الولايات المتحدة وإسرائيل : اعتبارات ومآلات
بقلم : التجاني صلاح عبدالله المبارك – المركز الديمقراطي العربي
من أقوى أنواع العلاقات الدولية التي تربط الدول ببعضها في المجتمع العالمي، هي تلك العلاقة التي تربط الولايات المتحدة باسرائيل، وهي من الأنواع الوثيقة الوطيدة التي تتأكد وتتضح معالمها كل يوم خاصة في ظروف الحرب الدائرة بين إسرائيل وفصائل المقاومة الإسلامية في فلسطين، إذ يشترك الاثننان معا (الولايات المتحدة واسرائيل)، في محاولة محو المقاومة الفلسطينية تماما، والتأكيد على يهودية الدولة في فلسطين، ومحاولة خلق واقع جديد لا ذكر فيه للقضية الفلسطينية .
مع هذا فإنه بمقدور أي مراقب ان يلاحظ أن الواقع العملياتي في حرب طوفان الأقصى يؤكد هذه العلاقة الوطيدة بين الدولتين، واستمراريتها على هذا النحو الذي تحاول فيه إسرائيل محو الهزيمة المرة التي لحقت بها من الضربات الأولى الموجعة، وتأكيد يهودية الدولة بمساعدة واسناد الحليف الرئيس والأساسي (الولايات المتحدة).
ولا شيء يرسخ ويقوي من جذور هذه العلاقة الوثيقة الضاربة بين الولايات المتحدة وإسرائيل في تقديري، حتى تبدو الدولتين كجسم واحد لهما نفس القرارات والمواقف والأفعال، سوى تمكن الصهيونية العالمية من مفاصل الادارة في الولايات المتحدة، وهو ما يفسر كل ردود الافعال والقرارات التي تبدو متسقة تماما بين الادارتين، خاصة بعد وصول اليمين المتطرف للسلطة في إسرائيل، وهذا التمكن يعتبر من أسلم الطرق وأنجعها كما ترى القيادات الإسرائيلية، لمواصلة الصهيونية العالمية في ادارة والسيطرة على الملفات الساخنة والملتهبة في المنطقة، والتي تراعي في الأول والأخير المصلحة الإسرائيلية وبقاء الدولة.
غير أن هذه العلاقة القوية بين الدولتين (الولايات المتحدة وإسرائيل)، تعتمد أيضا على عدة اعتبارات أخرى تسهل من الامساك تماما بهذه العلاقة وتغذيتها ودفعها إلى مراحل متقدمة، ومتجاوزة كل الأصوات التي تبدو معاكسة ومناهضة لهذا الخط من الانصهار والعمل المشترك، منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: ضعف الانظمة العربية في المنطقة، فهي إما أنظمة عميلة تماما، يهمها مصلحتها وتشبثها بالسلطة كما هو منظور ، وإما تحاول دفن رأسها في الرمال، مرتضية بسياسة الوضع الراهن، إذا لم يكن في ذلك ما يمس استقرارها او وجودها، وكان الأوجب لهذه الأنظمة، أن تعمل قدر الإمكان لفصم هذه العلاقة القوية، أو محاولة إضعافها وفضحها بالوسائل المتاحة، في وقت بات فيه العالم قرية صغيرة، بما يحقق عزل إسرائيل قدر الإمكان عن حليفها الأساسي والرئيس.
ولأن محاولة الاقتراب من هذه الحلقة أو الرباط الذي يربط الدولتين ببعضهما وكسرها على النحو الذي يجعل من إسرائيل دولة معزولة عن حليفها الرئيس والأساسي هو من الأشياء التي توليها مراكز القرار في كلا الدولتين عناية ورعاية كبيرة، فقد كان من الطبيعي ومن مصلحتهما الاثنين معا أن تظل الأنظمة العربية في حالة ضعف دائم، حتى لا تجرؤ على كسر هذه الحلقة الرابطة ، وأكثر من ذلك، أن يظل كل صوت يدعو إلى استقلال القرار الأمريكي بعيدا عن المصلحة الإسرائيلية، أيضا في حالة ضعف دائم. بات هذا ضربة لازب.
ثانيا: العلاقات الاقتصادية والعسكرية التي تربط كلا الدولتين بدول المنطقة العربية، وهذا ما نجحت فيه إسرائيل والولايات المتحدة بالفعل، حتى ظهر الى حيز الوجود في هذه الألفية، مفردات حديثة ومختلقة، مثل صفقة القرن، وعمليات التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، في محاولة لفرض واقع جديد يقوم على تضييع القضية الفلسطينية،ومحوها من الأذهان، والقبول بالمكون الإسرائيلي في الوسط العربي باعتباره واقعا جديدا لا بد التعايش معه،وقبوله.
ثالثا: تمرير مشاريع جديدة يبدو ظاهرها الاهتمام الإقتصادي الصرف لدول المنطقة، مثل مشروع الممر الاقتصادي الذي ظهر مؤخرا للعلن، لكن بواطن هذه المشاريع الاقتصادية هو ايضا يصب في ذات الواقع الجديد الذي تحاول فيه كلا الدولتين تضييع القضية الفلسطينية ومحوها من الأذهان ما أمكن.
رابعا: ادخال المنطقة العربية في دوامة الفوضى الخلاقة والحروب، وتغذية هذه الحروب قدر المستطاع، و ملاحقة التنظيمات الإسلامية المتطرفة وتجفيف منابع الارهاب في كل القارات، ولا يخفى أن الغرض منه صرف النظر عن التمدد والتمكن الإسرائيلي في المنطقة، والاستيلاء على الموارد الطبيعية،وتأمين مصالحهما، بما ينطوي ذلك على تصوير تلك التنظيمات المتطرفة والمعتدلة على السواء، بأنها المهدد الأول والأخير في المنطقة العربية، أو بالأحرى مهدد رئيس وأول للعروش العربية، وإطالة هذه الحروب بما يحقق ذلك تفكيك الجيوش العربية، وانهاكها، ووصولها الى مستوى عال من الضعف والتفكك، بما يضمن للجانب الإسرائيلي والأمريكي معا ميزات التفوق والتفرد والقوة.
خامسا: تمكن الدولتين معا من المنظمات والمجمعات الأممية، مثل منظمة الأمم المتحدة، ومقدرتهما على تجاوز وتحريف وتبديل النصوص التي تجرم سلوكهما في اعمال الحرب والابادة والتجويع والقتل الجماعي في غزة.
ما لم يتغير، هو استمرار الولايات المتحدة في الدفاع عن إسرائيل، وفقط قبل أيام، رفعت سفيرة الولايات المتحدة، ” ليندا توماس غرينفيلد “، يدها للمرة الرابعة، في 20 فبراير/شباط الماضي، مستخدمة حق النقض مرة أخرى، رافضة بذلك الدعوة الجزائرية لوقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في قطاع غزة.وحتى في محكمة العدل الدولية، عندما دافع العالم أجمع عن الحرية الفلسطينية، عارضت الولايات المتحدة ذلك، ودافعت عن إسرائيل. [1]
مع ذلك ورغم صعوبة اختراق تلك الاعتبارات المساعدة والمسهلة في توثيق علاقة الدولة الأمريكية بالمكون الإسرائيلي والذي من نتائجه السئية هي الابادة التامة والقتل الجماعي الذي يتعرض له الفلسطينيين على مدى خمسة أشهر، فإنه يمكن قراءة عدة عوامل أخرى ربما تعمل على اختراق تلك العلاقة الوثيقة، منها:
أولاً: استمرار الحرب الروسية الاوكرانية وكلفتها الباهظة لدى اوكرانيا والولايات المتحدة،بما ينعكس سلبا على المخزون الإستراتيجي من الأسلحة في الولايات المتحدة ونقص الذخائر ، وهو ما يعني استنزافا للآلة العسكرية الأمريكية وعدم مقدرتها في تحقيق السيطرة التامة على الأرض.
ورغم تصريحات وزير الدفاع الأمريكي” لويد أوستن ” أن الولايات المتحدة لن تسمح بسقوط أوكرانيا إلا أن الكونغرس الأمريكي يشهد خلافا كبيرا بين الديمقراطيين والجمهوريين بشأن حزمة المساعدات الأمريكية ل-أوكرانيا في وقت تعاني فيه أوكرانيا نقصا في الذخائر، وفي وقت تعلن فيه روسيا أن قواتها حققت مكاسب إضافية في شرق أوكرانيا بعد السيطرة على مدينة أفدييفكا.
أعرب أوستن عن أمله في أن يوافق الكونغرس على الدعم الإضافي “قريبا”، وقال إن مساعدة أوكرانيا تفيد واشنطن وكييف على حد سواء.وقال في مؤتمر صحافي إن “الولايات المتحدة تقف بجانب أوكرانيا لأن هذا هو الأمر الصحيح الذي يجب القيام به ولأن أميركا تتحرك عندما تكون الحرية في خطر. لكننا نقف أيضا بجانب أوكرانيا لأن ذلك مهم جدا بالنسبة إلى أمننا”.[2]
من ناحية ثانية فإن تعدد الجبهات التي وقعت فيها الادارات الأمريكية، مثل المأزق والجبهة الروسية والمأزق الفلسطيني، من شأنه أن يكون عاملا يخدم فصائل المقاومة الإسلامية في عزل الولايات المتحدة عن إسرائيل، إذ يبدو من الصعوبة بمكان أن تقدم المساعدات العسكرية لرقعتين في آن واحد.
ثانيا:مع دخول حرب طوفان الأقصى شهرها السادس فإنه يمكن ملاحظة ان العقيدة القتالية والارادة القتالية لدى فصائل المقاومة الإسلامية قد حققت جزء ولو يسير من الاختراق الكبير في كسر علاقة الدولتين ببعضهما، وهو ما يمكن ملاحظته بوضوح في عدة مشاهد منها:
الانقسام الداخلي الحاد في اوساط القيادة الإسرائيلية والأمريكية، ففي الأولى تزايدت الانقسامات العميقة في القيادة الإسرائيلية الى الحد الذي يسعى فيه ” نتنياهو ” نحو تحقيق فكرة إجراء انتخابات مبكرة؛ وما إذا كان ذلك التكتيك الأفضل بالنسبة له، في محاولة لإبقاء قبضته على السلطة، خاصة مع تصاعد الضغوط في الداخل والخارج. [3]
ويتمثل الضغط الداخلي في مطالبة السياسيون المعارضون الذين انضموا الى حكومة الحرب منذ فترة طويلة، من أجل التوصل إلى اتفاق مع حماس لتأمين عودة الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة، ومطالبة المشرعون من حزب الليكود من ناحية ثانية فضلا عن اليمينيين المتطرفين في الائتلاف الحاكم، من أجل استمرار العمليات العسكرية بأقصى سرعة، إلى أن يتم (القضاء على حماس)، كما أنهم يرفضون تماما المطالب الأمريكية والأوروبية بخطة “اليوم التالي” التي تتضمن مفاوضات حقيقية لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة.
وفي الوسط الآخر وهو الإدارة الأمريكية، فقد انتهى الحال ب- “بايدن” إلى الانهيار والصراخ بعد معرفته بأرقام استطلاعات الرأي الخاصة به في ميتشيغان وجورجيا قد انخفضت بسبب طريقة تعامله مع الحرب الإسرائيلية على غزة.[4]
بعد هذا فإنه يمكن القول إن الارادة القتالية والعقيدة القتالية لدى فصائل المقاومة الإسلامية التي استطاعت الصمود طيلة هذه الشهور، ونجحت في اذلال جيش الدفاع الإسرائيلي وتحويل مجريات الحرب الى حرب استنزاف طويلة، ربما تتمكن من كسر هذه الحلقة التي تربط الدولتين بعضهما ببعض، رغم كل الاعتبارات التي قدمنا شيئا منها خاصة اذا تطور المشهد إلى حالة الحرب الإقليمية الشاملة والتي بدت ملامحها في التشكل الآن.
المصادر:
[1]_”لأجل عيون إسرائيل”.. الولايات المتحدة تهدم النظام العالمي الذي بنته، موقع الجزيرة نت، 8 مارس /آذار 2024،(تاريخ الدخول: 21 مارس /آذار 2024):https://tinyurl.com/mwx7ez99
[2]_وزير الدفاع الأمريكي: واشنطن “لن تسمح بسقوط أوكرانيا، موقع صحيفة القدس العربي، 19 مارس/آذار 2024،(تاريخ الدخول: 21 مارس /آذار 2024): https://tinyurl.com/3b8wk7t5 [3]_هل يسعى نتنياهو لإجراء انتخابات مبكرة؟.. تقرير يُجيب، موقع عربي 21، 19 مارس/آذار 2024،(تاريخ الدخول: 21 مارس /آذار 2024): https://tinyurl.com/bdd9ws76 [4]_بايدن ينهار ويصرخ في وجه النواب بالبيت الأبيض بسبب غزة، موقع عربي21،20مارس/آذار 2024،(تاريخ الدخول: 21 مارس /آذار 2024):https://tinyurl.com/3pwwzkt6