تداعيات هجوم كورسك على مسار الحرب الروسية الأوكرانية
إعداد : محسن عادل – باحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية
- المركز الديمقراطي العربي
شكل الهجوم الأوكراني في منطقة كورسك الروسية منعطفاً كبيراً في مسار الحرب الحالية، ففي 6 أغسطس الماضي تحركت القوات المسلحة الأوكرانية إلى منطقة كورسك الروسية فيما وصف بأنه أكبر هجوم بري ضد روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، وتمكنت القوات الأوكرانية من السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي الروسية، ما أثار ردود فعل متباينة بين المحللين وفي الواقع لم يتوقع الروس، بعد حربهم مع أوكرانيا في فبراير 2022، أن تقلب أوكرانيا الطاولة وترد بأول احتلال للأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية، ويحمل هذا الهجوم في طياته العديد من المؤشرات وكذلك التحديات في إطار رد الفعل الروسي، والتداعيات المستقبلية في محاولة لترجيح كفة الحرب لصالح كل طرف.
وتحظى منطقة كورسك على وجه الخصوص بأهمية كبيرة في التاريخ الروسي، حيث كانت مسرحا لأكبر معركة دبابات في التاريخ خلال الحرب العالمية الثانية، وهي المعركة التي مثلت نقطة تحول في الحرب عندما أطلقت ألمانيا عملية القلعة والتي كانت بمثابة رد هتلر على هزيمته المدمرة على يد الجيش الأحمر السوفيتي في معركة ستالينغراد، حيث كانت معركة كورسك التي وقعت في الفترة من 5 يوليو إلى 23 أغسطس من عام 1943، هي التي شهدت نجاح القوات السوفييتية في إحباط هجوم مضاد كبير للنازيين، ولعقود من الزمن كان انتصار السوفييت في كورسك مصدر فخر كبير للروس باعتبارها نقطة تحول، حيث استولى الجيش الأحمر على زمام المبادرة، ويمثل النصر السوفييتي في الحرب العالمية الثانية أمرا مهما لرئاسة فلاديمير بوتين، وذلك في سعيه إلى تعزيز الفخر الوطني، فهل يعيد التاريخ نفسه؟([1])
أوكرانيا من التفاوض إلى الهجوم
ووفقًا لصحيفة واشنطن بشأن” و هجوم الأوكراني المفاجئ على الأراضي الروسية في 6 أغسطس إلى إلغاء المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار الجزئي بين الجانبين، كما كان مخططًا له، والذي كان من شأنه أن يوقف كييف وموسكو عن مهاجمة البنية التحتية المدنية للطاقة على أراضي بعضهما البعض، حيث أكد الدبلوماسيون والمسؤولون المطلعون على التفاصيل أن أوكرانيا وروسيا كانتا تعتزمان التفاوض بشكل غير مباشر والتوصل إلى اتفاق بشأن ”وقف إطلاق النار الجزئي“ ووفقًا للمسؤولين، تم إسقاط القضية من جدول الأعمال المباشر بسبب غزو أوكرانيا لكورسك.
وينبع الوضع الحالي من الهجوم الأوكراني المستمر ومطالبة كييف بالمزيد من الأراضي ووفي الوقت نفسه، أعلنت وزارة الخارجية الروسية أن أوكرانيا استخدمت صواريخ غربية، ربما تكون أمريكية الصنع من طراز هيمارس، لتدمير جسر فوق نهر سيم في منطقة كورسك، مما أسفر عن مقتل متطوع كان يحاول إجلاء المدنيين، كما تأتي هذه العملية متزامنة مع اتهامات روسية أخرى لأوكرانيا وجهتها موسكو حينما أعلنت الإدارة العسكرية بمقاطعة خاركوف، أن القوات الأوكرانية تخطط لاستخدام عبوات برؤوس حربية تحتوي على مواد مشعة لمهاجمة محطتي كورسك وزابوروجيا للطاقة النووية.([2])
أهداف التوغل الأوكراني في الكورسك
هناك عدد من الدوافع والأهداف التي أدت إلى قيام اوكرانيا بالقيام بهجوم بالداخل الروسي، أهمها ما يلي:
– ضمان الدعم الغربي لأوكرانبا: من أهم الأهداف التي دفعت القوات الأوكرانية للهجوم المفاجئ، هو القلق من وصول ترامب للبيت الأبيض، مما يؤدي لوقف المساعدات العسكرية الأمريكية؛ وذلك يضع كييف أمام خيارين لا ثالث لهما، وهما: استمرارية الحرب دون مساعدات أمريكية، وهي مساعدات لا غنى عنها، لضمان موازنة قوة أوكرانيا مع روسيا؛ أو قبول التفاوض بالشروط الروسية ؛ ومن ثم خسارتها لأجزاء من أراضيها لصالح روسيا؛ ولذلك جاء هذا الهجوم ليمثل دافعاً جديداً للمؤسسات الغربية بما فيها الأمريكية لاستمرار تقديم الدعم العسكري، وزيادة الثقة في القدرة الأوكرانية على تحقيق تحسن على الأرض.
– تحسين شروط التفاوض لعقد اتفاق سلام: تسعى كييف الضغط على موسكو لتغيير موقفها المسبق والمشروط من محادثات السلام، والسيطرة على أجزاء من الأراضي الروسية، لتكون ورقة ضغط في المفاوضات مع موسكو، خاصةً بعد تصريحات ترامب المتتالية، الذي أكد فيها بقدرته على إنهاء الحرب الأوكرانية في غضون 24 ساعة فقط، حال أعيد انتخابه رئيسا، حيث تعتقد واشنطن والناتو بأن نقل الصراع إلى داخل الأراضي الروسية عبر التوغل البري سيؤدي إلى حدوث انقسامات في الداخل الروسي يمكنها أن تضعف موقف القيادة الروسية وتدفعها إلى تقديم التنازلات، ولكن هذه المقامرة تخاطر بدفع روسيا لتصعيد عملياتها العسكرية بشكل أكثر شراسة، كرد على العملية الأوكرانية، كما أن هذه المقامرة قد تخدم بوتين داخلياً؛ إذ يمكن أن يستخدم العملية لإشعار المواطنين الروس أنهم تحت خطر غزو حقيقي؛ ومن ثم زيادة نسبة الدعم الشعبي للعمليات العسكرية.
– استهداف محطة كورسك للطاقة النووية: من الأهداف الخطرة والمحتملة للهجوم الأوكراني هو التهديد باستهداف محطة كورسك للطاقة النووية، إذ تعتقد كييف أن ذلك سيمنحها ورقة ضغط يمكن أن تستخدمها لمنع موسكو من استهداف محطات الطاقة في الداخل الأوكراني، وخصوصاً قبيل قدوم الشتاء، وفي ظل أزمة الطاقة التي تعانيها أوكرانيا. .([3])
وفي مقابلة حصرية مع شبكة سي إن إن بعد الهجوم الأوكراني على الكورسك، قدم القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية أوليكساندر سيرسكي التفسير الأكثر تفصيلاً حتى الآن للأسباب وراء التوغل، وقال: إن الهدف من ذلك كان منع روسيا من استخدام كورسك كنقطة انطلاق لهجوم جديد، وتحويل قوات موسكو عن مناطق أخرى، وإنشاء “منطقة أمنية” ومنع قصف المدنيين عبر الحدود، وأسر أسرى الحرب، وتعزيز الروح المعنوية للقوات الأوكرانية والأمة بشكل عام.
من جانبه، قال زيلينسكي إن هدفًا آخر للعملية، هو إظهار لحلفاء كييف الغربيين أنه مع الدعم المناسب، يمكن لجيشها الرد والفوز في نهاية المطاف بالحرب، حيث تواجه أوكرانيا ضغوطا على جبهتها الشرقية منذ أغلب هذا العام، ولا تزال تكافح للتعافي من الانتكاسات الضخمة الناجمة عن التأخير في تسليم المساعدات العسكرية الأمريكية في الشتاء الماضي وفي الربيع.([4])
وما زال الهدف النهائي من عملية كورسك غير واضح تماماً، رغم الخطوات الأوكرانية على الأرض، بما في ذلك على صعيد الحديث عن إعلان منطقة عسكرية وفتح ممرات إنسانية لخروج المدنيين، أو الخطة التي تكلمت عن إنشاء «منطقة عازلة» في كورسك لتخفيف الضغط المدفعي والصاروخي الروسي على المناطق الأوكرانية المحاذية للحدود. لكن الأكيد وفقاً لتقدير خبراء عسكريين أن درجة نجاح الهجوم المباغت فاجأت حتى الأوكرانيين أنفسهم، الذين بدأوا نقاشات لتحديد آليات الإفادة من الوضع الجديد.
الرد الروسي
تواصل روسيا عملياتها شرقا، للرد على هجوم كورسك كما بات متوقعا، حيث تقابل المكاسب الأوكرانية في كورسك خسائر في منطقة دونيتسك شرقا، حيث أعلنت روسيا عن سيطرتَها على مجموعة من البلدات والقرى في دونيتسك في الأسابيع الأخيرة، ويواصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هجومه الاتهامي لأوكرانيا، وقال إن قوات كييف حاولت ضرب المحطة النووية في مدينة كورسك، كما تم إجلاء مائة وخمسة عشر ألف مدني من المناطق الحدودية في مقاطعة كورسك.
الاتهامات وعمليات الإجلاء تترافق أيضا مع مخاوف دولية من الرد الروسي حيث قالت السفارة الأمريكية في كييف أن هناك خطرًا متزايدًا من هجمات روسية بصواريخ وطائرات مسيرة على أنحاء أوكرانيا خلال الأيام المقبلة، وكان بوتين توعد بالرد بشكل متكافئ على التوغل الذي وصفه بأنه استفزاز شديد، وبالفعل قد أعلنت روسيا الخميس الثاني عشر من سبتمبر أن جيشها استعاد 10 قرى من القوات الأوكرانية في منطقة كورسك الحدودية الروسية، ومازال الرد الروسي مستمر.
سيناريوهات وتحديات أمام هجوم كورسك الأوكراني
هناك أربع سيناريوهات لتطور الأحداث في منطقة كورسك.
السيناريو الأول: الفخ الروسي واستدراج الجيش الأوكراني، حيث يرى المحللون أن بوتين كان ينتظر هذه الخطوة ليعيد ترتيب الأمور بشكل جذري فالخبراء العسكريون يرون أن أوكرانيا لم تنتصر في كورسك، بل روسيا هي من استدرجت كييف للدخول في الأراضي الروسية، لتكون ذريعة لبوتين من أجل أن يقوم بتطوير هجومه بأسلحة محرمة ضد أوكرانيا وكسر حالة الجمود الموجودة في الحرب، فبعد هذا الهجوم إذا قام بوتين بهجوم مضاد مدمر، فلن يلومه لائم، فهو قد أعلنها مسبقاً، قائلاً: سنستخدم جميع أسلحتنا في حالة إذا كان هناك خطر وجودي يهدد أمن روسيا.
السيناريو الثاني: الأكثر اندفاعاً، الاحتفاظ بالأراضي الروسية التي أمكن الاستيلاء عليها، حتى التقدم أكثر، من أجل سحب مزيد من القوات الروسية من أوكرانيا، وتشتيت القوات الروسية وتخفيف ضغطها على القوات الأوكرانية في الجبهات، مما يمكنها الحصول على أوراق مساومة في المفاوضات المستقبلية، خاصةً بعد قرب الانتخابات الأمريكية، واحتمالية فوز مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب الذي أكد في السابق أكثر من مرة ، أنه قادر على “تسوية” حرب روسيا في أوكرانيا في غضون 24 ساعة إذا تم انتخابه مرة أخرى لمنصبه في نوفمبر المقبل، ولكن هذا أمر محفوف بالمخاطر ، لأنه سيكون من الصعب على القوات الأوكرانية توفير غطاء للحرب الإلكترونية والدفاع الجوي، حتى للقوات المتمركزة جيداً في مثل هذه المنطقة الواسعة.
وأما السيناريو الثالث فيقوم على الانسحاب جزئياً إلى مواقع أكثر أمناً أقرب إلى الحدود الأوكرانية، وسيتطلب الأمر قوات أقل عدداً، وتوفير دعم مدفعي أفضل ولوجستيات أفضل، وتأمين قاعدة لمزيد من الهجمات في المستقبل. ويشير مصدر لمجلة «الإيكونوميست» في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية إلى أن هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً، وقد جرى بالفعل نقل جزء من الخدمات اللوجستية – قوات الهندسة والوقود والمستشفيات الميدانية وقواعد الغذاء والإصلاح – على بعد عدة كيلومترات إلى عمق الأراضي الروسية.
السيناريو الرابع هو التراجع وإنقاذ القوات والمعدات وإعادة تجهيزها، وقد تسلحت بروح معنوية عالية، في محاولة تحرير أراضيهم العام المقبل.
والسيناريو الأول هو الأكثر واقعيًا، فعملية التوغل في الحدود الروسية ليست معجزة، ولا هي المشكلة الكبرى، ولكن المشكلة الكبرى التي تواجه زيلينسكي، هي القدرة على التمسك بهذه الأراضي وتعزيز الهجوم، فهذا التكتيك وهذا التخطيط استخدمته روسيا في كل حروبها تقريباً، وقد رأينا ماذا حدث لهتلر ومن قبله نابليون.([5])
وختامًا: على الرغم من أن أوكرانيا قد تحاول تعزيز مكاسبها داخل روسيا، إلا أن ذلك سيكون محفوفا بالمخاطر، نظرا لموارد كييف المحدودة، لأن خطوط الإمداد الخاصة بها الممتدة في عمق كورسك ستكون معرضة للخطر، وأثبت التوغل قدرة أوكرانيا على اغتنام زمام المبادرة ورفع معنوياتها التي أنهكها هجوم مضاد فاشل الصيف الماضي وأشهر من المكاسب الروسية في منطقة دونباس الشرقية، غير أن بوتين كثيرًا ما يصرح بأن العدو “سيتلقى بالتأكيد ردا لائقا” على تصرفاته، وأنه سيتم تحقيق جميع أهداف العملية العسكرية الخاصة، وبالفعل مازالت القوات الروسية تواصل التصدي للهجوم الذي شنه الجيش الأوكراني على أراضي كورسك صباح 6 أغسطس، ومحاولة استعادة الأراضي التي احتلها الجيش الأوكراني، فيما أعلنت اللجنة الوطنية الروسية لمكافحة الإرهاب فرض نظام عمليات مكافحة الإرهاب في كورسك وبيلغورود وبريانسك الروسية بسبب زيادة مستوى التهديدات الإرهابية من أوكرانيا.
([1]) BBC NEWS، كورسك الروسية: قصة أكبر معركة دبابات في التاريخ، متوفر على الرابط التالي https://www.bbc.com/arabic/articles/c77l1mzzlzxo
([2]) العربية، هجوم كورسك فجرها.. موسكو كانت تنوي التفاوض مع كييف، موجود على الرابط التالي: https://2h.ae/oQeK
([3]) مركز المستقبل، ما أهداف الهجوم الأوكراني المباغت داخل الأراضي الروسية؟، موجود على الرابط التالي: https://2h.ae/ riII
CNN, Ukraine’s Kursk offensive was seen as a major success, but it came at a huge cost, on: https://edition.cnn.com/2024/09/13/world/ukraine-kursk-offensive-cost/index.html ([4])
([5]) الشرق الأوسط، ثلاث «سيناريوهات» لتطور الوضع حول كورسك، موجود على الرابط التالي: https://2h.ae/IpJj