الدراسات البحثيةالمتخصصة

معارك البدايات

The battles over beginnings

بقلم: ديفيد بولانسكي(*)زميل باحث في معهد السلام والدبلوماسية. ظهرت كتاباته في مجلات: كويليت Quillette، والمعيار الجديد New Criterion، ومراجعة السياسة The Review of Politics، وغيرها. ويعيش في تورونتو، كندا

ترجمة: د. حمدي عبد الحميد الشريف(*)دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج

  • المركز الديمقراطي العربي

– تساعدنا رؤى نيكولو مكيافيلي العميقة حول الأصول العنيفة للمجتمعات السياسية على فهم عالمنا اليوم.

 

كتب فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche (1844-1900) ذات مرة: «إن الإنسانية تحب أن تطرح من بالها أسئلة الأصل والبدايات». ومع الاعتذار لنيتشه، نقول: «إن التساؤلات حول الأصول والبدايات» تصبح في الواقع أكثر إثارة خلافًا وأكثر إثارة للجدل. فقد أعادت الحرب المستمرة بين إسرائيل وغزة فتح المناقشات القديمة حول الظروف التي أدت إلى تأسيس إسرائيل وأصول أزمة اللاجئين الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، في خطاب ألقاه عشية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، أصر فلاديمير بوتين على أن روسيا «منذ زمن سحيق» كانت تضم أوكرانيا دائمًا، وهو الوضع الذي تعطل بسبب إنشاء الاتحاد السوفييتي. وفي الولايات المتحدة، أثار مشروع 1619 الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز قدرا لا يستهان به من الجدل في ضوء الإصرار على أن الأصول الحقيقية للولايات المتحدة لا تكمن في دستورها الرسمي بل في إدخال العبودية إلى أمريكا الشمالية.

وبعبارة أخرى، فإن العديد من النزاعات السياسية الواضحة اليوم لديها طريقة لإعادتنا إلى بدايات الأشياء، من خلال إنتاجها وخوضها جزئيًا في ضوء ادعاءات قوية حول الأصول. ومع هذا، فإن القيام بذلك نادرًا ما يساعد في حلها. ولأن هذه المناقشات أصبحت منتشرة في كل مكان، فقد لا ندرك مدى غرابة انشغالنا بالأصول السياسية. فالبدايات، في نهاية المطاف، بعيدة كل البعد عن القضايا المطروحة لتكون مصدرًا للضغط في الخلافات الجارية أو مصدرًا للجدل في حد ذاتها. ولماذا يجب أن يكون الماضي البعيد أكثر أهمية من الماضي القريب أو الحاضر؟ ولكي نفهم بشكل أفضل لماذا لا نزال منخرطين في مسألة الأصول، وربما نفكر فيها بشكل أكثر وضوحًا في المقام الأول، فقد يكون من المفيد أن نلجأ إلى مصدر مألوف ولكنه غير متوقع: إنه مكيافيلي.

يشتهر نيكولو مكيافيلي Niccolò Machiavelli  بنصائحه السياسية الصارمة- فهو هو الذي كتب «من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك»- لكنه كان منشغلًا أيضًا بدور العنف في إنشاء المجتمعات السياسية (وإعادة تأسيسها). ولم يتعامل سوى عدد قليل من المفكرين بشكل شامل ومثير للقلق مع موضوع الأصول السياسية مثل مكيافيلي، مما دفع الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير Louis Althusser إلى تسمية مكيافيلي بـ«منظر البدايات». وبالنسبة إلى ميكيافيلي، فإن الأصول تحظى بالاهتمام في المقام الأول لسببين: أولًا، كونها تكشف حقائق أساسية حول عدم ثبات الحياة السياسية والتي تحجبها السياسة العادية؛ وثانيًا، من حيث المبدأ، فإن ظروفها العنيفة قابلة للتكرار دائمًا وفي كل مكان.

وعلاوة على ذلك، فإن منظور مكيافيلي مفيد بالنسبة لنا؛ بسبب الطريقة التي يقف بها خارج تقاليدنا الليبرالية. فكل مجتمع في التاريخ كانت له قصصه الأصلية، لكن مسألة البدايات تفرض تحديات خاصة علينا نحن الذين يعيشون في الدول الحديثة التي بدأت تتشكل لأول مرة في القرن السابع عشر. ولأن شرعيتها تعتمد على طابعها التداولي والتمثيلي. إن كل الدول القائمة تقريبًا- حتى تلك الدول غير الديمقراطية- تدعي أنها تمثل شعبًا معينًا. وإن الحكومة التمثيلية هي إحدى الطرق التي نؤكد بها لأنفسنا أن السلطة السياسية ليست مجرد سيطرة، وأن قواعدها وعملياتها تهدف إلى الحفاظ على حقوق الأشخاص الذين يؤسسونها. وبالتالي، فإننا نحدد أصول المجتمع السياسي مع لحظة التأسيس تلك. وعلى سبيل المثال، يؤكد الفيلسوف الليبرالي العظيم جون لوك John Locke في «الرسالة الثانية للحكومة» (1689) أن «بداية المجتمع السياسي تعتمد على موافقة الأفراد على الانضمام إلى مجتمع واحد وتكوينه؛ والذين، عندما يتم دمجهم على هذا النحو، قد يقيمون شكل الحكومة الذي يعتقدون أنه مناسب».

ومع هذا، ماذا عن حق أي شعب في إنشاء أنظمة سياسية في المقام الأول؟ وإذا ادعى البعض إنشاء نظام سياسي جديد، فمن الذي سيقرر أي الأفراد يندرج ضمن «الشعب» وأيهم لا يندرجون ضمن «الشعب»؟ ومن الذي يقرر ما هي الأراضي التي يحق لهم إنشاء الحكومة فيها؟ وكيف يحدث ذلك في المقام الأول؟

هذه هي الأسئلة التي لا تستطيع الليبرالية الحديثة مواجهتها إلى حد كبير. ويعترف جون رولز John Rawls في كتابه «نظرية العدالة» (1971)، والذي ربما كان العمل الأكثر تأثيرًا في النظرية السياسية خلال الخمسين عامًا الماضية، بأن مبادئه حول العدالة تفترض ببساطة وجود مجتمع وطني مستقر ومكتفي بذاته. وفي وقت سابق، واجه توماس هوبز Thomas Hobbes، ولاحقًا إيمانويل كانط Immanuel Kant، هذا السؤال بشكل أكثر صراحة، لكن كلاهما حذرا من البحث عن أصول مجتمعاتنا على الإطلاق، لأنه، كما كتب هوبز في عام 1651، « نادرًا ما يوجد كومنولث في العالم يمكن تبرير بداياته بنوع من الراحة».

ولا يعني ذلك أن التقليد السياسي الليبرالي (وهو التقليد السائد في معظم دول العالم المتقدمة) يجهل ببساطة أصوله السياسية؛ لكنه يتعامل معها بطريقة مقصودة ومجردة بعيدة عن الحقائق التاريخية الفوضوية وراء تكوين الدول والأمم. والملاحظ أن الكلمات الافتتاحية للمقال «الفيدرالي» الذي كتبه ألكسندر هاملتون Alexander Hamilton دفاعًا عن دستور الولايات المتحدة الناشئ، قد طرحت هذا السؤال قبل قرنين ونصف من الزمان، حيث يقول:

«السؤال هو: هل كانت المجتمعات البشرية قادرة حقًا أم لا على إنشاء حكومة صالحة في ضوء التفكير والاختيار، أو ما إذا كان مقدرًا لها إلى الأبد أن تعتمد في دساتيرها السياسية على الصدفة والقوة».

وبعبارة أخرى، فقد سعى مؤسسو الولايات المتحدة بشكل واعي إلى خلق مجتمع جديد كليًا يقوم على مبادئ عادلة بدلًا من الأحداث العرضية التي أدت إلى ظهور الحكومات السابقة، وبالتالي تقديم نموذج للدساتير الليبرالية في المستقبل. لكن الصدفة والقوة هما ببساطة الدعائم الأساسية للتاريخ. وهما يمثلان أيضًا، كما تصادف، ضروريات البقاء في نظر مكيافيلي.

وهناك اثنان من أعمال مكيافيلي السياسية الكبرى، اللذان نُشرا بعد وفاته في الفترة من 1531 إلى 1532- «خطابات عن ليفي»، ومعاملته الحكيمة للجمهورية الرومانية القديمة، و«تاريخ فلورنسا»- يفتحان مناقشات حول مصادر السكان أنفسهم. وتظل مثل هذه الأسئلة المتعلقة بأصول السكان ملحة حتى يومنا هذا، كما يتضح من الاتجاه السائد لمفهوم «الأصالة»- أي محاولة تحديد الشعب الأصلي الذي يتمتع بالأصالة والذي له حق ملكية الأرض التي تسبق كل الآخرين- الذي تم تطبيقه على أماكن متباينة مثل كندا وفلسطين وفنلندا وتايوان. وبوسع المرء أن يرى دافعًا مماثلًا وراء بعض المزاعم القومية اليمينية، مثل إصرار جان ماري لوبان Jean-Marie Le Pen على أن الأمة الفرنسية الحقيقية تعود إلى تتويج كلوفيس الأول Clovis I.  في القرن الخامس. فنحن نريد نقطة أصل لا لبس فيها يمكن تثبيت المطالبة المشروعة بالأرض عليها. لكن مكيافيلي ينكر علينا مثل هذه النقطة المستقرة.

– كان جميع السكان الأصليين أجانب ذات يوم، وكان وضعهم مجرد نتيجة نهائية لبعض الغزوات السابقة (ربما المنسية).

في بداية كتابه «خطابات عن ليفي»، يزعم مكيافيلي أن جميع المدن تم بناؤها إما من قبل السكان الأصليين أو الأجانب، لكنه يشرع بعد ذلك في إعطاء أمثلة- مثل مدينة روما وأثينا ومدينة البندقية- كاشفة فحسب عن شعوب إما مشتتة أو شعوب مشتتة أو أُجبرت على الفرار من موطن أجدادها إلى مكان جديد بسبب قوة غازية، أي بواسطة الأجانب. وفي كثير من الحالات، كان الغزاة الذين دفعوا السكان الأصليين للفرار هم أنفسهم فارين من ظروف الحرب. ومن الصعب جدًا منع الهجرة، سواء كانت قسرية أو طوعية. وليس الأمر، على سبيل المثال، أن التحسن العام في الظروف المعيشية قد يضمن الاستقرار الديموغرافي. فاليأس لم يكن إلا عاملًا واحدًا فحسب للهجرة. وفي حالة شعوب الفرنجة والألمان، لم يكن اليأس، بل الازدهار، الذي أدى إلى الاكتظاظ السكاني، هو الذي أجبر السكان على إيجاد أراض جديدة للعيش فيها. وكان هذا هو أصل السكان الذين دمروا الإمبراطورية الرومانية، وفقًا لميكيافيلي، مما أدى إلى إعادة إنتاج الدورة التي أنتجت مدينة روما في المقام الأول من خلال غزو إيطاليا وإنشاء ممالك في أوائل العصور الوسطى.

وهكذا يوضح مكيافيلي أن جميع السكان الأصليين كانوا في يوم من الأيام أجانب (إما أن احتمال وجود شعب «أصلي» مستبعد أو أنهم قديمون للغاية بحيث لا يمكن الحديث عنهم)، علاوة على أنه يمكن الافتراض أن وضعهم ليس سوى النتيجة النهائية لبعض سياسات الغزوات السابقة (وربما المنسية).

وفي ضوء هذه المناقشة حول تأسيس روما، يوضح مكيافيلي اصطناع الأصول «المشروعة». فهو يرى أولًا أن روما كان لها مؤسس محلي هو رومولوس Romulus ومؤسس أجنبي هو سلفه، إينيس Aeneas، الذي استقر في لاتيوم بعد هروبه من تدمير طروادة. لكن هذا يقوض على الفور أي ادعاء قد يكون لرومولوس في المنطقة، بقدر ما يكون مستمدًا من غزو إينيس من طروادة لللاتين (تم تأريخه في الإنيادة لفيرجيل).

وعلاوة على ذلك، يضطر رومولوس إلى تكرار تصرفات سلفه- لأن تأسيس مجتمع جديد، وفقًا لما يرى مكيافيلي، هو دائمًا عمل عنيف، وينطوي على جريمة ذات قدر كبير. ويقدم رومولوس المثال النموذجي بقتل شقيقه ريموس Remus وحليفه تيتوس تاتيوس Titus Tatius. ومن بين هذه الأفعال الفظيعة، يقدم مكيافيلي ملاحظة لافتة للنظر مفادها: «في حين أن هذا الفعل يدين صاحبه، فإن النتيجة تصفح له». وهذا يعني أن الفعل الاستثنائي المتمثل في تأسيس مدينة جديدة (وفي نهاية المطاف إمبراطورية) يغرف لصاحبه ما بدر منه، بل ويتطلب- في هذا الصدد- الصفح عن لجرائم المرتكبة في هذه المهمة. إن رومولوس من الرومان هو مجرد اسم من بين عدد من المؤسسين شبه الأسطوريين الذين يمجدهم مكيافيلي بوصفهم النماذج الأكثر «ممتازة» في كتاب «الأمير»، إلى جانب ثيسيوس من الإغريق، وكورش من الفرس، وموسى من بني إسرائيل. لقد نجحوا جميعًا في تأسيس مجتمعاتهم الجديدة من خلال العنف. وحتى بالنسبة إلى موسى، فإن الفعل الأكثر أهمية لم يكن الهروب من مصر أو تلقي الوصايا في سيناء، بل ذبح ثلاثة آلاف إسرائيلي (وهو عدد يرفعه مكيافيلي إلى «عدد لا نهائي من البشر») بسبب خطيئة عبادة العجل الذهبي.

إن الحقائق الأسطورية التي تقدمها المجتمعات عن أصولها من الممكن أن تظل حقائق، حتى عندما تظل البدايات الأولى محاطة بالأسطورة. ويزعم مكيافيلي أنه يستطيع تقديم «أمثلة لا حصر لها»- وهو المصطلح المفضل لديه- لدور العنف في تشكيل وإصلاح المجتمعات السياسية.

ويضيف مكيافيلي أن هييرو Hiero من سيراكيوز قد يكون بمثابة نموذج مفيد أيضًا. ومع هذا، فإن هذه الخطوة تنحرف بالمناقشة برمتها جانبًا: أولًا، لم يعثر هييرو على أي شيء- فمدينة سيراكيوز كانت موجودة بالفعل عندما وصل إلى السلطة؛ وثانيًا، على الرغم من أن مكيافيلي لن يخبرنا بذلك هنا، فإن هييرو معروف أكثر باسم الطاغية، أي الشخص الذي يكتسب السلطة الملكية بدلًا من أن يرثها. إن وصف مكيافيلي لكيفية حصول هييرو على السلطة كان وصفًا هزليًا ومقتضبًا: «لقد قضى هييرو على الجيش القديم ونظم جيشًا جديدًا؛ لقد ترك صداقاته القديمة وكوّن صداقات جديدة. وعندما تكون لديه صداقات وجنود خاصون به، يمكنه بناء أي مبنى فوق مثل هذا الأساس. لذا، فقد بذل قدرًا كبيرًا من الجهد للحصول على السلطة، لكنه بذل القليل من الجهد للحفاظ عليها».

ويكشف مكيافيلي لاحقًا أن هييرو وصل إلى السلطة من خلال مؤامرة؛ أي من خلال استئجار مرتزقة للسيطرة على سيراكيوز ثُم تقطيعهم بوحشية إلى أشلاء بينما ينسب السلطة السياسية لنفسه. وبمعنى آخر، إذا أردنا أن نفهم كيف تبدو أصول الأشياء حقًا، فيجب علينا الرجوع إلى مثل هذه التواريخ المثيرة للقلق.

وفي وقت مبكر من كتاب «الأمير»، يشير مكيافيلي إلى الحكام المؤسسين، حيث يقول: «في العصور القديمة ومع استمرارية السيادة، يتم القضاء على ذكريات الابتكارات وأسبابها…». وهذا يعني أن معظم الحكام- الذين يسميهم «الأمراء الوراثيين»- هم المستفيدون من بعض الأعمال الفظيعة السابقة من جانب الجد الفاتح الذي تولى العرش في البداية. وبالنسبة إلينا، قد لا يكونون غارقين في الدماء، لكن ما عليك إلا أن تعد إلى الوراء بما فيه الكفاية، وسوف تجد رومولوس- أو هييرو.

ولاحقًا في كتابه «الأمير»، يشير مكيافيلي إلى أنه من السهل نسبيًا على الحاكم أن يحتفظ بمقاطعات ذات عادات مماثلة كان قد سيطر عليها بالفعل لفترة طويلة. لكنه يعرض، على سبيل المثال، حكم فرنسا على بورغوندي، وبريتاني، وجاسكوني، ونورماندي؛ ومن بين هذه المناطق، لم يتم احتلال المدينتين الأوليين إلا خلال حياة مكيافيلي، والثالثة في عام 1453، أي قبل أقل من عقدين من ميلاد مكيافيلي. إن السهولة التي احتفظ بها التاج الفرنسي بهذه الممتلكات- فضلًا عن حقيقة أن هذه المناطق يُنظر إليها الآن ببساطة على أنها مناطق فرنسية- لا ترجع إلى روابطها الدائمة ولكن إلى النجاح الذي تم تهدئتها في البداية.

وكلما حدد المرء حالة حكومة مستقرة ومنظمة، يمكن إرجاعها إلى شكل من أشكال الغزو، سواء كان قديمًا أو حديثًا. إن قصة المجتمعات السياسية تشبه إلى حد كبير تعريف الكاتب والأمريكي وودي آلن Woody Allen للكوميديا: المأساة مضافًا إليها الزمن. وكما تشير أمثلة مكيافيلي الفرنسية، فإن مقدار الوقت المطلوب قد لا يكون كبيرًا حتى إذا كان فعل الغزو ناجحًا.

– قد تضطر إلى قتل أخيك لتأسيس مدينة عظيمة، ولكن ماذا عن اقتراحك بشأن إنارة الشوارع الحضرية؟

بل إن مكيافيلي يؤكد أن العنف الذي ينطوي عليه إنشاء المجتمعات لا يمكن أن يُترك خلف الركب بشكل كامل. ويشيد مكيافيلي بكليومينيس Cleomenes من سبارتا لذبحه القضاة الذين وقفوا في طريقه لتجديد قوانين مؤسس المدينة، وليكورجوس Lycurgus في واحدة من أفعاله التي تجعله يُقارن برومولوس نفسه. كما أنه يعترف أيضًا بحكام فلورنسا في القرن الخامس عشر لبصيرتهم الواعية عندما قالوا إنه من الضروري زرع «هذا الرعب وهذا الخوف في نفوس البشر» من عنف المؤسسات «كل خمس سنوات».

ويجد العديد من قراء مكيافيلي صعوبة في التوفيق بين تفسيره للأصول وبين تجربتنا الفعلية للحياة السياسية. وقد يعتقدون أنه من الجيد أن تعلم أنك قد تضطر إلى قتل أخيك لتأسيس مدينة عظيمة، ولكن ماذا لو كنت تريد فقط العثور على النصاب القانوني لاقتراحك على إنارة الشوارع الحضرية؟

أو كيف تساعدنا تعاليم مكيافيلي حول الأصول السياسية على فهم العالم الحالي؟ فمن ناحية، فهو يقدم نظرة ثاقبة لأشكال العنف المتكررة التي لا تزال (وستستمر) تندلع على طول الحدود غير المستقرة وفي الأماكن حيث لا تزال الدول في طور التشكل.

إن قائمة الفظائع التي أحاطت بإبداعات الدول القومية في القرن العشرين وحدها ستشمل (من بين أمور أخرى): طرد الأرمن من الإبادة الجماعية في عام 1915؛ وعمليات طرد الألمان العرقيين بعد الحرب من دول أوروبا الشرقية المجاورة؛ والطرد المتبادل للهندوس والمسلمين من باكستان والهند (على التوالي) أثناء التقسيم في عام 1947؛ والطرد المتبادل للعرب واليهود من إسرائيل وجيرانها (على التوالي) من عام 1947 إلى عام 1949؛ وهروب الأقدام السوداء من الجزائر عام 1962؛ وتهجير الأرمن والأذريين من ناجورنو كاراباخ في الثمانينيات والتسعينيات؛ والتطهير العرقي المتبادل طوال حروب البلقان في التسعينيات، وأكثر من ذلك. ومع هذا، فإننا لا نزال نرى هذه بوصفها استثناءات في الحكم في النظام السياسي.

إن مجموعة الحوادث التي نربطها بتشكيل دولنا الحديثة (والتي تشكل مصدرًا للكثير من الجدل المستمر) ليست في الحقيقة سوى أحدث مجموعة من الروابط في مجموعة أطول كثيرًا ليس لها بداية معروفة.

ولا تزال الحوادث والقوة تكمن تحت سطح سياساتنا اليومية، وتهدد بالظهور من جديد. وهذا ليس بالأمر السهل قبوله. وحتى في الأوقات الأكثر هدوءًا، فإن ضمائرنا لا تزال تزعجنا، مثل مسرحية شكسبير بولينغبروك Bolingbroke  بعد أن خلع ريتشارد الثاني. وعلاوة على ذلك، نريد أن نرى أسسنا ليست عادلة فحسب، بل آمنة أيضًا. ورؤيتها على خلاف ذلك يعني الاعتراف بأن ظروفنا تظل في الأساس في حالة تغير مستمر. وإذا كانت كل الأشياء تتحرك، فماذا سيحدث لنا؟

ومن هنا يبدو أن شيئًا مثل هذا القلق يكمن وراء الطريقة التي نتحدث بها عن الأصول السياسية اليوم. وبالتفكير مع مكيافيلي، يمكننا أن نرى كيف أن التقليد الليبرالي للفكر السياسي الذي يعود إلى مئات السنين لم يؤهلنا بشكل جيد للتفكير بشكل أخلاقي حول أصولنا التاريخية. والنتيجة، عند مواجهة هذا الموضوع، تميل إما إلى الهروب إلى القومية الدفاعية أو الإدانة الأخلاقية.

وفي حين أن عمل مكيافيلي يمكن أن يُنظر إليه بسهولة على أنه سخرية، فإن المقياس اللائق للسخرية هو الواقعية فقط. ومن الممكن أن يحصننا الموقف الواقعي في التعامل مع الحياة السياسية من التقديس واليأس، مما يسمح لنا بالاعتراف بصدق بالجرائم التي ساهمت في تشكيل مجتمعاتنا السياسية دون أن يتطلب منا أن نصبح محتقرين لبلداننا.

– قد نتعلم من الأمثلة على المخاطر الكبيرة التي ينطوي عليها الحفاظ على نظامنا السياسي.

على نحو مماثل، قد يكون من السهل قراءة مكيافيلي بوصفه شخصًا يفضح الحكايات التنويرية التي تحيط بأساس المجتمعات الجديدة، من أساطير اليونان القديمة إلى احتفالات عيد الاستقلال الحديثة. ويبدو أنه يقول: «هذا ما حدث بالفعل». ولكن من المهم أن ندرك أن منظوره لتفسير الأصول السياسية لا يهدف إلى التجريم، بل إلى التثقيف.

كذلك فإن عمله يحمل أيضًا تحذيرًا: فالظروف الخارجة عن القانون وغير المؤكدة المحيطة بأصولنا تعكس الاحتمالات الدائمة في الحياة السياسية. إنها لحظات حاسمة يتبين فيها أن قوانيننا القائمة غير كافية، لأنها صيغت في ظل ظروف مختلفة عن تلك التي قد نواجهها حاليًا، الأمر الذي يتطلب بالتالي اتخاذ إجراءات جريئة لإعادة البناء بالروح نفسها التي تأسست بها القوانين في الأصل.

وقد لا نكون مضطرين إلى اتباع خطى شخصيات مستبدة مثل كليومينيس من إسبرطة أو ميديشي Medici  في فلورنسا في العصور الوسطى، وجميعهم استخدموا عنفًا رهيبًا في أعمال الإصلاح وإعادة البناء. ولكننا قد نتعلم من مثل هذه الأمثلة على المخاطر الدرامية التي ينطوي عليها الحفاظ على نظامنا السياسي- على حد تعبير الفيلسوف كلود ليفورت Claude Lefort في عمله الرائع لعام 2012 عن مكيافيلي: «هذه هي حقيقة العودة إلى الأصل؛ إنها ليست عودة إلى الماضي، بل في الحاضر، استجابة مماثلة لتلك التي قدمت في الماضي».

وهذا جزء من القيمة التي نكتسبها من قراءة مكيافيلي: إن مواجهة الآثار المزعجة لأصولنا قد تساعدنا على إعداد أنفسنا بشكل أفضل للتقلبات المستمرة في الحياة السياسية. ففي نهاية المطاف، قد يكون نظامنا الراسخ هو الشيء الوحيد الذي يقف في طريق الأصول الجديدة لدى شخص آخر.

 (*) David Polansky: The battles over beginnings, Aeon, 8 March 2024.

 (*) ديفيد بولانسكي: زميل باحث في معهد السلام والدبلوماسية. ظهرت كتاباته في مجلات: كويليت Quillette، والمعيار الجديد New Criterion، ومراجعة السياسة The Review of Politics، وغيرها. ويعيش في تورونتو، كندا..

 (*) د. حمدي عبد الحميد الشريف: دكتوراه في الفلسفة من جامعة سوهاج (2015)، أستاذ الفلسفة السياسية المساعد في كلية الآداب، ووكيل كلية الدراسات العليا والبحوث البيئية في جامعة سوهاج، وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية المصرية في مجال العلوم الاجتماعية لعام 2023، ومن بين كتبه: (الدين والثورة بين لاهوت التحرير المسيحي واليسار الإسلامي المعاصر، 2016)، (فلسفة الكذب والخداع السياسي، 2019)، (مفهوم العدالة في فلسفة مايكل وولتـزر السياسية، 2020)، (الرمزية السياسية: مفهوم الرمز ووظيفته في الفكر السياسي، 2023)، وأخرى غيرها، ولديه العديد من البحوث والدراسات المنشورة في مجلات محكمة، إضافة إلى عديد من المقالات الفلسفية، وعدد من الترجمات. وهو عضو محكِّم في عديد من المجلات والدوريات العلمية والعربية، وعضو خبير في لجنة (فحص المشروعات والجوائز ومكافأة النشر العلمي) في جامعة سوهاج.

العنوان الأصلي للمقال: The battles over beginnings، ونُشر في موقع Aeon، في 8 مارس 2024.

رابط المقال: https://aeon.co/essays/machiavelli-on-the-problem-of-our-impure-beginnings

مجال تخصص المقال: (الفلسفة السياسية- القيم والاعتقادات- السياسة والحكومة)

5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى