من صمود المقاومة إلى معادلة الدولة: قراءة شاملة في مآلات ما بعد حرب غزة

بقلم : د.حمدي سيد محمد محمود – مدير المركز الديمقراطي العربي – القاهرة – مصر
لم تكن حرب غزة الأخيرة فصلًا عابرًا في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، بل نقطة انعطاف حاسمة أعادت تعريف مفهوم القوة، ومفهوم النصر، وحدود الممكن السياسي في الشرق الأوسط. ما جرى تجاوز منطق السلاح إلى منطق الوعي؛ إذ تحوّلت المقاومة من فاعل عسكري محاصر إلى كيان سياسي–رمزي يُدير توازنات إقليمية ودولية، ويعيد إنتاج المشهد الفلسطيني من تحت الركام. لقد كشفت الحرب عن أن الصمود لم يعد مجرّد فعل دفاعي، بل أصبح معادلة استراتيجية تملك أبعادًا سياسية واقتصادية وقانونية، تمتد من الميدان إلى الرأي العام العالمي.
أثبتت المقاومة في هذه الجولة قدرتها على الصمود تحت ضغط غير مسبوق، وعلى إدارة حرب متعددة المستويات: ميدانية، نفسية، إعلامية، وقانونية. فقد نجحت في تحويل الحصار إلى أداة تعبئة داخلية، والدمار إلى خطاب تعبئة أخلاقي، والضغط الدولي إلى نافذة للتفاوض. هذا التحوّل النوعي جعل من المقاومة نموذجًا لـ”المقاومة المركّبة” التي تجمع بين القوة الصلبة والناعمة، بين الفعل العسكري وبين إدارة المعركة الإعلامية والسياسية والدبلوماسية. ومع مرور الوقت، أصبح واضحًا أن القوة التي تمنحها الجغرافيا أو السلاح لا تقل أهمية عن القوة التي يمنحها السرد والتوثيق والرأي العام. لقد كسب الفلسطينيون معركة الوعي، وهي معركة لا تقل أهمية عن أي نصر ميداني.
في المقابل، تكبّدت إسرائيل خسائر استراتيجية مركّبة يصعب ترميمها سريعًا. فقد فقدت ثقة جزء واسع من المجتمع الدولي بمبرراتها الأخلاقية، وتآكلت صورتها كدولة لا تُقهر أمام مشاهد الدمار والضحايا المدنيين. داخليًا، عمّق الصراع الانقسامات بين تياراتها السياسية والعسكرية، وأظهر هشاشة وحدتها الداخلية أمام حرب استنزاف طويلة. أما اقتصاديًا، فتكاليف العمليات العسكرية، وتعطّل القطاعات الإنتاجية، وضغوط الرأي العام الغربي جعلت الاستمرار في الحرب عبئًا يتجاوز المكاسب. بذلك تحولت الحرب إلى عبء استراتيجي على إسرائيل بقدر ما كانت اختبارًا لقدرة الفلسطينيين على البقاء.
لكن التحول الأهم لا يكمن فقط في موازين القوة، بل في مآلات ما بعد الحرب. فالتاريخ الفلسطيني أمام لحظة تأسيسية جديدة، يتجاوز فيها مفهوم المقاومة بمعناه العسكري الضيق إلى مفهوم أوسع: المقاومة كمشروع بناء وطني. هذه اللحظة تفرض على القوى الفلسطينية والعربية والدولية التفكير في “ما بعد الصمود”، أي في تحويل المكاسب الميدانية والرمزية إلى مكاسب مؤسسية قابلة للبقاء. وهذا يتطلب صياغة رؤية متكاملة تربط بين إعادة الإعمار، وتثبيت السيادة، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس المشاركة والشفافية والوحدة الوطنية.
تبدأ هذه الرؤية بإعادة تعريف وظيفة الإعمار: ليس كمجرد ترميم مادي، بل كمشروع سيادي يعيد توزيع السلطة والثروة والمعنى. فإعادة الإعمار يمكن أن تكون بداية لاقتصاد مقاوم يحقق الاكتفاء الجزئي، ويحرّر القرار الفلسطيني من تبعية التمويل الخارجي. إنشاء هيئة إعمار وطنية مستقلة، بإشراف وطني ودولي متوازن، سيمنح العملية شرعية ويمنع استحواذ الفصائل أو الدول المانحة على القرار. كما يمكن تحويل المساعدات إلى استثمارات إنتاجية، تخلق فرص عمل وتُعيد دورة الحياة الاقتصادية في غزة، بدل أن تكون مجرد إعانات آنية تُعيد إنتاج الفقر والاعتماد.
ولأن الصمود لا يكتمل دون عدالة، فإن العدالة الانتقالية يجب أن تكون حجر الزاوية في أي مشروع ما بعد الحرب. توثيق الانتهاكات، وتقديم الملفات أمام المحاكم الدولية، ليس غاية في ذاته، بل خطوة لترسيخ مبدأ المحاسبة ومنع الإفلات من العقاب. كما ينبغي أن تُدار هذه العملية ضمن إطار وطني يوازن بين الإنصاف والمصالحة، حتى لا تتحول العدالة إلى عبء سياسي جديد. فالعدالة هنا ليست انتقامًا، بل إعادة بناء للثقة بين الفلسطينيين أنفسهم، وبينهم وبين العالم.
على الصعيد السياسي، تبرز الحاجة إلى صياغة معادلة حكم فلسطينية جديدة تعيد توحيد الضفة وغزة تحت مرجعية وطنية واحدة. يمكن أن تشكل المقاومة نواة شرعية جديدة إذا استطاعت أن تترجم مشروعها الميداني إلى مشروع سياسي واقعي يستوعب التعدد ويقبل المشاركة. فالمرحلة المقبلة تتطلب توافقًا وطنيًا يتجاوز الانقسام بين سلطة تمثّل الشرعية الرسمية ومقاومة تمثّل الشرعية النضالية. لا بد من هندسة سياسية جديدة تجعل من المقاومة جزءًا من النظام السياسي، لا بديلاً عنه، وتمنح الشعب أدوات المحاسبة والمشاركة في صنع القرار.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية البعد الدبلوماسي والإقليمي كرافعة أساسية في تثبيت المكاسب. إذ لم تعد القضية الفلسطينية قضية داخلية، بل أصبحت محورًا لاختبار صدقية النظام الدولي نفسه. لقد كشفت الحرب هشاشة المنظومة الأممية في حماية المدنيين، لكنها في الوقت نفسه أعادت إحياء القضية في الضمير العالمي، وأعطت الجنوب العالمي — من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا وآسيا — مبررًا جديدًا للتضامن. ويمكن لهذا الزخم أن يتحوّل إلى أداة ضغط دبلوماسي مستدام إذا ما استُثمر ضمن استراتيجية حقوقية وإعلامية ذكية.
من جهة أخرى، يُعد البعد الثقافي والمعرفي جزءًا لا يتجزأ من مشروع ما بعد الحرب. فالحرب لم تدمّر البنية التحتية فحسب، بل حاولت تدمير الذاكرة الفلسطينية نفسها. لذلك، إعادة بناء التعليم والثقافة والهوية ضرورة وجودية، لا ترفًا فكريًا. يجب أن تُكتب سردية الحرب بأقلام فلسطينية، وأن تُنقل إلى الأجيال القادمة كدرس في البقاء، لا كجراح فقط. هنا تصبح الثقافة والفن والإعلام أدوات لاستعادة المعنى، ولتحويل الألم إلى وعي.
أما البعد التكنولوجي، فيمكن أن يكون أحد مفاتيح الاستقلال المستقبلي. فالتقنيات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والاقتصاد الرقمي يمكن أن تشكل فرصة لتجاوز الحصار الجغرافي عبر بناء اقتصاد معرفي متصل بالعالم. تطوير التعليم الإلكتروني، ريادة الأعمال الرقمية، والمنصات الإعلامية المستقلة سيمنح غزة أدوات قوة جديدة لا تُقصف ولا تُحاصر.
إن مآلات ما بعد حرب غزة لا تُقاس فقط بعدد الأبراج التي ستُعاد بناؤها، بل بمدى قدرة الفلسطينيين على إعادة تعريف أنفسهم: من ضحايا إلى فاعلين، ومن مقاومين إلى مؤسّسين. التحدي هو الانتقال من هندسة الصمود إلى هندسة الدولة، من البقاء في وجه العاصفة إلى القدرة على بناء منظومة حياة جديدة تحمي الإنسان وتؤمّن له كرامة دائمة. هذا التحول لا يتحقق بخطابات النصر ولا ببيانات التهدئة، بل برؤية استراتيجية طويلة النفس تجمع بين الواقعية السياسية والإيمان بالحق، بين الحكمة والجرأة، وبين القوة والعدالة.
إن ما يلوح اليوم أمام الأفق الفلسطيني ليس مجرد “نهاية حرب”، بل بداية مرحلة إعادة تشكيل للذات الوطنية. فكل ركام يمكن أن يكون أساسًا لبناء، وكل دمعة يمكن أن تُترجم إلى فكرة، وكل خسارة يمكن أن تُحوَّل إلى درس في التاريخ. هكذا فقط يمكن أن يتحوّل صمود المقاومة إلى معادلة دولة، ويصبح الألم الفلسطيني طريقًا نحو مشروع سيادي حقيقي يُعيد لفلسطين مكانتها، ويمنح العالم درسًا في أن الضعف قد يتحوّل — حين يُدار بعقلٍ ورؤية — إلى أعظم أشكال القوة.