الدراسات البحثيةالمتخصصة

دستور عام 1923 بعد مائة عام وموقف جماعة الاخوان منه

اعداد : د. عبدالعظيم محمود حنفي – أستاذ العلوم الاقتصادية  السياسية – مدير مركز الكنانة – زميل كلية الدفاع الوطني/ اكاديمية ناصر العسكرية العليا

  • المركز الديمقراطي العربي

 

المستخلص :

شهدت مصر في اعقاب الحرب العالمية الاولى ثورة عارمة هي ثورة 1919 التى اتسمت بشمولها, مما عد  بمثابة بعث جديد للشعب المصري , وهناك انجازات عديدة لهذه الثورة مثل الغاء الحماية الانجليزية على مصر واعلان تصريح 28  فبراير 1922 اقرار الحياة النيابية  لكن من اهم انجازاتها كان دستور عام 1923 .باعتبار ان الدستور في أي مجتمع  هو أهم وثيقة سياسية تحدد أنماط العلاقات بين الحكام والمحكومين، فهو يشكل عقد اجتماعي يبلور حركة المجتمع للتعبير عن ذاته وتحاول تلك الورقة البحثية مناقشة الأساس الفكري لدستور عام 1923 التى تتلخص في مبدأين  سيادة الامة مع بعض التحفظات المتعلقة بصلاحيات للملك  والمذهب الليبرالي الذي ارتبط سياسيا بمنظومات الحريات والحقوق الفردية المتعارف عليها الذي جسدته الثورة الفرنسية واعلان حقوق الانسان لعام 1789 . ورغم ان الدستور المصري عام 1923 جاء تتويجا لحركة دستورية تعود الى ستينيات القرن التاسع عشر ولكفاح وطني ضد سلطات الاحتلال الانجليزي تمثل في ثورة 1919. الا ان التطبيق تعثر نتيجة التناقض بين مؤسسات العهد البرلماني و القيم الثقافية السائدة بالإضافة الى مؤامرات الملك لإسقاط دستور عام 1923 عبر رعاية احزاب وحركات معادى لليبرالية بالإضافة الى تآمر الانجليز على الحركة الشعبية لإسقاط دستور عام 1923 , وتولي الورقة أهمية لإلقاء الضوء على الدور السلبي لجماعة الاخوان المسلمين وعاداته لذلك الدستور في اطار توجهم العام المعادي للديمقراطية والحركة الوطنية المصرية . ودور جماعة الاخوان المسلمين في التحالف لضرب مبدأ سيادة الأمة

فرضية الدراسة

هناك علاقة سلبية بين القيم والمفاهيم المرتبطة بدستور23 , والاطار الفكرى المقبول- آنذاك- مما أدى الى تعثر التجربة الليبرالية وسقوط النظام السياسي المعبر عنه  .

مقدمة

كانت ثورة 1919 نتاجا لجهاد مصري طويل متصل، كان يفتر احيانا وينشط اخرى , ولكنه لم يهن يوما, ولم يتطرق اليه اليأس أبدا. فقد جاهدت مصر للخلاص من السيادة العثمانية منذ اجيال بل منذ قرون, وكانت الثورة العرابية في سنة 1881 آخر مظاهر هذا الجهاد . فلما انتهز الانجليز فرصة هذه الثورة واحتلوا مصر سنة 1882 تحول تيار الجهاد الى التخلص من الاحتلال الانجليزي. وأصبح هذا التيار مندفعا منذ اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين, ثم ازداد اندفاعا فاصبح جارفا بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى اوزارها في سنة 1918 [1]. وكانت ثورة 1919 تتويجا لهذا الجهاد؛ حيث شهدت مصر في أعقاب الحرب العالمية الأولى ثورة عارمة تعتبر من أعنف ثورات المستعمرات في هذه الفترة , وفاجأت بقيامها الجميع وقادة الحركة الوطنية الذين لم يتوقعوا مثل هذه الدرجة من القدرة الثورية لدى جموع الشعب المصري بما في ذلك كل من سعد زغلول ومحمد فريد.. ألا وهي ثورة 1919 [2] التى اتسمت بشمولها واشتراك كافة طبقات الشعب بما في ذلك فلاحو الريف وعمال المدن , وحتى الجيش المصري أظهر تعاطفه مع أحداث الثورة .[3] ومن ثم تعتبر بداية مرحلة الثورة القومية المصرية .[4] كما اتسمت باستمرارها ولجوئها الى عديد من أساليب الكفاح السياسي  والعسكري, العلني والسري .[5]

وهناك انجازات عديدة لثورة 1919  مثل الغاء الحماية الانجليزية على مصر واعلان تصريح 28  فبراير 1922 و اقرار الحياة النيابية  لكن من اهم انجازاتها كان دستور عام 1923 .باعتبار ان الدستور في أي مجتمع  هو أهم وثيقة سياسية تحدد أنماط العلاقات بين الحكام والمحكومين، فهو يشكل عقد اجتماعي يبلور حركة المجتمع للتعبير عن ذاته

هدف الورقة البحثية

تحاول مناقشة الأساس الفكري لدستور عام 1923 التى تتلخص في مبدأين سيادة الامة مع بعض التحفظات المتعلقة بصلاحيات للملك  والمذهب الليبرالي الذي ارتبط سياسيا بمنظومات الحريات والحقوق الفردية المتعارف عليها الذي جسدته الثورة الفرنسية واعلان حقوق الانسان لعام 1789 وموقف جماعة الاخوان منه

فرضية الدراسة

هناك علاقة سلبية بين القيم والمفاهيم المرتبطة بدستور 1923, والاطار الفكري المقبول- آنذاك-  المعبر عن الثقافة السياسية السائدة , مما ادى الى تعثر التجربة الليبرالية وسقوط النظام السياسي المعبر عنه  .وكان موقف الاخوان المسلمين المعادى له تعبيرا عن الازمة الفكرية لجماعة الاخوان ومعاداتهم للتطور الديمقراطي .

المفاهيم الأساسية للورقة البحثية

اولا الدستور

يعتبر الدستور في أي مجتمع أهم وثيقة سياسية تحدد أنماط العلاقات بين الحكام والمحكومين، فهو يشكل عقد اجتماعي يبلور حركة المجتمع للتعبير عن ذاته، في إطار إدراك واع للحقوق والواجبات كتعبير مدرك لحقوق المواطنة المدنية المتساوية. من هنا أصبحت كل الدول المعاصرة تصك دستوراً ينظم سلطات الدولة، ويحدد اختصاصاتها، ويحدد حقوق وواجبات مواطنيها. وتكمن أهمية التشريعات والقوانين في دلالاتها العامة المتجسدة في دورها التنظيمي لأنماط العلاقات والتفاعلات بين الأفراد والجماعات في مختلف المجالات(تحديد آليات تحقق المصالح الخاصة والعامة). والأصل في الدستور والقانون – بشكل عام – هو عملية التنظيم (وليس وضع القيود) وتبسيط الإجراءات، حتى يتمكن الجميع من تحقيق مصالحهم. فالموانع والعقوبات التي يقرها الدستور أو القانون إنما تأتي في إطار حماية الحريات العامة وصيانتها وضمان عدم الاخلال بها. ولتحقيق ذلك يجب ان تسن الدساتير والقوانين في إطار فلسفاتها العامة (الرؤية السياسية والحضارية) وفي إطار الفلسفة المحددة لكل نسق مهني اومجال معيشي يراد وضع تقنين له. ففى مجال العمل السياسي الحزبي والجمعوي لايمكن ولايجوز ان تأتي التشريعات بمعزل عن الوعي والادراك (من المشرعين) بفلسفة النظام السياسي الليبرالى التى تحدد ومحدداته غاياته واهدافه على المستويين العام والخاص(محلياً وخارجياً). فالنشاط الفردي والجمعي وفق محددات عصرنا الراهن(اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً) هو الذى يجب ان يحدد مضمون مجمل التشريعات والقوانين بل وروحيهما. ولما كان الدستور(فى أي مجتمع) هو القانون الأعلى للدولة، فان نصوصه يجب ان يكون لها الأولوية في التطبيق في حالة وجود قوانين اخرى تتعارض بعض نصوصها مع الدستور.

وتثار عدد من الاسئلة هنا مثل، هل يجب ان تقوم بكتابة الدستور هيئة تشريعية عادية أم جمعية تأسيسية متخصصة؟ في الخبرة المصرية في دستور عام 1923  ركز رئيس الوزراء انذاك ثروت باشا عبر لجنة شكلها عددها 30 ولذا سميت لجنة الثلاثين التى اعدت مشروعه والتى اعلن سعد زغلول معارضته لها مطالبا بجمعية تأسيسية منتخبة تضع الدستور, وشن هجوما على لجنة الثلاثين وأسماها لجنة الأشقياء .[6]

وإذا كان القرار سيعود إلى الهيئة التشريعية، ممكن أن يقوم المشرعون الدستوريون بكتابة دستور يُبقيهم في مناصبهم، في حين ان الجمعية التأسيسية المتخصصة التي تمثل أكبر عدد ممكن من عناصر المجتمع، هي أفضل حتى وان كانت أكثر كلفة وإرهاقاً.القرار الأهم الآخر يتعلق بتغيير أو تعديل الدستور بعد تبنيّه، فذلك لن يكون سهل التحقيق. فالوثيقة الدستورية يجب ان تعكس أعمق القيم في المجتمع، وتشتمل على القواعد الأساسية للعملية الديمقراطية. كما على هذه القيم والقواعد أن تكون ثابتة. من جهة ثانية، هناك إمكانية ان لا تكون النصوص التي أنتجتها الضغوط والنزاعات والآمال الآنية خلال الفترة الأولية صالحة في الأمد الطويل، الأمر الذي يجعل التغييرات صعبة لاحقاً ويحول دون قيام الحكومات المقبلة بالتعاطي بصورة ملائمة مع أي مشاكل غير متوقعة.لهذا السبب، قد يكون من الحكمة إعادة النظر في المظاهر الهيكلية للدستور بعد فترة زمنية معيّنة. فبالإمكان، مثلاً، تكليف لجنة من الخبراء، كل عشر أو عشرين سنة، بتحديد ما إذا كانت هناك حاجة إلى إحداث تغييرات هيكلية. وقد يكون هذا مفيدا بنوع خاص بعد السنوات العشر الأولى التي تلي فترة التحوّل، على الأقل عندما تصبح بعض المشاكل التي خلقها الدستور الجديد ظاهرة للعيان [7]

ثانيا : النظام السياسي بين الرئاسي والبرلماني

ان ما يسمى القضايا البنيوية الأفقية والرأسية  تُشكّل القضايا الأكثر صعوبة لأنها تتعلق بتوزيع السلطات. في معظم الأحيان تُحَلّ القضايا تقريباً من خلال الجدل السياسي، وتكون الأهداف القصيرة الأمد، هي المسيطرة في أكثر الأحيان

و تدور القضية الأولى حين وضع الدستور  حول نوع النظام، هل يكون رئاسياً أم برلمانياً. على الرغم من أن لكل واحد من هذين النظامين أنواع حكم مختلفة، لكنهما ينضويان تحت مجموعتين رئيسيتين. فالنظام الرئاسي الذي تشكل نسخته الأميركية النمط المعروف، ينطوي عادةعلى انتخاب الرئيس التنفيذي من جانب الشعب، أما مباشرة، أو كما هي الحال في الولايات المتحدة، بصورة غير مباشرة، وذلك لعدد معيّن من السنين. ويجري انتخاب الهيئة التشريعية بصورة مستقلة لعدد من السنين أيضاً، كما ان الرئيس والهيئة التشريعية هما في العادة غير مُعرضّين للإقالة أو للحلّ، على يد بعضهما البعض. وينتج عن ذلك نظام مزدوج الشرعية وسلطات منفصلة بوضوح.يُؤمّن النظام الرئاسي الاستقرار، وبأمكانه، إذا كان بيد رئيس قوي، توفير قيادة نشطة. غير ان الاستقرار يمكن ان يتحوّل إلى جمود، إذ انه من غير السهل إقالة رئيس غير شعبي أو غير فعّال قبل انقضاء مدة ولايته. علاوة على ذلك، من الممكن حصول مأزق تشريعي أو توقف عن العمل، إذا كانت الهيئة التشريعية ذات أغلبية تابعة لحزب سياسي مختلف عن حزب الرئيس. وفي حال استمرار هذا الانقسام، قد لا تستطيع الحكومة ان تعمل بصورة فعالة لعدة سنوات. [8]

أما في النظام البرلماني،  فإن البرلمان هو المصدر الوحيد للشرعية الانتخابية. فليس هناك فصل للسلطات بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، ويكون القضاء مستقلا بالطبع، لكنه يقف خارج الدائرة التشريعية، لأن الفرع التنفيذي الذي يُسمّى عادة الحكومة والذي يرأسه رئيس الوزراء، يتم اختياره من جانب الحزب صاحب الأكثرية في البرلمان أو من قبل تحالف يعكس أغلبية المشترعين؛ ولرئيس الدولة، عادةً سلطة محدودة ويتم اختياره في أغلب الأحيان على يد البرلمان. يخضع رئيس الوزراء والوزراء للمساءلة أمام البرلمان وبإمكان هذا الأخير إقالتهم، كما يمكن الدعوة إلى الانتخابات في أي وقت شرط ان تكون هناك مرونة. وطالما لا يوجد هناك فصل رسمي للسلطات بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، تبقى إمكانيات حدوث مأزق ضئيلة ما دام بالأمكان إقالة الحكومة أو رئيس الوزراء الذي يفقد ثقة البرلمان، على يد هذا الأخير.غير انه من الممكن للنظام البرلماني ان ينتج تغييراً متكرراً للحكومات وكثيراً من عدم الاستقرار، كما بامكانه أيضاً إنتاج تغيّرات مفاجئة وعنيفة في السياسة عندما تفوز المعارضة بالأكثرية، الأمر الذي قد يخلق بدوره نوعاً مختلفاً من عدم الاستقرار و.ليس هناك جواب واضح بالنسبة لما هو أفضل من بين هذين النظامين. فالخيار يتوقف أحياناً كثيرة على التاريخ، وعلى ضرورات الساعة، وعلى عوامل أخرى. فقد تبنّت جميع دول الكتلة السوفيتية السابقة خارج الاتحاد السوفياتى، وكذلك دول بحر البلطيق، النظم البرلمانية، لأنها أرادت، إلى حد كبير، ان تصبح جزءاً من أوروبا الغربية ذات الأنظمة البرلمانية بكاملها تقريباً. أما مكونات الاتحاد السوفياتى السابق الأخرى، غير دول بحر البلطيق، فقد تبنت النظم الرئاسية.ويجب أيضاً تقرير ما إذا كانت الهيئة التشريعية ستتألف من مجلس واحد، أو من مجلسين (المجلس الأعلى والمجلس الأدنى). فإذا كانت الدولة فدرالية تتألف من عناصر تتمتع بالاستقلال الذاتي، مثل الولايات المتحدة أو ألمانيا، فمن المستحسن ان يكون هناك مجلس تشريعي ثانٍ (عادة، مجلس أعلى مثل مجلس الشيوخ الأميركي) يُمثل مصالح تلك العناصر. ويتمتع المجلس الثاني أحياناً بصلاحيات محدودة تنحصر في بعض القرارات مثل تلك المتعلقة بالضرائب والتعيينات القضائية وغيرها، أو بمسائل تؤثر مباشرة على تلك العناصر المكونة بالذات. وتُثير مسألة وجود مجلس ثان سؤالاً إضافياً: إلى أي حدّ ستكون الدولة دولة مركزية؟ وكم من السلطة والاستقلالية الذاتية يجب ان تعطى إلى مستويات الحكم الدنيا مثل المناطق أو الوحدات القومية؟ وأي قدر من السلطة المستقلة يجب منحه للمدن والبلدات والقرى؟ فمجال الامكانات واسع، بدءاً بالوحدات التي تتمتع باستقلال ذاتي واسع ووصولاً إلى السيطرة المركزية الكاملة. ثمة أسباب كافية لمنح الوحدات المناطقية والمحلية استقلالاً ذاتياً بالقدر الذي يمكنها فيه إدارته، ذلك ان الإدارة المركزية، في كثير من الأحيان، لا تألف الظروف والاحتياجات المحلية. كذلك فان المشاركة في الحكومات المحلية توفر للناس فرصة المشاركة مباشرة في صنع القرارات الأساسية التي تؤثر في حياتهم، كما بأمكانها ان تكون جزءاً هاماً من الحكم الذاتي الديمقراطي.

ثالثا : الثقافة السياسية

يقصد  بها مجموع المعتقدات , والقيم, والمشاعر , وأنماط السلوك  التى تخص الحكم والسياسة. وهي نتاج للتجربة التاريخية للمجتمع ككل من جهة وخبرات التنشئة التى تعرض لها الافراد من جهة اخري . وعلى صعيد الثقافة السياسية العامة , يمكن التمييز بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير في ضوء اختلاف توجهات صناع القرار السياسي عن تلك التوجهات السائدة لدى قطاعات المواطنين العاديين .[9]

رابعا : المذهب الليبرالي أو الفردي :

يطلق على هذا المذهب أحيانا مذهب الحريين أو المذهب الأنفرادى الحر , و هو الذى أرسلت أسسه فلسفة العقد الإجتماعى خلال القرن الثامن عشر , و جسدته الثورة الفرنسية فى مبادئها   و إعلان حقوق الإنسان لعام 1789 .

و أنطلق الدستور من مقومات المذهب الذى ساد العالم خلال هذه الفترة , و الذى يقوم على فكرة الحريات الفردية , و أن النظام السياسى لا ينبغى أن يتدخل للحد من هذه الحريات التى تكفل تفجير قوى الإبداع و الإبتكار لدى المواطنين . و فى هذا الإطار برز مفهوم الدولة الحارسة التى تحددت وظائفها في الدفاع , و البوليس , و القضاء , و بحيث تترك العلاقات الأقتصادية ميدانا للنشاط الفردى الحر دون تدخل من الدولة إلا بقصد تحقيق الأمن و النظام ,  وبالشكل الذى ينحصر فيه دور الدولة في وضع القواعد الكفيلة بعدم عدوان الأفراد و الجماعات على بعضهم البعض , و هذا هو ما عرف في الفقه الدستوري باسم نظرية الحقوق و الحريات العامة .

الاساس الفكري لدستور عام 1923

الأساس الفكري لدستور 1923

شهدت مصر في اعقاب الحرب العالمية الاولى ثورة عارمة هي ثورة 1919 التى اتسمت بشمولها, مما عد  بمثابة بعث جديد للشعب المصري , وهناك انجازات عديدة لهذه الثورة مثل الغاء الحماية الانجليزية على مصر واعلان تصريح 28  فبراير 1922 اقرار الحياة النيابية  لكن من اهم انجازاتها كان دستور عام 1923 .

ويمكن تحديد المنطلقات الفكرية الآساسية للدستور في مبدأين : أولهما , سيادة الأمة , و مع أن الدستور نص على هذا المبدأ إلا أنه أعطى الملك حقوقاً في السلطتين التشريعية و التنفيذية الأمر الذى حد منه في الأمر الواقع كما سوف نرى في التحليل , و ثانيهما المذهب الليبرالى أو الفردى الذى أرتبط سياسياً بمنظومة الحريات و الحقوق الفردية المتعارف عليها , و إقتصادياً بعلاقات الإنتاج الرأسمالية . و فيما يلى بيان بذلك .

الجزء الاول

مبدأ سيادة الأمة

اولا : مبدأ سيادة الأمة :  

ان  النظام النيابي بمعناه السياسي الحديث نشأ في أنجلترا نشوءاً تدريجياً و ذلك أن الملك أدورد  الأول نشر دعوة سنة 1295 جاء فيها ما ملخصه ” أننا ندعو الأمراء و كبار رجال الدولة للبحث في الأداء التى تنتاب البلاد و كيف يجب أن نعالجها . و لذلك ندعو أثنين من كل مقاطعة و مدينة و دائرة ( بورو ) ممن عرفوا بالحكمة و الأخلاص و الكفاءة و يجب أن تعطي لهم السلطة الكافية لإقرار ما يحسب صالحاً للبلاد بالإتفاق العام العام لكى لا يبقي العمل ناقصاً ” . هذه هى النضفة التى نشأ منها البرلمان الإنجليزى أقدم المجالس النيابية في التاريخ و أكثرها مرونة . و هو مع ذلك لا يقوم على دستور مكتتب كالدستور الأميركى أو الفرنسوى أو المصرى بل على تقاليد جرى عليها قروناً فصارت بمثابة القانون المكتوب .

و لا يخفي أن البرلمان الإنجليزى مؤلف من مجلسين أعلى و يسمى مجلس اللوردات وادنى وهو مجلس العموم أو النواب . و لا يعتبر المجلس الأعلى أى مجلس اللوردات غير نيابي  لأنه وراثى بل هو نيابى بمعنى أن أعضاءه يمثلون طبقتين من طبقات الشعب الإنجليزى هما رجال الدين و أصحاب الدين و أصحاب الأملاك الواسعة . و سبب تفوق مجلس النواب عليه أنه يمثل الطبقة الثالثة من الشعب الإنجليوى و هى أوفر عدداً و أكثر قوة و في يدها زمام الأمور السياسية و المالية . و يتلو البرلمان الإنجليزي في القدم البرلمان الأمريكى و يدعي الكنجرس وهو أقدم برلمان ألف حسب نظام مكتوب و ذلك سنة 1780 و هو مجلسان أيضاً مجلس الشيوخ وفيها نائبان من كل ولاية من الولايات المتحدة سواء كانت الولاية صغيرة أو كبيرة و مجلس النواب و عدد أعضاءه 435 . و مما يحسن ذكره في هذا الصدد أن الحكومة الإنجليزية حكومة ” برلمانية ” أى أن الوزارة فيها من مجلس نوابها وهى مسؤولة له عن أعمالها فإذا فقد المجلس ثقته فيها وجبت عليها الإستقالة .

أما الحكومة الأمريكية فليست حكومة ” برلمانية ” من هذا القبيل أى أن وزراءها ليسوا من مجلس نوابها و لا هم مسؤولون له عن أعمالهم بل للرئيس الامريكى  الذى يعينهم وهو المسؤول امام الكونجرس عن السياسة التى يتبعها و ذلك لكى يتم الفصل التام بين بين فروع الحكومة الثلاثة أى بين السلطة  التنفيذية و السلطة  التشريعية و السلطة القضائية  و هو في رأي بعض علماء السياسة كمنتسكيو أرقى مراتب الحكومة .

لكن الأمر الذى يبدو لأكثر الباحثين في أحوال السياسة و العمران أن النظام الإنجليزى أكثر من النظام الأمريكى مرونة و مماشاة لمقتضى الأحوال و قد جرت عليه معظم الدول الديمقراطية سواء كانت ملكية كإيطاليا و اليابان و مصر حتى عام 1953 أو جمهورية كفرنسا و سويسرا .  يقال أن النظام الملكى المقيد بمجلس بمجلس نيابى مؤلف من مجلسين كما في أنجليرا و إيطاليا و اليابان خير الأنظمة السياسية , و أثبتها على تقلبات العمران و أضمنها للمحافظة على الغاية من وجود الحكومة . فالملك في الحكومة الملكية المقيدة يمثل تاريخ البلاد و تقاليدها و عزها و كل ما يلفت من آمال الشعب و رغائبه حول شخصه المعنوى . كذلك تكفل الوزارة النيابية القيام بأعمال الحكومة كما في كل الجمهوريات .[10] وهناك من رأي في مصر اثر اقرار دستور عام 1923 , أن الدستور المصرى من خير الدساتير من هذا القبيل فقد جمع مزايا أكثر الأنظمة السياسية القديمة و الحديثة و مداره على ملك و برلمان و وزارة برلمانية . و البرلمان المصرى مؤلف من مجلسين أعلى وهو مجلس الشيوخ وأدنى  و هو مجلس النواب . و أعضاء مجلس الشيوخ كان عددهم 119 ينتخب منهم 71 عضواً و يعين الملك الباقين و يجب أن تكون سن العضو في مجلس الشيوخ 40 سنة على الأقل و ينتخب أو يعين ليقيم عشر سنوات مع تجديد نصف الاعضاء من المعينين  والمنتخبين كل خمس سنوات . ويجوز اعادة تعيين أو انتخاب من انتهت مدة عضويته ( م 79 ) وحسب قانون الانتخاب لعام 1923 يكون بالانتخاب المباشر بين الرجال فقط . والانتخاب حق وليس واجب. وكان للملك جق تعيين رئيس مجلس الشيوخ,ويقوم المجلس بانتخاب وكيليه لمدة سنتين, ويجوز إعادة انتخابهما(م 80 ). ولا شك ان اعطاء سلطة اختيار رئيس المجلس للملك اضعف من موقف المجلس ازاءه.

أما مجلس النواب فيكون بالانتخاب ( م 82 ) فكان عددهم 214 و ينتخبون جميعهم لخمس سنوات على درجتين .و يجب أن يكون سن الواحد منهم ثلاثين سنة على الأقل  .

ولابد هنا من الاشارة الى دور سعد زغلول  زعيم حزب الوفد وزعيم الثورة , ورؤيته لمبدأ سيادة الأمة , فبه اصبحت الركة الوطنية حركة مستقلة  تستمد قواها من ذات نفسها . وقد انصرفت  هذه الحركة أول الأمر الى منازلة المحتلين وبخاصة في المؤتمرات الدلية . ثم اعلن تصريح فبراير سنة 1922 وصدر دستور عام 1923 , فجمعت الى ذلك السعى الى الحكم كحق من حقوقها الاصلية والعناية بمصالح البلاد عناية  مصرية خالصة[11] تقوم على مبدأ سيادة الأمة .

فقد وصلت الحركة الوطنية بثورة عام 1919 الى الثمرة الطبيعية للحركة الوطنية والدستورية  في مصر . لقد جسدت ثورة 1919 اجماع شعب على استرداد حقوقه وسيادته. كان دستور عام 1923 مستوعبا  ما سبقه من  دستورين  صدرا في عهد اسماعيل وتوفيق , فجميع السلطات مصدرها الامة .

جاء دستور 1923 خلاصة و تتويجاً لحركة دستورية تعود إلى ستينيات القرن التاسع عشر,    و لكفاح وطنى ضد سلطة الإحتلال تمثل في ثورة 1919 . لذلك , أكد الدستور أن ”  جميع السلطات مصدرها الأمة و أستعمالها يكون على الوجه المبين بهذا الدستور  ”  ( م 23 )  ,       و يفسر بعض الباحثين هذا النص على أساس أن مكمن السلطة التشريعية قد أستقر بشكل قاطع في البرلمان , و أنه إذا كان الملك يشترك مع البرلمان في العملية التشريعية من خلال حق التصديق على القوانين ( م 25 , 26 ) , فإن سلطة الملك في هذا الإطار هى أقرب ما تكون إلى الأعتراض التوقيفى منها إلى حق الفيتو . و بالتالى يصل أنصار هذا الرأى إلى القول بأن السلطة التشريعية كانت في التحليل الأخير من حق البرلمان دون الملك .[12]

كما تبدو سيادة الأمة في الصفة البرلمانية لنظام الحكم , فقد أقام الدستور العلاقة بين البرلمان  و الوزارة على اساس  برلمانى فالوزارء مسئولون جماعياً أمام مجلس النواب , كما أن كل واحد منهم مسئول فردياً عن أعمال وزارته ( م 65 ) .

و لكن هذا التحليل لا يقدم فى واقع الأمر سوى جانباً واحداً  من الصورة فقط . فالقول بأن الأختصاص الأصيل كان للبرلمان و أن مشاركة الملك التشريعية كانت ذات طابع توقيفى       و حسب تقوم على تهوين من حجم السلطات و الأختصاصات التى أعطاها الدستور للملك نظرياً و التى مارسها هو واقعيا . و لعل الخطأ الذى وقع فيه هذا التحليل هو البدء من إفتراض أن الدستور إلتزم بالنموذج النيابى البرلمانى الذى يفترض أن الملك يملك و لا يحكم فى نفس الوقت .

من هذه السلطات , حقه في حل مجلس النواب بشكل مطلق ( م 38 ) , و في تأجيل إنعقاد المجلس ( م 39 ) . و حقه في إنشاء و منح الرتب العسكرية و المدنية و النياشين و ألقاب الشرف الأخرى , و حق العفو و تخفيض العقوبة ( م 43 ) , و هو الذى يولى و يعزل الضباط ( م 46 ) . و كذلك يعين كبار رجال الدين و رجال السلك الدبلوماسى , و أضف إلى ذلك , ما ذكرناه سلفاً من إعطاء الملك حق تعيين خمسى ( 5\2 ) أعضاء مجلس الشيوخ . و لضمان حماية حقوق الملك , نصت مادة 158 أنه ” لا يجوز إحداث أى تنقيح في الدستور خاصة بحقوق مسند الملكية مدة قيام وصاية العرش ” , و نصت 156 على عدم إمكانية تنقيح الدستور فيما يتعلق بنظام وصاية العرش .

و وهناك من يرى ” أن دستور 1923 جاء تعبيراً عن تيارين متناقضين في أهدافهما و مراميهما : أولهما , الإنجاز الشعبى لثورة 1919 و الحركة الوطنية التى هدفت إلى سلطات الأمة و صون حقوقها , و ثانيهما , محاولة القصر الإحتفاظ بأكبر قدر من السلطة و المشاركة الفعلية في صنع القرار السياسى” .[13]

ودعم من إتجاه القصر رغبة الأنجليز أن لا يكون في قيام حكم دستورى في مصر تهديداً لنفوذهم الذى لم يتأثر في جوهره بتصريح 28 فبراير و إعلان دستور 1923 , و إتجاه بعض السياسيين ممن شكلوا أحزاب الأقلية يعد ذلك و الذين عادوا الوفد و لم يعترفوا بالحركة الشعبية و قدرة الشعب على حكم نفسه بنفسه في إطار ديمقراطى .

و من ثم , فقد أتسم الدستور بتعبيره عن كل من هذين التيارين , و أفصح كل تيار عن ذاته تبعاً لتطورات الأحداث و مدى الثقل النسبى الذى تمتع به القصر أو الحركة الوطنية . يثبت ذلك أنه في فترات المد الشعبى أضطر القصر ألى إستعمال سلطته من خلال الوزارة التى أستطاعت أن تفرض أرادتها عليه مثلما حدث في وزارة سعد زغلول الأولى , على عكس الأمر عندما تكون أحزاب الأقلية على أستعداد لضرب الدستور , أو تكون الحركة الوطنية مفككة أو منقسمة على نفسها فيزداد دور القصر لذلك , جاءت أحكام الدستور تعكس صيغة للتوفيق بين التيارين : التيار الأستبدادى ممثلا في الملك و السراى , و التيار الديمقراطى ممثلا فى مجلس النواب و حكم الأمة , كما تعكس فى نفس الوقت صيغة للصراع المحتمل في المستقبل بينهما من خلال مواد الدستور و مؤسساته السياسية .

ثانيا : دور جماعة الاخوان المسلمين في التحالف لضرب مبدأ سيادة الأمة

ومما ساعد على ذلك انه حين سقطت الخلافة في تركيا فكر الملك فؤاد في ان يكون الخليفة المأمول وبذلك يستعيد سلطاته المطلقة , وكان هذا يرضى اهداف الانجليز , لأن وجود الخلافة في ارض يحتلونها  ومع ملك يرتبط بهم سيتيح الاستفادة  من النفوذ الكبير الذي للخلافة  في العالم الاسلامي –آنذاك – وخاضت الجماهير المصرية جهودا مع ثقفيها ونخبتها الوطنية لاجهاضها . ان فكرة الخلافة مجهضة لفكرة السيادة للدولة الوطنية . وهذه الدعوة تواجه العديد من الحقائق التي تثبت انها دعوة يوتوبية  خيالية وغير عملية , نقدها كثيرون ووجهوا لها سهام النقد ومن ابرز ما هدم اسس تلك الدعوة العالم الجغرافي الجليل الراحل جمال حمدان :  الذي تساءل بداية  من الذي سيقوم بتوحيد الدولة الاسلامية الاحادية الكوزموبوليتانية التي يصفها بانها  دعوة عنصرية جامدة وتنتهي الى صراع اثني بين شعوب الامة أي صراعات بين القوميات المختلفة . و هذه الدعوة المزعومة لكي تنشأ وتستمر لابد ان تكون دموية اساسا , دولة الحروب الاهلية بانتظام- نقيض معنى الاسلام . ثم  يتساءل : ماذا عن دول الاقليات الاسلامية ؟ وماذا عن مسلمي اسيا والدول الاوروبية  مثلا؟. وهنا يضع حمدان يده على المأزق التي تخرج منه النظرية الشاذة من ان الدولة غير اقليمية او جغرافية, اي انها دولة بلا قاعدة ارضية محددة لها ولا حدود ! وهي بهذا المعنى دولة تجريدية معلقة في فراغ, ولا مناص مع هذا الوضع الا الحروب الخارجية الدائمة مع الجيران, وتؤدى الى تكتل مضاد لها. كما ان منطق الدولة الاسلامية العالمية لا يتفق بالنظرية والفرض مع مبدأ عالمية الإسلام, فالاسلام اصلا دعوة عالمية. واذا كان قد تحدد تاريخيا منطقة جغرافية معينة , فهو من حيث المبدأ يستهدف العالم كله. فاذا فرضنا جدلا هذا الفرض, فهل يحوز التفكير واقعيا في دولة العالم الاحادية . [14]

وبالرجوع الى السراي, فرأت الاقتراب من أي تنظيم جماهيرى ” جاهز ” تمكن له من القوة لقاء استخدامها اياه ,وكانت جماعة الاخوان قد ظهرت في الساحة , قويت الجماعة كثيرا في تلك الفترة , واوضح المرشد العام في افتتاحية العدد الأول من مجلة ” النذير ” ان الجماعة  انتشرت وبلغ عدد شعبها ثلاثمائة شعبة, وأنها ستنتقل من ” دعوة الكلام وحده الى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال “… ثم اختتم حديثه بقوله:” وان لنا في جلالة الملك المسلم أيده الله أملا “. وجاء في خطاب المرشد العام للمؤتمر الخامس أن ” الإخوان المسلمين” يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم , ويقول عن الخليفةإنه ” ظل الله على الأرض” ومن الواضح ان هذا ما يتمناه الملك .ويذكر طارق البشري ان الدكتور اسحق موسى الحسينى يقول ان تحرير وادى النيل كله من النفوذ الأجنبي كان مطلبا يلي في الأهمية لدى الاخوان مطلب اقامة الحكومة الاسلامية . ولقد كان لدعوة الاخوان المسلمين اثر سلبي على حركة امصريين الدستورية ومطلب سيادة الأمة  وعلى المقومات الاساسية للكيان المصري .[15]

ويقيم الاخوان المسلمين  تناقضا بين الاسلام كما تقدمه وبين الحركة المصرية ونتائجها , وفي هذا الصدد يخاصمون ثورة 1919 خصاما شديدا ؛ يقول المرشد الأول في حديث الثلاثاء ” [16] كانت سنة 1919 عقوبة الهية للمسلمين بما كسبت أيديهم وتركهم لكتاب الله سنة رسوله ( صلى الله عليه سلم ).

ويقول أ يضا : ” ان يوما تصدق فيه عزيمتنا  فنقول : الموت في سبيل الله أسمى امانينا , لهو اليوم السعيد, ولن نقول كما قالوا من قبل : الموت الزؤام أو الاستقلال التام – لأن هذه قيلت في الشارع فكان معقولا أن تنطفئ  في الشارع ايضا , لكن تلك صعدت في المسجد ولن تنطفئ الا في الجنة ان شاء الله تعالى ”

ونقرأ في “رسالة التعاليم”[17] : ”  ان مراتب العمل المطلوبة من الأخ الصادق… اصلاح الحكومة  حتى تكون اسلامية بحق , وبذلك تؤدى مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل على مصلحتها . الحكوة اسلامية ما كان اعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الاسلام  غير متجاهرين بعصيان… لا بأس بأن تستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة “[18]

ومعنى ذلك انه اثناء الحركة العامة , يرحب كل مكون بمساهمة الآخر  وتضحياته, حتى اذا نجحت الحركة واستخلص المصريون بلادهم , انفرد احد المكونات بالسلطة .وهنا نجد  مثالا بالغ الوضوح للسيادة المنقوصة .[19]

ويقول المرشد في رسالة الجهاد” : عن عبد الخبير بن ثابت بن قيس بن شماس عن ابيه عن جده قال: جاءت امرأة الى رسول الله ( عليه السلام ) يقال لها أم خلاد.. تسأل الرسول عن ابن لها قتل في سبيل الله تعالي … فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : ان ابنك له اجر شهيدين . قالت : ولم  قال: لان قتله أهل الكتاب” ويشرح المرشد الحديث فيقول : ” وفي هذا الحديث اشارة الى وجوب قتال اهل الكتاب, وأن الله يضاعف أجر من قاتلهم , فليس الجهاد للشرين فقط ولكنه لكل من لم يسلم “. واضح ان ثمة تالفا قام بين الملك  واحزاب الاقلية الموالية له مع الاخوان. وكان لهذا اثره على اقباط مصر .[20]

وكان قد طرح اثناء اعداد دستور 1923 اقتراح للعمل بالتمثيل النسبي للأقليات, في يوم الجمعة 19 مايو 1922  عقد اجتماع حافل بالكنيسة  البطرسية بالعباسية تقرر فيها رفض المبدأ, وتوالى التأييد لهذا القرار من جميع انحاء البلاد.

وكان من خطباء هذا الاجتماع سلامة بك ميخائيل , أحد اضاء الوفد المصي المرموقين, قال :  ان الحركة الوطنية التى اعجب  بها العالم كله لم تكن لعبا ولا لهوا . ان الدماء الزكية التى سفكت سواء م الاقباط اومن المسلمين لم تكن مزاحا ولا هزلا. فمقترحو تمثيل الاقليات يريدون ان يضيعوا عليكم ل هذه المجهودات. يقصدون ان يقولوا ان الاقلية مخدوعة. وان يقولول للاغلبية انا نراكم متعصبين فنخشاكم…”واثبتت الانتخابات الاربع المتوالية في العشرينات من عام 1924 – 1929 صدق هذا القول , اذ دخل مجلس النواب نسبة عالية من الاقباط نسبيا يتراوح بين 15 الى 23 عضوا عن طريق الانتخاب الحر المباشر. وتمثل هذه الاعداد نسبة عالية بالنظر الى عدد اعضاء المجلس وقتئذ .[21]وهكذا افشلت الحركة الوطنية المصرية التآمر بين الملك والاخوان على فكرة السيادة المصرية .و وقالت المحكمة الدستورية العليا  في حكم لها ” ان النصوص الدستورية تقيم في مجموعها ذلك البنيان الذي يعكس ما ارتأته الارادة الشعبية .. ولا يجوز بالتالي ان تفسر النصوص الدستورية بما يبتعد بها عن الغاية النهائية المقصودة منها “[22]

وهو ما يحفظ الامة و سيادتها .

الجزء الثاني

المذهب الليبرالي ودستور عام 1923

سبق ان ذكرنا ان الأساس الفكري لدستور عام 1923 يتلخص في مبدأين  سيادة الامة مع بعض التحفظات المتعلقة بصلاحيات للملك والذي تن تناوله في الجزء الاول ظو اما هذا الجزء فيتناول  المذهب الليبرالي الذي ارتبط سياسيا بمنظومات الحريات والحقوق الفردية المتعارف عليها الذي جسدته الثورة الفرنسية واعلان حقوق الانسان لعام 1789.

كما ان الامر يقتضى بيان تطور الفكر السياسي في مصر عبر  التيار الليبرالي ثم بيان الازمة الفكرية التى حدثت في مصر واسباب اندلاعها للتوصل الى اسباب  تعثر التجربة الليبرالية  في مصر وسقوط دستور عام 1923 و النظام السياسي المعبر عنه  .

ثالثا  المذهب الليبرالي وآبائه في مصر

يمثل  رفاعة رافع الطهطاوي( 1801-1873 )  تقطة تحول اساسية في تاريخ الفكر السياسى في مصر الحديثة, وهو ما نستشفه من كتابيه” تخليص الابريز في تلخيص باريز –أو الديوان النفيس بايوان باريس[23] و” مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب المصرية في مباهج الآداب العصرية [24] وفي كتابات الطهطاوي نجد أفكارا جديدة بالنسبة للعصر  -آنذاك-، ثم أصبحت مألوفة للأجيال التالية. من هذه الأفكار انه يوجد في داخل الأمة الإسلامية مجتمعات قومية يدين لها رعاياها بالولاء، ومنها أن الغرض من الحكم  هو خير الإنسان في الدنيا والآخرة، وان خيره في الدنيا يتطلب خلق حضارة مدنية، وان هذه الحضارة متبلورة في أوروبا الحديثة وفرنسا بصفة خاصة، وأن سر القوة والعظمة في أوروبا هو تنميتها لأنواع الفنون والعلوم .
ومع أن المسلمين كانوا قد عالجوا هذه العلوم والفنون إلا أنهم أهملوها تحت سيطرة المماليك والأتراك، وبذلك تأخروا، غير أن الفرصة رأوا انها كانت لا تزال سانحة أمامهم إذا اقتبسوا علوم أوروبا وانتفعوا بثمارها..[25]كما رأي عبدالرحمن الكواكبي بأن الدين يجب أن يعود كما كان حنيفية سمحة، تستمد نورها من كتاب الله وسنة رسوله، وبأن التقليد مع إغلاق باب الاجتهاد في الأمور التي تتطور عبر الزمان والمكان؛ قد أدى بالعقل إلى الجمود، وبالحياة إلى الاضطراب. وهو إلى جانب ذلك يرى أن الدين ليس في حاجة إلى ما استحدثه العلماء والأئمة من قواعد وأصول، وبما أقاموا من مذاهب دينية يصطرعون حولها، بل إنه يَعد ذلك خروجا عن سماحة الدين وبساطته، وحيويته المتطورة النامية … وقد اتسمت كتابات الكواكبي بالصراحة الشديدة في نقدها للتقاليد التي ابتدعها الأئمة السابقين والتي عفا عليها الزمن حيث كتب قائلا: “وهكذا فتح كل من أولئك الأئمة العظام لمن بعده ميدانا واسعا، فجاء أتباعهم ومدوا الأطناب، وأكثروا من الأبواب، وتفننوا في الأشكال وتنويع الأحكام، وأحدثوا علمي الأصول والكلام. وهذا التوسع كله ليس من ضروريات الدين، بل إن ضرره أكثر من نفعه، وما أشبه الأمور الدينية بالأمور المعاشية، فكلما زاد التأنق فيها بقصد استكمال أسباب الراحة، انسلبت الراحة”.بل إن الكواكبي يعلن أن من أسباب الفساد الديني؛ لجوء بعض علماء الدين وغلاة المتصوفين إلى التدليس ومخادعة العامة بادعائهم العلم اللدني، ووراثة السر ودعوتهم إلى الرهبنة والتبرك بالآثار وإيهامهم بالكرامات، والتصرف في القضاء والقدر، وغير ذلك من الأمور الشائعة بين عامة المسلمين. كما يرى أنه من العوامل الهامة التي تسبب الخمول والتواكل لدى المسلمين؛ إساءة فهمهم لمعنى الإيمان بالقضاء والقدر، مما أفضى بهم إلى الاستسلام والعجز، وجعلهم يتعزون بمثل قولهم: “إن المسلم مصاب، وإن أكثر أهل الجنة البله”. وقد كان الكواكبي يصبو في كتابة “طبائع الاستبداد” إلى التوفيق ما بين القيم الحديثة والممارسات الدينية الحالية من خلال العودة إلى المصدر، بينما حاول قاسم أمين في كتاباته، خاصة كتابه الفذ ” تحرير المرأة “، التوفيق بين قيم الليبرالية الغربية والفكر الإسلامي. ومن ثم، نجح كلا المفكريين في إرساء أسس النهج الليبرالي الذي عبر عنه لاحقا المفكر المصري الرائد أحمد لطفي السيد (1872-1963) في الفترة التالية لانسحاب الدولة العثمانية. لقد ذاع صيت لطفي السيد كإمام لليبراليين نظرا لما امتاز به من وضع دقيق لمسألة الحرية والحريات في إطار منظومة شاملة للمجتمع والدولة والاقتصاد، فهو القائل: “خلقت نفوسنا حرة، طبعها الله على الحرية، فحريتنا هي نحن، هي ذاتنا ومقوم ذاتنا، هي معنى أن الإنسان إنسان، وما حريتنا إلا وجودنا، وما وجودنا إلا الحرية”.  وهو المؤمن بحق الخلاف والاختلاف، إذ كان شعار جريدته ­” الجريدة “­ كلمة الفيلسوف الأندلسي “ابن حزم”، والذي كان من قرائه في مسائل الأخلاق والعقائد واختلاف الطوائف والعبادات. وكان” ابن حزم” يقول: ” من حقق النظر، وراضَ نفسه على السكون إلى الحقائق وإن آلمتها في أول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه؛ أشد وأكثر من اغتباطه بمدحهم إياه” .[26]

رابعا المذهب الليبرالي ودستور عام 1923

سار الدستور المصرى عام 1923 , على نهج الدساتير التى تضمنت بابا عن الحقوق و الحريات العامة , و هو الباب الثانى الذى تكون من 21 مادة  , و يدور حول مقومين رئيسيين هما المساواة  و الحرية , فنص الدستور على المساواة بين المصرية جميعاً أمام القانون , و في التمتع بالحقوق المدنية و السياسية , و في تولى الوظائف العامة , و فيما عليهم من الواجبات   و التكاليف العامة , لأنه لا تمييز بين المواطنين بسبب الأصل أو اللغة أو الدين ( و 3 ) ,  أما عن الحريات العامة , فقد قرر الدستور للمواطنين الحرية الشخصية ( م 4 , 5 ) , وحرمة المنازل ( م 8 ) , و حرمة الملكية ( م 9 ) , و حرية الأعتقاد ( م 11 , 13 ) , و حرية الرأى ( م 14 ) . حرية الصحافة ( م 15 ) و حرية التعليم ( م 17 ) , و حرية الإجتماع ( م 20 ) , و حق تكوين الجمعيات ( م 21 ) , و حق مخاطبة السلطات العامة ( م 22 ) .

“و لعل إلتزام الدستور بالمذهب الليبرالى يكشف لنا عن الأساس الإجتماعى للطبقة التى كانت وراء الدستور و التى أستفادت منه و حصدت ثمار تطبيقه “[27]

, فالمادة 9 نصت على ” الملكية حرمة فلا ينزع عن أحد ملكه إلا بسبب المنفعة العامة في الأحوال المبينة في القانون و بالكيفية المنصوص عليها فيه و بشرط تعويضه عنها تعويضاً عادلاً ” ,   و لا عبرة هنا بعبارة ” إلا بسبب المنفعة .. ألخ ” . إذ أن تفسيرها ظل مقصوراً على حالات محدودة للغاية مثل شق الترع و المصارف و ما إليها . [28]

و قد كان في ذلك ضماناً للفئات الغنية من كبار ملاك الأراضى التى إستطاعات بنفوذها الإقتصادى و الأجتماعى أن تسيطر على أغلب مقاعد البرلمان , كما وضح ذلك في قيمة التأمين الذى كان ينبغى على المرشح أن يدفعه ( 150 جنيها ) و هو مبلغ باهظ في ذلك الوقت . و يبدو هذا الأساس الإجتماعى للدستور أيضا فى م15 التى نصت على أن ” إنذار الصحف , أو وقفها , أو إلغائها بالطريق الإدارى محظور إلا إذا كان ضروريا لوقاية النظام الإجتماعى ”  . أو المادة 20 التى نصت على ” حق المصريين في الإجتماع  , ماعدا الإجتماعات العامة فهى خاضعة لأحكام القانون , كما أن ذلك لا يقيد أو يمنع أى تدبير يتخذ لوقاية النظام الإجتماعى ” . و إستخدمت حجة ” وقاية النظام الإجتماعى ” ضد كافة الدعوات الأصلاحية أو الأشتراكية , فالنقاش حول الملكية أو الدعوة إلى  تأميم المرافق العامة أو إنشاء النقابات العمالية كان يمكن أن تعتبر من المسائل التى يعاقب عليها المشرع بحجة وقاية النظام الإجتماعى . و جاء في المذكرة التفسيرية لهاتين المادتين ما يفيد أنهما كانت لمواجهة الدعوة الشيوعية , فنصت على أن ” بعضا من الحرية الدستورية لا يمكن تطبيقها على حملات تحمل على أساس الهيئة الإجتماعية كخطر الدعوة البلشيفية الموجودة الأن فإنه يضطر جميع الحكومات إلى إتخاذ تدبير قد تكون مناقضة للمبادئ المقررة بالدستور لأجل ضمان حرية أهل البلاد المسالمين و الموالين للقانون [29]. و في 9 سبتمبر عام 1923 عدل قانون العقوبات فنصت مادة 151 على أن ” يعاقب  بالسجن  لمدة لا تتجاوز خمس سنين كل من يحرض على كراهية نظام الحكومة المقررة في القطر المصرى , أو الإزدراء به , أو ينشر الأفكار الثورية المغايرة لمبادئ الدستور الأساسية , أو يحبذ تغيير النظم الأساسية للهيئة الإجتماعية بالقوة أو الأرهاب أو بوسائل أخرى غير مشروعة  ” .

خامسا  : الأزمة الفكرية والعراقيل السياسية

ويمكن القول باطمئنان ان عام 1919 كان عاما حاسما في التاريخ المصري , وفي بداية العام اصدر الوفد الوطني بزعامة “سعد زغلول” الذي وصفه اللنبي الذي خلف” وينجيت” في تقرير لوزير خارجيته  “اللورد كيرزون” , بأن سعد زغلول وطنى ملتزم بالاستقلال وبوجود حكومة برلمانية وان سعد أسس حركة مصرية صميمة ” وتظاهر بعدم اهتمامه بمستقبل تركيا . [30]

في بداية عام 1920  اعلن الوفد إعلانا ثوريا يطالب بالاستقلال التام عن الحماية البريطانية . ولم يقتصر هذا الاعلان عن تحدي الوفد للاحتلال البريطاني , بل شكك ايضا في سلطة وشرعية السلالة الحاكمة , والممثلة في السلطان احمد فؤاد. وقامت مظاهرات حاشدة في مارس وابريل 1919 لتضيف الشرعية على مطلب الوفد وتمثيله للارادة الوطنية [31]. وبعد نجاح الثورة ظهرت قضايا اساسية مثل قانون الانتخابات والدستور عملت على تقسيم المجتمع السياسي  المصري . ولم يكن كتابة  دستور عام 1923 سوى بداية العملية . وقد القى تعريف النظام السياسي وفقا لمبادئ الليبرالية الضوء على الانقسامات العميقة حول قضايا مثل الانتخابات الديمقراطية , ونوع الجنس , والطبقة الاجتماعية . فمثلا كانت محاولة حزب الاحرار الدستوريين عام 1925 تغيير نظام الانتخاب  , كان ذلك اشارة الى ان القضايا الدستورية  لم تحل بعد. وبالمثل فان الموقف المتناقض لحزب الوفد تجاه قضايا المساواة بين الجنسين كان ينم عن نوع المشاكل التى كان يواجهها  من قبل العقول السياسية  المتحررة ؛ فقد خلقت التوترات داخل صفوف حزب الوفد فرصة امام المحافظين الملكيين الذين استغلوها جيدا بعد اغتيال السير لي ستاك في نوفمبر عام 1924 . وادعت تقارير صحفية أن القتلة كانوا يرتدون زي الأفندية( البذلة والطربوش ) . وفي الثقافة المصرية يرمز الافندى لقادة حزب الوفد. وبالقاء اللوم على حزب الوفد اجبر اللورد اللنبي سعد زغلول على الاستقالة . واصبح السودان منفصلا حقيقة عن مصر [32] وظهر تورط القصر ومستشار الملك  السياسي حسن نشأت واعتبرت بمثابة دسيسة اقتصادية [33]. وتشير الوثائق البريطانية [34]الى ان شفيق منصور الذي ادين بارتكاب الجريمة كان يصرخ في زنزانته بأن نشأت هو العقل المدبر للجريمة .وكان نشأت قد اسس حزب الاتحاد بايعاز من الملك لضرب  شعبية حزب الوفد واتخاذه ذريعة  لاضعاف الدستور .مستغلا ازمة كتاب على عبدالرازق ( الاسلام واصول الحكم ) , وقاد  الحزب الحملة الهوجاء ضده حتى حصل على فتوى من الازهر بأن الشيخ مثله مثل الخوارج  الذين خرجوا عن الغالبية السنية بعد مقتل الخليفة  عثمان .[35] ولكن الشيخ استأنف الدعوى على اساس مبدأ ” ان حرية الاعتقادمطلقة ومكفولة في دستور عام 1923 [36] ولكن المجلس قال ان الحق الدستوري في حرية الرأي لا يمكن ان يحل محل الأحكام الدينية للأزهر . وفي سياق تلك التجاذبات , و اعلن الشيخ محمد بخيت في الصحافة  ان دستور 1923 يتعارض مع الشريعة [37]. وقاد  محمد ابو النصر امين عام حزب الاتحاد حملة واضحة , وفي خطاب القاه يوم 11 نوفمبر 1925 ا دان عبدالرازق ووصفه ب” المضلل والمتشكك في تفسير التقاليد القانونية الاسلامية والاحاديث النبوية . وقال ان الشريعة الاسلامية  لا يمكن بحكم تعريفها ان تكون غير  دستورية , واختتم ابو النصر قوله ” ينبغى ان نتمسك بالدين اولا قبل الدستور “[38]

وبينت ازمة  ذلك الكتاب ان النظام الملكى عبر حزب الاتحاد تولي مركز الصدارة في المنافسة السياسية والثقافية وحاول اعادة تعريف المجتمع السياسي المصري الحديث على اسس دينية . ونشر زكي فهمي احد الملكيين بحثه عن امير الاسلام ( صفوة العصر ) [39]يعارض الافكار الليبرالية للعلمانيين , وقال انه اعاد فكر ابن خلدون وقال ان حجته مصممة للرد على رسالة الدكتوراه لطه حسين  ونقد على عبدالرازق للخليفة . وبينما انتقد طه حسين وعبدالرازق  مطالب ابن خلدون بأن التضامن العرقي والديني مقولة مفيدة للتحليل السياسي. وقد جعل زكي فهمي  هذه المفاهيم اساسا اساسا لنظريته عن الملكية الاسلامية .

وقد تسبب حزب الاتحاد الموالي للحكم  في تقويض التحالف بين الملكيين والليبراليين في عام 1925 بسبب استغلال الحزب للدين وتوظيفه لمعاداة حزب الوفد مستغلا حالة الامية التى كانت مستفحلة . وكان التوجه الليبرالي نحو التطور الاجتماعي يعنى ان الليبراليين واجهوا صعوبة في استيعاب السياسيين “الدينيين ” في حزب الاتحاد , مثلما وجدوا نفس الصعوبة في السياسة الطبقية لحزب الوفد. ويذهب بعض الباحثين الى القول ” بأن الخلافات بين الاحزاب المصرية سيما بين حزب الاحرار الدستوريين وحزب الوفد وحزب الاتحاد الملكى اثبتت بأن  المصريين فشلوا  في تحقيق توافق في الآراء حتى بشأن ابسط المبادئ الاساسية للهوية الوطنية  في مصر مثل الحقوق المدنية والسياسية , وسيادة القانون المدني , وأن الجيل السياسي لثورة عام 1919 كان بعيدا عن التماسك , وكان منقسما ثقافيا وفكريا وكان هناك تنافر ايديولوجي “[40]

ولكن الثابت مؤامرات  الملك لاسقاط دستور عام 1923 رغم ما ذكره  الملك في خطاب العرش مع تكوين وزارة سعد زغلول اليوم تدخل في دور التنفيذ النظامات النيابية التى قررها الدستور . و لا ريب في أنها تبشر بإقبال عصر جديد من القوة و السعادة على بلادنا المحبوبة . لقد وضعت البلاد فيكم ثقة عظمى . و ألقت بها عليكم مسؤلية كبرى  . فأمامكم مهمة من أدق المهمات و أخطرها . إذ يتعلق بها مستقبل البلاد . وهى مهمة تحقيق إستقلالها التام بمعناه الصحيح . ولا شك أنكم ستعالجونها بروح من الحزم و الحكمة و الرؤية . و أنكم ستجدون من أهم مسهلاتها الإتحاد المقدس الذى لا إنفصام له بين العرش و الأمة . و الذى توثقت اليوم عراه بالقسم العظيم الذى أقسمناه . و ستؤدونه أنتم عما قليل” .[41] “من أهم وظائفكم أيضاً أن تساعدوا الحكومة و تشتركوا معها في إدارة البلاد على الطريقة التى  رسمها الدستور . و هى الطريقة المؤسسة على التعاون بين سلطات الدولة و على مبدأ المسؤولية الوزارية . و لقد وضعت هذه الطريقة على الحكومة و على البرلمان واجبات : فعليها تنفيذ مبادئ الدستور و تطبيق أحكامه بروح تامة من الحرية و الديمقراطية . ” .[42]

ويستنتج بعض المفكرين من ذلك  أنه كان هناك أزمة فكرية نشأت في مصر

نتيجة  نمط المعتقدات السياسية و نسق الثقافة السياسية السائدة في هذه المجتمعات ، ففي حالة المجتمع المصري ، فإن نظاماً سياسياً إنتقل من إطار إجتماعي و ثقافي مغاير ليطبق فيه ونتج عن هذا النقل أن النظام لم يتمكن من الإستجابة الملائمة لضغوط المجتمع و إحتياجاته ، وان هذه المفاهيم لا يبدو أنها أتفقت مع عدد من القيم السائدة في المجتمع و التى أثارت – ومازالت تثير – تساؤلات أساسية حول مدى إتفاق بعض هذه المفاهيم مثل العقلانية و حرية الرأى و حرية للتنظيم مع قيم المجتمع و ثقافته التقليدية .[43] كما ان حركة الاخوان بعد قيامها . أنتقدت تعدد الأحزاب التى هى أساس النظام البرلماني الديمقراطي على أساس أن الإسلام يحرم العصبية الحزبية ، و أن الحزبية السياسية تشتت بين الناس و أن مصر الناهضة في حاجة إلى الوحدة   و الاستقرار حتى تتفرغ للأصلح الضروري ، و في العدد الثالث نشرت النذير مذكرة الإخوان إلى رئيس الوزراء التى  تضمنت ضرورة الوحدة بين الأحزاب و أشارت إلى أنه  ” ليس بدعاً أن تسير أمة على نظام الحزب الواحد و قد سبقتها إلى ذلك الأمم الناهضة من شرقية و غربية ” ، و على مدى أربعة أعداد من العدد 13 إلى العدد 16 ) نشرت النذير دراسة بعنوان  ”  قد أثبتت الأيام فساد الحزبية .. و يجب حل الأحزاب و تطهير الأمة من أدرانها  ” ، و في مقال فى العدد 9ه من مجلة الدعوة ورد أن ” الإسلام لا يعترف بوجود حزب أغلبية و أحزاب أقلية و إنما الأمة أمة واحدة  ” .[44]

كل ذلك ساهم في تدعيم التناقض بين مؤسسات العهد البرلماني و القيم الثقافية السائدة .

و من ناحية أخرى ، فإن المفكرين الليبراليين لم ينجحوا في تقديم حل لهذه الأزمة الفكرية ، فهم إما رفضوا المفاهيم التقليدية دون محاولة تطويرها و إيجاد الصلة بينها و بين الأفكار و المؤسسات الديمقراطية الحديثة ، و إما أنهم تجاهلوا المشكلة . و كان في كل من الموقفين سوء تقدير و تهوين من مكانة هذه القيم في نفوس أغلبية المصريين و أرتباطهم بها .

كما فشل المثقفون المصريون في الوصول إلى صيغة أيديولوجية أو نظام فكري يصلح أساساً لعملية التغيير الإجتماعي ، يجمع بين تراثهم الفكري من ناحية , و الأفكار المرتبطة بالتحديث من ناحية أخرى ، و قد دعم من هذا الفشل البلاد من عدم الإستقرار السياسي الذى رافق الحياة السياسية المصرية لمدة طويلة .

ولا يمكن اغفال الدور السلبي للانجليز عبر مندوبهم في مصر متعللين بأن هذا الدستور لا يتناسب مع حاجة البلاد ولا مع حالة النضج السياسي بها[45] مع ان الحال كانت لمنع الوفد من الوصول الى لحكم بعد اسقاط دستور عام 1923 عبر حكومة صدقي باشا جعل دستور عام 1930 مكانه .لان الوفد اخذ يطالب بمعاهدة جديدة تلغي تصريح 28 فبراير 1922 .[46]

اختبار فرضية الورقة البحثية

“هناك علاقة سلبية بين القيم  والمفاهيم المرتبطة بدستور23 , والاطار الفكرى المقبول- انذاك- مما أدى الى تعثر التجربة الليبرالية وسقوط النظام السياسي المعبر عنه ” . ثبت صحة هذه الفرضية , نتيجة التناقض بين مؤسسات العهد البرلماني و القيم الثقافية السائدة ولكنها ليست السبب الوحيد , بل هناك اسباب كثيرة هامة اخري اهمها , تآمر الملك على دستور23 وعمل المندوب البريطاني على اسقاط ذلك الدستور ,علاوة على الدور السلبي لجماعة الاخوان المسلمين سواء من ناحية التآمر على مبدأ سيادة الأمة أو عبر محاربة مبادئ الليبرالية .

المراجع :

كتب

  • أبراهيم عامر , ثورة مصر القومية , القاهرة , 1957 .
  • أحمد عيسى عاشور , رسائل حسن البنا , بيروت , مكتبة القرآن , 1985 .
  • أسامة الباز ( محرر ) مصر في القرن 21 الآمال و التحدات , مركز الأهرام للترجمة و النشر .1996
  • جيمس ويدن , جيل عام 1919 في ارثر جولد شميدت وآخرون , رؤية جديدة لمصر , ترجمة عايدة الباجوري , القاهرة , المركز القومي للترجمة , ط  2013 .
  • راشد البراوي , حقيقة الإنقلاب الأخير في مصر , القاهرة , 1952 .
  • زكى فهمي , صفوة العصر , القاهرة , مطبعة الاعتماد , 1926 .
  • صبحى وحيدة , في أصول المسألة المصرية الهيئة المصرية العامة للكتاب , 2015 .
  • طارق البشرى , المسلمون و الاقباط في اطار الجماعة الوطنية , القاهرة 1980 .
  • عباس محمود العقاد , سعد زغلول سيرة و تحية , الطبعة الثانية , دار الشروق .
  • عبد العظيم محمود حنفي , العقاد في ذكراه الخمسين , كتب مجلة الرافد الاماراتية, 067 , ابريل 2014 .
  • عبد الرحمن الرافعي , ثورة سنة 1919 , تاريخ مصر القومي من 1914 -1921 , القاهرة , دار المعارف ,, 1987 .
  • على الدين هلال , تطور النظام السياسي المصري 1803 -1999 . مركز البحوث و الدراسات السياسية , جامعة القاهرة , 2002 .
  • فرنسين كوستيه –تارديه, اصلاحي في جامعة الازهر ,ترجمة عاصم عبد ربه ,المركز القومي للترجمة ,2013.
  • محمد انيس , وثائق عن ثورة 1919 , القاهرة , 1963 .
  • محمد حسين هيكل , مذكرات في السياسة المصرية , القاهرة , ج 2, مطبعة مصر , 1953 .
  • نيفين عبد المنعم , معجم المصطلحات السياسية  , جامعة القاهرة , 1994
  • وليم سليمان قلادة , الاقباط من الذمية الى المواطنة .في أسامة الباز (  محرر ) مصر في القرن 21 الآمال و التحدات , مركز الأهرام للترجمة و النشر

دراسات وابحاث

  • جمال حمدان , حول هذا الحلف الإسلامي , مجلة المجلة , يوليو 1966 .
  • طارق البشرى , الإسلام في عالم متغير , ندوة , بيروت, 1994 .
  • عبدالعظيم رمضان , موقع الجيش المصري في ثورة 1919 , مجلة السياسة الدولية, المجلد التاسع , العدد 21 , 1973 .
  • عبدالعظيم محمود حنفي, أستراتيجيات الإنتقال الديمقراطى ,المركز العربي للدراسات , 27 أكتوبر ، 2011 .
  • عبد العظيم محمود حنفي , ثنائية الحرية و التقدم في الفكر العربي , منبر الحرية , 18 نوفمبر , 2010 .
  • مجلة المقتطف , اكتوبر , 1924 .

[1] محمد حسين هيكل ,مذكرات في السياسة المصرية ,القاهرة , ج 2,مطبعة مصر , 1953 ,ص 15

[2] على الدين هلال , تطور النظام السياسي المصري 1803 -1999 .مركز البحوث والدراسات السياسية, جامعة القاهرة , 2002 , ص83

[3] عبدالعظيم رمضان , موقع الجيش المصري في ثورة 1919 , مجلة السياسة الدولية, المجلد التاسع , العدد 21 , 1973, , صص 86 -91 .

[4] ابراهيم عامر , ثورة مصر القومية, القاهرة , 1957 , صص 54 -55

[5]  انظر على سبيل المثال لا الحصر

محمد انيس, وثائق عن ثورة 1919 , القاهرة , 1963

[6] عباس محمود العقاد، , سعد زغلول سيرة وتحية , الطبعة الثانية , دار الشروق , ص 414

[7] هرمان شوارتز, لبنات بناء الدساتيرعلى موقع :

, http://usinfo.state.gov/ar/Archive/2004/Aug/03-363668.html

[8] عبدالعظيم محمود حنفي, استراتيجيات الانتقال الديمقراطى,المركز العربي للدراسات , 27 أكتوبر ، 2011

[9] نيفين عبد المنعم , معجم المصطلحات السياسية , جامعة القاهرة , 1994  ص191 -192

[10] مجلة المقتطف , اكتوبر , 1924

[11] صبحى وحيدة، في اصول المسألة المصرية الهيئة المصرية العامة للكتاب  , 2015 ,ص 193 .

[12] على الدين هلال , تطور النظام السياسي المصري 1803 -1999 .مركز البحوث والدراسات السياسية, جامعة القاهرة , 2002 , ص83

[13] على الدين هلال , م.س. ذ ص91 .

[14] جمال حمدان , حول هذا اللف الاسلامي , مجلة الملة , يوليو 1966 , صص4 –ص 22

[15] حسن البناحديث الثلاثاء، القاهرة، مكتبة القرآن، سجلها وأعدها للنشر أحمد عيسى عاشور،  مكتبة القرآن , 1985 , ص 467 , 469

[16] المرجع السابق , ص 467 , 469

[17]  مجموعة رسائل حسن البنا , مؤسسة الرسالة , بيروت, بدون تاريخ , و فيها النصوص التالية :

رسالة المؤتمر الخامس , 284 , 585 , الرسائل الثلاث , دعوتنا , 111 – سالة التعاليم , 23 – الرسائل الثلاث, الى أي شيء ندعو الناس , 13, رسالة التعاليم , 17 , 18 , 23 , رسالة الجهاد, 44

[18] المرجع السابق نفسه .

[19] طارق البشرى , حول اوضاع المشارة في شئون الولايات العامة لغير المسلمين في المجتمعات الاسلامية المعاصرة فب : الاسلام في عالم متغير , ندوة , بيروت, 1994 .

[20]  ليم سليمان قلادة , الاقباط من الذمية الى المواطنة ,في اسامة الباز ( محرر) مصر فيالقرن 21 الآمال والتحدات,مركز الاهرام للترجمة والنشر , 1996 , ص 194 .

[21] طارق البشرى , المسلمون والاقباط في اطار الجماعة الوطنية , القاهرة ظو 1980 , ص 44 .

[22] القضية رقم 22 لسنة 8 قضائية،  دستورية, جلسة 4 يناير , 1992  .

[23] نشر لأول مرة في عام 1834

[24] نشر لأول مرة في عام 1869

[25] عبد العظيم محمود حنفي, ثنائية الحرية والتقدم في الفكر العربي, منبر الحرية , 18 نوفمبر , 2010

[26] عبد العظيم محمود حنفي,العقاد في ذكراه الخمسين , كتب مجلة الرافد الاماراتية, 067 , ابريل 2014 , ص 99

[27] على الدبن هلال, م.س. ذ  ص 90

[28] راشد البراوي , حقيقة الانقلاب الاخير في مصر , القاهرة , 1952 , ص49

[29] المرجع السابق , ص48-54

[30] من اللنبي الى كيرزون , فبراير , 1920 ,وثائق وزارة الخارجية البريطانية ففي جيمس ويدن,  جيل عام 1919 في ارثر جولد شميدت وآخرون , رؤية جديدة لمصر , ترجمة عايدة الباجوري ,القاهرة , المركز القومي للترجمة , ط  2013 ,ص61

[31] عبد الرحمن الرافعي , ثورة سنة 1919 ,تاريخ مصر القومي من 1914 -1921 , القاهرة , دار المعارف ,, 1987 ,263

[32] جيمس ويدن,  جيل عام 1919 في ارثر جولد شميدت وآخرون , رؤية جديدة لمصر , ترجمة عايدة الباجوري ,القاهرة , المركز القومي للترجمة , ط  2013 ,ص61

[33] المرجع السابق نفسه , ص 61

[34] وثائق وزارة الخارجية البريطانية رقم 371 –   108772237 -29-16  في جيمس ويدن,  جيل عام 1919

[35] نيفل هندرسون , 11 سبتمبر ,1925 ,وزارة الخارجية البريطانية ,في جيمس ويدن , م.س.ذ

[36] وثائق وزارة الخارجية ف جيمس ويدن , ص75

[37] تقارير وزارة الخارجية البريطانية في جيمس ويدن , ص68

[38] الاتحاد, 11 نوفمبر , 1925

[39] زكى فهمي , سفوة العصر , القاهرة , مطبعة الاعتماد, 1926 .

[40] جيمس ويدن، م.س.ذ ص69

[41]  المقتطف أبريل 1924 ,البرلمان المصرى و الحكم النيابي في التاريخ

[42] المرجع السابق نفسه

[43] على الدين هلال , م.س. ذ ص 135

[44] المرجع السابق , ص 138

[45] فرنسين كوستيه –تارديه, اصلاحي في جامعة الازهر ,ترجمة عاصم عبد ربه ,المركز القومي للترجمة ,2013 , ص 149 .

[46] المرجع السابق ص 149

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى