العلاقات الاوروبية – الامريكية في ضوء المستجدات وسيناريوهات المستقبل

بقلم : د. هاني الحديثي أستاذ السياسة الخارجية و العلاقات الدولية
- المركز الديمقراطي العريي
تشهد العلاقات الاوروبية – الامريكية حالة من الارتباك الناتجة عن موقف ادارة ترامب من قضايا عديدة في المقدمة منها الموقف من الحرب الروسية – الاوكرانية والتعريفات الجمركية .ان اي تصور لمستقبل العلاقات الاوروبية – الامريكية لايمكن ان ياخذ مداه دون المرور بالاساسيات في تلك العلاقة . تتوزع العلاقات بين الطرفين الى : تجارية وامنية وقيمية . تشكل العلاقات التجارية بينهما 60% من مجمل الناتج الاجمالي و 33% من التجارة العالمية في السلع و 42% من التجارة العالمية في الخدمات . وفي ضوئه فان الولايات المتحدة تمثل شريكا استراتيجيا في العلاقات التجارية لاوروبا. في الجانب الامني تتعدد اشكال العلاقات بين اوروبا والولايات المتحدة اول هذه الاشكال هو حلف الاطلسي المؤسس بينهما عام 1945 اثر الحرب العالمية الثانية وما تلاه من تطورات مهمة شكل الركن الاساس في العلاقات الدولية والضامن الاساس للامن الاوروبي والمناطق الحيوية للامن القومي الامريكي , ولاهميته أستمر الحلف فاعلا ومؤثرا في مجمل الوضع الدولي رغم انهيار الاتحاد السوفياتي وحل حلف وارسو عقد التسعينات من القرن العشرين .
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتصاعد الدور الصيني في شرق اسيا والتنسيق لاحقا بين روسيا الاتحادية والصين مع مجموعة من القوى الاقليمية ، بدات الولايات المتحدة الدولة القائد للنظام الدولي الاحادي القطبية والقائد لحلف الاطلسي تسعى مع حلفائها لتامين الشرق الاقصى من مخاطر تطور النفوذ الصيني في بحر الصين الجنوبي والمحيط الباسفيكي خاصة ان الصين بدات تظهر بمشاريع عملاقة يشمل اسيا ويمتد نحو قارات العالم مثل مشروع الحزام والطريق ، وبناء منظومات اقليمية فاعلة مثل منظمة شنغهاي ومنظومة امن بلدان وسط اسيا . كذلك ذهبت الصين لتجقيق تعاون استراتيجي مع روسيا الاتحادية يتجاوز منظومة 1 شنغهاي ومنظومة الامن لوسط اسيا لتذهب الى تشكيل منظمة بريكس التي شملت ايضا الهند وجنوب افريقيا والبرازيل في المرحلة الاولة قبل ان تتوسع لتشمل بلدانا اخرى مهمة اقتصاديا و جيوبولتيكيا مثل المملكة السعودية ومصر وهي بمجموعها تستحوذ على 26% من مجمل الاقتصاد العالمي وتشمل مساحات من العالم تضم 40% من سكان العالم ، جميعها تعمل ضمن اطار بنك التنمية الجديد وتسعى نحو تشكيل عملة عالمية جديدة منافسة للدولار .
ان مثل هذا التنظيم الدولي يشكل ركيزة اساسية في اعادة تشكيل النظام الدولي نحو نظام متعدد مراكز الاستقطاب وهو ماتسعى الولايات المتحدة عبر مختلف الوسائل لتعطيله والحفاظ على هيمنتها الدولية كقوة احادية لنظام احادي القطبية. في ضوئه ذهبت الولايات المتحدة الى انشاء تحالف أيكوس للمحيط الهادى مع بريطانيا واستراليا ونيوزيلندا ، وتحالف كواد التي شملت ايضا اليابان والهند.
الامر الذي يعيد تشكيل المجاميع الدولية على اسس جيوبولتيكية . الى جانب ماتقدم ظلت منطقة الشرق الاوسط تحتفظ باهميتها الجيواستراتيجية رغم مظاهر التوجهات الامريكية – الاطلسية نحو الشرق ، وقد ابدت الولايات المتحدة صراحة اعتراضها وتصديها لاية مساعي يفهم منها تقاسم النفوذ على منطقة الشرق الاوسط وما تمثله ايضا من مركز عالمي للطاقة والممرات الدولية الاستراتيجيةظهرت اهميتها عند الغرب منذ القرن التاسع عشر وتاكدت في مؤتمر كامبل للبلدان الغربية للفترة 1905-1907 والذي تم في التاسيس لاتفاقيات سايكس بيكو ووعد بلفور حيث تقسيم بلدان العالم العربي وتاسيس الكيان الاسرائيلي .
تاسيسا على ماتقدم فان اوروبا والولايات المتحدة مشتركة برؤى جوهرية عقدية واستراتيجية يجعل الاعتقاد بامكانية انفصام العلاقات بينهما مجرد افكار تخلو من المنطق رغم ان ذلك لاينفي توفر مجالات الاختلاف والتنافس الاقتصادي بل وحتى السياسي بينهما. لقد شكلت حرب اوكرانيا مع روسيا الاتحادية مركز التقاء استراتيجي للولايات المتحدة وبلدان حلف الاطلسي ادى الى انخراطها في حرب بالنيابة مع روسيا الاتحادية وفي جميع المجالات ذات الصلة وهو الشرط الاساس الذي بدونه لم تكن اوكرانيا قادرة على الصمود امام روسيا الاتحادية .
التطورات الاخيرة في موقف الادارة الامريكية بعد وصول ترامب للادارة الامريكية واعلانه السعي لوقف هذه الحرب واعادة النظر في الموقف من روسيا اتجاه الحرب اثار العديد من التساؤلات عن فرص التخلي الامريكي عن حلفائها الاوروبيين وحكومة اوكرانيا خاصة بعد المشادة العلنية بين ترامب والرئيس الاوكراني زيلنسكي .
وهو الامر الذي دعا الاوروبيين في حلف الاطلسي لعقد لقاء اطلق عليه ( تحالف الراغبين) في لندن لدعم الرئيس زيلنسكي وتاكيد الوقوف الى جانب بلاده رغم الموقف الامريكي، والمفارقة هنا ان بريطانيا الحليف الاقوى للولايات المتحدة اوروبيا وعالميا ، ابدت استعدادها لقيادة اوروبا في تاكيد ديمومة الدعم لاوكرانيا في حربها ضد روسيا الاتحادية .
وضمن هذا الاتجاه ظهرت الدعوة لاعادة التاكيد على استقلالية اوروبا عن الولايات المتحدة في مجال الامن وتشكيل قدرات عسكرية دفاعية مستقلة حيث تم الاعلان عن اتفاق بتطوير قدرات اوروبا العسكرية خلال خمسة سنوات وبكلفة تقدر ب 800 مليار دولار امريكي وهو بحد ذاته يشكل تحديا جديا في ضل المعظلات الاقتصادية التي تواجه بلدان المجموعة الاوروبية نتيجة الحرب الاوكرانية ومعدلات الانفاق في الحرب التي تحملتها اوروبا فضلا عن المشاكل الاقتصادية الناتجة ازمة الطاقة وارتفاع التعريفات الجمركية .
ان ماتقدم اثار بدوره العديد من التساؤلات عن قدرة اوروبا لوحدها لتحقيق دفاع اوروبي مستقل عن ضمانات الامن الامريكية وارتباطهما بحلف الاطلسي ، خاصة ان بلدان المجموعة الاوروبية تعاني من تداعيات حرب اوكرانيا واكلافها الباهضة والتي تركت ظلالها على مجمل اقتصاديات بلدان اوروبا وهي مسالة باتت تشكل هاجس يومي للحكومات الاوروبية في مواجهة الراي العام خاصة انها تعاني فعليا من تداعيات ازمة تصدير الغاز الروسي الى اوروبا اثر التوقف عن مستويات التصدير عبر نورد ستريم (1) و (2). ومن الواضح ان المصادر البديلة للغاز والنفط لم تستطع حل مشكلة انقطاع الغاز الروسي عن اوروبا .
تاسيسا على ماتقدم فان سيناريوهات المستقبل يمكن تحديدها بالاتي : شكل وصول ترامب الى الادارة الامريكية والطروحات التي هز بها العلاقات الدولية وخاصة مايتعلق باوكرانيا وحلف الاطلسي والتعريفات الجمركية وحرب المعادن مع الصين فضلا عن 3 المطالبات الامريكية بالاستيلاء على المعادن في عدد من بلدان افريقيا و جرينلاند ضمن اطار التنافس و الصراع على توظيف الرقائق الالكترونية والصناعات الالكترونية الدقيقة ضمن تصاعد استخدام الذكاء الصناعي وحروب المعادن المتوقعة , الى تشكل مجموعة سيناريوهات لمستقبل العلاقات الدولية . قدر تعلق الامر بالعلاقات الاوروبية – الامريكية وتداعيات المتغيرات انفة الذكر نرى الاتي :
السيناريو الاول : مغادرة الولايات المتحدة حلف الاطلسي ضمن مساعي مغادرة منظمات وظيفية دولية اخرى ، وذهاب اوروبا لتشكيل قدراتها الردعية الاقليمية خارج نطاق الضمانات الامريكية . أن هذا السيناريو يتناسب واحتمالات ظهور نظام دولي متعدد الاقطاب تكون فيه اوروبا احد القوى الدولية المتربعة على قمة هرم النظام الدولي .
ويتحمل هذا السيناريو بحد ذاته احتمالين ضمنيين: الاول : ان تذهب ادارة ترامب المحافظة الى تحقيق وقف للحرب في اوكرانيا يناسب الطموحات الروسية في الاحتفاظ بمناطق او اقاليم استراتيجية شرق وجنوب اوكرانيا مقابل عزل روسيا الاتحادية عن الصين قصد اضعاف الاخيرة في مجريات الصراع على مناطق النفوذ التي تسعى الصين لفرضها بسياساتها الناعمة والتدريجية .
الثاني: التحول الاوروبي لتعزيز مستويات التعاون نحو الصين في مواجهة تقارب ادارة ترامب مع روسيا الاتحادية على حساب اوروبا وامنها القومي مقابل تحقيق تعاون اوروبي – صيني في مواقع جيوبولتيكية الصراعات الدولية مثل اوكرانيا و الشرق الاوسط و شرق اسيا فضلا عن المحيط الباسفيكي. السيناريو الثاني : احتمال تحول العلاقات الاوروبية – الامريكية من مستوى التحالف الى مستوى العلاقات التقليدية بين وجدان النظام الدولي ( حكومات و منظمات ) و التي تعني( الصراع الذي يتضمن التعاون ) أو( التعاون الذي يتضمن او يتحمل الصراع ) في قضايا الاختلاف او الاتفاق حسب المصالح القومية .
السيناريو الثالث : تغليب الاستراتيجيات على الاختلافات او المصالح الانية بين اوروبا و الولايات المتحدة . 4 أن طبيعة الازمات الدولية المتضمنة صراع الحضارات بين الشرق والغرب ومنظومات القيم المشتركة ,واشكاليات استراتيجية تواجه اوروبا في تامين الامن القومي الاوروبي كما اسلفنا ، والمصالح المشتركة الامريكية – الاوروبية في قضايا جوهرية تخص الاقتصاد والتجارة العالمية وابرزها ازمة الطاقة ( النفط والغاز) وقيمة النقد الدولي في التعامل التجاري وتامين طرق التجارة الدولية بين الشرق والغرب ، كل هذه المعادلات المهمة ترجح التغلب على الخلافات الامريكية – الاوروبية وترجح استمرار التحالف الاستراتيجي بينهما .
هنا ارى من المهم الاخذ بنظر الاعتبار ان اغلب بلدان اوروبا وجدت نفسها مندفعة خارج رغباتها ومصالحها القومية في الاندفاع خلف ادارة جوبايدن اتجاه الحرب بالوكالة في اوكرانبا وهو الامر الذي عرضها الى ازمات اقتصادية كبرى وخاصة في مجال الطاقة اثر القطع الكلي او الجزئي للغاز الروسي عن اوروبا وما ترتب عن ذلك من نتائج خطيرة على الامن والاستقرار الداخلي . وهو الاحتمال الارجح عندي مع الاخذ بنظر الاعتبار ان مجمل هذه التفاعلات سلبا او ايجابا انما تؤكد اتجاه النظام الدولي نحو التعدد في مراكز الاستقطاب الدولي والبداية في طريق النهاية للهيمنة الاحادية الامريكية , وهو الامر الذي ينبغي على شعوب العالم المتاثرة سلبا بتلك الهيمنة ان تاخذه بنظر الاعتبار وتعد له العدة في التخطيط لمستقبل بلدانها