الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

جرائم ضد الإنسانية هنا وهناك : حان الوقت لنظام عالمي جديد

بقلم : التجاني صلاح عبدالله المبارك – المركز الديمقراطي العربي

 

بعد قيام الدولة القومية في أوروبا منتصف القرن السابع عشر، بعد حروب دامية استمرت ثلاثين عاما كانت الحاجة ملحة لمفهوم يعمل على تقليل الحروب التي كانت تندلع  لأقل الأسباب، ونتيجة لذلك اتجهت الدول لنظام توازن القوى، من أجل تحقيق سيادة الدولة وحماية حدودها، إلا أنه أثبت فشلا كاملا في القضاء على الحروب ومنع إندلاعها، لأن مفهوم توازن القوى جعل الساحة الدولية تدخل في تحالفات وإرتفاع غير مسبوق في سباق التسلح.ولأن سباق التسلح زاد بدوره من الشعور بالخوف وإنعدام الثقة بين الدول، بل أن الدولة التي تهتم بتطوير اسلحتها وتعظيمها أكثر من غيرها اوجد فيها شعورا يقودها إلى الميل التلقائي لاستعراض هذه القوة العسكرية مما كان يؤدي تلقائيا إلى إحماء الصراع وإشتعال الحروب، لذا فقد كانت الحاجة ملحة أكثر مما مضى إلى مفهوم جديد لتحقيق السلام وخفض وتيرة الحروب.

ولأن مبدأ توازن القوى أثبت عجزا في إرساء السلام المنشود وتحقيق الأمن والسلم الدوليين، فقد كان مفهوم نظام الأمن الجماعي الذي كان يعتمد نظام المؤسسات في طبيعة عمله وتشغيله أقرب الحلول الناجعة لوضع حد لحالة الحروب والفوضى في النظام العالمي.

غير أنه ثبت لاحقا أن نظام الأمن الجماعي عجز عن تحقيق الأمن والسلم الدوليين ليس بسبب عدم صلاحيته وجدواه، لكن لوجود معارضة أو رفض داخل بنيته المؤسسية، تتمثل في حق النقض الذي اقتصرت ملكيته للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وكان من السهل ووفقا لمصالحها ومنافعها أن يكون حق النقض سلاحا ماضيا وفعالا أمام أي محاولات من الدول الأخرى لعرقلة أو تأخير أو الحيلولة دون تلك المصالح.

من تلك المصالح الأخيرة في ظروف الحرب الدائرة في أوكرانيا في هذا الوقت، هي رغبة الولايات المتحدة باعتبارها قطبا آحاديا في النظام العالمي، تطبيق مواد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة في إدانة روسيا، وهو ما يعني محاولة الحفاظ على كيانها آحادي القطبية دون منافس حقيقي لها، ومن ناحية ثانية فرصة متاحة أكثر من غيرها لتجريم خصمها الرئيس وإدانته بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أوكرانيا.

لذا فقد كانت تغريدة “بلينكن” على تويتر 21 سبتمبر/ايلول 2023 التي ترافقت مع انعقاد اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة متجانسة تماما مع تلك الدوافع والمصالح، فقد قال: إن الغزو الروسي في حد ذاته ينتهك الركيزة الاساسية لميثاق الأمم المتحدة ألا وهي احترام سيادة جميع الدول ووحدة أراضيها. موسكو ترتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أوكرانيا بشكل شبه يومي وتواصل تهديداتها النووية المتهورة.

وفي ذات السياق طلب الرئيس الأوكراني ” فولوديمير زيلينسكي” من  الأمم المتحدة تجريد روسيا من حق النقض في مجلس الأمن، معتبرا إنه إصلاح جوهري في الأمم المتحدة، ومن المستحيل إنهاء الحرب لأن كل الجهود يعترضها المعتدي أو أولئك الذين يتغاضون عن المعتدي.

تبدو تلك المواقف من “بلينكن” و “زيلينسكي” وآراءهما في إصلاح الأمم المتحدة  بتجريد روسيا من تمتعها ب-حق النقض الذي تستخدمه في مصالحها الخاصة وفق المتغيرات السياسية الدولية من ناحية، واطلاق الحبل على الغارب_ إن صح هذا التعبير_ للولايات المتحدة من ناحية ثانية في تجريم وتصنيف “بوتين” مجرم حرب مرتكبا لجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، متسقة تماما بل متطابقة بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، وتبدو أيضا لكل ذي عينين أن المحصلة النهائية من هذه التراشقات الكلامية، ليس الرغبة الحقيقية في إصلاح مجلس الأمن والأمم المتحدة، لكن استمرار الولايات المتحدة قطبا أحاديا في وقت تقترب فيه كل من الصين وروسيا لفرض التعددية القطبية الجديدة.

ومن الواضح تماما أيضا أن الولايات المتحدة تتمتع بمقدرة على التعامل بإنتقائية ومعايير مزدوجة وتقديم الأوراق المناسبة متى تطلبت المصلحة، وتحريك أفراد أو رؤساء أو جماعات أو مؤسسات في تقديم تلك الاوراق، لذا فقد اصدرت المحكمة الجنائية الدولية 17مارس 2023، باعتبارها مؤسسة عدلية كونية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” لـ”مسؤوليته في جرائم حرب” ارتكبت في أوكرانيا، وانتهت المحكمة في بيانها إلى إن “بوتين” متهم بأنه مسؤول عن جريمة الحرب المتمثلة في الترحيل غير القانوني للأطفال، والمدنيين من المناطق المحتلة في أوكرانيا إلى الاتحاد الروسي، واستندت المحكمة في حيثياتها إلى تحقيق فريق تابع للأمم المتحدة، جاء فيه أن نقل أطفال أوكرانيين إلى المناطق الخاضعة لسيطرة موسكو في أوكرانيا وإلى روسيا، يشكل “جريمة حرب”، مشيرا أيضا إلى احتمال ارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”.

صحيح أن المؤسسة العدلية المتمثلة في المحكمة الجنائية الدولية بموجب نظامها الأساسي، الذي تم إقراره في مؤتمر روما الدبلوماسي بتاريخ 17 يوليو 1998، والذي دخل حيز التنفيذ في 1 يوليو 2002، تعتبر هيئة دولية لها السلطة لممارسة اختصاصها على الأشخاص إزاء أشد الجرائم خطورة في موضع الاهتمام الدولي، مثل جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الإنسانية، وجرائم الحرب، إلا أن القرار الصادر من المحكمة في حق “بوتين” هو قرار هزيل وليس سليم من الناحية القانونية، لأن روسيا لا تعتبر من الدول المنضمة لمعاهدة روما بالأساس كما أن الولايات المتحدة لم توقع أيضا على المعاهدة؛ حتى يمكن للفواعل الإفلات من الملاحقات الجنائية.

وهنا نجد انتقائية في تحديد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وإختيار الدولة المستهدفة سياسيا، فالمصالح تظل هي الموجه الأساسي والرئيس الذي تتعامل به الولايات المتحدة في صراع الافيال الذي تستخدم فيه روسيا آلاتها العسكرية وتهدد بالضربات النووية، وتستخدم الولايات المتحدة ليس العتاد العسكري والمساعدات العسكرية ل-أوكرانيا وحسب لكن تطويع القانون الدولي والمؤسسات العدلية الدولية لذات المصلحة، ولجوءا للعقاب بغرض تقويض القوة الروسية والإنفراد بالهيمنة والسيطرة الدولية الآحادية.

ولأن تحقيق المصالح والمنافع هو اللغة السائدة والثابتة في النظام العالمي، فإن الجهات الفاعلة تستخدم الإنتقائية والإختيارية في تطويع مفردات القانون الدولي وبنود مواثيق الأمم المتحدة بما يتلاءم مع متطلبات المصلحة، وتسمى في ذلك التطويع الأشياء بغير مسمياتها، لذا فإن جنوح اليمين الإسرائيلي المتطرف الحليف الرئيس للولايات المتحدة، لأقسى الجرائم والفظائع في الداخل الفلسطيني مثل قتل الأبرياء والعزل والاطفال والنساء وتعريتهن (كما حدث في الأيام القليلة الماضية ما يعد انتهاكا للكرامة الإنسانية ومما يندى له الجبين) وقتل الاطباء والمسعفين وذوي الاحتياجات الخاصة، لا تقابل تلك الافعال المهينة للإنسانية بوصفها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن توصف بذريعة ومسمى الدفاع الشرعي عن النفس وحسب !

ولم تقف محاولات تجاوز القانون وتغيير مسمياته على نحو ما قد ذكرنا بل وصلت محاولات التبديل والتحريف إلى مسميات جديدة تحتاج إلى بذل الجهد لمعرفة كنهها وحقيقتها، مثل صفقة القرن ومشروع الممر الاقتصادي الجديد .

في صفقة القرن الترامبية تم الاعتراف بالقدس عاصمة لاسرائيل في مفهوم جديد يدعو دول النظام العالمي لنقل السفارات من تل ابيب إلى القدس، بما ينطوي ذلك على مكاسب آنية لأطراف الصفقة جميعهم وأولهم بطبيعة الحال إسرائيل، وبما يعني اعترافا ضمنيا بدولة إسرائيل وعاصمتها القدس متجاوزة القانون الدولي والجرائم ضد الإنسانية التي تمارسها إسرائيل!

وفي وقت كانت تستعد فيه أكثر من مائة وعشرين دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة للتصويت في قرار يدعو الولايات المتحدة إلى سحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل ورفض أي ممارسات تمس الوضع التاريخي للمدينة المحتلة ،ذكرت السيدة” نكي هالي” سفير الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة وقتذاك في سابقة خطيرة، أن الولايات المتحدة لن تتراجع عن قرار نقل السفارة إلى القدس مهما كانت نتائج التصويت علي مشروع القرار، لأن الشعب الأمريكي يريد ذلك ولأنه أيضا القرار الصائب! وعندما يتخذ قرار بخصوص أين تكون موقع سفارتهم فانه لا ينبغي أن يتوقع من هؤلاء الذين قدموا لهم المساعدة أن يستهدفوهم، وأضافت أنه سيكون هناك تصويت في الجمعية العامة ينتقد اختيارهم والولايات المتحدة ستقوم بتدوين أسماء الدول!

ولم تكتفي السيدة “نيمراتا” (وهذا هو اسمها الحقيقي) بالانتقاص من كرامة هذه الدول انتقاصا واضحا واستخدام التهديد والوعيد بل أضافت: أن الاعتقاد السائد في الأوساط الأمريكية أن السماء ستطبق علي الأرض، ولكن لم يحصل شئ إذ مر الخميس والجمعة والسبت والاحد ولا تزال السماء في مكانها ولم تسقط،.. أما أخطر ما تفوهت به علي الإطلاق فهو ما جاء على لسانها أمام مؤتمر لجنة الشؤون العامة الأمريكية والإسرائيلية (الايباك) وهي من أكبر جماعات الضغط في الولايات المتحدة الداعمة ل-إسرائيل : أنا ارتدي حذاء ذا كعب عال ليس من أجل الموضة ولكن لركل أي شخص يوجه انتقادا لإسرائيل!

وفي ذات التغيير وتبديل المسميات اتجهت الولايات المتحدة لصفقة جديدة ومسمى جديد من نوعه وهو مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، ومن أهدافه الظاهرة إنشاء خطوط للسكك الحديدية وربطها مع الموانئ البحرية لنقل الكهرباء والنقل الرقمي للمعلومات، وتسهيل نقل الصادرات من البضائع والمواد الغذائية وعمليات التبادل التجاري، لكن أهدافه الباطنة محاولات التطبيع التي تقوم بها الولايات المتحدة بين الدول العربية وإسرائيل على النحو الذي يجعل بين طرفي التطبيع علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية متبادلة، وهي في مجملها محاولة للقفز على القانون الدولي والنصوص التي تجرم وتعاقب مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

صحيح أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية هي من الجرائم التي وضع نظام روما الأساسي لها تعريفا ثابتا في الباب الثاني، ولم تكن المعضلة في مدى قابليتها للتطبيق وإنزالها إلى الواقع بمعني التزام الوحدات السياسية بها التزاما يفرض عليها الامتثال الكامل، لكن في عدم تطبيقها بشكل عادل على كل الوحدات السياسية، بما فيها جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل والولايات المتحدة وروسيا، ولهذه الأسباب إمتنعت الدول الثلاثة عن التوقيع في نظام روما الأساسي، وكانت كل الاتهامات والملاحقات الجنائية تطال وتطارد الدول الإفريقية وحدها ويغلب عليها النظرة العنصرية والاستعلائية،  ويكاد يصدق وصف وزير الإعلام الغامبي: أن المحكمة الجنائية الدولية هي في الواقع محكمة قوقازية دولية لملاحقة وإذلال الملونين، وبخاصة  الأفارقة رغم أنها تسمى: المحكمة الجنائية الدولية.

ولأن محكمة الجنايات الدولية ونظام الأمن الجماعي بهذا الشكل الذي تمارس فيه الفواعل السياسات الإنتقائية والإختيارية وتقديم الاوراق المناسبة في الأوقات المناسبة على نحو ما قد ذكرنا،  غير قادرة على تحقيق السلم والأمن الدوليين بصورة نزيهة وعادلة، فإنه في تقديري حان الوقت للبحث عن نظام عالمي جديد يتحقق فيه الأمن والسلم الدوليين.

فمتى تدرك المحكمة الجنائية الدولية أنها بحاجة لمراجعة قوانينها ليتم تطبيقها على جميع الدول الأعضاء بالأمم المتحدة، لضمان وجود محاكمات عادلة ومستقلة من أجل تحقيق العدالة الشاملة والمنصفة، ومتى تدرك أنها لم تعد تصلح للغرض الذي أقيمت من أجله، وهو ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية؟

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى