التكريم القرآني للمرأة بين حقيقة التفسير العلمي ووهم الفهم العامِّي والتحريف الإعلامي : دراسة لشبهات حول المرأة في الإسلام في بعض التفاسير القرآنية القديمة
اعداد : د. حنان البزازي – جامعة عبد المالك السعدي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان- المغرب
- المركز الديمقراطي العربي
ملخص :
لقد جاء الخطاب القرآني إلى مطلق الإنسان بغض النظر عن جنسه، فالذكر والأنثى في الإسلام متساويان في التكليف وفيما يتبعه من حساب وجزاء. لكن الإشكال الحاصل اليوم هو ما وقع من الخلط والابتداع في فهم خطابات القرآن الكريم الموجهة للمرأة والتي فسرت عمدا أو خطأ بمعزل عن السياقات التاريخية والاجتماعية التي كانت سببا في إنزالها، الشيء الذي رسب في المجتمع ثقافة مغلوطة ومتحاملة على المرأة، تبرر تهميش أدوارها وتجردها من حقها في الاختلاف عن الرجل. والحقيقة أن النص القرآني براء من هذا التخلف الفكري المتعصب؛ إذ لا يمكن أن يكون التصور الإسلامي لقضايا الإنسان بهذا القصور وهذه التجزئة التي قد تظهر من المعنى الشكلي لبعض آيات القرآن الكريم، ولذا فإن الهدف من هذا البحث إعداد دراسة موضوعية تستند إلى الفهم الصحيح لمدلولات بعض الآيات في سياقها العام الذي نزلت فيه، وفي الظرفية الزمنية التي فسرت فيها تلك الآيات. وذلك باعتماد منهجية تستهدف بالأساس التنقيب في بعض التفاسير القديمة عن الشروح والتأويلات الخاصة ببعض القضايا والمواقف التي عرضها القرآن الكريم حول المرأة بغية تصحيح أخطر انحرافات القراءة والتأويل التي اشتهرت حولها وأساءت لها، متوسلين في ذلك بالمنهج الوصفي التحليلي بغرض التفاعل مع تلك المضامين التفسيرية المختلفة لرصد المادّة العلمية في كل منها حول قضايا المرأة المختارة في هذا البحث، والوقوف على مواطن الزلل والخلل فيها، ثم التعليق عليها بما يصحح الفهم الخاطئ ويرد الشبهات و يرفع اللبس ويجلي الحقيقة.
هذه التوطئة أساسية لامتلاك مفاتيح قراءة هذا الموضوع، ومدخلا مهما للتعبير عن مكانة المرأة في الإسلام وما اعتراها من تفسيرات خاطئة انحرفت بها عن المعنى الصحيح أثناء تأويل النصوص القرآنية، الأمر الذي يطرح إشكالية الفهم وتصحيح التصور لدى القارئ أثناء تعامله مع خطابات المرأة وأحكامها في الإسلام.
لقد أولى القرآن الكريم عناية كبيرة بالمرأة وشؤونها في العديد من سوره و آياته ؛ هذه العناية الربانية بالمرأة خير دليل على تكريمها ومكانتها المتفردة في الحضارة الإسلامية، هذه المكانة لم تحظ بها المرأة في جميع الشرائع السماوية الأخرى ولا في أي قوانين بشرية موضوعة، يقول الله تعالى: ﴿فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض﴾[1]؛ فهما من جنس واحد وما يثبت للذكر من العمل والثواب يثبت للأنثى، ويقول عز وجل في سورة التوبة: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾[2] فكل مؤمن هو ولي لأخيه وناصر له، والمرأة في الإسلام مسؤولة مثلها مثل الرجل فيما يخص العبادة والمسؤوليات والدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإرشاد إلى الفضائل واجتناب الرذائل، بل تجاوز ذلك إلى الرفع من شأنها واحترام رأيها والعمل به، نقرأ مثال ذلك في سورة المجادلة في قوله تعالى: ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير﴾[3] هذه السورة التي نزلت في أوس بن الصامت الذي ظاهر* من زوجته خولة بنت مالك ابن ثعلبة وهي التي جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إلى الله الذي سمع شكواها من فوق سبع سماوات، فقالت يا رسول الله: إن أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت بطني جعلني كأمه عنده، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما عندي في أمرك شيء” فقالت: “اللهم إني أشكو إليك” فنزلت سورة المجادلة يبين الله فيها آيات الظهار وأحكامه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليعتق رقبة. قالت: لا يجد. قال: فيصوم شهرين متتابعين. قالت: يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام. قال: فليطعم ستين مسكينا. قالت: ما عنده من شيء يتصدق به. قال: سأعينه بعرق من تمر. قالت: وأنا أعينه بعرق آخر. قال: أحسنت، فأطعمي عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك”.[4] ولعل المتأمّل في هذا المثال سيظهر له كيف رفع الله من شأن المرأة وضمن حقوقها الدينية والدنيوية واحترم رأيها وجعلها مجادِلة ومحاورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق وجمعها وإياه في خطاب واحد وجعله تشريعا عاما خالدا، وبقيت سورة المجادلة دليلا ربانيا شاهدا على جزء من المنظومة الإسلامية لحقوق المرأة. وفي موضع آخر من التكريم الإلهي للمرأة يقول عز وجل: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا﴾[5]. هذه الآية الكريمة تجمع بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد وتذكر بأصل الخلق؛ فالناس كلهم أبناء أب واحد وأم واحدة، وفي هذا إقرار واضح بمبدأ المساواة بين المرأة والرجل في الواجبات والحقوق. يقول الطبري في تفسير الحال التي خلقت لآدم زوجته والوقت الذي جُعِلَت له سكنا: عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: “فأخرج إبليس من الجنة حين لعن وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحشا ليس له زوج يسكن إليها فنام نومة فاستيقظ وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها من أنت؟ قال: امرأة. قال: ولم خلقت؟ قال: تسكن إلي”[6]. ويتابع الطبري في تأويل قوله عز وجل (للنفس الواحدة) بالتنبيه إلى أصل الخلق الذي خلقهم من نفس واحدة أي “أن جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة وأن بعضهم من بعض وأن حق بعضهم على بعض واجب وجوب حق الأخ على أخيه لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة، وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حق بعض، وإن بعد التلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب إلى الأب الأدنى، وعاطفا بذلك بعضهم على بعض ليتناصفوا ولا يتظالموا وليبذل القوي منهم من نفسه للضعيف حقه بالمعروف على ما ألزمه الله له، فقال “الذي خلقكم من نفس واحدة”.[7] يعني من آدم عليه السلام.
يقول ابن كثير في تفسير “النفس الواحدة “: هي “آدم عليه السلام (وخلق منها زوجها) وهي حواء خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم فاستيقظ فرآها فأعجبته، فأنس إليها وأنست إليه”[8]؛ وفي الحديث الصحيح: “إن المرأة خلقت من ضلع، وفي لفظ إن المرأة كالضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه”،[9] فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها وفيها عوج، والمعنى واضح في لفت الانتباه إلى ضرورة العناية بالمرأة ومراعاة مشاعرها التي لها تركيبة ربانية خاصة، والضلع الأعوج دلالة رمزية ومعنوية في التعبير عن طبيعة المرأة التي خلقها الله بتركيبة خاصة، وتم التشبيه هنا بالضلع الأعوج الذي يحمي الصدر والقلب، إن عاملته بقسوة وخشونة وحاولت تقويمه سينكسر* وأما إن حاولت معاملته بلين ولطف استقامت معك، فالتشبيه هنا معنوي لا مادي، وهو مدح لشخصها لا قدح لها لأن اعوجاج الضلع هو عين كماله فلو استقام هذا الضلع لأصبح معيبا في الجسد، ولكي تكتمل صورة هذا الجسد ويؤدي وظيفته المطلوبة لابد من بوجود هذا الضلع الأعوج في الصدر، فنحن حين نخرج الشيء عن طبيعته ووظيفته فإننا نفسده ونعيبه، فذلك خلق الله ميّز كلا من المرأة والرجل بطباع وخصائص مختلفة ليكمل كل منهما الآخر، وليس كما ذهب بعض الرجال إلى انتقاص المرأة والحط من قدرها وطبيعة خَلقها لجهلهم بالتفسير الصحيح للآيات القرآنية التي تناولت خَلْقَ المرأة وطبيعتها، وذهب بهم سوء فهمهم لمعاني القرآن ولأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى معايرتها بالعوج وقلة القيمة، فانتشرت بفعل هذا التداول المبتدع في الأذهان فهوم غريبة كرست ثقافة بئيسة حول المرأة يصعب اقتلاعها.
إن الذي ينقصنا اليوم هو تحرير الخطاب تجاه المرأة وتوجيهه نحو التغيير وتجاوز الحديث عن أدوارها وقضاياها في المجتمع والتخلص من الإيديولوجيات القاتلة التي انتصرت لبعد أو لآخر كلفت الإنسانية تكلفة باهظة؛ لكون هذا الخطاب قد أصبح متجاوزا اليوم بعد أن فرضت المرأة وجودها الإنساني والحضاري وحققت نجاحات وإنجازات عظيمة في مختلف أنحاء العالم، ويكفي أن الله تعالى قد تحدث عن المرأة من خلال عدة مواقف أخلاقية وإنسانية تقتضي منا تقديرها وإعطائها المكانة التي تستحقها في المجتمع، وقد وجه القرآن الكريم خطابه للذكر والأنثى على حد سواء بشكل صريح وواضح في الآية الكريمة: ﴿والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى﴾؛[10] بمعنى لديكم وظائف مختلفة في الجزاء تتكاملون فيها بين عامل للدنيا وعامل للآخرة. لكن الإشكال الخطير في النقاش حول المرأة وسبل تغيير النظر إليها هو الجهل بالتصور القرآني الصحيح الذي جاء بخصوص المرأة في الإسلام والذي لا يمكن أن نفهمه دون نظرة شمولية وتركيبية للأنساق المعرفية المبثوثة في عموم الآيات القرآنية التي كان لها خصوصية زمنية ومكانية وقت نزولها، والعمل على إعادة بناء المفاهيم في ظل الرؤية القرآنية الكلية. ولعل أوضح مثال قد يُعرض في هذا السياق هو مسألة “شهادة المرأة” في القرآن الكريم، التي سنحاول شرحها وبسط معانيها من خلال العودة إلى تفاسير القرآن الكريم والاسترشاد بأفهام المفسرين وتأويلاتهم لنبين هل فعلا شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل؟ وهل يكون ذلك على الدوام أم هناك حالات أخرى استثنائية في الشهادة تتساوى فيها شهادة المرأة مع شهادته؟ ومتى تفوق شهادتها شهادته؟.
عموما إن هذه القضية اسْتُشكِل فهمها على الناس وأسندت لها تأويلات مغلوطة أسهمت في تعزيز مكانة الرجل على حساب المرأة متوهمين أن شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد هي انتقاص وامتهان للمرأة وتفيد عدم مكافئة شهادتها لشهادته، فالقارئ البسيط المؤدلج حين تمر به آية الشهادة في قوله تعالى: ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾، سيفهم أن شهادة الرجل الواحد تعادلها شهادة امرأتين وليست امرأة واحدة، وبذلك فالمرأة لا ترقى في الشهادة إلى مستوى الرجل ولا يعتد بشهادتها إلا إذا كانت امرأتان، وهذا الفهم هو فهم قاصر للخطاب القرآني وفيه طعن في سلامة أحكام المرأة في الإسلام؛ إذ القرآن الكريم ذكر عدة مواقف في شأن شهادة المرأة ولا يجوز أن نستقطع بعض الآيات ونعزلها عن سياقها الذي اختص بها ولم يشمل غيرها، ثم نقول لماذا شهادة المرأة لا تعدل شهادة الرجل؟ فالقرآن الكريم لم يُقِر أبدا بهذا الأمر على المطلق، ولعل المتتبع لمسألة شهادة المرأة في القرآن الكريم سيجدها مقننة ومرتبطة بمسألة الديون فقط، لحرص المشرّع على حفظها من الضياع وتوثيقا لأموال الناس من الإتلاف، وقد عُرِضت شهادة المرأة في الخطاب القرآني على ثلاثة مواقف:
الموقف الأول: وهو الذي ذُكِر فيه شهادة المرأة على الدّيْن فقط؛ أي أن هذا الأمر يكون في الأموال ولا يكون في غيرها، وفيه اعتبِرت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل مصداقا لقوله تعالى: ﴿واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾[11]، ومعنى ذلك عند الطبري: “فإن لم يكونا رجلين فليكن رجل وامرأتان على الشهادة عليه. ورفع الرجل والمرأتين بالرد على الكون. وإن شئت قلت: فإن لم يكونا رجلين فليشهد رجل وامرأتان على ذلك. وإن شئت: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يشهدون عليه. وإن قلت: فإن لم يكونا رجلين فهو رجل وامرأتان كان صوابا، كل ذلك جائز ولو كان: فرجلا وامرأتين نصبا كان جائزا على تأويل: فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين”.[12]
أما القول في تفسير قوله تعالى: ﴿أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾ بمعنى؛ “فإن لم يكونا رجلين وامرأتان كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضلّت. وهو عندهم من المقدم الذي معناه التأخير؛ لأن التذكير عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان (تضلّ)، لأن المعنى ما وصفنا في قولهم. وقالوا إنما نصبنا “فتُذكِّر” لأن الجزاء لما تقدم اتصل بما قبله فصار جوابه مردودا عليه، كما تقول في الكلام: إنه ليعجبني أن يسأل السائل فَيُعْطَى، بمعنى أنه ليعجبني أن يُعْطَى السائل إن سأل أو إذا سأل، فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة…، وقارئوا ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه وكان بعضهم يوجهه إلى أن معناه: فتصير إحداهما الأخرى ذَكَراً باجتماعهما، بمعنى أن شهادتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها جازت كما تجوز شهادة الواحد من الذكور في الدَّين، لأن شهادة كل واحد منهما منفردة غير جائزة فيما جازت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد وتصير شهادتهما حينئذ بمنزلة شهادة واحد من الذكور”.[13]
وفي تفسير ابن كثير: ﴿فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان﴾ وهذا “يكون في الأموال وما يقصد به المال إنما أقيمت به المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة كما قال مسلم في صحيحه، حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار” فقالت امرأة منهن جزلة وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: “تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن” قالت يا رسول الله ما نقصان العقل والدين، قال: “أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين”[14]. فالشهادة في الدّين إذن تتطلب شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد، فإن نسيت إحداهما شهادتها ذكّرتها صاحبتها واستأنفت خبر شهادتها، وإذا أمكننا الاجتهاد في هذا التفسير نجده وكأنه يقول بأن المقصود من ذلك ليس معناه أن المرأة هي بنصف شهادة الرجل؛ لأنه إذا لم تضلّ الشاهدة الأولى وأدلت بشهادتها كاملة فلن نحتاج لسماع شهادة الشاهدة الثانية. لكن قد يتساءل سائل عند قراءته لتفسير ابن كثير لماذا خلق الله المرأة بهذا النقصان ولم تتساوى مع الرجل في قوة الذاكرة والاستحضار وجعلها ناقصات عقل ودين؟ ما الحكمة في ذلك؟ خاصة وأن أشهر التفاسير القرآنية المتداولة بين الناس تؤكد ذلك، نقرأ على سبيل المثال في تفسير الجلالين: أن تعدد النساء في مسألة الشهادة يفسرونه بقولهم: “لأجل أن (تضل) تنسى إحداهما الشهادة لنقص عقلهن وضبطهن (فتذكّر) بالتخفيف والتشديد (إحداهما) الذاكرة (الأخرى) الناسية وجملة الإذكار محل العلة: أي لتذكر إن ضلّت ودخلت على الضلال لأنه سببه”[15]، ربما ما يحتاجه القارئ هنا هو أن يفهم لماذا تضل المرأة ولا يضل الرجل؟ هل لخصوصية تكوين المرأة وما يعتريها من عاطفة ومشاعر هشة تؤثر على مسألة الشهادة؟ أم لأن الرجل هو فعلا أقوى من المرأة ويفوقها ذكاءً واستحضارا؟ أليس من المفروض أن ننظر إلى النص القرآني في لحظته التاريخية التي نزل في شأنها؟ أليس من العبث أن يحصر القارئ أحكاما في زمن البعثة ويعارض عالمية الرسالة ويفصلها عن الواقع المعاصر دون توضيح الموقف الشرعي منه؟
إشكالات عديدة تحول دون تحقيق الفهم الصحيح لدى القارئ المؤدلج الذي يتفاعل مع النص القرآني بتصوراته الشخصية ويستنتج معانيه بوعيه هو لا بما هو مطلوب من أدوات الفهم والتفسير والتأويل، فيسقط في أوحال التلقي السلبي للمصطلح القرآني، ومن ثم جاءت أهمية الوظيفة التنويرية التي تلعبها التفاسير القرآنية في تحقيق وظيفة الإفهام والإدراك لمعاني القرآن الكريم وتيسير فهمه وشرحه لجميع البشر بتقريب معانيه السليمة من الأذهان والعقول وسد الثغرات التي خلقتها الشبهات المعاصرة حول العلاقة بين المرأة والرجل، وما نتج عن ذلك من خطابات مشككة خلطت بين الحق والباطل وطعنت في المسلّمات واستهدفت تفكيك روابط الإخاء والتعايش السليم بين المرأة والرجل، فعملت على إيهام البعض بأن القرآن الكريم لم يأت لنصرة المرأة بل جاء لهضم حقوقها وجعلها نصف إنسان وتركها تعاني بصمت على هامش الحياة. وعليه كان من الواجب على الباحث الموضوعي أن ينفذ إلى عمق الإشكال الحاصل في هذا الموضوع ويقف على جميع الأسباب والوسائل التي من شأنها أن تفسر وتنقل القارئ إلى فهم حقيقة الخطاب القرآني تجاه المرأة وأحكامها في القرآن الكريم.
وبرجوعنا لمسألة الشهادة التي نحن بصدد البحث فيها وعن تفسيرها، تجعلنا نفهم أن هذا الحكم هو أولا أمر شديد الخصوصية وهو حكم استدعته الظرفية الزمنية والمكانية التي عايشتها المرأة وقت نزول آية الشهادة، وهي مقتصرة على حالة معينة نبين بعض أسبابها من خلال ما تطرق إليه بعض المفسرين الذين ذهبوا إلى تفسير ذلك بفعل عدم حضور المرأة مجالس التجارة آنذاك، وهو المعنى الذي يوضحه الإمام ابن القيم الجوزية في مؤلَّفه: “الطرق الحكمية في السياسة الشرعية” لكونه أمرٌ يتعلق بأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم “فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق، فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها، فإن شهادة الرجل الواحد أقوى من شهادة المرأتين؛ لأن النساء يتعذر غالبا حضورهن مجالس الحكام وحفظهن وضبطهن دون حفظ الرجال وضبطهم، ولم يقل سبحانه: احكموا بشهادة رجلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، وقد جعل سبحانه وتعالى المرأة على النصف من الرجل في عدة أحكام أحدها: هذا، والثاني في الميراث والثالث في الدية والرابع في العقيقة والخامس في العتق كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أعتق امرءاً مسلما أعتقه الله بكل عضو منه عضوا من النار. “ومن أعتق امرأتين مسلمتين أعتق الله بكل عضو منهما عضوا منه من النار””.[16] فشهادة امرأتين هنا متعلقة بالدَّيْن فقط أي في الأموال، ولكون النساء يتعذر حضورهن مجالس التجارات ومن ثم بعيدات عن تحصيل التحمل والخبرات في هذه الميادين، فالأمر إذن خارج عن اهتمامات المرأة الأمر الذي قد يعرضها للنسيان وتحمل أعباء الشهادة وتفاصيلها في مجالس الرجال التي قد يطول فيها أجل المحاسبة والتحقيق، وكأن المشرع يحرص على صرف اهتمامات المرأة عن هذه المجالس صيانة لها وحفاظا عليها ولعدم خبرتها بالمعاملات المالية وعدم مشاركتها فيها عن قرب، لكن هذا الأمر خاضع للتطور والتغيير عبر تقدم المجتمعات، فلو أن هذا الكلام قيل في زماننا هذا ولم يقال قبل أكثر من قرن من الزمان لتغير موقف المفسرين فيما يخص شهادة المرأة في الديون بفعل تطور دورها وانفتاحها واشتغالها في عدة تخصصات تنافس فيها أنجح الرجال، فهناك سيدات أعمال خبرن اليوم هذه الأشياء وتمرسن بمجالات عدة كالمحاسبة والاقتصاد والعلوم وإدارة الأعمال وغيرها من الأمور التي تفوقت في إدارتها المرأة وأصبحت أكثر دراية بها. أما فيما يخص تشريع الدية لتكون على النصف من دية الرجل فإن ذلك ليس فيه أي ازدراء للأنثى ولا يقلل من حقيقة المساواة المعتبرة بين الذكر والأنثى في الإسلام وذلك من حيث القيمة الإنسانية التي يتكافأ فيها الناس جميعا، ومما يستدل به على ترسيخ هذه الحقيقة هو تشريع القصاص، “فإذا قتل الرجل المرأة عمدا وجب في حقه القتل بالمثل إلا أن يعفو أهل المقتولة، وكذا لو قطعت يدها أو رجلها أو أصبعها أو أنملتها، فإنه يقطع نظير ذلك منه، وكذا لو خلع سنها أو فقأ عينها أو صلم أذنها، خلعت منه سنه وفقئت عينه وصلمت أذنه قصاصا بما فعل”[17]، ودليل ذلك نقرأه من كتاب الله تعالى:﴿كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص﴾.[18]
ثم ذهب الإمام القرطبي في تأكيد نفس المعنى عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان﴾ أي؛ “إن لم يكن المستشهَد رجلين، أي إن أغفل صاحب الحق أو قصده لعذر ما فليستشهد رجلا وامرأتين. فجعل تعالى شهادة المرأتين مع الرجل جائزة مع وجود الرجلين في هذه الآية ولم يذكرها في غيرها، فأجيزت في الأموال خاصة في قول الجمهور بشرط أن يكون معهما رجل، وإنما كان ذلك في الأموال دون غيرها؛ لأن الأموال كثَّر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها وعموم البلوى بها وتكرّرها، فجعل فيها التوثّق تارة بالكتبة وتارة بالإشهاد وتارة بالرهن وتارة بالضمان، وأدخل في جميع ذلك شهادة النساء مع الرجال”.[19] إذن فالغاية من شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد عند القرطبي تتجلى أساسا في حرص المشرع على توثيقها حفاظا على أموال الناس من الضياع ولما يعتريها من كثرة النزاعات الذي تقع في إثباتها، لكن الشبهة التي أثارها المبغضون للإسلام أنهم وقعوا في الخلط بين (الشهادة) و(الإشهاد) وأفهموا المرأة أن الإسلام انتقص من أهليتها وجعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل وهذا غير صحيح لكون الشهادة هي أولا تكليف ومسؤولية، وعندما يخفف الشرع عن المرأة في الشهادة فهذا إكرام لها وليس العكس، ثم إن الشروط التي تراعى في مسألة الشهادة ليست عائدة إلى وصف الذكورة والأنوثة في الشاهد بل لكون “الشهادة التي يعتمد عليها القضاء في اكتشاف العدل المؤسس على البينة واستخلاصه من ثنايا دعاوى الخصوم، لا تتخذ من الذكورة أو الأنوثة معيارا لصدقها أو كذبها ومن ثم قبولها أو رفضها، وإنما معيارها تحقق اطمئنان القاضي لصدق الشهادة بصرف النظر عن جنس الشاهد ذكرا كان أو أنثى وبصرف النظر عن عدد الشهود”؛[20] فإذا تحقق الاطمئنان عند القاضي واقتنع ضميره بالبينة أن يعتمد شهادة رجلين أو امرأتين أو رجل وامرأة أو رجل وامرأتين أو امرأة ورجلين أو رجل واحد أو امرأة واحدة فليفعل، ولا شأن للذكورة أو الأنوثة في الشهادة التي يحكم القضاء بها، بل يحكم بناء على ما قدم له من البينات. أما تأويل الآية التي يقول فيها الحق سبحانه: ﴿أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾ معناه أن الضلال في الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء آخر فيبقى المرء حائرا بين ذلك ضالا؛ لذلك إذا نسيت إحدى المرأتين شيئا من الشهادة ذكّرتها الأخرى؛ لكون المرأة “كثيرا ما تجنح لدى الشهادة إلى الميل والنسيان تحت عوامل شتى من الرهبة أو الحياء أو الضعف، وهذه حقيقة يدركها النابهون الحريصون وهم يتخيلون قاعات المحاكم التي تجري فيها الأحكام حيث القضاة والشهود والمحامون والعسكر، فضلا عن جمهرة الحضور من أهل المتخاصمين، فإنه في مثل هذه الأجواء من الرهبة والترقب والتحسب والتخوف تضطرب الهمم وتتزعزع العزائم. والمرأة في مثل هذه الحال من الرهبة والوجل والإحراج غالبا ما تزيغ وتجنح أو تتلجلج وتتردد وتركب الهوى”؛[21] لذلك حرص المشرّع على تعزيز شهادة المرأة بامرأة ثانية تذكرها إن نسيت وتشد أزرها وعزيمتها إذا اعترتها حالات الضعف الناتجة عن حرج أو خوف أو رهبة، حرصا على أن تأتي الشهادة سليمة من مظاهر الريبة واحتمالات الزور صيانة للحقوق من الضياع. فالمقام إذن ليس واردا في حق الشهادة التي يقضي بها القاضي ويحكم، وإنما هو في مقام الإرشاد إلى أفضل أنواع الاستيثاق الذي تطمئن به نفوس المتعاملين وقت التعامل وضمان الحقوق، وليس كما يفهم البعض من اعتبار المرأتين في الاستيثاق كالرجل الواحد لضعف ذاكرتها وعقلها الذي يفهم منه نقص إنسانيتها؛ وإنما هو كما أشرنا آنفا لبعد المرأة عن الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها فتضعف ذاكرتها في هذه الأمور لعدم تحقق الخبرة فيها والابتعاد عن مزاولتها ولا تكون كذلك في الأمور التي تشغلها فإنها فيها أقوى وهذا أمر عادي لكون الإنسان يقوى تذكره للأمور التي يمارسها وتحظى باهتمامه ونشاطه.
الموقف الثاني: مساواة القرآن الكريم في الشهادة بين المرأة والرجل.
وردت مساواة القرآن الكريم بين المرأة والرجل في معظم الأحكام والحالات على أساس العدل بينهما، منها ما ورد في حد (اللعان)، وهو إذا اتهم رجل زوجته بالزنى وليس لديه أربعة شهداء عليها، بحيث يشهد الرجل أربع شهادات مثله مثل المرأة، يقول عز وجل في محكم التنزيل: ﴿والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين﴾.[22] فلو كانت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل على الإطلاق لوجب أن تشهد ثمان شهادات لا أربع، ويكون القَسَم في التاسعة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، لكن شهادتها هنا شهادة مكتملة، الأمر الذي يرمز إلى تبادل الشهادة بين الطرفين المعنيين وأدائها بصفة متساوية بينهما. وكذلك الشأن في باب الحدود الذي نجده في حد الزنا الذي اشترط فيه الإسلام لإقامة حدّ الزنى على الزاني أن يثبت بأحد أمرين إما الشهود بأن يشهد أربعة بأنهم رأوا إنسانا يزني بامرأة فإن لم يكن هناك شهود فلا يقام الحد. والأمر الثاني الذي يثبت به الزنى وهو الإقرار؛ أي أن يقر الزاني بنفسه بأنه زنى، واشترط الفقهاء لذلك أن يقر الزاني أو الزانية أربع مرات بأنه مارس هذه الفاحشة، والدليل على اشتراط أربعة شهود قوله تعالى: ﴿واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم﴾[23]، وقوله: ﴿والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون﴾[24]، وقوله: ﴿لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون﴾.[25]
ويقصد الله تعالى هنا من زنى من الرجال أو زنت من النساء وهو “حر بكر غير محصن بزوج فاجلدوه ضربا مائة جلدة عقوبة لما صنع وأتى من معصية الله، ﴿ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله﴾ أي لا تأخذكم بالزاني والزانية أيها المؤمنون (رأفة) وهي رقة الرحمة (في دين الله)، يعني في طاعة الله فيما أمركم به من إقامة الحد عليهما على ما ألزمكم”[26]، والآية هنا عامة في جميع الزناة سواء الرجل أو المرأة، وقد قُدِّمت “الزانية في الآية الكريمة “لئلا يظن ظانٌّ أن الرجل لما كان هو الواطئ والمرأة محل ليست بواطئة فلا يجب عليها حدٌّ؛ فذكرها رفعا لهذا الإشكال…، وقيل لأن الزنى في النساء أعرُّ، وهو لأجل الحبَل أضر وقيل لأن الشهوة في المرأة أكثر وعليها أغلب؛ فصدّرها تغليظا لتردع شهوتها وإن كان قد رُكِّب فيها حياء لكنها إذا زنت ذهب الحياء كله”[27]، ومن حكمة الله تعالى في اشتراط الشهود حتى لا تذيع الفاحشة بين الناس ويسهل على النفوس اقترافها، فالجريمة حين تكون نادرة الحدوث في المجتمع يصعب إتيانها والوقوع فيها لبشاعتها، في حين لما يسهل تداولها ووقوعها بين الناس يهونها في النفوس ويغريهم بفعلها فتنتهك الحرمات وتفكك الأسر بالاعتداء على الأعراض والأنساب، لذلك حرص الإسلام على درء الحدود قدر المستطاع تجنبا لذلك، وتوقيا لانتشار الإشاعات والافتراءات التي تشوه سمعة الناس بالبلاغات الكاذبة الصادرة من نفوس مريضة تهدد استقرار وأمن المجتمع.
لم يقتصر الخطاب القرآني على ذكر هذه القضايا فقط، بل تضمن آيات كثيرة تحث المؤمنين على مبدأ المساواة الذي يترجم حرص الشريعة الإسلامية على تقرير هذا المبدأ وسريانه على الرجل والمرأة معا، إذ يكفي الرجوع إلى بعض السور التي تجسد بالملموس مظاهر المساواة بينهما، فجعل العدل بين الزوجين مبدأً صريحا في القرآن الكريم طبقا لقوله تعالى: ﴿وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا﴾،[28] وجعل المرأة مطالبَة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تماما كالرجل يقول عز وجل: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزز حكيم﴾،[29] وكذلك في جانب المسؤولية والجزاء في الدنيا والآخرة فهما متساويان في الأجر والثواب والعقاب والجزاء: يقول تعالى: ﴿من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾[30]، ويقول عز وجل: ﴿إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما﴾،[31] ويقول في موضع آخر: ﴿السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم﴾[32]، ويقول عز وجل: ﴿من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة﴾[33]، والمساواة كذلك في النصيب في الإرث، يقول تعالى: ﴿للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا﴾،[34] وحتى في الجانب السياسي حرص الإسلام على مشاركة المرأة في الحياة السياسية وعمل على تعزيز موقفها السياسي فكانت المرأة مشاركة فيه مصداقا لقوله تعالى: ﴿يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم﴾[35]، فأخذ النبي عليهن العهد كما أخذه على الرجال عند مبايعته النساء، وجعل لكل منهما الحق في التعليم والزواج والعمل والتجارة وسائر الأعمال المشروعة لا فرق في ذلك بين المرأة والرجل. ولعل المتتبع للآيات التي اشتملت على المساواة الصريحة بين الجنسين سيجد العديد من النصوص قد ترجمت هذا البعد المساواتي بينهما وذكرت الرجال والنساء على حد سواء في التكاليف الشرعية وفي الحقوق والواجبات وفي القيمة الإنسانية ككل.
لكن على الرغم من ذلك برزت حول قضية المساواة سهام الافتراءات وطولبت العديد من البلدان الإسلامية بتغيير بعض أحكام الشريعة وانساقوا مع التيارات المغرضة التي تطعن في قضايا العدل بين الرجل والمرأة مستشهدين في ذلك ببعض الأحكام التي تطرقت لقضايا المساواة ووقعوا في الخلط بين الحق والباطل واستغلوا بعض الآيات القرآنية التي يوحي ظاهرها بمعنى لا يعكس باطنها ومعناها الصحيح، فاستغل البعض هذا المعنى الظاهر في الترويج لبعض الأحكام المخالفة لتعاليم الإسلام، فانتشرت الأقاويل وظهرت تيارات فكرية متعصبة لما يسمى بالحركة النسوية المتشبعة بالأفكار الغربية المنددة بالظلم الحاصل على المرأة المسلمة التي لم تنصفها الأحكام الشرعية، فانعقدت لأجلها الندوات والمؤتمرات للمطالبة بتغيير هذه الأحكام المجحفة في حق المرأة، والحقيقة أن هذه الحملة الشرسة على أحكام الدين ليست نابعة من عيوب حقيقية في الإسلام ولا هي نابعة من جهل هؤلاء الغرب بإنصاف الدين الإسلامي للمرأة، بل ناتجة عن إفلاس النموذج الغربي الذي أدخل المرأة الأوروبية في النفق العلماني المظلم الذي أبان عن فشله وانحطاطه خاصة فيما يخص نظام الأسرة والترابط الاجتماعي بين الأفراد، وهاجموا أحكام الإسلام تحت غطاء مصلحة المرأة وكرامتها لإفساد عقيدتها وتفكيرها والثورة على شريكها.
أما الذين لم يفهموا بعد جوهر الإسلام وحقيقة أحكامه الواردة في القرآن الكريم عليهم أن يراجعوا أنفسهم وفهمهم لتعاليم الدين التي هي في أصلها قواعد دقيقة ومنظمة تضبط العلاقة بين المرأة والرجل وتحكم بالعدل والإنصاف وليس بمعيار المساواة، إذ لا تجوز المساواة بين المفترقين والمختلفين، فمن سوّى بينهما فقد ظلم أحدهما، ولعل في قوله تعالى ما يبين ذلك: ﴿لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة﴾[36]، ﴿قل لا يستوي الخبيث والطيب﴾[37]، ﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾[38] وغيرها من الآيات والشواهد التي يتعذر فيها المساواة، وعلى الإنسان ألا ينادي بهذا المطلب، فهل يرضى مثلا أن يسوّى بينه وبين الحيوان أو يسوى بين إنسان عالِم وإنسان جاهل وبين فرد مؤمن وفرد كافر وبين الحي والميت…، فالمساواة كلمة مغلّفة يوحي ظاهرها بالعدل والإنصاف بينما هي على العكس من ذلك، فعلى النساء أن يطالبن بالعدل بدل المساواة وأن تأخذ حقها كما يأخذ الرجل حقه وأن تفهم بأن الإسلام حين نادى بقوامة الرجل على المرأة وزيادة الدرجة عليها ليس من باب المجاملة بل من باب التكليف كما تقول القاعدة التي ذكرها أهل العلم في هذا الشأن: “كلما زاد التشريف زاد التكليف”، فعدم المساواة معناها أن الرجل مكلف أكثر من المرأة، إذ الرجال تجب عليهم أمور لا تجب على النساء من الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله والصلاة في الجماعة وصلاة الجمعة والعيد والنفقة والسكن والمهر وغيرها من التكاليف الواجبة على الرجال ولا تجب على النساء.
وهذا التفاضل بين الجنسين الذي قد يظهر من المعنى السطحي لبعض الآيات ما هو إلا تمايز عادل بين المرأة والرجل في الشريعة الإسلامية وهو في مصلحة الطرفين معا، وإذا ما تم فرض المساواة في المجتمع فلن يجنيا سوى التنافر والتباعد، لكون هذا الاختلاف في التكوين الخلقي والنفسي بينهما هو في حد ذاته تكامل وظيفي يكمل به كل منهما الآخر، فلو تطابقت وظائفهما لفسد المجتمع وتفككت أواصره، فكان من الأولى أن تطالب المرأة بحقها في المساواة في الفرص وليس المساواة المطلقة التي أضاعت حقوقها؛ لكون المساواة في الفرص هي التي من شأنها أن تضمن العدالة الحقيقية لها؛ فإذا تأملنا مثلا المرأة في العمل لا يمكن لها أن تشتغل بنفس شروط عمل الرجل، فإذا كانت متزوجة فهي بحاجة إلى احتياجات خاصة مثل إجازة الأمومة الطويلة وما يصاحبها من الراحة والرضاعة الطبيعية وغيرها، فهل يمكن مثلا أن تتلقى عن هذه الإجازة راتبا مدفوع الأجر؟ وهل توفر الدولة مرافق لرعاية الأطفال في أماكن العمل أو الدراسة أو الرضاعة للأمهات العاملات؟ وهل النساء والرجال متساوون في الأجر والراتب الذي يتقاضونه في نفس مواقع المسؤولية، هذه الحالة هي واحدة من بين العديد من الحالات التي تعتري طبيعة المرأة والتي يجب أن تحظى فيها بالفرص العادلة مع الرجل لتحسين وضعيتها وظروف اشتغالها لا أن تنادي بالمساواة المطلقة معه، لأن في ذلك خللا واضحا يستحيل تطبيق المساواة فيه، ونضرب لذلك مثالا للمرأة الرياضية التي ترفض أن يتم مساواتها مع الرجال المتحولين جنسيا في المباريات الرياضية المختلفة لكون ذلك غير منصف لها، فالمؤهلات الرياضية الرجالية تفوق المؤهلات النسائية من حيث القوة الجسدية والبنية الرياضية المختلفة عن النساء فإذا تم مساواتها مع المثليين الذين هم في الأصل رجال هل ستربح معهم أي بطولات أو إنجازات؟ فكان من الأولى أن تسعى مثلا إلى تعزيز المساواة في الأجر المادي بين الرياضيين والرياضيات في جميع الفعاليات، وهل ترضى المرأة بعد مطالبتها بالمساواة أن يدخل المتحولون جنسيا إلى مراحيض النساء العمومية أليس في ذلك إهانة لها واقتحام لخصوصيتها وحريتها؟.
للأسف استغل مناضلو الحقوق والحريات ملف المرأة وأقنعوها بالبديل المجتمعي الذي سيحقق لها المزيد من المكتسبات والحقوق مع الرجل، وما هي إلا وسيلة سياسية لتمرير مجموعة من المغالطات والثقافات البعيدة عن المجتمع العربي والإسلامي الذي يتميز بخصوصية مختلفة عما هو سارٍ في البلاد الأوروبية، فاستطاع الفكر الغربي بأساليبه التضليلية أن يقنع المرأة بأن تحقيق ذاتها لا يكون إلا إذا كان عملها خارج أسوار بيتها وأرست في قناعاتها فكرة الاستقلال المادي وتحقيق الذات والاستغناء المطلق عن خدمات الرجل، لكون الاشتغال خارج البيت له سوق يحدد سعره أما الاشتغال بالمنزل فلا قيمة له، والغريب أن المرأة حين تطبخ في مطعم أو مؤسسة ما فإنها تسمى “طباخة” أما إذا طبخت لأسرتها فتسمى بلا عمل، وإذا علّمت أولاد غيرها فهي “معلمة” أما إذا علّمت أولادها فهي “بلا عمل”، وإذا قامت بتنظيف مكاتب مؤسسة فهي “منظفة”، أما إذا نظّفت بيتها فهي “بلا عمل”…، وقس على ذلك ما شئت من الأمور، والخطورة أننا حين نتكلم عن المرأة فإننا نتكلم عن عصب المجتمع وعن الأسرة ككل، فهي من تربي وتصنع الأجيال والأفراد ليكونوا أناسا صالحين ومنتجين في هذا الوطن وليس عالة عليه، أما حين تخرب عقلية المرأة بهذه الأفكار المسمومة فلا شك أننا في خطر داهم.
ثم نأتي لمسألة الميراث التي جعل الله فيها للذكر مثل حظ الأنثيين، نجد أن هذه القسمة الإلهية ليست تمييزا للذكر على الأنثى أو تبخيسا لحقها في الإرث كما يدعي أصحاب الشبهات، بل لكون الأعباء الحياتية كلها منوطة بالرجل من مهر وسكن وإنفاق على البيت وعلى الزوجة والأولاد وغيرها من التكاليف المالية التي تقع على عاتق الرجل ولم يلزم الشرع المرأة بشيء منها حتى وإن كانت غنية، فالعبء المالي الذي يوجبه الشرع على الرجل تجاه الآخرين هو الذي يخلق معيار التفاوت الذي لا يظلم الأنثى، وهذا التمايز الجزئي في أنصبة الوارثين والوارثات لا يرجع إلى معيار الذكورة والأنوثة بل لفلسفة الشريعة في التوريث وما يعتريها من حكم ومقاصد ربانية جليلة، كما أن توريث المرأة على النصف من الرجل ليس موقفا عامة في توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث بل هو في حالات خاصة ومحدودة من بين حالات الميراث، ولعل المتتبع لحالات ومسائل الميراث التي جاءت في علم الفرائض (المواريث) سيجد أن هذا التفاوت في الأنصبة تحكمه معايير عدة تطعن في مصداقية الأفكار التي تدّعي ظلم المرأة في الميراث، ونشير في هذا السياق إلى دراسة إحصائية استقرائية لحالات الميراث في الفقه الإسلامي للعالِـم السوداني الشيخ عبد الجليل ندى الكاروري الذي خلص إلى أن الأنثى ترث نصف الذكر في حالات تمثل 33%،13 من حالات الميراث، بينما ترث الأنثى مثل الذكر أو أكثر من الذكر في حالات تبلغ 67%،86 من حالات الميراث؛ أي أن المرأة متميزة عن الرجل فيما يقرب من 90% من حالات الميراث، وذلك فضلا عن أن إرث الرجل غالبا ما يكون بالتعصيب، أي أنه ينتظر ما يفضل من بقية الورثة، أما إرث المرأة فهو غالبا محدد بالفرض الشرعي.*
ومن الأحكام والمعاني التي يروج لها المغرضون، إعطاء الأفضلية المطلقة للرجل على المرأة مستدلين -بغير علم- بجملة من الأحكام الواردة في القرآن الكريم منها قوله تعالى: ﴿وللرجال عليهن درجة﴾[39] فهل يُفهم من ذلك الحط من قدر المرأة في الدرجة والإعلاء من شأن الرجل؟ طبعا لا، لكون ذلك يتنافى مع روح الإسلام الذي يحفظ كرامة المرأة، وهو تعالى الذي يقول قبل ذلك: ﴿ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف﴾؛[40] أي “يتّقون الله فيهن، كما عليهن أن يتّقين الله فيهم”،[41] ذلك لأن الله تعالى “نهى المطلقات عن الكتمان عن أزواجهن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر، وجعل أزواجهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا، فحرّم على كل واحد منهما مضارة صاحبه وعرّف كل واحد منهما ما له وما عليه من ذلك، ثم عقب ذلك بقوله: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)،[42] وتلك قمة المساواة والعدالة الإلهية في رفع الضرر عن الطرفين معا، فأوجب الله تعالى الحق على كل منهما بترك الضرر، وعليه مثل الذي له على صاحبه من أداء حقه إليه. وهذا هو المعنى الذي تم تأكيده في تفسير الطبري لهذه الآية فأخبر بأن “على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهن وغير ذلك من حقوقه، ثم ندب الرجال على الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداء بعض ما أوجب الله لهم عليهن فقال: (وللرجال عليهن درجة) بتفضلهم عليهن وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن”.[43] ويفسر ابن كثير معنى (الدّرجة) في الآية الكريمة أي “في الفضيلة والخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: ﴿الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾.[44] ومسألة التمييز هنا مسألة عادلة فإذا كان للرجال عليهن درجة فالله تعالى أوضح قبل ذلك بأن قال: لهن مثل الذي عليهن بالمعروف؛ أي في ذلك كله ابتغاء ضمان الحقوق باتباع المنهاج الرباني الذي يقول: “ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن فليؤد كل منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف”،[45] وقد ثبت هذا الأمر في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع “فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف”.[46] وفي حديث آخر عن ابن عباس قال: “إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن الله يقول (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف)”.[47] أي لهن من حقوق الزوجية على الرجل مثل ما للرجال عليهن، وفي هذا المعنى جاء تفسير القرطبي عن ابن عباس قال: “الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العِشرة والتوسع للنساء في المال والخُلق، أي إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه”[48]
وذهب بعض المفسرين إلى وجهة تأويلية مغايرة في تفسير الدرجة بمعنى؛ “زيادة الرجل بعقله وقوته على الإنفاق وبالديّة والميراث والجهاد” وذهب آخرون إلى القول بأن “المرأة خُلِقت من الرجل فهو أصلها، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه، فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه وقيل: الدرجة الصداق…”[49]
ومن الشبهات المتداولة كذلك حول مسألة القوامة في قوله تعالى: ﴿الرجال قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾[50]، وهي شبهة الحد من حرية المرأة بجعل كل حركاتها وسكناتها تحت وصاية الرجل، فلا تقوم بأمر إلا بموافقته وبإذنه ولم يفهموا بأن الله جعل القوامة بيد الرجل من أجل إلزام الرجال بأداء حقوقهن ورعايتهن والإنفاق عليهن وصيانتهن من المفاسد والمخاطر فجعل هذا التفضيل الظاهر من الآية من كون الولاية مختصة بالرجال لامتلاكهم مقومات جسدية خلقية مختلفة عن المرأة من حيث الاعتدال في العاطفة والقوة البدنية والصبر والجلد وقوة العزم وتحمل الأعباء والمشقات…، لذلك كانت النبوة والرسالة وإقامة الشعائر من آذان وجهاد وجمعة وقضاء ونحو ذلك كلها خاصة بالرجال دون النساء، فالولاية هنا تشريف وتكريم للمرأة وتكليف للرجل فهو تفويض إلهي يلزم الزوج بمقتضى هذه القوامة أن يقوم بمصالح زوجته بالتدبير والرعاية والإنفاق وإدارة شؤون البيت ويحاسَب عليه أمام الله إن فرّط في هذه الرعاية، ولعل أقوى دليل على المعنى الصحيح لقوله تعالى: (قوامون على النساء) معناه في معجم ألفاظ القرآن الكريم أي “لهم القيامة عليهن يرعونهن ويقومون بمصالحهن”،[51] ثم يقول تعالى في موضع آخر من نفس السورة: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم﴾،[52] هذا المعنى الذي تعكسه نفس الكلمة في الآية الكريمة من سورة المائدة والتي تفيد صيغة الأمر بإقامة العدل في كل أحوال المؤمنين القائمين بالقسط الذي هو العدل في حقوق الله وحقوق عباده، ومن هذه الحقوق حق المرأة، يقول تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا﴾.[53] ويعني جل ثناؤه في معنى القوامة: أي أن “الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم بما فضل الله به الرجال على أزواجهم؛ من سوقهم إليهن مهورهن وإنفاقهم عليهن أموالهم وكفايتهم إياهن مؤنهن وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهن”،[54] وفي ذلك تكليف للرجل وليس تشريفا له فالله تعالى أوكل إليه القوامة للقيام بأمور المرأة وأدائه حقوقها وجعل القوامة وسيلة تنظيمية للشراكة الزوجية يتحمل فيها كل من الزوجين تكاليفها ويقوم كل منهما بوظائفه المنوطة به، فإذا كان الرجل قائما على امرأته بأداء واجبه تجاه منزله وأهل بيته، فعليها أن تطيعه في المعروف وأن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله وفضله عليها بنفقته وسعيه وألا يعتبر ذلك كرما وتفضلا منه على المرأة بل هو واجب لا يسقط عنه.
تتوالى الشبهات في الإسلام حول العديد من قضايا المساواة التي تندد بها النساء في المؤسسات التشريعية وفي مواقع النقاش، ونقف في هذا السياق على كلمة (واضربوهن) في قوله تعالى: ﴿واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا﴾،[55] هذه الآية التي تطرح قضية ضرب المرأة أو الزوجة فهي من الأمور التي سيء فهمها وتدوولت بين الناس وألصقت بها تأويلات منحرفة عن الصواب قادتهم إلى الاعتقاد بأن الإسلام يأمر بضرب النساء حين وقوعهن في المخالفة والعصيان، وتعرض القرآن والفقه الإسلامي الصحيح للظلم والتضليل وأُخرِج اللفظ القرآني عن معناه الحقيقي، فجاء المعنى التشريعي مخالفا تماما عما يروج له في المجتمع من إباحة ضرب النساء؛ إذ لا يمكن أن يأمر الله تعالى بضرب شريكة الحياة وهو الذي جاء ليحد من العنف والاضطهاد اتجاهها ويؤكد على معاشرتهن بالمعروف، كما أن هذا الفعل مخالف للمنهاج القرآني العام الذي يقول فيه تعالى: ﴿ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة﴾،[56] ثم إن الله عز وجل من أسمائه الحسنى الحَكم العَدْل فكيف يرضى الظلم لعباده؟، هذا تجرؤٌ خطير على كتاب االله عز وجل، وتفسير بغير علم وجهل بماهية الضرب الواردة في القرآن الكريم؛ لكون هذا الدين لم يأتِ ليكرس العنف والكره والإذلال والمهانة حاشى لله أن يأمر باستعباد الناس وإهانتهم، فالضرب مفهوم يجب أن يكون واضحا للناس كي لا يستشكل عند الناس ويترك المصطلح لفوضى التأويلات المنحرفة، ففي المصحف وفي صحيح لغة العرب يفيد الضرب المفارقة والمباعدة والانفصال والتجاهل خلافا للمعنى الذي يمكن أن يتبادر للقارئ عند مروره بهذه الكلمة من معنى الإيذاء الجسدي بالضرب وغيره، وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم ترصد كلمة (الضّرب) التي وردت متكررة في مواضع عدّة وبمعان مختلفة ومغايرة لا تعني إطلاقا كلمة الضرب بمفهومها العامّي الذي يفيد الإيذاء والإهانة، نقرأ على سبيل المثال في قوله تعالى: ﴿وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة﴾[57]؛ بمعنى إذا سافرتم في الأرض، وهنا الضرب بمعنى المشي إذ لا يمكن المشي دون تثبيت الرِّجْل على الأرض فاستخدم الضرب بمعنى المشي. وقوله تعالى: ﴿ألم تر كيف ضرب الله كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء﴾[58]، استخدم الضرب هنا بمعنى الوصف لإعطاء مثال من الأمثلة القرآنية التي تساعد على تثبيت موضوع ما في العقل. وقوله تعالى: ﴿فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرْقٍ كالطود العظيم﴾؛[59] بمعنى انشق فكان كل فرق أي قطعة من الماء كالطود العظيم أي كالجبل الضخم. وقوله: ﴿أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين﴾[60]؛ ورد الضرب هنا بمعنى الإعراض والترك، وهو سؤال إنكاري من الله تعالى للمسرفين، أفنعرض عنكم ونترككم على ما أنتم عليه من الكفر والإسراف دون أن نبين لكم الصواب. وقوله: ﴿فضَرَبْنَا على آذانهم في الكهف سنين عددا﴾[61] وهنا الضرب بمعنى المنع أي مَنَعَ أن يصل الصوت إلى آذان أهل الكهف؛ أي أن الله تعالى ألقى على أهل الكهف النوم عند دخولهم الكهف فناموا سنوات كثيرة. وقوله: ﴿كذلك يضرب الله الحق والباطل﴾[62]؛ أي يضرب الله الأمثال للحق والباطل ليعرف المكلفون الحق بعلاماته فيقصدونه ويعرفون الباطل فيجتنبوه. وقوله: ﴿للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض﴾[63]؛ أي المباعدة والسفر والِهجرة إلى أرض الله الواسعة. وقوله: ﴿فضرب بينهم بسور له باب﴾[64]؛ وتعني فُصِلَ بينهم بصور. وقوله: ﴿وضربت عليهم الذّلة والمسكنة﴾،[65]بمعنى وضِعَت عليهم الذلة وأحاطت بهم ولزمتهم. وقوله تعالى في معنى القتل: ﴿فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان﴾[66]؛ وفيه أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يقتلوا المشركين بقطع رؤوسهم وأياديهم وأرجلهم وما شابه. وغيرها من الآيات التي تفيد معانٍ مختلفة لكلمة (ضَرَبَ) حسب سياق السورة وموقعها من القصة، والشاهد عندنا أن الضرب في الآية الكريمة لا يعني الضرب الفيزيائي للمرأة الذي يتسبب في الإيذاء البدني لها، لكون النص القرآني ليس على ظاهره في مطلق الضرب بل في حالة محددة ومشروطة ولا يتم اللجوء إليها إلا في حالة النشوز القصوى، فكان من الأجدر أن يتتبع المشككون أولا حقيقة الكلمة التي وردت مشروطة بنشوز الزوجة لا بمزاج الرجل، وهي وسيلة نفسية تقويمية للزوجة لإصلاح العلاقة الزوجية داخل الأسرة والتخلص من بعض العادات الفاسدة التي تهدد استقرارها وصلاحها لبناء مجتمع إسلامي متّزن ومتين، فلا يعقل أن يمنح الإسلام للرجل صلاحية ضرب زوجته وإيذائها جسديا ونفسيا، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ضرب في حياته خادما ولا امرأة من نسائه رضي الله عنهن، بدليل قول عائشة رضي الله عنها: “ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده ولا امرأة ولا خادما إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنْتَهَكَ شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى”[67]، ثم كيف لنا أن نأخذ برأي مفسر متطاول على آيات الله ولا يفقه حتى معنى كلمة “النشوز” في القرآن الكريم ويأتي ليصدر الأحكام والأقاويل على كتاب الله دون علم ويضيف للآية ما ليس منها، فمن هي أولا المرأة الناشز؟ وهل تفيد كلمة (الضرب) معنى الإيذاء الجسدي للمرأة؟ أم يفيد التباعد بينهما وإبقاؤها في مكانها وعدم إخراجها من بيتها؟ أم تفيد معانٍ أخرى؟. لكي نفهم هذا الأمر جيدا دعنا نتتبع أولا تفسير الموقف الفقهي من الضرب، ونشرع بداية في تفسير معنى كلمة المرأة الناشز، لكونها جملة تحتاج إلى تعريف واضح ومحدد، ثم بعدها ننظر في دلالة الآيات المتعلقة بالضرب.
يفهم من التعاريف المفسّرة لمسألة المرأة الناشز أنها هي المرأة التي تمتنع عن القيام بواجبها تجاه زوجها وتمتنع عن إعطائه حقوقه دون عذر من لزوم بيته وإجابته للفراش وخدمته بالمعروف؛ بمعنى أنها ترفض أن تقوم بواجباتها اتجاهك بعد أن تكون قد أعطيتها كامل حقوقها. ومعناها عند تفسير الطبري: أي اللاتي تخافون “استعلائهن على أزواجهن وارتفاعهن عن فرشهم بالمعصية منهن، والخلاف عليهم فيما لزمهن طاعتهم فيه بغضا منهن وإعراضا عنهم”.[68] وفي تفسير القرطبي: “أي تخافون عصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج”[69]، وقال أبو منصور اللغوي: النشوز “كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه؛ يقال: نشزت تنشِزُ، فهي ناشز بغير هاء. ونشصت تنشص وهي السيئة العِشرة”.[70]
يقول الله تعالى ﴿واللاتي تخافون نشوزهن﴾ أي اللاتي تخافون بُغضهن وعصيانهن وتعاليهن عما أوجب الله عليهن من طاعة الأزواج، نراه في الآية الكريمة عقوبة تأديبية تواترية تصاعدية تبدأ أولا بالوعظ والكلام الحسن والنصح والإرشاد أي “بكتاب الله أي ذكّروهن ما أوجب الله عليهن من حسن الصحبة وجميل العشرة للزوج والاعتراف بالدرجة التي له عليها”. فإن لم تستجب فيكون الهجر في المضاجع وهي طريقة العلاج الثانية التي لها دلالتها النفسية والتربوية على المرأة “فإن الزوج إذا أعرض عن فراشها فإن كانت محبة للزوج فذلك يشق عليها فترجع للصلاح، وإن كانت مبغضة فيظهر النشوز منها فيتبين أن النشوز من قِبلها.”[71]واختلف أهل التأويل في ذلك وقال بعضهم: “فعظوهن في نشوزهن عليكم أيها الأزواج، فإن أبين مراجعة الحق في ذلك والواجب عليهن لكم، فاهجروهن بترك جماعهن في مضاجعتكم إياهن”.[72] وفي تفسير ابن كثير الهجر يعني في السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: “يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبّح ولا تهجر إلا في البيت”.[73] أما واضربوهن فهي الوسيلة التأديبية الثالثة إن لم تنجح الوسيلتين الأوليتين، وهو ضرب رمزي له ضوابط وحدود بحيث لا يحدث أذى جسديا؛ لأن غرضه التهذيب والتأديب كي لا تسوء وتنقلب أوضاع الأسرة بنشوز الزوجة؛ لكون الهدف الرئيسي من هذا الضرب الرمزي هو الحفاظ على الأسرة من التشتت والضياع والتفرقة وليس الهدف هو إيلام المرأة، فالقاعدة العامة في الإسلام تقوم على عدم ضرب أحد من الناس ولا أذيتهم إلا بالحق مصداقا لقوله تعالى: ﴿والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا﴾.[74] وقد اختلف أهل التفسير في صفة الضرب التي أباح الله لزوج الناشز بأن يضربها به، فكان هو الضرب غير المبرّح الذي أجازه الله في الحالات العظام ويكون هو آخر الدواء بعد استنفاد جميع الوسائل التأديبية من الوعظ والنصح والهجر. لكن ما المقصود بالضرب غير المبرّح؟ فسّرها أهل التأويل “بضرب الأدب غير المبرّح وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين جارحة، كاللكزة ونحوها”،[75] أي الضرب الخفيف المشروط الذي يحقق المقصود من فعله وهو الإصلاح بعيدا عن الضرب الشديد المخيف الذي يؤلم الجسد ويشوه الوجه؛ لكون الغاية منه هي غاية تأديبية تربوية كالمؤدِّبِ مثلا حين يضرب غلامه لتعليمه القرآن والأدب. وقيل الضرب غير المبرّح أي غير المؤثّر ويكون “بالسّواك ونحوه”.[76] فكيف يعقل إذن أن يكون الضرب بشيء كالسواك مثلا فيه أذية بدنية للمرأة، لكونه أداة لا يمكن أن تؤثر أو تؤلم المرأة جسديا ولكن قد تؤلمها نفسيا ومعنويا وهذا هو المطلوب؛ فلو كان الإسلام يأمر بالضرب العنيف المطلق للمرأة لترك الأمر مفتوحا لاجتهاد الأزواج في ضرب زوجاتهم، وإنما الغاية هنا هي غاية تأديبية معنوية تستهدف التأثير في مشاعر الزوجة التي لم تنفع معها الوسيلتان التأديبيتان الأوليتان من الوعظ والهجر ولم تترك أمام الزوج إلا اللجوء للوسيلة الإصلاحية الثالثة وهي الضرب غير المبرح، لعل في ذلك تهذيبا وتقويما لها ورجوعا عن نشوزها وإنقاذا للأسرة من الشتات والانفلات والضياع.
ولا يخفى على العاقل المنتقد لضرب النساء ما تلعبه البيئة الفاسدة التي يطغى عليها فساد الأخلاق وانتشار السلوكيات الشاذة والعنيفة بين الأزواج التي لا يمكن أن يستخدم الرجل فيها النصيحة أو الهجر الأمر الذي يفرض تغيير الوسيلة التأديبية هنا حتى تتناسب مع شخصية المرأة العنيدة المتشبعة بأفكار التمرد والعصيان والثورة على الرجل، على عكس المرأة السوية المؤمنة المحبة لزوجها والتي تعقل النصيحة وتزدجر بالهجر فيجب في هذه الحال أن يتم الاستغناء عن الضرب، فالشرع أوجب لكل حال حُكم يناسبها والرجال مأمورون بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن وتعنيفهن والاعتداء عليهن؛ ولما كانت النساء على قسمين: صالحات مطيعات لله قائمات بحقوق الأزواج، وعاصيات ناشزات لا يطعن أزواجهن، فالقسم الأول أَمْره بيّن والفئة الثانية يكون التعامل معها بداية بالوعظ فإن لم ينجح الوعظ فالهجر في المضاجع، فإن لم يؤثر فالضرب غير المبرح، ويتوعد الله تعالى من يخالف هذا الترتيب العلاجي ويعتدي بغير حق.
ولعل في هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والمنهاج الحكيم الذي علّمنا كيف يعامِل الرجال نساءهم وبيّن أن لهن عليهم حقوقا لا تسقط أبدا، فقد كان عليه الصلاة والسلام أفضل الناس وخيرهم معاملة لأزواجه وهو الذي يقول: “لا تضربوا إماء الله”، فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “ذئرن النساء على أزواجهن فرخص في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم”؛[77]أي ليس بخياركم -أيها الرجال- من يضرب امرأته بل خياركم من لا يضربون نساءهم، وفيه نهي صريح عن ضرب النساء وعن فضيلة معاملة النساء بالحسنى والصبر على سوء أخلاقهن والتغاضي عما يصدر منهن أفضل من ضربهن؛ لكون الصحابة رضي الله عنهم “كانوا من الطراز الأول والجيل المفضل الذين إذا دعوا إلى الله ورسوله قالوا: سمعنا وأطعنا فكفّوا عن ضرب النساء…، فلما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ضربهن اجترأن على أزواجهن، كما قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله إن النساء ذئرن على أزواجهن، يعني اجترأن وتعالين على الرجال، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم ما قال عمر؛ أجاز ضربهن فأفرط الرجال في ذلك وجعلوا يضربونهن حتى وإن لم يكن ذلك من حقهم، فطافت النساء بآل النبي صلى الله عليه وسلم، أي ببيوته وجعلن يتجمّعن حول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم يشكون أزواجهن”.[78] ولعل معنى الحديث يفيد أن الأصل في معاملة النساء أن تكون بالحسنى وأن يتحلى الرجل فيها بالسِّعة وحسن الخلق مع زوجته ويحسن معاشرتها والإحسان إليها والعفو عنها وألا يجعل من الضرب وسيلته التأديبية الوحيدة ولا يعتدي في ذلك، فالرسول الكريم أخبر أن هؤلاء الذي يضربون زوجاتهم بأنهم ليسوا بخيارهم؛ أي “ليسوا بخيار الرجال، وهكذا كقوله: “خيركم خيركم لأهله”، فدلّ هذا على أن الإنسان لا يُفْرِطُ ولا يُفَرِّطُ في ضرب أهله؛ إن وجد سببا يقتضي الضرب فلا بأس”.[79]
وإن تركن النشوز يقول سبحانه وتعالى ﴿فلا تبغوا عليهن سبيلا﴾؛ أي “لا تجنوا عليهن بقول أو فعل، وهذا نهي عن ظلمهن بعد تقرير الفضل عليهن والتمكين من أدبهن. وقيل المعنى: لا تكلفوهن من الحب لكم فإنه ليس إليهن”.[80] وإن كنتم أيها الأزواج تقدرون عليهن، فتذكروا قدرة الله فيده بالقدرة فوق كل يد، فلا يستعلي أحد على امرأته فالله بالمرصاد ﴿إن الله كان عليا كبيرا﴾. وفي تفسير ابن كثير قوله: “واضربوهن” أي “إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح”،[81] وثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: “واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان ولكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مؤثر. قال الفقهاء: هو ألا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شينا”.[82] وفي الحديث نهىي صريح عن أذية النساء وإكراههن على محبة أزواجهن كأن يقول الزوج لإحداهن وهي له مطيعة: إنك لست تحبيني وأنت مبغِضة، فيضربها على ذلك أو يؤذيها، فقال الله تعالى للرجال “فإن أطعنكم” أي؛ “على بغضهن لكم فلا تجنوا عليهن ولا تكلّفهن محبتكم؛ فإن ذلك ليس بأيديهن فتضربوهن أو تؤذوهن عليه”.[83] لأن قلبها ليس في يدها، فاتقوا الله أيها الأزواج “أن تظلموهن وتبغوا عليهن سبيلا وهن لكم مطيعات فينتصر لهن منكم ربكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء وأكبر منكم ومن كل شيء”[84]؛ فالمعنى واضح هنا من كون الحقوق بين الزوجين هي حقوق متبادلة وعادلة بينهما في إطار حماية الأسرة ككل دون إكراه ودون أن يشق أحد الطرفين على شريكه سواء من المرأة الناشز وتركها أداء حق الله عليها الذي ألزمها الله لزوجها، وسواء من الزوج الذي يُكرِه زوجته على محبته ويعنفها دون حق ولا يلتزم بالإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان.
وصفوة القول مما سبق، أن الرجل بمقتضى حق القوامة على المرأة فإنه حين يخشى أن تخرج المرأة عن طاعته وتستعلي عليه ويرى منها ما يسوؤه، ينبغي له أن ينتبه لذلك ويبدأ بالعلاج القرآني الذي بيناه آنفا بعد أن يبين لها ما يريده منها وما آلمه من تصرفاتها وتقصيرها وينصحها بالموعظة أولا، فالرجل حين يبين ويوضح ويشرح يحق له أن يحاسِب، فالبيان يطرد الشيطان ويجلي المبهم بين الأزواج، إذ لا يوجد تكليف بدون بيان، بعدها ينتقل إلى عقوبة الهجر بعد فشل الوسيلة العلاجية الأولى؛ فإعراض الزوج عن زوجته فقط يعتبر أكبر عقوبة لها خاصة حين تكون العلاقة بين الأزواج علاقة راقية وفيها من الإحسان واللين والعشرة الطبية الشيء الكثير، فإن ذلك يشق على نفسيتها بإعراض زوجها عنها فيكون أكبر تأديب لها. وفي حال اللجوء إلى الوسيلة الثالثة وهي الضرب غير المبرح، فإنه كما أشرنا سابقا العقاب فيه ليس بشرط تحقيق الإيلام الجسدي بل من أجل تحقيق التأثير النفسي فيضربها ضربا غير مبرح ولا يعتدي عليها؛ فالإسلام يحرص كل الحرص على حماية الأسرة من الانهيار والتفكك فكيف له أن يأمر بضرب المرأة ذلك الضرب الشديد بالمفهوم المجتمعي الذي يسقط شخصية الأم أمام أولادها ويفسد مشاعرهم وتربيتهم بإهانة أمهم أمام أعينهم، فهي من تجلس معهم وترعاهم وتسهر على تنشئتهم فتكون أنت المسؤول الأول عن فساد أخلاقهم واعوجاج سلوكهم ولن يحترموا أمهم بعد ذلك ولن يطيعوها هذا إن لم يضربوها.
إن مسألة الضرب في القرآن الكريم هي مسألة بعيدة كل البعد عن الصورة المأساوية التي سوقها لنا الإعلام الغربي عن أحوال المرأة المسلمة، وهي صناعة غربية استهدفت إفهام المرأة المسلمة بظلم أحكام الشريعة الإسلامية لها وإعطاء الصلاحية للرجل في ضربها وامتهانها، لكن الذي خدم هذه التوجهات المغرضة لا يرجع إلى أحكام الدين بل إلى تخلف المجتمع وانحرافه عن حقيقة الدين الإسلامي إما بفعل الجهل أو بسبب التعرض لحملات تغريبية فكرية تستهدف مسخ الهوية الإسلامية وتلميع النموذج الغربي؛ هذا بالإضافة إلى تأثير العادات والتقاليد الموروثة في تكريس مظاهر العنف ضد المرأة وإعادتها إلى تقاليد الجاهلية بعد أن جاء الإسلام وحررها من أغلال الدونية والانحطاط التي كانت عليها في العصور السابقة، وعمل على إشراك المرأة والرجل معا في حمل الأمانة التي حملها الإنسان وليكون بعضهم أولياء بعض في النهوض بهذه الأمة إلى مراتب النجاح والتقدم. ولعل الدارس لأحوال المرأة الغربية خصوصا في دولة الولايات المتحدة باعتبارها راعية الحقوق والسلم في العالم سيصدم من بشاعة الممارسات الدنيئة التي تقع على النساء من حيث الحط من كرامتهن واستعباد إنسانيتن والعبث بشرفهن واستغلالهن جنسيا بفعل الحرية الجنسية الواسعة هناك، وقد دلت الإحصائيات في بلاد الغرب على خطورة هذا الوضع بعد إطلاق العنان للشهوات البهيمية التي جرّت النساء إلى أعمال مخزية تجسد مدى احتقار النساء في أبشع الصور، ولعل الأرقام الصارخة لنسب العنف والاضطهاد ضد المرأة في أمريكا توضحها المعطيات التالية*: أكثر من مليون امرأة سنويا تبلِّغ الشرطة باعتداء زوجها أو شريكها عليها، و 91% من الاعتداءات لا تبلغ الشرطة، وتقتل يوميا أربع نساء بسبب الضرب المبرح بالمنزل، ومن 2 إلى 4 ملايين امرأة تتعرض للاعتداء عليها سنويا، و1،5 مليون زيارة للطبيب تتم سنويا بسبب اعتداء الزوج، وفي سنة 1993م كانت تغتصب امرأة كل دقيقة وغالب الضحايا في سن تقل عن 17 عاما، وفي أمريكا أعلى نسبة طلاق في العالم، ونصف عدد الزيجات تنتهي بالطلاق، و17 مليون طفل يعيشون مع أحد الوالدين بعد تفكك الأسرة، وهذا الرقم هو ضعف ما كان عليه سنة 1980م وغالب هؤلاء الأطفال يعيشون على الإعانات الاجتماعية للدولة وهم الأكثر تعرضا للفقر والحرمان والأكثر رسوبا في المدارس، و 80% من جرائم القتل عائلية و 48% منها مسرحها البيت.
بعد هذا الواقع المرير للمرأة والأسر في العالم الغربي فإنه إن جاز لباحث يتوخى الصدق والحقيقة أن يعقّب على تشريع الإسلام، فمن واجبه أن يحمد لهذا التشريع نظرته إلى حقوق المرأة التي أقامها على أساس العدل بين الزوجين وعلى معيار المساواة بين الحقوق والواجبات وهي المساواة العادلة والمطلوبة في هذا الموضوع، وهو ما يضمن لها الإنصاف والكرامة ويبسط لها كنف المودة والرحمة والعيش الكريم.
الموقف الثالث: شهادة المرأة أكبر من شهادة الرجل.
ليست شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل دائما، فهناك قضايا لا تقبل فيها غير شهادة المرأة وحدها، فالشروط التي تراعى في الشهادة كما رأينا تعود أولا إلى عدالة الشاهد وضبطه؛ “فإذا ثبت لدى القاضي اتصاف هذا الشاهد بهذه الصفة أي (رقة المشاعر والعاطفة) فإن شهادته تصبح غير مقبولة إذ لا بد أن يقوم من ذلك دليل على أن صلته بالمسائل الجرمية وقدرته على معاينتها ضعيفة أو معدومة، وهو الأمر الذي يفقده أهليته للشهادة”،[85] وفي هذا القول تأكيد لسلامة أحكام الشريعة من تهمة التفريق بين المرأة والرجل في مسألة الشهادة، لكون الشروط التي تراعى فيها لا تعود إلى وصف الذكورة والأنوثة بل لعدالة الشاهد وضبطه سواء أكان رجلا أو امرأة. وهناك حالات لا تطلع عليها إلا النساء فتقبل شهادتهن ولو انفردت بها إحداهن، وقد نص الفقهاء على أن من القضايا ما تقبل فيه شهادة المرأة وحدها وهي القضايا التي لم تجر العادة باطلاع الرجال على موضوعاتها وقد امتازت على الرجل في سماع شهادتها لوحدها فيما هو أخطر من الشهادة على الأمور المالية أو غيرها كالشهادة على الولادة وما يلحقها من نسب وإرث وعيوب النساء والقضايا الباطنية، وفي موضع آخر تقبل شهادة النساء وحدهن منفردات عن الرجال في خمسة أشياء*: الولادة، الاستهلال، الرضاع، العيوب التي تحت الثوب كالرتق، والقرن، والبكارة، والثيبوبة، والبرص، وانقضاء العدة. بينما لم تقبل شهادة الرجل وحده في القضايا المالية، وفي ذلك رد بليغ على من يتهم الإسلام بتمييز الرجل على المرأة في الشهادة.
وتقدم شهادة المرأة أحيانا على شهادة الرجل بعد سماع الشهادتين “يثبت خيار الفسخ لكل واحد من الزوجين لعيب يجده في صاحبه، وإن اختلفا في عيوب النساء أريت النساء الثقات ويقبل فيه قول امرأة واحدة، فإن شهدت بما قال الزوج وإلا فالقول قول المرأة”.[86] وقد قبلت رواية المرأة الواحدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالحديث النبوي الذي روته له نفس حجية الحديث الذي يرويه رجل ولم يَرُد أحد قول امرأة لمجرد أنها امرأة، ونَقْلُ الدين وما فيه من تشريع أخطر من الشهادة في حكم قضائي بل ما ينقله علماء الحديث والمصطلح ونقد الرجال يشير إلى تفوق المرأة على الرجال في صدق الرواية”[87]. فإذا كانت شهادة المرأة في الرواية تقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف لها ألا تقبل على واحد من الناس، هذا هو منطق الشريعة الإسلامية في العدل بين النساء والرجال، فالمرأة العدل بعبارة ابن القيم “كالرجل في الصدق والأمانة والديانة”.[88]
إننا كلما عرجنا على قضية من قضايا المرأة في الإسلام تظهر لنا مدى أهمية التفاسير القديمة في حرصها على العناية بالتفاصيل التي لم تترك للشبهات مجالا للعبث بأحكام الشريعة وعدالتها والتي لم تلق اللوم على المرأة كما فعلت بعض التفاسير المتطرفة الحديثة والأحاديث الموضوعة المنسوبة زورا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم التي جعلتها قرينة للشهوات وحبائل الشيطان وأنها هي المسؤولة عن غواية آدم وإخراجه من الجنة إلى الشقاء في الحياة الدنيا، نجد هذه العناية متمثلة في إظهار التفسير الصحيح لقوله تعالى:﴿فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾،[89] يفسره الطبري بأن “إبليس أزلهما عن طاعة الله بعد أن لُعِنَ وأظهر التكبر، لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد أن نفخ فيه الروح، وحينئذ كان امتناع إبليس من السجود له، وعند الامتناع من ذلك حلت عليه اللعنة”[90]، وأن تهمة الغواية لأمنا حواء باطلة ولا أساس لها من الصحة، “فعن ابن مسعود، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن عدو الله إبليس أقسم بعزة الله ليغوين آدم وذريته وزوجته إلا عباد الله المخلصين منهم بعد أن لعنه الله، وبعد أن أخرج من الجنة…”[91]
ويقول ابن عاشور في تفسير هذه الآية: “أن الضمير في قوله “عنها” يجوز أن يعود إلى الشجرة لأنها أقرب وليتبين سبب الزلة وسبب الخروج من الجنة، إذ لو لم يجعل الضمير عائدا إلى الشجرة لخلت القصة من ذكر سبب الخروج. و”عن” في أصل معناها أي أزلهما إزلالا ناشئا عن الشجرة أي عن الأكل منها… والإزلال مجازا في الإخراج بكره والمراد منه الهبوط من الجنة مكرهين”[92]، تُعلمنا هذه الآية أن المرأة بعيدة تماما عما نسب إليها من تهم من كونها مصدر غواية وفساد وهي سبب شقاء البشرية وحرمانها من نعيم الجنة، وفي هذا دعوة ملحة إلى الأخذ بالتفاسير الصحيحة* التي يعتد بها وبمصادرها والابتعاد عن التفاسير المتشددة والمتطرفة التي تنأى بالمعاني القرآنية إلى اتجاهات مغلوطة عن المرأة وقضاياها في القرآن الكريم، فالآية صريحة في توجيه خطاب ديني واضح المعالم يستهدف “إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى وموعظة تنبه بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم”،[93] فالعدو الحقيقي لبني آدم ليست المرأة بل الشيطان وجنده، إذ كانت وسوسته لآدم سببا في جر هذه المصيبة له وإخراجه من الجنة ونعيمها فوجب بذلك معاداة الشيطان والثأر منه بالابتعاد عن إغراءاته وفتنه والتوبة الخالصة لله وفي ذلك يقول تعالى ﴿يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة﴾[94]. لذلك فإننا نجد أن المرأة قد نالت أعظم تكريم وأول حق من بين جميع الحقوق التي كسبتها من القرآن الكريم بعد أن رفع الله تعالى عنها منذ البداية لعنة الخطيئة الأبدية ووصمة الجسد المرذول؛ فكل من الزوجين قد وسوس له الشيطان واستحق الغفران بالتوبة والندم، يقول عز وجل: ﴿فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كان فيه﴾[95]، ﴿فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري من سوآتهما﴾[96]، وكلاهما ظلم نفسه بذنبه ﴿قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾.[97] لذلك فإن من كرم هذا الدين توجيه نظرة العبد إلى مكامن الخلل وبواعث الخير والشر في الأمور واجتناب إلحاقها بالمرأة ظلما وعدوانا.
لم تسلم العلاقة بين الرجل والمرأة في القرآن الكريم من مخالب الفتنة والشحناء والتباغض من أجل تشويه جمالية تلك العلاقة القائمة بينهما بحجة المطالبة بالحقوق المهضومة للمرأة وإقناعها بأن القرآن الكريم لم ينصفها وأعلى من شأن الرجل عليها في الحقوق والواجبات، وابتعدوا عن الفهم الصحيح للآيات القرآنية التي قد يفهم من شكلها تفضيل الذكر عن الأنثى؛ ولعل قضايا المساواة المطروحة في المجتمع اليوم ما هي إلا نتيجة لفكر المغرضين أعداء هذا الدين الذين يستهدفون تحطيم الأسرة وتهديم العلاقة بين الجنسين وإشعال فتيل الصراع والتطاحن بينهما لإثبات هزيمة أحد الطرفين على حساب الآخر، نقرأ مثلا في سورة آل عمران ما قد يجسد مثالا من الأمثلة الكثيرة المعبّرة عن القصور الفكري الذي قد يحصل في تفسير كلام الله تعالى والذي قد يستغله مُعادٍ لهذا الدين لإفهام المرأة المسلمة تفضيل الرجل عليها، يقول عز وجل: ﴿فلما وضعتها أنثى قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى﴾؛[98] فالقارئ البسيط الذي سيقرأ هذه الآية بدون تفكر أو تدبر سيفهم تمييز الذكر عن الأنثى في الآية لقولها ﴿ليس الذكر كالأنثى﴾ وهذا لا يجوز لأن تحريف معاني القرآن يخرج بها إلى التضليل والتحريف، يقول تعالى: ﴿يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين﴾.[99] وبرجوعنا إلى التفاسير القرآنية المعتمدة نجد أن المقصود الصحيح من الآية، اعتذار امرأة عمران التي نذرت ما في بطنها محررا من قيد خدمتها إلى خدمة المسجد الأقصى، وحين وضعتها أنثى قالت لربها (ليس الذكر كالأنثى)، لأنه ليس من عادة الأنثى أن تخدم المسجد فاعتذرت من الله عز وجل على هذا النذر، وإن كان الله عز وجل أعلم بما وضعت فزكاها بقوله تعالى: (والله أعلم بما وضعت). يقول الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة وتأويله لها أن امرأة عمران قالت: “اعتذارا إلى ربها مما كانت نذرت في حملها فحرّرته لخدمة ربها (وليس الذكر كالأنثى)؛ لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدس والقيام بخدمة الكنيسة لما يعتريها من الحيض والنفاس”[100] وليس لنقص فيها كأنثى. وقيل كذلك بأن المرأة كانت “لا يُسْتَطَاعُ أن يُصنَع بها ذلك يعني أن تُحَرَّرَ للكنيسة فَتُجْعَلَ فيها تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها مما يصيبها من الحيض والأذى، فعند ذلك قالت: (وليس الذكر كالأنثى)”[101]. وذهب ابن كثير في تفسيره لذلك في نفس المعنى أي ليس الذكر كالأنثى “في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى”[102]. أما في تفسير الجلالين فمعناه: “ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لأنه يقصد للخدمة وهي لا تصلح لها لضعفها وعورتها وما يعتريها من الحيض ونحوه”.[103] وقد كانت أم مريم عند حملها نذرت ما في بطنها لأجل خدمة بيت المقدس وكان من المعروف آنذاك أن النذر لخدمة بيت المقدس كان للذكور ولكن مريم جاءت بنتا، الأمر الذي أصاب أمها بالحزن لنذرها الذي لا تستطيع أن تفي به فأكرمها ربها وتقبلها بقبول حسن بعد أن توجهت إليه سبحانه بالدعاء والاعتذار على ما وجدت لكون المولود ليس ذكرا ينهض بالمهمة، وهذا اللفظ الدال على المفاضلة في الآية الكريمة لا ينبغي أن يكون مُستَنَداً لتفضيل الرجل على المرأة بل العكس هو الأظهر للمتدبرين في معانيها، إن هذه الأنثى التي وضعتها امرأة عمران وأسمتها مريم كان لها شأن عظيم حتى الذكر لم يصل إلى مرتبتها السامية، تولاها ربها بالعناية الإلهية وأنبتها نباتا حسنا وبقيت أعظم أثرا وأخلد ذكرا من كثير من الأبناء الذكور واصطفاها الله على نساء العالمين، هذا بالإضافة إلى أننا عند كل مفاضلة يجب أن نستحضر الوظيفة المطلوبة ونحددها؛ فالمرأة مفضلة مثلا إذا كان المطلوب رعاية الطفل، والرجل مفضل إذا كان المطلوب نقل الأحمال الثقيلة ولا علاقة لذلك بتفضيل طرف على آخر؛ لكون ذلك من تدبير العزيز الحكيم الذي خص كل طرف من الأطراف بوظائف معينة تناسب تكوين كل منهما في إطار من التكامل والتعاون الإنساني بينهما، هذا الأمر هو الذي لم يفهمه المسوقون للفكر الذكوري المتعصب الذي لم يستوعب بعد أن الاختلاف بين المرأة والرجل ليس معيارا للتمييز بينهما، فالعاقل الذي يتدبر الآية الكريمة سيكتشف ذلك الدور النسائي الذي حظي بالتكريم الإلهي من خلال قصة امرأة عمران، المرأة المؤمنة التقية التي كسرت قواعد النمطية المتعارف عليها من كون الذكر ليس كالأنثى، فاستجاب لها ربها وحقق رغبتها وكيف عرض قصة ميلاد ابنتها مريم وعظم شأنها واصطفاها لمعجزة إلهية تمثلت بحملها بعيسى عليه السلام، فكانت مريم عليها السلام أفضل وأقدر من ألف رجل، فالمرأة على الأقل لم تطالب يوما بأن تصير أفضل من الرجل أو أعلى منه فهي تؤمن بأن وجودها لا يكتمل ولا يستقيم إلا لكونها أنثى في إنسان وإنسان في أنثى، فأنوثة الإنسان تقطع العلاقة مع التصور الذي يختزل المرأة في أنوثتها ويستعبدها بها، أما الأنثى الإنسان تتحرر فيها المرأة من مراتب الدونية والضعف وتخرجها من الوظيفة التي تختزلها في كونها ديكورا يزين عالم الرجل وتحرر الأنوثة من قيود الجنس والاستعباد وتجعل منها مصدر قوة وبناء جنبا إلى جنب مع شقيقها الرجل لا كمنافسة له أو كمحارِبة إياه، بل لتكمّل ما ينقصه وتستكمل به ما ينقصها.
[1] سورة آل عمران، الآية 195.
[2] سورة التوبة، الآية 71.
[3] سورة المجادلة، الآية 1.
* الظهار: مشتق من الظهر، وهو قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي. والظهار كان طلاقا في الجاهلية فأبطل الإسلام هذا الحكم وجعل الظهار محرما للمرأة حتى يكفر زوجها. أنظر: فقه السنة لسيد سابق: نظام الأسرة الحدود والجنايات/ م2، ط4، دار الفكر بيروت – لبنان، 1983، ص: 264.
[4] فقه السنة: سيد سابق: نظام الأسرة الحدود والجنايات/ م2، ط4، دار الفكر بيروت – لبنان، 1983، ص: 265.
[5] سورة النساء، الآية 1.
[6] تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ج/1، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع- مصر، ص 548.
[7] تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج/6، ص 339.
[8] تفسير القرآن العظيم: لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، ج/1، دار القلم للطباعة والنشر- بيروت، ص 385.
[9] صحيح الأنباء المسند من أحاديث الأنبياء، أبو أسامة سليم بن عبد الهلالي السلفي الأثري، م/1، ط/1، دار ابن حزم- لبنان، ص 117-118.
* قال الجاحظ: ذكر ذلك تأكيدا لمعنى الكسر؛ لأن الإقامة أمرها أظهر في الجهة العليا أو إشارة إلى أنها خلقت من أعوج أجزاء الضلع، مبالغة في إثبات هذه الصفة لهن ويحتمل أن يكون ضرب ذلك مثلا لأعلى المرأة لأن أعلاها رأسها وفيه لسانها وهو ما يحصل منه الأذى. (ينظر): صحيح الأنباء المسند من أحاديث الأنبياء، أبي أسامة سليم بن عبد الهلالي السلفي الأثري، ص 117. (مرجع سابق).
[10] سورة الليل: الآية 4.
[11] سورة البقرة، الآية 282.
تفسير الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن: ج/5، ص 86-87.[12]
[13] تفسير الطبري: ج/5، ص 88- 89
[14] تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ج/1، ص 289
[15] تفسير الجلالين: ج/1، دار صبح- بيروت، ص 36.
[16] ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، م/1،دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع- السعودية، ص 396.
[17] أمير عبد العزيز: افتراءات الإسلام والمسلمين، دار السلام للطباعة والنشر- مصر، ط1، 2002، ص 62.
[18] سورة المائدة: الآية 45.
[19] الجامع لأحكام القرآن: أحمد بن أبي بكر القرطبي، ج/4، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، ص 442.
[20] علي جمعة: المساواة الإنسانية في الإسلام بين النظرية والتطبيق، دار المعارف- القاهرة، ط1، 2014، ص 55.
[21] أمير عبد العزيز: افتراءات الإسلام والمسلمين، دار السلام للطباعة والنشر، مصر، ط1، 2002، ص 59.
[22] سورة النور: الآية 6-7- 8.
[23] سورة النساء: الآية 15.
[24] سورة النور: الآية 4.
[26] تفسير الطبري: ج/17، ص139.
[27] أحمد بن أبي بكر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ج/15، ص 103-104.
[28] سورة النساء: الآية 35.
[29] سورة التوبة: الآية 71.
[30] سورة النحل: الآية 97.
[31] سورة الأحزاب: الآية 35.
[32] سورة المائدة: الآية 38.
[33] سورة غافر: الآية 40.
[34] سورة النساء: الآية 7.
[35] سورة الممتحنة: الآية 12.
[36] سورة الحشر، الآية 20.
[37] سورة المائدة، الآية 100.
[38] سورة الزمر، الآية 9.
* محمد عمارة: الغرب والإسلام: أين الخطأ وأين الصواب، مكتبة الشروق الدولية- القاهرة، ط1، 2004، ص 181.
[39] سورة البقرة، الآية 228.
[40] سورة البقرة: الآية 228.
[41] تفسير الطبري: ج/4، ص 119.
[42] تفسير الطبري: ج/4، ص 120.
[43] تفسير الطبري: ج/4، ص 123-124.
[44] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، ج/1، ص 236.
[45] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، ج/1، ص 235.
[46] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، ج/1، ص 236.
[47] تفسير القرآن العظيم: ابن كثير، ج/1، ص 236.
[48] الجامع لأحكام القرآن: أحمد بن أبي بكر القرطبي، ج/4، ص 54.
[49] الجامع لأحكام القرآن: أحمد بن أبي بكر القرطبي، ج/4، ص 53.
[50] سورة النساء: الآية 34.
[51] معجم ألفاظ القرآن الكريم: محمع اللغة العربية – مصر، ج/2، 1990 ، ص 934.
[52] سورة النساء: الآية 135.
[53] سورة المائدة : الآية 8.
[54] تفسير الطبري: الجزء/6، ص 687.
[55] سورة النساء: الآية 34.
[56] سورة الروم: الآية 21.
[57] سورة النساء: الآية 101.
[58] سورة إبراهيم: الآية 24.
[59] سورة الشعراء: الآية 63.
[60] سورة الزخرف: الآية 5.
[61] سورة الكهف: الآية 11.
[62] سورة الرعد: الآية 17.
[63] سورة البقرة الآية 273..
[64] سورة الحديد: الآية 13.
[65] سورة البقرة: الآية 61.
[66] سورة الأنفال: الآية 12.
[67] رواه مسلم: كتاب الفضائل، باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام، رقم (2328).
[68] تفسير الطربري: ج/6، ص 697.
[69] الجامع لأحكام القرآن: أبي بكر القرطبي، ج/6، ص 283.
[70] الجامع لأحكام القرآن: أبي بكر القرطبي، ج/6، ص 283.
[71] الجامع لأحكام القرآن: أبي بكر القرطبي، ج/6، ص 284.
[72] تفسير الطبري: ج/6، ص 699-800.
[73] تفسير ابن كثير: ج/1، ص 423.
[74] سورة الأحزاب: الآية 58.
[75] الجامع لأحكام القرآن: أبي بكر القرطبي، ج/6، ص 285.
[76] تفسير الطبري: ج/6، ص 712.
[77] رواه أبو داود: كتاب النكاح، باب في ضرب النساء، رقم (2146)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب ضرب النساء، رقم (1985).
[78] شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، محمد بن صالح العثيمين، م/3، مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، السعودية، ص 136.
[79] شرح رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين، محمد بن صالح العثيمين، م/3، ص 136.
[80] تفسير الطبري: ج/6، ص 287.
[81] تفسير ابن كثير: ج/1، ص 423.
[82] تفسير ابن كثير: ج1، ص 423.
[83] تفسير الطبري: ج/6، ص 713.
[84] تفسير الطبري، ج/6، ص415.
* محمد عمارة: الغرب والإسلام: أين الخطأ وأين الصواب، مكتبة الشروق الدولية- القاهرة، ط1، 2004، ص 256.
[85] المرأة في الحضارة الإسلامية بين نصوص الشرع وتراث الفقه والواقع المعيش، علي جمعة محمد، ص 22-23.
* (ينظر): المرأة في الحضارة الإسلامية بين نصوص الشرع وتراث الفقه والواقع المعيش، علي جمعة محمد، (مرجع سابق)،ص 23.
[86] المرأة في الحضارة الإسلامية بين نصوص الشرع وتراث الفقه والواقع المعيش، علي جمعة محمد، ص 24
[87] نفسه ، ص 24
[88] محمد عمارة: الغرب والإسلام أين الخطأ وأين الصواب، (مرجع سابق)، ص 192.
[89] سورة البقرة: الآية 36.
[90] تفسير الطبري، ص 547.
[91] تفسير الطبري، ص 547.
[92] محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج1، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984، ص 433
* مثل: تفسير ابن جرير الطبري “جامع البيان وتأويل القرآن”، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، وتفسير القرطبي “الجامع لأحكام القرآن”، وتفسير الإمام ابن الجوزي “زاد المسير في علم التفسير”، وتفسير السيوطي “الدر المنثور في التفسير بالمأثور”…
[93] محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ص 434.
[94] سورة الأعراف: الآية 27.
[95] سورة البقرة، الآية 36.
[96] سورة الأعراف: الآية 20.
[97] سورة الأعراف: الآية 23.
[98] سورة آل عمران: الآية 36.
[99] سورة النساء: الآية 46.
[100] تفسير الطبري: ج/5، ص 336- 337
[101] تفسير الطبري: ج/5، ص 337.
[102] تفسير ابن كثير: ج/1، ص 309.
[103] تفسير الجلالين، ج/1، ص 41.