مستقبل الديمقراطية الأمريكية في ظل رئاسة ترامب الثانية: بين التحديات والصمود

بقلم : د.حمدي سيد محمد محمود – باحث أكاديمي – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لولاية رئاسية ثانية في يناير 2025، دخلت الديمقراطية الأمريكية مرحلة مفصلية قد تحدد مستقبلها لعقود قادمة. فقد أعاد ترامب التأكيد على أجندته القومية المتشددة، متبنيًا سياسات استبدادية تهدد بتقويض المؤسسات الديمقراطية التقليدية، مما دفع الكثيرين إلى التساؤل: هل يمكن أن تصمد الديمقراطية الأمريكية أمام هذه التحديات، أم أنها ستنزلق إلى شكل من أشكال الحكم الاستبدادي؟
1- التهديدات المباشرة للمؤسسات الديمقراطية
منذ توليه المنصب للمرة الثانية، أبدى ترامب رغبة واضحة في إعادة هيكلة النظام الفيدرالي لصالح السلطة التنفيذية، متجاوزًا التوازن الدستوري الذي يفصل بين السلطات الثلاث. فقد عمد إلى تعزيز سلطاته الرئاسية عبر تهميش الكونغرس، وتقويض استقلالية القضاء، واستهداف الصحافة الحرة، في محاولة لتقليص أي مقاومة داخلية لسياساته. هذا النهج، إذا استمر، قد يؤدي إلى إعادة تشكيل النظام السياسي الأمريكي بشكل جذري، حيث تتحول السلطة إلى مركزية أكثر، ويتقلص دور المؤسسات الرقابية التي تُعد حجر الأساس للديمقراطية الأمريكية.
2- الإعلام وحرية الصحافة تحت الحصار
أحد أكبر التهديدات التي تواجه الديمقراطية في عهد ترامب الثاني هو الهجوم المستمر على الصحافة الحرة. فقد واصل ترامب استهداف وسائل الإعلام التي تنتقده، وهدد بإجراءات قد تحدّ من استقلاليتها، مثل فرض قوانين أكثر صرامة على حرية النشر، واستخدام الأجهزة الحكومية لمراقبة المؤسسات الصحفية المناوئة له. هذه السياسات قد تؤدي إلى تآكل الشفافية والمساءلة العامة، مما يسهل للحكومة تنفيذ سياسات غير ديمقراطية دون تعرضها للمحاسبة العلنية.
3- سياسات الانتقام السياسي وتقويض المعارضة
ترامب لم يخفِ خلال حملته الانتخابية الثانية عزمه على الانتقام من خصومه السياسيين، وهو ما بدأ في تنفيذه فور عودته للسلطة. فقد شنت إدارته حملة لتصفية المؤسسات التي اعتبرتها عقبة أمام مشروعه السياسي، مستهدفة القضاء، ووكالات الاستخبارات، والمسؤولين الذين عارضوه في ولايته الأولى. كما حاول تقويض النظام الانتخابي عبر فرض قيود مشددة على التصويت، مما يهدد بإضعاف شرعية الانتخابات المستقبلية وتحويلها إلى أداة لتعزيز حكمه.
4- تآكل القيم الديمقراطية بين الشعب الأمريكي
التحدي الأكبر قد لا يكون في مؤسسات الدولة فحسب، بل في التحولات الاجتماعية والثقافية التي عززها ترامب، والتي دفعت جزءًا كبيرًا من الشعب الأمريكي إلى تبني توجهات أكثر استقطابًا وعدائية تجاه مفهوم الديمقراطية التعددية. فقد أظهرت استطلاعات الرأي أن نسبة كبيرة من أنصاره مستعدون لقبول إجراءات غير ديمقراطية إذا كانت تصب في مصلحة “إعادة أمريكا إلى عظمتها”، مما يثير مخاوف من أن التحول نحو الاستبداد قد لا يأتي فقط من الأعلى، بل قد يكون مدعومًا أيضًا من قاعدة جماهيرية واسعة تؤمن بضرورة حكم قوي بلا قيود.
5- هل يمكن للديمقراطية الأمريكية الصمود؟
على الرغم من هذه التحديات، فإن النظام الأمريكي ليس هشًا بالكامل. فالديمقراطية الأمريكية قائمة على مؤسسات قوية، ومجتمع مدني نشط، وتقاليد راسخة من المقاومة السياسية. فقد شهد التاريخ الأمريكي العديد من الأزمات التي هددت النظام الديمقراطي، مثل حقبة المكارثية في الخمسينيات، وفضيحة ووترغيت في السبعينيات، إلا أن الديمقراطية تمكنت من تجاوزها بفضل صمود المؤسسات الرقابية والضغوط الشعبية.
لكن ما يميز هذه الأزمة هو أن التهديد لا يأتي من طرف خارجي أو هامشي، بل من أعلى هرم السلطة، ومن رئيس يسعى إلى إعادة تشكيل النظام السياسي لصالحه. إذا استمرت مؤسسات الدولة في مقاومته، فإن الديمقراطية قد تنجو، لكن إذا نجح ترامب في إحكام قبضته على القضاء والإعلام والانتخابات، فقد يكون الطريق ممهّدًا لتحول أمريكا إلى نموذج حكم سلطوي جديد، حيث تصبح الانتخابات مجرد إجراء صوري، ويُخنق الصوت المعارض تدريجيًا.
6- السيناريوهات المحتملة لمستقبل الديمقراطية الأمريكية
هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل النظام الأمريكي تحت حكم ترامب الثاني:
السيناريو الأول: الديمقراطية تتعرض لضربة قاسية لكنها تبقى صامدة
في هذا السيناريو، يحاول ترامب فرض سيطرته على المؤسسات، لكنه يواجه مقاومة شرسة من القضاء والكونغرس والمجتمع المدني. قد يتم اتخاذ إجراءات للحد من سلطاته، مثل محاولات عزله أو تقييد قراراته عبر المحاكم. سيظل النظام الديمقراطي يعاني من اضطرابات، لكنه سينجو في النهاية، مما يعزز قوته للمستقبل.
السيناريو الثاني: تحول تدريجي نحو الاستبداد
إذا نجح ترامب في تهميش المؤسسات الديمقراطية، فمن الممكن أن تتحول الولايات المتحدة إلى نظام استبدادي مقنّع، حيث تبقى الانتخابات قائمة شكليًا، لكن يتم التحكم في نتائجها عبر القوانين والإجراءات التي تمنح الأفضلية للحزب الحاكم. في هذه الحالة، قد يصبح النظام الأمريكي مشابهًا لنموذج مثل روسيا، حيث يُحافظ على مظاهر الديمقراطية بينما يتم القضاء على جوهرها.
السيناريو الثالث: أزمة دستورية وانهيار الديمقراطية
في أسوأ الحالات، قد يؤدي نهج ترامب إلى أزمة دستورية حادة، حيث يرفض الامتثال لقرارات المحاكم، ويعتمد على الدعم الشعبي والقوات الأمنية لتعزيز سلطته. قد يشهد هذا السيناريو احتجاجات واسعة، وربما حتى محاولات انقلاب أو تمرد سياسي، مما قد يؤدي إلى إعادة هيكلة النظام الأمريكي بالكامل، بطريقة قد لا تكون ديمقراطية بالضرورة.
هل نحن أمام نهاية الديمقراطية الأمريكية؟
بينما لا يزال مستقبل الديمقراطية الأمريكية غير محسوم، فإن اتجاهات ترامب خلال ولايته الثانية تُظهر بوضوح أن النظام الديمقراطي يواجه أكبر اختبار في تاريخه الحديث. فإذا نجحت المؤسسات الأمريكية في كبح جماح ترامب، فقد تخرج الديمقراطية أقوى من ذي قبل. ولكن إذا تمكن من ترويض هذه المؤسسات، فقد يكون العالم على أعتاب مرحلة جديدة تشهد فيها أمريكا تحولًا جذريًا من نموذجها الديمقراطي التقليدي إلى نموذج أكثر استبدادية، ما سيعيد تشكيل ليس فقط السياسة الأمريكية، بل النظام الدولي بأسره.