القرن الأفريقي في قلب التوترات المصرية-الإثيوبية: صراع نفوذ أم معركة بقاء

إعداد: محمود سامح همام – باحث سياسي مصري متخصص في الشؤون الأفريقية
- المركز الديمقراطي العربي
تمهيد
في إطار التزامها بتعزيز الأمن والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، شرعت مصر في تنفيذ تعهداتها العسكرية تجاه الحكومة الصومالية، بما يتماشى مع رؤيتها الاستراتيجية لحماية مصالحها القومية ومواجهة التهديدات الإقليمية المتزايدة. (1) فقد شهدت الأيام الأخيرة من أغسطس 2024 وصول شحنات عسكرية مصرية إلى مقديشو، تضمنت أسلحة وذخائر، إلى جانب قوة محدودة من الجنود، وذلك ضمن برنامج دعم ممتد يهدف إلى تعزيز القدرات الدفاعية الصومالية خلال العام المقبل. (2)
ويأتي هذا التعاون في سياق اعتبارات مصرية أوسع، مدفوعة بتطورات إقليمية تمسّ بشكل مباشر أمنها القومي. فمن ناحية، تتابع القاهرة بقلق الاتفاقية الموقعة بين إثيوبيا وجمهورية أرض الصومال، والتي تمنح أديس أبابا امتيازات استراتيجية على البحر الأحمر، بما في ذلك إمكانية إنشاء قواعد بحرية قرب مضيق باب المندب، وهو ما تعتبره مصر تهديدًا محتملًا لحركة الملاحة عبر قناة السويس. ومن ناحية أخرى، تتصدى مصر للسياسات الإثيوبية أحادية الجانب فيما يتعلق بسد النهضة، (3) الذي يمنح أديس أبابا القدرة على التحكم في تدفقات نهر النيل، مما يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن المائي المصري، وفي ظل هذه المعطيات، يعكس الدعم المصري لمقديشو سياسة مصرية واضحة تقوم على ترسيخ نفوذها الإقليمي، والتصدي لأي محاولات لإعادة رسم موازين القوى في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، بما يضمن حماية مصالحها الاستراتيجية على المديين القريب والبعيد. (4)
أولًا: التصعيد المصري-الإثيوبي وانعكاساته على استقرار القرن الأفريقي
يشهد القرن الأفريقي تصاعدًا في حدة التنافس بين مصر وإثيوبيا، مما يهدد بتفاقم الأزمات الأمنية والسياسية في المنطقة. فمع تزايد النفوذ المصري في الصومال، من خلال نشر مساعدات عسكرية وإمكانية تعزيز وجودها الأمني، تتصاعد المخاوف من احتمال اندلاع مواجهة غير مباشرة أو حتى مباشرة بين القاهرة وأديس أبابا. وتتمتع كلتا الدولتين بمكانة محورية في القارة الأفريقية، سواء من حيث النفوذ السياسي أو الكثافة السكانية، ما يجعل أي تصعيد بينهما ذا تأثير إقليمي واسع. وفي هذا السياق، تحتفظ إثيوبيا بوجود عسكري في الصومال لمكافحة حركة الشباب، ما يجعل التداخل المصري في الساحة الصومالية عنصرًا إضافيًا في معادلة التوتر المتفاقمة. (5)
يأتي هذا التصعيد في ظل وضع إقليمي مضطرب؛ فالسودان غارق في حرب أهلية دامية، بينما تعاني إثيوبيا من صراعات داخلية مزمنة، كان أبرزها النزاع مع جبهة تيغراي، الذي أسفر عن مقتل أكثر من نصف مليون شخص وفي أرض الصومال، التي طالما اعتُبرت واحة استقرار نسبي، يدور نزاع مسلح مع الجماعات الانفصالية في المقاطعات المتاخمة لبونتلاند أما الصومال وبونتلاند، فهما في مواجهة مستمرة مع حركة الشباب التابعة لتنظيم القاعدة، ما يعكس حالة التوتر الأمني المزمن في المنطقة. (6)
وفي هذا السياق، يُشكل التدخل المصري في الصومال خطوة محفوفة بالمخاطر. فعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته الحكومة الصومالية في مواجهة حركة الشباب، إلا أن التنظيم ما زال يحتفظ بنفوذ واسع على الأرض. كما أن جناحه الاستخباراتي، المعروف باسم “أمنيات”، لديه اختراقات في المؤسسات الحكومية والأجهزة الأمنية الصومالية، وعلى مدى العقدين الماضيين، لعبت إثيوبيا دورًا رئيسيًا في دعم الحكومات الصومالية المتعاقبة في مواجهة التنظيم، نظرًا لما تمتلكه من خبرات أمنية وقدرات استخباراتية متقدمة، وهو ما جعلها ركيزة أساسية في الاستراتيجية الإقليمية لمكافحة الإرهاب. (7)
إلا أن مذكرة التفاهم الإثيوبية مع أرض الصومال، وما تبعها من تقارب بين مصر والصومال، دفع الحكومة الصومالية إلى مطالبة إثيوبيا بسحب جميع قواتها من أراضيها بحلول 31 ديسمبر 2024، وقد أثار هذا القرار مخاوف عميقة بين بعض العشائر الصومالية، التي ترى في القوات الإثيوبية عامل استقرار أكثر موثوقية من قوات الحكومة الفيدرالية، التي يقتصر نفوذها بشكل أساسي على العاصمة مقديشو. ونتيجة لذلك، تصاعدت المعارضة الداخلية لهذا القرار، حيث رفض العديد من قادة الميليشيات الامتثال له، وعلى الرغم من انتهاء المهلة التي حددتها الحكومة الصومالية، فإن الانسحاب الإثيوبي لم يكتمل بعد. (8)
إن إصرار مقديشو على استبدال القوات الإثيوبية بقوات مصرية محتملة يحمل في طياته تداعيات خطيرة على استقرار الصومال والمنطقة ككل. فمن شأن هذه الخطوة أن تؤدي إلى مزيد من الانقسامات داخل الدولة الصومالية الهشة، لا سيما في ظل تباين الولاءات بين الإدارات الإقليمية المختلفة. كما أن نشر قوات مصرية تفتقر إلى الخبرة القتالية في البيئة الصومالية قد يسهم، بشكل غير مباشر، في تعزيز نفوذ حركة الشباب، التي تستفيد عادة من أي فراغ أمني أو انقسام داخلي. وعليه، فإن التحولات الراهنة في المشهد الأمني الصومالي تتطلب مقاربة حذرة ومتوازنة لتجنب مزيد من التعقيد في معادلة التنافس الإقليمي المتفاقم.
ثانيًا: التداعيات الإقليمية للتصعيد المصري-الإثيوبي: بين المواجهة غير المباشرة وتوسيع دائرة الصراع
لا تقتصر التوترات المتصاعدة بين مصر وإثيوبيا على الساحة الصومالية فحسب، بل تمتد تداعياتها المحتملة إلى الداخل الإثيوبي والإقليم ككل. إذ تواجه إثيوبيا تحديات أمنية داخلية معقدة، في ظل نشاط العديد من الجماعات المتمردة المسلحة، ما يجعلها ساحة مفتوحة لتفاعلات القوى الإقليمية. وفي هذا السياق، سبق أن وجهت أديس أبابا اتهامات للقاهرة بدعم جماعات معارضة تنشط داخل إثيوبيا والسودان، وعلى الرغم من عدم تقديم إثيوبيا أي أدلة ملموسة لدعم هذه الادعاءات، إلا أن تصاعد التوترات بين البلدين قد يدفع كلاً منهما إلى اللجوء إلى دعم القوى المناوئة للطرف الآخر، ما يعزز من مخاطر عدم الاستقرار في المنطقة. (9)
ويمتلك كل من مصر وإثيوبيا أجهزة استخباراتية تتمتع بكفاءة عالية وخبرة طويلة في التعامل مع الجماعات المسلحة، سواء من خلال الاختراق أو التوظيف لتحقيق مصالح استراتيجية (مشروع أبحاث ومعلومات الشرق الأوسط، صيف 2019؛ مجلة الجريمة والصراع الأفريقية، 7 فبراير 2023). وتاريخيًا، حافظت مصر على علاقات وثيقة مع جبهة تحرير شعب تيغراي (TPLF)، التي حكمت إثيوبيا ضمن ائتلاف سياسي بين عامي 1988 و2018. وعلى الرغم من انتهاء الحرب بين الجبهة والحكومة الإثيوبية عام 2022 عبر تسوية تفاوضية لصالح أديس أبابا، فإن الجبهة لا تزال تحتفظ بقدراتها العسكرية، ما يجعلها لاعبًا مؤثرًا في المشهد الإثيوبي. كذلك، ينشط جيش تحرير أورومو في جنوب وغرب إثيوبيا، حيث يخوض مواجهات عسكرية مع الحكومة، ما يوفر مساحات إضافية لأي تفاعلات محتملة بين القاهرة وأديس أبابا في هذا السياق. (10)
وفي المقابل، تملك إثيوبيا بدورها أدوات ضغط يمكن توظيفها للرد على أي تحركات مصرية. فمن خلال علاقاتها التاريخية والقبلية في الصومال، تستطيع أديس أبابا تأجيج الانقسامات الداخلية وتعزيز النزعات القبلية والإقليمية، مما قد يشكل تهديدًا مباشرًا للقوات المصرية المحتملة هناك. كما أن إثيوبيا قد تتبنى موقفًا أكثر تشددًا بشأن ملف سد النهضة، عبر فرض مزيد من الضغوط على القاهرة فيما يتعلق بتدفقات مياه النيل، وهو ما من شأنه أن يزيد من تعقيد المشهد الإقليمي.
وفي ظل هذا الواقع، فإن أي تصعيد غير محسوب في التوترات المصرية-الإثيوبية قد يؤدي إلى إعادة تشكيل الاصطفافات الإقليمية، ويفتح المجال أمام مرحلة جديدة من المواجهات غير المباشرة، التي لن تقتصر تداعياتها على الدولتين فحسب، بل قد تمتد لتطال الأمن والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي بأكملها. (11)
ختامًا، يمثل قرار مصر بتعزيز شراكتها الاستراتيجية مع الصومال خطوة تنطوي على تحديات جسيمة، مدفوعة باعتبارات أمنية ترى فيها القاهرة ضرورة لحماية مصالحها القومية في مواجهة ما تعتبره تهديدًا وجوديًا من قبل إثيوبيا. غير أن التنافس المتصاعد بين البلدين يحمل في طياته مخاطر كبرى، إذ إن سياسة المواجهة المتبادلة من شأنها أن تؤدي إلى تصعيد غير محسوب، قد يتجسد في اندلاع صراعات بالوكالة تمتد تداعياتها إلى ما هو أبعد من الساحة الصومالية، ما يزيد من تعقيد المشهد الأمني في القرن الأفريقي.
وفي هذا الإطار، تبرز الجهود الدبلوماسية كمسار حتمي لتجنب مزيد من التصعيد، لا سيما مع دخول تركيا، التي شهدت علاقاتها مع مصر تطورًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة، على خط الوساطة بين أديس أبابا ومقديشو. وتمثل هذه المحادثات، إلى جانب نهج شامل لخفض التوترات، السبيل الأمثل لتجنب تفاقم النزاعات في واحدة من أكثر المناطق هشاشة على مستوى الأمن الإقليمي والدولي. وعليه، فإن تبني مقاربة أكثر توازنًا تقوم على الحوار والتفاهم المشترك سيكون الضامن الأساسي للاستقرار الإقليمي، في مقابل السياسات التصعيدية التي قد تفضي إلى تداعيات لا يمكن التنبؤ بمآلاتها.
قائمة المراجع
- “Egypt Sends Military Aid Batch to Somalia Amid Tensions with Ethiopia.” Al Mayadeen, August 28, 2024. https://english.almayadeen.net/news/politics/egypt-sends-military-aid-batch-to-somalia-amid-tensions-with.
- “Ethiopia Alarmed as Egypt Sends Special Forces and Arms to Somalia.” The National, August 29, 2024. https://www.thenationalnews.com/news/mena/2024/08/29/ethiopia-alarmed-as-egypt-sends-special-forces-and-arms-to-somalia/.
- “Ethiopia Alarmed as Egypt Sends Special Forces and Arms to Somalia.” The National, August 29, 2024. https://www.thenationalnews.com/news/mena/2024/08/29/ethiopia-alarmed-as-egypt-sends-special-forces-and-arms-to-somalia/.
- “Egypt Addresses UN Security Council Regarding Ethiopian PM’s GERD Statements.” Egypt Today, March 20, 2024. https://www.egypttoday.com/Article/1/134468/Egypt-addresses-UN-Security-Council-regarding-Ethiopian-PM-s-GERD.
- William Davison, “Ethiopia’s Tigray War and the Big Lie Behind the Century-Defining 600,000 Civilian Deaths.” Daily Maverick, February 22, 2023. https://www.dailymaverick.co.za/article/2023-02-22-ethiopias-tigray-war-and-the-big-lie-behind-the-century-defining-600000-civilian-deaths/.
- “Fighting Resumes in Somaliland as Tens of Thousands Flee.” Africa News, February 22, 2023. https://www.africanews.com/2023/02/22/fighting-resumes-in-somaliland-as-tens-of-thousands-flee/.
- “Intelligence on the Frontlines: Al-Shabaab’s Amniyat Outshines Somalia’s NISA in Strategic Study.” Garowe Online, April 10, 2024. https://www.garoweonline.com/en/news/somalia/intelligence-on-the-frontlines-al-shabaab-s-amniyat-outshines-somalia-s-nisa-in-strategic-study.
- “Southwest State Politicians Reject FGS Plan for Ethiopian Troop Withdrawal.” The Somali Digest, June 2, 2024. https://thesomalidigest.com/southwest-state-politicians-reject-fgs-plan-for-ethiopian-troop-withdrawal/.
- Declan Walsh, “Ethiopia-Tigray: What Does Egypt Stand to Gain or Lose from the One-Year War?” The Africa Report, November 4, 2021. https://www.theafricareport.com/143814/ethiopia-tigray-what-does-egypt-stand-to-gain-or-lose-from-the-one-year-war/.
- Mohamad Elmasry, “The Egyptian Revolution’s Fatal Mistake.” Middle East Report, September 19, 2019. https://merip.org/2019/09/the-egyptian-revolutions-fatal-mistake/.
- “Ethiopia’s National Security and Intelligence Service.” The African Criminology Journal, February 7, 2023. https://theafricancriminologyjournal.wordpress.com/2023/02/07/ethiopias-national-security-and-intelligence-service/.