الشرق الأوسطتقدير الموقفعاجل

لا يزال يُثير الجدل: “العنف واللاعنف” في فكر مالكوم إكس .. رؤية نقدية

اعداد : محمود الطباخ – باحث في الشؤون الأفريقية وقضايا الإرهاب

  • المركز الديمقراطي العربي

 

لا يزال مالكوم إكس، المُفكر الأفروأمريكي، أحد أبرز قادة حركة الحقوق الإنسانية والمدنية في القرن الماضي يُثير الجدل حتى بعد وفاته بـ 58 عامًا.

في مؤتمر صحفي عُقد بأمريكا خلال شهر (يوليو 2023)، قال أحد الشهود على واقعة اغتيال مالكوم عام 1965، إن الشرطة ومكتب التحقيقات الفيدرالي كانا يعلمان مسبقًا بالتخطيط لعملية اغتياله، وقد زرعوا مُخبرين تابعين لهم قبل خطابه الأخير وتساهلوا مع ما حدث له.[2] وتأتي تلك التصريحات بعد ما يقرب من عام ونصف على إسقاط إدانة اثنين من المدانين بقتل مالكوم الذي ما يزال حديث الصُحف ووسائل الإعلام.

يُعد مالكوم إكس (1925- 1965) واحد من المُناضلين القلائل الذين تركوا بصمة في كفاحهم، وقد مثلت “حقوق الإنسان الأسود ومكافحة العُنصرية” القضية الرئيسية في فكره. وكانت لكلماته، بالغ الأثر على حياة الأخرين، إذ نقل “الحركة السوداء” إلى مستوى أكبر من التحدي للعنصرية البيضاء خلال القرن الماضي.

وتسعى هذه الورقة نحو طرح رؤية نقدية وتقييمية لأفكاره الجدلية عبر أربعة محاور، الأول يبحث في مراحل تشكل وتحول مضامينه الفكرية، والثاني يعمل على تقييم فكره على المستوى التطبيقي/ الحركي، وثالثًا بيان مسألة “العنف واللاعُنف” في هذا الفكر من خلال مُقارنته مع أحد أبرز مُفكري جيله وهو “مارتن لوثر كينج”، ورابعًا وأخيرًا النظر في مدى قابلية أفكار مالكوم للتطبيق، كالآتي:

أولًا- أفكار مالكوم إكس وتحولاتها المُختلفة:

اختلفت المضامين الفكرية لمالكوم إكس وتعقدت من مرحلة لأخرى، وهو ما يُمكن توضيحه في الآتي:

1– مرحلة التيه والأعمال غير القانونية (قبل اعتناقه الإسلام الأمريكي[3])، وهي الفترة التي قضاها قبل دخوله السجن، وفي السنوات الأولى له داخل السجن في مُنتصف الأربعينيات، حيث برز وبرع مالكوم في الأعمال غير القانونية والسرقة والنهب، وكان يحمل أفكارًا تتماشى مع هذا الواقع الذي يعيشه، لطالما كان يدعو على نفسه و”يسب الإنجيل والرب”، ويطلق على غيره لقب “الشياطين”.[4] كما أنه أحب الاختلاط بالبيض واعتبر ذلك نوعًا من تميزه عن باقي السود، وهو ما جعله يعترف فيما بعد، أنها واحدة من خطاياه ضد بني جنسه.[5] وكان النضال عنده في هذه المرحلة يختزله في الحصول على المال من الأعمال غير القانونية.

2– مرحلة تبني أيديولوجية “أمة الإسلام”: تغيرت أفكار مالكوم كليًا في هذه المرحلة عن السابق، أصبح مُحملًا بمُعتقدات جديدة أساسها “التعصب” للمسلمين السود والكراهية العمياء للبيض والمسيحية، وهي المعتقدات ذاتها التي ذرعها “إيليا مُحمد” في عقله وعقل كل اتباعه، وقد شرب مالكوم هذه الأفكار لدرجة أنه اعتبر صاحبها “الرجل المُكلف من الله ورسوله وخليفته في الأرض”. وهي أشبه بـ “عنصرية سوداء” مؤيدة لفصيل واحد وهم “المسلمين السود الأمريكيين” ورافضة للجميع بمن فيهم باقي الحركات السوداء الأخرى. حتى أنهم اعتبروا مارتين لوثر كينج مدافعًا عن العنصرية البيضاء بتوجهه “اللاعنيف” الرامي نحو التعايش بين السود والبيض، على اعتبار أن ذلك يتعارض مع فكرة أمة الإسلام المتمثل في التكامل العرقي والمجتمع الخاص المنفصل للسود.[6]

كانت الأفكار المُشبع بها مالكوم داخل “أمة الإسلام” تقوم على أن إيليا هو “قناة مباشرة لعقيدة الله”، والرفض التام لفكرة المسيحية وأن يسوع هو ابن الله. كما اعتقد أن أمريكا محكوم عليها بالفناء، وأن الله نفسه قد تنبأ بهذا الهلاك.[7]

“المسيحية” في نظره هي ديانة عبودية وأن دعاتها كانوا يؤدون عمل أسياد العبيد. على أساس أن المسيحيون البيض هم من جلبوا الأجداد السود للعبودية، وأن دينهم الباطل هذا هو الذي يجعل الأسود خاضعًا للناس، وأن “المسيحيون البيض شياطين لا يريدون السود، ولا يحبون رؤيتهم”.[8]

3– المُناداة بـ “القومية السوداء”: هي مرحلة راديكالية جديدة في فكر مالكوم، جاءت بعد تركه لمنظمة “أمة الإسلام”، ومعرفته بحقيقة إيليا مُحمد واتهامه بأنه “خدع أتباعه”. أراد مالكوم أن يبني منظمته الخاصة ونادى بـ “القومية السوداء” وخاطب جميع السود الأمريكيين على تعدد دياناتهم ومُعتقداتهم، ودعاهم للوحدة وتأسيس مُجتمعهم واقتصادهم الخاص والانعزال التام عن الأمريكيين البيض، كما تمسك بضرورة “ثقافة السود” ورأى أن في المعرفة والتعليم سبيل النهوض بالقومية السوداء والزنوج وتحررهم.

ويأتي إلهام السير في طريق القومية السوداء من تعاليم ماركوس جارفي الذي قال إن “العرق الأسود عليه أن ينهض من ركبتيه ويقف على قدميه ويكون مستعداً لاتخاذ موقف لنفسه”.[9]

في هذه المرحلة، ظلت معتقدات مالكوم اتجاه “الأمريكي الأبيض” و”المسيحية البيضاء”، ثابتة وراسخة، واعتبر أنهم سبب مُعاناة بني جنسه، وطالب بالتحرر من قبضتهم بـ “أي وسيلة ضرورية”، كما دعا إلى التمسك بالثورة والعمل العنيف إذا لزم الأمر.

4– ما بعد اعتناق “الإسلام السُني”[10]، هذه المرحلة غيرت أفكار مالكوم إكس كليًا، وأصبح مُحملًا بأفكار جديدة وهي بمثابة “ثورة فكرية” في عقل مالكوم، وصدمة حضارية رأى فيها اختلاطا بين جميع الألوان وأخوة قائمة على الدين وليس على العرق أو الجنس. كما غير فيها نظرته نحو العرق الأبيض كليةً، ورأى أن المشكلة تكمن في مواقف البيض الأمريكيين وليس في لونهم، على اعتبار أن هناك إناس بيض يرفعون راية المحبة والأخوة والسلام. كما دعا إلى ضرورة التمسك بالإسلام الحق الموجود في الشرق الأوسط باعتباره الدين الذي سينتشل أمريكا من عنصريتها بعيدًا عن “أمة الإسلام”. كما نظر لنفسه على أنه مارس “عنصرية سوداء” اتخذت موقفًا موحدًا تجاه جميع البيض.

كما تغيرت أفكاره مع تأسيس مُنظمة “الوحدة الأفروأمريكية” بشأن دعم الأمريكيين البيض له، إذ رحب بدعمه ماليًا بشرط عدم الانضمام إلى المنظمة كونها تقوم كليًا على “السود”، هذا بخلاف نظرته السابقة في “أمة الإسلام” وفي ظل دعوته للقومية السوداء بشأن مسألة التمويل، التي اعتبرها مدخلًا أساسيا لسيطرة البيض على المنظمات السوداء وإفشالها.

فكريًا زاد تمسكه بقضية “حقوق الإنسان الأسود ومكافحة العنصرية” أساس كفاحه واعتبرها بديلًا عن المُناداة بـ “الحقوق المدنية”، على أساس أن الأول حق خُلق به الإنسان ممنوح له من الله.

يتضح من الطرح السابق، أنه على “المستوى النظري”، اتسمت أفكار مالكوم إكس بـ “عدم التماسك”، فقد جاءت مقدماته غير مُتسلسلة أو مُرتبة في مسار واحد، وكان هناك تناقض واضح في هذا الفكر. ويُمكن إرجاع ذلك إلى التحولات التي عاشها المُفكر في كل مرحلة من مراحل حياته.

ثانيًا- تقييم أفكار مالكوم إكس على المستوى الحركي:

على المستوى التطبيقي، اختلفت تحركات مالكوم ومساعيه نحو تطبيق أفكاره على الأرض ووضعه موضع التنفيذ، ويأتي هذا انعكاسًا لتغير معتقداته وأيديولوجيته من فترة لأخرى وعدم ثبوتها، وهو ما يُمكن توضيحه في الآتي:

1 – الحشد في “أمة الإسلام”: لإيمانه بالمعتقدات الخاصة بـ “أمة الإسلام”، كرس مالكوم حياته لخدمة “إيليا محمد” والمُنظمة، وفي سبيل ذلك، اعتمد أساليب واستراتيجيات عدة لتطبيق هذا الفكر الذي يؤمن به ويصدقه حد التقديس.

ولعل من هذه الأساليب هي اعتماد مالكوم على “المناظرات” داخل السجن، و”الصيد” خارجه كأسلوب لتجنيد المسيحيين السود في الكنائس والتجمعات وإقناعهم بأفكار “محمد”، مُستفيدًا من خبرته السابقة كـ “رجل شارع” على دراية بلغته.

ووظف مالكوم في ذلك أسلوبه الخاص من أجل “نقد المسيحية” لدى المسيحيين السود لإقناعهم لاتباع “أمة الإسلام” والدخول فيها. وكان هذا الأسلوب يقوم على استدعاء اسم “ماركوس جارفي” بغرض السماح بتقبلهم لنقد “أمة الإسلام”، أي كان عليه أن يبيع عقيدة مُعادية للمسيحية لجمهور يعرف نفسه تقليدياً على أنه مسيحي، وذلك عبر ربط أقوال وأفعال جارفي كرجل أسود في نقد “المسيحية البيضاء”، وهو الأمر الذي كان م نشأنه أن يجعل المعتقدات العقائدية لأمة الإسلام تبدو أكثر علمانية وأقل روعة.[11] الأمر الذي استقبلها السود وكأنها مُنظمة مثالية في نظرتهم كمنظمة جارفي.

حققت هذه الأساليب الحركية انتشارًا واسعًا لأمة الإسلام، وتحول مالكوم لبراعته الشديدة وتوافر الإمكانات من فرد في المُنظمة إلى وزير ومتحدث رسمي باسمها أمام العالم، وتمكنت من فتح عشرات المعابد التابعة لها وزاد عدد أفرادها من 400 إلى 40 ألف شخص، خلال فترة تواجد مالكوم فيها.[12]

الشهرة الواسعة التي أصبح عليها مالكوم، دفع مكتب التحقيقات الفيدرالي “FBI”، إلى فتح تحقيقًا في العلاقات المحتملة بين مالكوم والجماعات الشيوعية. وعملت الحكومة مع وسائل الإعلام على تقديمه كـ “شخص عنيف” يعمل على زعزعة استقرار أمريكا. وساعد وجوده خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك عام 1960 ، حيث كان جزءًا من الضيوف المدعوين، على التعرف على كثير من القادة الأفارقة والرئيس الكوبي “فيدل كاسترو”، الذي كان معجبًا بشخصية مالكوم.[13]

2– الحراك من أجل “القومية السوداء”: في أعقاب انفصاله عن “أمة الإسلام” سعى مالكوم لتوسيع دائرة حراكه عبر توجيه خطابه إلى جميع السود الأمريكيين رافعًا من راية “القومية السوداء”، في هذا الإطار تبنت حركته هذه في البداية النضال العنيف، وكانت تعتمد على فلسفة “العين بالعين” في مواجهة العنف والظلم الذي يتعرض له جميع السود في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد دعا مالكوم إكس في العديد من مناسبات إلى استخدام القوة والعنف لتحقيق حقوق السود والمسلمين.

وقد نظمت هذه المنظمة الجديدة سلسلة من المسيرات الداعية إلى هذا الفكر، وألقى مالكوم مجموعة من الخطابات الرامية إلى انتهاج “العُنف المشروط”، أي التوجه نحو العُنف حال عدم قدرة الحكومة أو رغبتها في الدفاع عن السود.

ولعل خطابه “الاقتراع أو الرصاصة” كان شارحًا إلى حد بعيد أبعاد هذا التوجه واستحضاره لـ “الثورة” والعُنف كسبيل للوصول إلى حقوق السود الإنسانية والمدنية. أثار هذا الحراك تخوفات كبرى داخل المجتمع الأمريكي الأبيض من حالة الإفاقة والتحدي التي أصبح عليها “السود الأمريكيين”، ولعلها كانت إحدى أسباب التسريع في إصدار قانون الحقوق المدنية في العام الذي قُتل فيه مالكوم 1965.[14]

أما على مستوى مالكوم نفسه فلم يستمر التمسك بهذا الحراك طويلًا، لعدة أسباب، عدم وجود الدعم والتمويل اللازم على خلاف ما كان موجودة ومتاحًا له في “أمة الإسلام”، وثانيها الاتهامات التي حاصرته من قِبل الحكومة الأمريكية بالدعوة للعنف ودعم التوجه الاشتراكي. ثالثًا، سرعان ما تراجع عنه مالكوم عقب العودة من “مكة” وتغير توجه نحو “الأبيض الطيب”، وأصبحت الحركة تعتمد على الدعوة والتعليم والتنظيم السلمي لتحقيق أهدافها، وقد بدأت تتخذ خطوات لتحقيق التعايش السلمي بين الأعراق في الولايات المتحدة.

3– التحركات الخارجية وتأثيرها: بعد زيارته إلى “مكة”، ونتيجة لتغير فكر مالكوم، وتغير نظرته للعرق الأبيض. رأى مالكوم بضرورة تدويل قضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. وناشد قادة الدول الأفريقية المستقلة أن يكونوا معهم في كفاحهم، ووجه لهم رسائله التي جاء فيها: “مشاكلنا هي مشاكلكم… إنها مشكلة حقوق الإنسان”. كما دعاهم لدعم قضية السود الأمريكيين في الأمم المتحدة[15].

وكان لزيارات مالكوم الخارجية وتحركاته تأثيرًا كبيرًا على التعريف بقضية الأفرو أمريكيين والعنصرية التي يتعرضون لها. كما أنه انتقل إلى باريس وتجول في أوروبا مُهاجما “نفاق” الولايات المتحدة الأمريكية التي “تدعو إلى الاندماج وتمارس الفصل العنصري”.[16]

وقد أصدرت منظمة الوحدة الأفريقية أبان زيارة مالكوم للقاهرة عام 1964، قرارًا أكدت فيه انزعاجها بشدة من مظاهر التعصب العنصري والقمع الذي يتعرض له السود في أمريكا، ودعت إلى سرعة القضاء التام على جميع أشكال التمييز على أساس العرق، اللون أو الأصل العرقي.

وعلى الرغم من عدم تقديم القرار الخاص بالأفرو أمريكيين إلى الأمم المتحدة، إلا أن حُجج مالكوم تم استخدامها من قبل المتحدثين الأفارقة في مناظرات الكونغو في الأمم المتحدة في ديسمبر من ذلك العام: على سبيل المثال، جادل كوجو بوتسيو من غانا بأن الولايات المتحدة لم يكن لديها أعمال في الكونغو أكثر من تدخل غانا لحماية حياة الأمريكيون من أصل أفريقي ممن تعرضوا للتعذيب والقتل لتأكيدهم على حقوقهم المشروعة”.[17]

ثالثًا- “العُنف واللاعُنف” عند مالكوم إكس:

يُركز هذا المحور على إبراز مدى تمسك مالكوم إكس بالعُنف كوسيلة للمواجهة وتنفيذ أفكاره، ومن أجل هذا يُمكن إجراء مُقارنة بينه وبين واحد من أبرز المُفكرين المُعاصرين له وهو مارتين لوثر كينج “الابن”. ولا شك أن مالكوم إكس ومارتن لوثر كينج “الابن”، قائدين أساسين في حركة الحقوق المدنية الأمريكية، حيث ناضلا من أجل نفس قضية “المساواة والعدالة” للأميركيين الأفارقة، إلا أن أفكارهما وتحركاتهما كانت مُختلفة كليًا للوصول إلى الهدف ذاته.

التقى الاثنان مرة واحدة فقط في حياتهما، خارج مجلس الشيوخ الأمريكي في مارس 1964 لمدة دقيقة. في الوقت الذي كان يُنظر إليهما على أنهما “أعداء” في نضال السود من أجل الحرية إلا أنهما ساعدا بعضهما بشكل غير مباشر. يهتم هذا العُنصر ببيان التشابهات والاختلافات الجوهرية في شخصية المفكرين وأفكارهما، على النحو التالي:

1- أوجه التشابه الرئيسية:

  • كلا المفكران من أصل أفريقيا، وعاشا نفس الظروف المُجتمعية السائدة والعنصرية المفروضة على السود في أمريكا، وسعيا بنضالهم لتحقيق نفس الهدف وهو المساواة والعدل للأفارقة الأمريكيين، وإن كان حال مارتين أفضل من مالكوم اجتماعيًا.
  • انتهت حياة المفكرين بالاغتيال في سبيل قضيتهما الأساسية في نفس العمر (39 عامًا)، فلم يكمل كلا منهما الـ 40 من عمره حينما توفيا.
  • التوتر السائد بين المفكرين جراء رفض أفكار كل منهما للآخر، جاء في صالح حركة الحقوق المدنية بل وعمل على دفعها للأمام، أي أن كينج قدم حلاً أكثر إشراقًا وأكثر سعادة في سبيل التعايش، وأن مالكوم إكس كان “ظله” بديلًا قويًا وعنيفًا إذا حرم المجتمع الأمريكي سلام كينج والسود. حتى أن مالكوم إكس نفسه اعترف بذلك في محادثة مع زوجة كينج “كوريتا سكوت كينج”، وهو ما ذكرته في مذكراتها بأن مالكوم طلب نقل رسالة إلى زوجها كان نصهًا: “أريد أن يعرف الدكتور كينج أنني لم أتي لأجعل وظيفته صعبة. لقد جئت حقًا لأفكر في أنه يمكنني تسهيل الأمر. إذا أدرك البيض ما هو البديل، فربما يكونون أكثر استعدادًا لسماع الدكتور كينج”.[18]
  • بعد عودة مالكوم من زيارات الحج “مكة” وأفريقيا، تبنى منظورًا مشابهًا لمنظور مارتن لوثر كينج يقوم على احترام الآخر السود للسود، والسود لـ “الأبيض الطيب”، وسعى نحو الوصول للحقوق المدنية للسود بسُبل وخطاب أقل عُنفًا في مفرداته. وهو الأمر الذي لطالما تبناه مارتن لوثر كينج. إذ يُمكن القول إنه جاء تلاقي أيديولوجياتهم وإن كان متأخراً للغاية.[19]

2- الاختلافات الجوهرية بين المُفكرين:

أ– “اللاعنف” و”العُنف” كمسارين متوازيين: يُعد هذا الأمر هو جوهر الاختلاف في فكر كلًا من مارتين لوثر كينج ومالكوم إكس. فعلى الرغم من الظُلم والعُنف الواقع على السود في أمريكا ظل مارتين لوثر كينج مُتمسكًا بالسلمية وادعيًا إلى “اللاعنف” والتعايش الاجتماعي المُشترك والمساواة. أما مالكوم إكس كان ينظر إلى “الأمريكي الأبيض” على أنه “شيطان” وأصل المشكلات التي يُعاني منها السود، ودعا السود إلى الوصول لحقوقهم بـ “بأي وسيلة ضرورية”، حتى لو كان بالثورة أو العنف طالما يتغاضى المُجتمع والحكومة عن حمياتهم.

ب– العيش المُشترك مُقابل الانعزالية: دمج كينج مفاهيم التضامن والتعاطف والمودة من أجل التحول الجذري للترابط الإنساني والتنظيم الذاتي للمجتمع. كان يعتقد أن البشر قد ورثوا منزلًا كبيرًا لا “بيتًا عالميًا” – كما أسماه – حيث يتعين على البشر العيش معًا دون النظر للدين، سواء كان ذلك أسودًا أو أبيض، أو شرقيًا وغربيًا. أي أنه تبني فكرة “الأخوة البشرية”.[20]

أما مالكوم إكس، كان قوميًا ومتشددًا يؤمن بتحرير الأمريكيين الأفارقة بـ “أي وسيلة ضرورية”. وكان ينظر إلى بعض مواقف مارتين السلمية بأنها “سيرك” لإرضاء من وصفهم بـ “الشياطين البيض”. بل كان يعتقد أن وعظ كينغ بالحب والاندماج يلعب دورًا صحيحًا في أيدي الظالمين البيض واستنكرته باستمرار.

في خطابه “الاقتراع أو الرصاصة”، وضع مالكوم لأُسس أيديولوجيته الفكرية والحركية ودعا إلى الانعزال الاجتماعي والاقتصادي، ورأى أنه لا مكان لأي شخص ملون في أمريكا، وهو ما يتطلب الاندماج مع العالم الثالث لتمكينهم من الكفاح ضد مضطهديهم، وكان هذا مختلفًا على عكس فكرة كينج عن “الحلم الأمريكي” والتكامل الاجتماعي.

ج– ظروف النشأة المُختلفة وتأثيرها على الشخصية: نشأ مارتن لوثر كينج، مع غيره من السود من الطبقة الوسطى في منزل محب وداعم في حي من الطبقة المتوسطة مع والديه، حصل على درجة الدكتوراه عام 1955 بدعم من أفراد أسرته.، وهو ما أهله لأن يُصبح زعيمًا كاريزميًا يسعى إلى اللاعنف كوسيلة للحصوص على الحقوق.

أما مالكوم فقد وُلد في مُجتمع يُعاني أبويه فيه الاضطهاد وتتوالى فيه التهديدات عليهم من منظمات البيض المُتطرفة، طفولة مالكوم جعلته يتحول إلى القومي الأسود الشجاع، الذي يعترف به المجتمع ويعترف به، فضلًا عن التجارب التي عاشها حولت طفولته إلى شخص يمارس الأفعال غير القانونية.

دفعت ظروف الطفولة والنشأة هذه نحو تشكيل شخصية كل منهما في القيادة، وهو ما يُظهر أيضًا التباين بين كل منهما في التحرك نحو الوصول بأدوات سلمية وأخرى “بأي وسيلة” حتى لو كانت العُنف.

في ختام هذا، فقد حصد الأمريكيون السود ثمار نضال مالكوم إكس ومارتين لوثر كينج في قضية مكافحة العنصرية والوصول إلى “حقوق السود والمساواة”، وقد دفعا سويا ضريبة نضالهما، إذا انتهت حياتهما بالاغتيال في سبيل قضيتهما.

رابعًا- مدى قابلية أفكار مالكوم للتطبيق:

لا يُمكن التقليل من أفكار مالكوم إكس في ظل مُعاناة الإنسان الأسود من قتل وتشريد وسط تقاعس الحكومة الأمريكية عن حمايتهم وممارسة العنصرية ضدهم – في ذلك الوقت- وهو ما تطلب وجود صوت أكثر حدة وحماسًا لدعم القضية ذاتها (المساواة والعدل)، أو كم يُمكن الوصف بأن “خطابه وحراكه كان “ظلًا” لأفكار مارتين لوثر كينج لتخويف الحكومة من البديل الأكثر حدة”.

من هُنا يُمكن التأكيد أن أفكار مالكوم اقتضاها العصر الذي عاش فيه وكانت تُلائم هذا العصر تزامنًا مع تمسك الأمريكي الأبيض بتطبيق قوانين “جيم كرو” العُنصرية. كانت أراء مالكوم مؤثرة وناجعة ونجح في تحقيق شهرة واسعة ووصلت أفكاره إلى مشارق الأرض ومغاربها للدرجة التي جعلته محل حفاوة وإشادة من قبل الملوك والزعماء في الشرق الأوسط وأفريقيا، فضلًا عن كلماته التي وصلت أوروبا وتنافست جامعاتها على استقباله ودراسة أفكاره.

ونظرًا لأن مالكوم كان من أشد المؤيدين لتقرير المصير، فقد دفع هذا المُحافظين السود مثل شيلبي ستيل وآلان كيز، إلى القول بإن “إذا كان مالكوم على قيد الحياة فسيكون في معسكرهم”. ومن المُثير أيضًا أن قاضي المحكمة العليا الأمريكية، كلارنس توماس، قد أعلن التمسك بفلسفات مالكوم إكس السياسية، الأمر الذي يجعل تأثير هذا الرجل وفكره مُمتد ومستمر وقابل للأخذ به حتى بعض وفاته بعشرات السنين.[21] لاسيما مع وجود التحليلات المُختلفة التي تبرر خطابه الثوري وتصنفه على أنه “إداري” استدعته الظروف.

الخلاصة

عاش مالكوم إكس ظروفًا قاسيةً مُنذ صغره في ظل تطبيق قوانين “جيم كرو” العُنصرية التي أقامت فصلًا بين السود والبيض بأمريكا في كل مناحي الحياة. وكان لهذه الظروف والتجارب التي عاشها أثارًا واضحة على تشكيل سماته وشخصيته وتحويله إلى واحد من أبرز المُفكرين المناضلين ضد العُنصرية، والداعين للمساواة وحقوق الإنسان.

وقد تمسك مالكوم لسنوات طويلة بفكرة الانعزالية عن الأمريكيين البيض باعتبارهم “شياطين” مسؤولين عن مُعاناة العرق الأسود وتفرقه، ونادى بأهمية وتكوين السود لمجتمعاتهم الخاصة وتجارتهم واقتصادهم للإفلات من قبضته. استطاع هذا الرجل أن يكشف حقيقة العُنصرية المُتجذرة في المُجتمع ضد الأفروأمريكيين بعباراته الشجاعة الرنّانة طوال حياته، كما تُخبرنا خطبته الشهيرة “ورقة الاقتراع أو الرصاصة” في كليفلاند عام 1964م.

وربما يرجع القبول الاجتماعي الذي أصبح عليه هذا المُفكر، إلى حقيقة أن الأشخاص المُختلفين يقبلون أفكارًا مختلفة ويتلقون الرسائل بشكل مُختلف، ما جعل جوانب رسالته تُستخدم من قبل أشخاص من مختلف الأطياف السياسية. الشيء المؤكد هُنا، أنا مالكوم إكس ذو الأصول الأفريقية ما زال يُثير الجدل حتى يومنا هذا، ففي الوقت الذي يراه أكاديميون وباحثون وسياسيون رمزًا للثورة الراديكالية العنيفة، فهو في نظر آخرين رمزًا للبساطة ومحاربة العنصرية والفقر.

[2] Edward Helmore, “Witness claims police said ‘Is he one of us?’ as they restrained Malcolm X killer”, theguardian, 25 Jul 2023, available at: https://www.theguardian.com/us-news/2023/jul/25/malcolm-x-assassination-new-witness-mustafa-hassan

[3] يُقصد بـ “الإسلام الأمريكي” النُسخة الخاصة من الإسلام التي تبنتها مُنظمة “أمة الإسلام” وزعيمها “إيليا محمد” في القرن الماضي بأمريكا.

[4] مالكوم إكس وإليكس هالي، ليلى أبو زيد (مُترجم)، مالكوم إكس.. سيرة ذاتية، (بيروت: بيسان للنشر والتوزيع، 1996)، ص 118.

[5] المصدر السابق، ص 139.

[6] Katherine Crawford-Lackey, “Places of Malcolm X”, in: CURIOSITY KIT: MALCOLM X, National park service, available at: https://www.nps.gov/articles/000/places-of-malcolm-x.htm

[7] Scott Varda, Malcolm X and the Nation of Islam: Rhetorical Tactics in the First Dozen Years, p.3, available at: https://salempress.com/Media/SalemPress/samples/MalcolmX_pgs.pdf

[8] Ibid., p.4.

[9] Malek Kalhitmrawe, “Malcolm X’s different identities,  (Stockholm: Södertörn University, Institution for Culture & Learning, The department of English, C-essay 15 hp, Fall 2017), p.18.

[10] هُنا المقصد مرحلة ما بعد عودته من أداء الحج في مكة، واعتناقه الدين الإسلامي الحق “السُني” بعيدًا عن مُعتقدات “أمة الإسلام”، وتحول اسمه من مالكوم إكس إلى “الحاج مالك الشباز”.

[11] Scott Varda, op.cit., pp 6-7.

[12] Hakim Adi and Marika Sherwood, Pan- African history: political figures from Africa and the Diaspora since 1787, (London and New york:Taylor & Francis, 2003), p.124.

[13] The Activities of Malcolm X Research Paper”,  IvyPanda, Aug 26th, 2020, available at: https://ivypanda.com/essays/the-activities-of-malcolm-x/

[14] Daryl Farrah, Interrogating Malcolm X’s “Ballot or the Bullet”, Journal of African American Studies, 15 July 2020, available at: https://doi.org/10.1007/s12111-020-09484-5

[15] Hakim Adi and Marika Sherwood, op.cit., p 126.

[16] Ibid., p. 127.

[17] Idem.

[18] LEEZA, Malcolm X: Growing Into a Commander, 16personalities, available at: https://www.16personalities.com/articles/malcolm-x-growing-into-a-commander#comments

[19] Rakshan Kalmady, “The Idea of America: A Comparison of Martin Luther King Jr’s Beliefs With Malcolm X’s During the Civil Rights Movement”, Nickledanddimed, January 31, 2022, available at: https://tinyurl.com/3mh7m825

[20] Idem.

[21] Trevin Jones, The Ideological and Spiritual Transformation of Malcolm X, Journal of African American Studies, 18 July 2020, p. 424. available at: https://doi.org/10.1007/s12111-020-09487-2

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى