلاسفة الأمريكيين، فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama. ففي كتابه اصل النظام السياسي منذ ما قبل التاريخ الى الثورة الفرنسية (2011، ص15-16 ) يقول بان اقامة نظام ليبرالي ديمقراطي ناجح تحتاج الى توفر ثلاثة شروط: (1) وجود دولة مركزية قوية تحتكر السلاح بيدها، (2) إحلال حكم القانون بمعنى بان القانون ينطبق على الحكام والرعية بدون تمييز، (3) والقدرة على المحاسبة وذلك بتوفر سلطة اعلى مثل الناخبين في ظل الديمقراطية او مجالس لنواب عن طبقة ذات امتيازات مثل برلمان بريطانيا قرن السابع عشر الذي تمكن من فرض الملكية الدستورية على الملك. والمثل الأعلى للنظام الليبرالي الديمقراطي هو دانمارك وهو بلد حقيقي/اسطوري يتمتع بتوفر كل الشروط المذكورة توا بشكل متوازن. الان ان المشكلة، كما يقول فوكوياما هي باننا لا نعرف كيف نصل ببلد لان يكون مثل دانمارك. بل وحتى الدانماركيين أنفسهم لا يعرفون كيف وصلوا الى ما هم عليه في دانمارك (فوكوياما، 2011، ص 14). اهتمام فوكوياما منصب على دارسة تاريخية لكيفية تمكن دولا معينة من توفير او فشل في توفير تلك الشروط.

ولكن كما هو واضح مما جاء أعلاه، فان تفسيري لتعثر او فشل إقامة الديمقراطية تعتمد على مدى معرفتنا بالطريقتين الرئيسيتين لتنظيم الصراع على السلطة. أي ان الدول الليبرالية الديمقراطية والقوى التي تبنت مشروع بناء الديمقراطية في العراق وبلدان أخرى لم تكن مزودة بالمعرفة المناسبة ولم تتمكن من التعامل مع وردم العثرات على طريق الديمقراطية. فبناء الديمقراطية يعتمد على ما يفعله المواطنين والمسؤولين.

في مقالتي الأولى كانت محاور مناقشتي كالاتي. أولا، الحاجة للسلطة (وليست الدولة) متأتية من الحاجة الى الاخلاق. ثانيا ان المسالة المحورية في السياسة هي الحاجة الى تنظيم الصراع على السلطة وليست الدولة (شيء لم ينتبه اليه لحد الان في تاريخ الإنسانية، على ما اعتقد). والظاهر ان سبب تعثر فهمنا للسياسة وكذلك تقويض المساعي لبناء الديمقراطية هو التركيز على كيفية بناء ما يسميهم فوكوياما الشروط الثلاثة لإقامة النظام الليبرالي الديمقراطي. بينما كان ينبغي تحويل نقطة التركيز الى مستوى أوطئ الى حيث يدور الصراع على بين.  ثالثا، الطريقتين الرئيسيتين لتنظيم الصراع على السلطة. (هذه النقطة أيضا تختلف عما يناقش في الكتابات السياسية حيث نجد وصفا لأشكال الدول والأنظمة ومكونات الدول). من المعلوم ان السلطة تنشأ ضمن اية وحدة اجتماعية بشرية، إذا كان لها ان تبقى. والصراع على السلطة هي أيضا حتمية. واي كان الإطار التنظيمي للوحدة الاجتماعية (ان كانت دولة او مجموعة أصدقاء او عائلة) فان وجود الصراع سيحتاج الى تنظيم، وسوف لن يكون غير الخيارين امام المتنافسين ضمن الوحدة الاجتماعية. بمعنى اخر، فان الخيار في النهاية سيكون اما احتكار السلطة ومعه كل الممارسات السلبية المرتبطة بها. او، إذا تمكنت النخبة ضمن الوحدة الاجتماعية من منع احتكار السلطة ومنع استعمال العنف، توزيع السلطات وهذه الطريقة تنتج عنها بناء الديمقراطية بغض النظر عن مستوى الوحدة اقتصاديا او تعدديتها سكانيا. وعليه فان الجزء الأخير من هذه المقالة ستتناول الخطوات العملية التي نحتاجها الى إقامة الديمقراطية.

خلاصة وبرنامج عمل :

يمكن تلخيص ما قيل أعلاه كالتالي.

  • اهم محور في السياسة هو كيفية تنظيم الصراع على السلطة. الصراع يحدث على كل مستويات الوحدات الاجتماعية والسياسية. هذه مسألة لم ينتبه لها المفكرون السياسيون ولربما تفسر الصعوبات السياسية التي نعاني منها. ويحتاج كل فرد ان يدرك هذه المسألة. فهي تمس حياة الكل في كل خطوة في حياة الانسان.
  • يحتاج بناء الديمقراطية الالتزام كل فرد في المجتمع بالابتعاد عن معالجة الصراع على السلطة عن طريق احتكار السلطة، والتمسك بتنظيم الصراع عن توزيع السلطة والحوار المفتوح.
  • لكي يتمكن حزب من بناء الديمقراطية فعليه ان تلتزم أولا بطريقة تحست لتنظيم الصراع في داخل صفوفها. أي ان المواطنين سيحتاجون الى مراقبة المكثفة لما يجري داخل الأحزاب وخارجها.
  • ولضمان تبني تحست كأسلوب لتنظيم الصراع ينبغي ان تساهم كل افراد الشعب لمنع ممارسات احتكار السلطة وخاصة استعمال العنف البدني، واللفظي. أي ان علينا ان نبني ثقافة شعبية جديدة.
  • نبذ والابتعاد عن أي الاحزاب او حركات لا تتبع مبدئ تحست.
  • اعتماد العلم والفلسفة كمناهج لإدارة الحوار. بمعنى ان من يدخل لحلبة الصراع على السلطة عن طريق أفكار وعقائد عليه أيضا ان يقبل معالجة تلك الأفكار بالطرق العلمية والفلسفية. دون ذلك فان تلك الأفكار ستكون اسسا لخلق الانفصام الفكري. على المتعاملين مع الأفكار كأسلوب للتعبئة السياسية ان يقبلوا أيضا بان السخرية مشروعة عندما تكون أفكارهم غير منطقية وهزيلة. ومن يعتقد بان اطروحاته يجب ان تعامل بقدسية عليه ان لا يستخدمها في سبيل المكاسب الاقتصادية والسياسية.
  • الليبرالية بالرغم من نقاط ضعفها تمكنت من تقديم شيئا مميزا لأن مبادئها تسند توازنا بين المتصارعين على السلطة. اهمية الليبرالية تتمثل في انها تحافظ على توازن لقوى افراد النخبة المتنافسين على السلطة. وعليه فان البديل لليبرالية هي ثقافة شعبية تمنع التعسف والعنف البدني واللفظي.
  • الليبرالية لا تتمكن من مواجهة العقائد، ولذلك فإنها تخسر عندما تكون هناك مؤسسة سلطوية غير ليبرالية في داخل الدولة. والليبرالية ضعيفة أيضا لإنها لا تقدم نظرية لتفسير الظاهرة السياسية.
  • قد تتمكن الأحزاب الدينية او تلك الملتزمة بأيديولوجيات أخرى المساهمة في العملية الديمقراطية، ولكن بشرط ممارسة أسلوب تحست في تعاملاتها الداخلية وقبولها بإخضاع افكارها ومعتقداتها ومقدساتها للتحليل والنقد العلميين. وعليها ان تعرف بان اقحام المقدسات والعقائد فأنها هي المسؤولة إذا واجهت النقد وحتى السخرية. وإذا كانت لا تستحمل ذلك فالأولى بهذه الأحزاب نفسها ان تجنب مقدساتها التعرض للمساءلة بعدم اقحامها في العملية السياسية.
  • العمل في سبيل إقامة الديمقراطية واجب أخلاقي على كل انسان، لان البديل سيؤدي عاجلا او آجلًا الى الكارثة.
  • ان الطريقة المطلوبة هنا لا تعتمد على المظاهرات والصدامات، بل يحتاج منا (أي كل فرد يرغب في حياة كريمة له وللآخرين) لا أكثر من ان نتواصل مع مجندي الأحزاب ونحاول ان نقنعهم بنيل حريتهم وكرامتهم ورفض الانانية وعدم القبول بالارتزاق من المال المسلوب من الشعب. ويحتاج أيضا بان نمنح أنفسنا الحق في ابداء الرأي وتعرية الأفكار التي تخلق الانفصام المعرفي. ويجب ان نعرف بان اخفاقنا في هذا سيتركنا نتمرغ في مآسينا لعشرات السنين.

 

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى