القوة الناعمة الإيرانية والدروس المستفادة من التجربة الإيرانية
إعداد: بن عائشة محمد الأمين – باحث في العلوم السياسية و العلاقات الدولية
المركز الديمقراطي العربي
من الضروري التوقف وبتعمق أمام النظام السياسي الفريد من نوعه في العالم الذي يجمع بين المؤسسات الديمقراطية الدستورية والمؤسسات الدينية والثورية: مكانة المرشد الأعلى، حيث يكرس الدستور الإيراني ولاية الفقيه، مما يجعل المرشد العام يتمتع بوضع متميز يشرف بصفة مطلقة على السلطات التشريعية، التنفيذية والقضائية، وحسب الدستور الإيراني المعدل، فإن المرشد الأعلى يضطلع بإحدى عشرة مهمة تبدأ بتعيين السياسات العامة لنظام الجمهورية الإسلامية إلى تعيين القادة العسكريين بما فيهم القائد العام لقوات حرس الثورة الإسلامية ومرورا بتعيين رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، أي ترتكز بيده سلطات تعيين العسكريين، مع إخضاع وسائل الإعلام لقبضته.
وفي كثير من الأحيان، فإن رئيس الجمهورية الذي ينتخبه الشعب لا يتمتع إلا بالرتبة الثالثة في السلم الرئاسي لصانعي القرار في السياسة الخارجية الإيرانية، بعد كل من المرشد الأعلى ومجمع تشخيص مصلحة النظام، الذي يتولاه في المرحلة الحالية، رافسنجاني.
وفي حالة الملف النووي الإيراني، فإن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الذي يتشكل من الاستخبارات، الحرس الثوري، مؤسسة الإرشاد ورئيس الجمهورية، هي التي تمسك بإدارة الملف، مع التركيز على أن السمة العامة للنظام السياسي الإيراني الحالي، يسير لصالح المحافظين،بمفهوم النخبة الدينية: المرشد الأعلى على خامنئى،والسياسية، رئيس الجمهورية محمود أحمدي نجاد، الذي دعمته الحوزة العلمية في قم، بالرغم من أنها معروفة بالحوزة الصامتة.ويضاف إلى النخبة السياسية سيطرة النواب المحافظين في مجلس الشورى، من المؤمنين بإدراك قائم في البيئة الدولية أساسه نظرية الاستكبار والمستضعفين التي وضعها الإمام الخميني، وفي الوضع الراهن لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية هي “الشيطان الأكبر”التي تتحالف مع الصهيونية لاستضعاف الشعوب الإسلامية، والبديل لهذا الوضع إقامة حكومة إسلامية عالمية عادلة، تجمع المستضعفين في الأرض، ومؤشرات هذه النظرية، تكمن في السلوك العملي لأحمدي نجاد، الذي يرفض كل الامتيازات المتعلقة بمنصب رئيس الجمهورية، بما فيها فكرته بتحويل الطائرة الرئاسية إلى الخطوط الداخلية، على أساس أن قيمتها المالية ضخمة ولا يصح التمتع بأموال الشعب لأغراض شخصية حتى وإن كان هو ذاته رئيس الجمهورية،كما طالب بتخفيض الراتب المخصص لرئيس الجمهورية وهي نفس الصورة التي ألفها الشعب الإيراني عنه عندما كان رئيسا لبلدية طهران، حيث رفض السكن الوظيفي اللائق في أرقى أحياء طهران، وأصر على بقاءه في الحي الشعبي الفقير، وهو ما جعله يكون محل احترام وتقدير الأغلبية في الشارع الإيراني جعلته يفوز في الاستحقاقات الرئاسية على منافسيه رافسنجاني، المعروف بالإصلاحي والتوددي في سياسته الخارجية تجاه واشنطن، لأن ثقافة البازار والاستثمار تتطلب التكيف مع المؤسسات المالية والنقدية التي يديرها الغرب.
ولا تزال ذاكرة المحافظين الإيرانيين يختزلون موقف أحمدي نجاد عندما قام بانتزاع الصورة الإشهارية من شوارع طهران لأحد السلع الإيرانية التي تظهر لاعب كرة القدم البريطاني دافيد بيكام ، واعتبر ذلك من قيم العولمة التي تمس بقيم الثورة والدين.
ويبقى أن نشير إلى أن تحالف المحافظين في إيران تزداد قوة في التراضي والتجانس بين المرشد الأعلى وأحمدي نجاد، حيث تلقى هذا الأخير تنشئته السياسية الأولى في بداية الثورة الخمينية على يد على خامنئى عندما كان رئيسا للجمهورية، وخصوصا في مداومته على ملتقى الخميس ، وفي وقتها كان أحمدي نجاد يقوم بافتتاح الجلسة بتلاوته للقرآن الكريم قبل بداية محاضرة خامنئى، كما أصبح من المقربين إليه في حلقاته الخاصة عندما أصبح مرشدا للثورة بعد وفاة الخميني، كما ساعده على تولي رئاسة بلدية طهران، وهو ما جعل خامنئى يستثمر في أحمدي نجاد الذي وجد فيه صورته الشبابية، لأن خامنئى عاش تجربة الصراع الكبير بين الثورة والشيطان الأكبر في مرحلة الثورة الأولى، مثلما يعيشها الآن أحمدي نجاد..وفضلا عن ذلك فإن أحمدي نجاد متشبع بقيم الثورة التي اكتسبها في نضاله الطلابي وانضمامه الباكر لإلى الحرس الثوري، وهو ما حاول الإعلام الأمريكي استغلاله باعتباره كان أحد الطلبة الناشطين في احتلال السفارة الأمريكية في طهران ليلة سقوط شاه إيران..
هذا هو أهم متغير في البيئة الداخلية، الذي يمكن أن يحدد لنا الصور المستقبلية لإدارة الأزمة النووية بين طهران وواشنطن.أما المتغيرات الخارجية، فيمكن إدراج البعض منها كأوراق بيد كل طرف، ومنها: الورقة النفطية والورقة العراقية لصالح إيران والورقة الإسرائيلية لصالح واشنطن، مع عدم إغفال الدور الذي يمكن أن تقوم به كل من موسكو وبكين.
إن إدارة الأزمة النووية في المستقبل القريب، على الأقل في الخمس سنوات القادمة، سيأخذ منحنى الخط الاتجاهي، وسماته الأساسية، مواصلة إيران إدارة الملف ببراعة دبلوماسية تتجاذبها الثبات والمرونة في التعامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومع الترويكا الأوروبية، المتشكلة من فرنسا، بريطانيا وألمانيا، أو حتى مع مجموعة الخمسة صاحبة حق الفيتو+ ألمانيا، بحيث تأخذ طابع الثبات من حيث إصرارها على اكتساب حق التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية مع التأكيد في خطابها الرسمي على التزامها باتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وقبولها تفتيش المواقع والمنشآت النووية من قبل المفتشين وخبراء الوكالة مع إعطاء الضمانات، خصوصا بعد توقيعها على البرتوكول الإضافي، مع تأخر البرلمان (مجلس الشورى) في المصادقة عليه.
ذكاء الدبلوماسية الإيرانية
لاحظنا براعة السلوك الدبلوماسي الإيراني في إدارة ملفها النووي، حرصا منها على تجنب مواجهة مسلحة من جهة والعمل على عدم إحالة ملفها النووي إلى مجلس الأمن كما ترغب في ذلك واشنطن من أجل استصدار العقوبات الاقتصادية أو في أقصى حد إعطاء المجموعة الدولية حق استخدام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة العسكرية في حالة تهديد السلم والأمن الدوليين، طبعا وفق القراءة الأمريكية، مادام أن إسرائيل بامتلاكها لأكثر من 250 رأس نووي لا تشكل تهديدا للأمن والسلم الدوليين.
كما تستمر البراعة الدبلوماسية من خلال تقديم التنازلات لصالح الوكالة الدولية للطاقة الذرية كلما زادت وتوسعت دائرة الضغط الأميركي-الأوروبي-الإسرائيلي، وفق مقولة:”الانحناء للعاصفة حتى لا تكسر في أحد جناحيها” وبذلك تفوت الفرص على ما يرغب فيه المحافظين الجدد في واشنطن. حيث لا حظنا في الخط الاتجاهي الذي يمتد ما بين نهاية 2002 ووصول أحمدي نجاد إلى الرئاسة في أوت 2005، كيف كانت الدبلوماسية الإيرانية بقيادة الأمين العام لمجلس الأمن القومي، أو وزير الخارجية ومساعديه تتكيف بصورة إيجابية مع التهديدات والضغوطات، وقبل نهاية كل آجال التي تحدد لها للالتزام بضمانات تخصيب اليورانيوم كانت تلعب ورقة التنازل والمساومة، حيث لجأت للتوقيع على البرتوكول الإضافي(18/12/2003) في مرحلة التهديد الأول بتمرير ملفها إلى مجلس الأمن، ثم التوقيع على اتفاق مع الترويكا الأوروبية(أكتتوبر2004 ) ، في المرحلة الثانية، الذي يقضي بالتوقف الطوعي عن تخصيب اليورانيوم مقابل تزويدها بالوسائل التكنولوجية لتفعيل منشآتها النووية من قبل المجموعة الأوروبية.
واعتقد أن براعة الدبلوماسية الإيرانية، تكمن كذلك في إدراكها لحسابات البيئة الإقليمية، حيث تزامن توقيع البرتوكول الإضافي مع الغزو الأمريكي للعراق، والتشهير الرسمي بمواصلة ضرب محور الشر، الذي يتضمن إيران، وما صاحبه من هرولة ليبية للكشف عن أسلحة الدمار الشامل خوفا من امتداد مشروع الإمبراطورية الأمريكية إلى طرابلس، وهو ما كشف فيما بعد عن قضية”السوق السوداء النووية”على حد تعبير محمد البرادعي، من خلال ما عرف بشبكة العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان، الذي يبدو أن إسلام أباد وواشنطن اتفقتا على تجميد الملف مقابل التعاون الأمني، مع التأكيد أن إيران استلمت خريطة القنبلة النووية من قبل عبد القدير خان.
وما يمكن أن نتصوره هنا، أنه كلما ضعفت واشنطن في حربها ضد المقاومة العراقية كلما زادت طهران بتشبثها بملفها النووي، وكلما قويت واشنطن في إدارة الملف العراقي كلما لجأت طهران إلى الليونة والانحناء أمام كل عاصفة حفاظا على جناحيها على أمل الاقتلاع بثبات نحو القوة والقدرة النووية، سلمية كانت أم عسكرية.
وقوة هذا السيناريو واستمراريته، تكمن في الأوراق التي تستخدمها طهران لصالحها، وفي مقدمتها الورقة النفطية، كأن تقطع إمدادات النفط عن الدول التي تقف في صف واشنطن، مع إدراكها لأهمية النفط في الاقتصاد العالمي، قد تصل أسعاره في حالة فرض العقوبات إلى أكثر من مائة دولار للبرميل الواحد، حيث وصل قبل أيام قليلة فقط من الآجال التي حددت للبرادعي (28/04/2006)من أجل تقديم تقريره إلى مجلس الأمن إلى 74 دولار للبرميل الواحد، يضاف إلى ذلك الاستعدادات العسكرية الإيرانية، مثل إطلاق صواريخ شهاب المتطورة في مضيق هرمز تعد إنذار مبكر لإمكانية تطويق إيران للممر بحري إستراتيجي يضمن نقل أكثر من 65 بالمائة من النفط العالمي.
كما أن الخيار العسكري الأمريكي بحسب الخبراء العسكريين اللواء المتقاعد حسام سويلم) يتطلب وقت كبير خصوصا مع الوضعية العسكرية الأمريكية الراهنة في كل من أفغانستان والعراق، لأنه لشن حملة عسكرية فعالة تحتاج واشنطن إلى 300 طائرة قتال معززة ب250 صاروخ كروز توماهوك، على أساس أن عدد الأهداف المطلوب قصفها وتدميرها تتراوح بين 24 منشأة نووية ورادارات إنذار ومواقع وبطريات صواريخ أرض جو للدفاع عنها، مطارات وقواعد جوية وكلها يتحتم تحطيمها منعا لانطلاق مقاتلات اعتراضية إيرانية. مع ما تتطلبه العملية من توجيه الضربات للقوى المجتمعية الفاعلة في إيران التي تتحصن بطريقة جيدة اكتسبت خبرة قتالية في الحرب الإيرانية-العراقية، وبالأخص قوات الحرس الثوري-الباسدران-ومتطوعي-البايسيج-وقد تصل الأهداف التي يمكن أن تشمل بالضرب 50 هدفا مما يتطلب آليات عسكرية متطورة. واعتقد أن الأصوات التي تطالب دونالد رومسفيلد بالاستقالة سواء من القادة العسكريين المتقاعدين أو من داخل الحزب الجمهوري بسبب أخطاءه العسكرية في العراق مع الاتجاه المتدني لشعبية بوش التي وصلت إلى أدناه 35 بالمائة فقط من المؤيدين لسياسته، سيعزز من السيناريو الاتجاهي الذي يخدم الدبلوماسية الإيرانية في إدارة ملفها النووي.
يمكن القول إن الخلافات الإيرانية- العربية الحديثة، قد بدأت مع ذيول الصراع الصفوي-العثماني، ثم القاجاري-العثماني. ورغم أن المعركة العسكرية حُسمت لصالح العثمانيين بعد أن خسرت إيران المعركة في “جالديران” عام 1514، فإن الصراع الثقافي الإيراني- التركي، والتنافس المذهبي السني- الشيعي، استمرا في العراق بالذات حتى زوال الدولة العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الأولى. ورغم كل التهم الموجهة للدولة العثمانية والأتراك، فإن العثمانيين كانوا في الواقع يحاربون على الجبهة الشيعية والسنية معاً، وبخاصة في القرن التاسع عشر، عندما قاموا بتصفية الحركة الوهابية والدولة السعودية الأولى.
وكان العراق على الدوام بؤرة الصراع الرئيسية لأسباب مختلفة، وقد أدى اعتماد العثمانيين بسبب صراعهم مع إيران الشيعية، إلى زيادة الاعتماد على السُنة في العراق، وتحاشي تجنيد الشيعة، أو إشراكهم في شؤون الحكم. فكانت هذه السياسة من أسباب الانقسامات الطائفية، وتكريس الخلاف.
بدأت المرحلة الثانية من العلاقات العربية- الإيرانية باستلام رضا شاه حكم إيران عام 1926، والملك فيصل الأول حكم العراق عام 1921، والملك عبدالعزيز آل سعود حكم المملكة العربية السعودية عام 1932. أما تركيا العثمانية فقد ألغيت فيها الخلافة عام 1924 وخرجت رسمياً من صراعات المنطقة، وبخاصة منطقة الخليج والجزيرة، بعد قرون طويلة من الوجود والتأثير في العراق والإحساء والحجاز.
شهدت هذه المرحلة، بين الحربين العالميتين، تجارب العرب والإيرانيين والأتراك في بناء الدولة الحديثة المستقلة. وفي كل هذه الدول، وبخاصة العراق وإيران اشتد التعصب القومي، الذي تم على حساب الأقليات القومية والمذهبية في البلدين مهما كان حجم هذه “الأقليات”، كالشيعة في العراق مثلاً.
حاولت إيران “رضا شاه” أن تستنسخ تجربة مصطفى كمال أتاتورك في مجال تغيير الأبجدية العربية وتحرير المرأة وتخليص الثقافة الإيرانية من المؤثرات العربية والإسلامية. ولكن قوة ونفوذ رجال الدين الشيعة واستقلالهم المادي، أجهضت جوانب عديدة من محاولات رضا شاه. بل حرصت المرجعية الشيعية لسنوات طويلة قبل وصول الملك إلى العرش في طهران، أن تقيم في النجف الأشرف وسامراء بالعراق، كي تكون بمنجى عن نفوذ ملوك إيران.
كانت السلفية الوهابية من جانب ثانٍ شديدة التأثير على الحياة الدينية في دول الخليج، وبخاصة بالنسبة لشيعة العراق والإحساء، ممن ظلوا مهددين بشدة، ربما إلى نهاية الحرب العالمية الثانية. هل كان ولاء الشيعة خلال هذه المراحل لمراجعهم الدينية أم للحكومة الإيرانية؟ هذه مسألة جديرة بالبحث فيما بعد. ولكن أتباع المذهب الشيعي كانوا لقرون عديدة، يرون أنفسهم في بيئة غير ودية تتهددهم مخاطر من كل نوع، ومنها مثلاً ما حدث في كربلاء عام 1801. ومع تنامي ملامح الدولة القومية، العربية في العراق والفارسية في إيران، والإسلامية السلفية في السعودية، تضاعف شعور الشيعة بالعزلة والخطر.
ومع اختفاء مؤسسي إيران والسعودية والعراق بعد وفاة ملوكها، بدأت مرحلة ثالثة، خلال حكم محمد رضا شاه والرئيس جمال عبدالناصر ومن قبله الملك فاروق والملكان سعود وفيصل في المملكة العربية السعودية. وتميزت هذه المرحلة بمحاولة التقريب بين المذهبين الشيعي والسني، توّجت في الأزهر الشريف خلال فبراير 1958 بصدور فتوى تجيز التعبد بموجب “المذهب الجعفري” الشيعي. ولكن المرحلة كانت كذلك شديدة التوتر على الصعيد السياسي، بعد اصطدام مصر الناصرية بإيران والسعودية على حد سواء. وهكذا ساد التوتر العلاقات العربية-العربية من جانب، والعلاقات العربية-الإيرانية من جانب ثان، والتهبت المشاعر القومية العربية وزادت الشكوك في كل ما يمت إلى إيران بصلة. وإذا كانت الصراعات والاختلافات الإيرانية-العربية السابقة محدودة الإطار بعض الشيء، فإن هذه المرحلة، ما بين 1952-1967، قد دخلت فيها الصحافة والإذاعة والتلفاز والراديو والمسجل والميكروفونات والمدرسة والبيت والمسجد والمظاهرات، وهكذا جرى إشراك جمهور واسع جداً في الشد والجذب.
مع وفاة الرئيس عبدالناصر عام 1970 وشاه إيران 1980، والملك فيصل في المملكة العربية السعودية 1975، بدأت مرحلة الثورة الإيرانية بقيادة آيه الله الخميني وهيمنة الرئيس صدام حسين على مقدرات العراق، فيما تصدرت المملكة العربية السعودية مع الملك فهد العالم العربي.
ومن أطرف ما قرأت في مجال العلاقات العربية- الإيرانية، ما يورده الباحث “سعيد باديب”، إذ يبدو أن نقطة الخلاف الكبيرة بين إيران في زمن الشاه والسعودية في زمن الملك فيصل، كانت حول السياسة النفطية، حيث كانت مواقف البلدين منها عكس ما نرى اليوم: “ففيما كانت المملكة العربية السعودية تقيم رابطاً بين سياسة إنتاج النفط لديها وبين الصراع العربي-الإسرائيلي، كانت سياسات الشاه تبدي اهتماماً كبيراً بالدعم الذي كان يتلقاه من الولايات المتحدة، ولقد تعقد الوضع كثيراً من جراء رغبة المملكة العربية السعودية في الاستجابة للطلب على النفط في الغرب دون الإساءة إلى القضية العربية، وهي قضية كان الملك فيصل، ووزير نفطه الشيخ أحمد زكي اليماني، لا يكفان عن إعلان الالتزام بها”. (العلاقات السعودية-الإيرانية 1932-1983، لندن 1994، ص 84). وهذا بالطبع عكس ما نرى في سياسة البلدين النفطية…اليوم!
بدأت مع نشوب الحرب العراقية- الإيرانية المدمرة التي دامت 8 سنوات، مرحلة جديدة من التوتر الطائفي وصلت بعض موجاته إلى مصر وشمال أفريقيا والسودان. ومع تزايد مخاوف السُنة من انتصار إيران في هذه الحرب، وجد الشيعة أنفسهم في معظم الأحيان محاصرين بين الأيديولوجية المذهبية والسياسية المتشددة من جانب والشكوك في حقيقة موقفهم الوطني من جانب آخر.
ولم تصطدم الثورة الإيرانية بالدول العربية فحسب، بل اشتد خلافها حتى مع الأحزاب الإسلامية العربية، كـ”الإخوان المسلمين” و”حزب التحرير” وغيرهما. وفي دمشق، بعد أن انحاز “الأخوان المسلمون” السوريون إلى صدام حسين، هاجم قاضي الثورة الإيرانية صادق خلخالي “الأخوان” وسماهم “أخوان الشياطين”، واتهمت أجهزة الإعلام الإيرانية بعض قادة “الأخوان” في مصر بما فيهم مرشدهم عمر التلمساني بأنهم “عملاء أميركيون”. (اعتدال أم تطرف، خليل علي حيدر، 1998، ص 105)
بلغ الاستقطاب السياسي والمذهبي مداه خلال تلك الحرب الدامية المروعة، التي رافقتها هذه المرة أجهزة التلفاز الملونة والأغاني الحماسية وحملة إعلامية لا تبقي ولا تذر. أحد الكتب العراقية التي نشرها النظام على نطاق واسع عام 1985 كان كتاب “المدارس اليهودية والإيرانية في العراق”. يقول المؤلف د. فاضل البراك فيه، ص 227، ما يلي: “الصهيونية والخمينية مظهران لحقيقة واحدة، تطابقت فيهما القواعد والمرتكزات مع اختلاف في الصورة الخارجية”. مرت العلاقات السنية-الشيعية بمرحلة من التحسن والهدوء مع انتهاء الحرب، وفي أعقاب تحرير الكويت، والدور المقاوم لإسرائيل لشيعة لبنان، والتغييرات في البحرين والمملكة العربية السعودية، وغير ذلك.
القوة الناعمة الإيرانية:
تُعتبر الثقافة (بكافة تفرعاتها ومستوياتها)، مصدرًا مهمًا من مصادر توليد القوة الناعمة لأية دولة، حتى إن الكثير من الباحثين ظلّوا حتى وقت طويل يفهمون ويفسرون القوة الناعمة على أنها تكاد تقترن حصرًا بالتأثير الثقافي، قبل أن يعودوا ويوسعوا دائرتها.
وتُعرف الثقافة على أنها مجموعة القيم والممارسات التي تترك معنى بالنسبة للمجتمع، والتي من الممكن لها أن تأتي بعدة أشكال، مثل الثقافة النخبوية (الأدب، الفن، التعليم العالي)، أو مثل الثقافة الشعبوية التي تستهوي الجماهير. وتمتلك إيران مخزونًا كبيرًا لتوليد القوة الناعمة من هذا المصدر عبر:
اللغة: يرى بعض الباحثين الإيرانيين أن اللغة الفارسية عنصر أساسي في جذب الأمم الأخرى على اعتبار أنها دخلت في تركيب العديد من اللغات الأخرى السائدة اليوم في العالم كاللغة التركية والهندية والأوردية، والأرمينية، والجورجية، والسواحلية وغيرها، وأن ليس هناك عدد كبير من اللغات حول العالم يخلو من الفارسية
البعد الحضاري: كما أن باستطاعة البلاد استثمار ما تقول إنه حضارة تعود إلى 3 آلاف سنة إلى الوراء زاخرة بالتاريخ والخبرة بالتأثير على المناطق المجاورة، والتي مارستها عليها طوال فترة تمتد منذ زمن الأخمينيين مرورًا بالساسانيين وغيرهم ممن أنشأوا إمبراطورية تمتد من هيليسبونت (غرب تركيا اليوم) إلى شمال الهند، ومن مصر حتى آسيا الوسطى على حدود كازاخستان اليوم.
السياحة: وتُصنَّف إيران على أنها واحدة من عشر دول سياحية هي الأفضل من ناحية التاريخ والمواقع الأثرية، وتجذب إيران حوالي 3,2 مليون سائح سنويًا وفق أرقام عام 2011 (الغالبية العظمى منهم للسياحة الدينية، فقط 20 ألف سائح منهم ليس لأسباب دينية) مع خطط لجذب 20 مليون بحلول عام 2025
الفن والمناسبات الثقافية: وبنظرة خاطفة على الاحتفالات والمناسبات الفارسية التي تقام، يكفي الالتفات إلى عيد النيروز الذي يُعتبر مؤشرًا على التأثير الكبير للثقافة الإيرانية على الثقافات الأخرى، ناهيك عن الفن والشعر والتأليف. كما يلعب المهاجرون الإيرانيون دورًا كبيرًا في نشر الثقافة الفارسية سيما وأن حجمهم يُقدّر بحوالي 4 إلى 5 مليون إيراني في المهجر ناهيك عن حوالي مليون و340 ألف وُلدوا في المهجر وهم على ديانات مختلفة، منها: الإسلام، والمسيحية، والبوذية، والهندوسية، واليهودية، وغير المنتمين إلى أي دين.
القيم السياسية
تمتلك إيران نظامًا سياسيًا هجينًا -إن صحّ التعبير- يبتكر مفهوم “الديمقراطية الدينية” باعتباره نموذجًا فريدًا من نوعه يصلح أن يكون مصدرًا من مصادر القوة الناعمة الإيرانية لما يقدمه من جديد في هذا الموضوع، وكونه بديلاً عن النظم التقليدية المعروفة في العالم.
يقول رئيس مجلس الشورى (البرلمان) الإيراني علي لاريجاني: إن إحدى أهم مآثر “الإمام الخميني” مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية على الإطلاق، تكمن في أنه قدّم نموذجًا للـ”ديمقراطية الدينية” التي تستند إلى التصويت الشعبي ومقاومة الظالم بما يتماشى مع القيم الإسلامية
يقود النظام طبقة من رجال الدين (الملالي) على رأسهم الولي الفقيه المرشد الأعلى، ويفتح المجال واسعًا للسياق الانتخابي أن يأخذ مكانه في النظام السياسي ليفرز قيادات بشرعية شعبية، ويتيح حرية الاختيار للجميع، وقد استمر على هذا المنوال في سياق تراكمي منذ العام 1979 وحتى اليوم.
على صعيد السياسة الخارجية
يمكن للسياسة الخارجية أن تكون مصدرًا أساسيًا من مصادر القوة الناعمة لأية دولة خاصة إذا كانت تحمل قيمًا سامية أو طروحات عالمية أو مبادرات تعزز العلاقات الثنائية والإقليمية والدولية. ويمكن للسياسة الخارجية أن تزيد من فعالية وتأثير القوة الناعمة للبلاد إذا ما نُظِر إليها من قِبل الدول الأخرى والشعوب الأخرى على أنها شرعية وأخلاقية
في الحالة الإيرانية، تكتسب السياسة الخارجية أهمية قصوى كونها المصدر الأكبر من مصادر توليد القوة الناعمة للبلاد والأكثر فعالية وتأثيرًا على الإطلاق. ويتضمن الدستور الإيراني إشارة واضحة إلى السياسة الخارجية للبلاد ضمن الفصل الأول المخصص “للأصول العامة”؛ إذ يشير البند 16 من المادة الثالثة من الفصل الأول من الدستور إلى هذا الموضوع بالقول: “تنظَّم السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم”.
أما الفصل العاشر فيتضمن أربع مواد، تقول المادة 152: “تقوم السياسة الخارجية لجمهورية إيران الإسلامية على أساس الامتناع عن أي نوع من أنواع التسلط أو الخضوع، والمحافظة على الاستقلال الكامل، ووحدة أراضي البلاد، والدفاع عن حقوق جميع المسلمين، وعدم الانحياز مقابل القوى المتسلطة، وتبادل العلاقات السلمية مع الدول غير المحاربة”.
هذا النوع من الطروحات يُعتبر مصدرًا أساسيًا من مصادر القوة الناعمة لدى إيران، وإذا ما أُضيف إلى الأيديولوجية الإيرانية والتي هي عبارة عن مجموعة من الطروحات الثورية والمبادئ الدينية، فإنها تُعد المصدر الأساسي والأكبر في توليد القوة الناعمة للبلاد.
أدوات القوة الناعمة الإيرانية
ويُقصد بها القنوات التي يتم من خلالها وعبرها ممارسة وتوجيه القوة الناعمة للبلاد، على اعتبار أن أية قوة ناعمة إنما تحتاج إلى تحديد اتجاه المنطقة أو الجهة المستهدفة في سياق منظم بما يخدم الأهداف القومية العليا.
حاول النظام الإيراني في العام 2005، استغلال كل مصادر القوة الناعمة وأدواتها التي تتمتع بها إيران ضمن إستراتيجية واحدة تتضمن سياسة واضحة لتوظيف القوة الناعمة في سياق الإستراتيجية الوطنية الكبرى للبلاد لتكون أكثر فعالية في خدمة المصالح الإيرانية القومية والسياسة الخارجية للبلاد.
وقد وضع النظام في ذلك العام وثيقة تُعرف باسم “الإستراتيجية الإيرانية العشرينية” (2005-2025)، أو الخطة الإيرانية العشرينية “إيران: 2025”. وهي تُعتبر “أهم وثيقة قومية وطنية بعد الدستور الإيراني”، تضع التصورات المستقبلية للدور الإيراني خلال عشرين عامًا، وتهدف إلى تحويل البلاد إلى نواة مركزية لهيمنة تعددية داخلية في منطقة جنوب غرب آسيا (أي المنطقة العربية تحديدًا التي تشمل شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وسيناء).
وتنص الوثيقة على أن طهران ستحظى بخصوصية على المستوى الدولي، وتتحول إلى قوة دولية ومصدر إلهام للعالم الإسلامي، على أن ينعكس ذلك إقليميًا في العام 2025، لتحتل إيران المرتبة الأولى في منطقة جنوب غرب آسيا اقتصاديًا، وعلميًا، وتكنولوجيًا، وتصبح نموذجًا ملهِمًا ولاعبًا فاعلاً ومؤثرًا في العالم الإسلامي استنادًا إلى تعاليم “الإمام الخميني” وأفكاره، وبما يعكس هويتها الإسلامية الثورية.
وتعطي الوثيقة أهمية قصوى للمنطقة المحيطة بإيران والتي تضم خمسة نظم تحتية، هي: شبه القارة، والشرق الأوسط العربي، والخليج العربي، والقوقاز، وآسيا الوسطى. وهي مناطق تستهدفها القوة الناعمة الإيرانية بالدرجة الأولى وفق عدد من الأدوات، منها:
أولاً: الأدوات الثقافية
تمتلك إيران ترسانة هائلة من الأدوات التي تساعدها على توجيه مصادر القوة الناعمة الثقافية للبلاد في الاتجاه المراد والذي يحقق في نهاية المطاف مصالح البلاد العليا وأهدافها الإستراتيجية. وتتوزع هذه الأدوات على مستويات متعددة من المواضيع داخل البناء الثقافي، ومنها:
– الثقافة الإيرانية الفارسية: والمتابع لتركيز الدولة على العنصر القومي الفارسي رغم كونها جمهورية إسلامية، يدرك أهمية هذه الأداة في الترويج للقوة الناعمة الإيرانية على الصعيد الإقليمي خاصة ما يُعرف في إيران باسم مشروع “حوزة إيران الحضارية” أو “إيران الكبرى”، والتي تشمل -وفقًا لمحسن رضائي(22)- المنطقة الواقعة على حدود الصين شرقًا والمحيط الهندي جنوبًا والخليج “الفارسي”**غربًا والقوقاز والبحر المتوسط شمالاً. وفي هذه الحوزة -كما يقول رضائي- تحظى الثقافة الفارسية بأهمية خاصة لأنها ترتبط بالحوزة الحضارية الإيرانية (يقصد تاريخ الإمبراطورية الفارسية)، والمكانة العلمية والإستراتيجية التي تحظى بها إيران في هذه المنطقة تجعل منها فاعلاً محوريًا.
هذا، وتحظى هذه المنطقة بأهمية قصوى في الإستراتيجية الإيرانية ولكنها تأتي في المرتبة الثانية بعد الخليج العربي والمنطقة العربية وفق الاستراتيجية الإيرانية العشرينيّة “ايران:2025”. وتنفق إيران أموالاً طائلة على مستوى الترويج الثقافي لخدمة مشروعها القومي. ولإعطاء فكرة عن الموضوع، بلغت موازنة إيران الثقافية عام 2008 حوالي 2500 مليار تومان، ذهب منها 386 مليار تومان إلى وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، والباقي صُرِف على النشاطات الدعائية والترويجية الثقافية الإيرانية.
أدوات في السياسة الخارجية
تستخدم إيران مروحة واسعة من القضايا في السياسة الخارجية لتوجيه قوتها الناعمة وبالتالي توسيع قاعدة نفوذها وتأثيرها على الصعيد الإقليمي، ومن بين هذه الأدوات:
– التشيع السياسي: يُستخدم التشيع في إطار علاقات إيران الخارجية على نطاق واسع وهو عنصر مهم لتوليد القوة الناعمة الإيرانية على مستوى الحاضنة الشيعية الموالية للولي الفقيه في الحد الأدنى بما يخدم المشروع الإيراني(37) في المنطقة. ويرى الباحث الإيراني كيهان برزكار أن استخدام التشيع في السياسة الخارجية قديم، لكنه أصبح أكثر فاعلية بعد أزمة العراق عام 2003 حيث دخل التشيع في إنتاج السلطة والسياسة في الشرق الأوسط؛ مما أدى إلى تقوية دور ونفوذ إيران، فعنصر التشيع أدى إلى تحويل العراق إلى دولة صديقة ومتحالفة مع إيران، وأعطى الحضور الفعال والمصيري في قضايا العراق ولبنان، والشرق الأدنى بشكل عام على حد قوله. ومثله يقول الباحث الإيراني والخبير في السياسة الخارجية الإيرانية في طهران “فرزاد بيزيشكبور” في مقال له بعنوان “إيران وميزان القوى الإقليمي”: “إن النظام العراقي بقيادة صدام حسين لم يعد موجودًا اليوم، أما النظام الثاني المعادي لإيران والمتمثل بنظام طالبان الأفغاني فقد تم التخلص منه. واليوم فإن القادة الجدد للعراق وأفغانستان أكثر قربًا لإيران من أي طرف آخر، وبدلاً من صدّام لدينا الآن رئيس عراقي غير عربي وفخور بمعرفته وإتقانه اللغة الفارسية، وعدد كبير من أعضاء الحكومة العراقية والبرلمان العراقي كانوا قد أمضوا سنوات طويلة في إيران وأنجبوا أولادًا لهم هنا ودخلوا مدارس طهران وتعلموا بها. كذلك يحتل الشيعة اليوم في العراق ولبنان والبحرين مواقع مهمة داخل الأنظمة السياسية لبلدانهم مما يعطي إيران كنتيجة لذلك اليد العليا في المنطقة”
– الخطاب الثوري المعادي لأميركا والغرب: واستطاعت إيران من خلال هذا الخطاب أن تكسب قطاعات واسعة من الرأي العام لصالحها لاسيما على الصعيد الإقليمي، واستغلت حساسية هذه القاعدة تجاه أميركا والغرب ووظّفتها في إطار سعيها لتعزيز قوتها الناعمة في المنطقة.
– القضية الفلسطينية: وتهدف من خلال خطاب دعم القضية الفلسطينية إلى تخطي حزام من شملتهم في العنصرين السابقين، وكسب قطاعات واسعة لدى الرأي العام لصالحها، واستقطاب الشارع لخلق بيئة مناسبة لتقبل الدور الإيراني الإقليمي عبر هذا الباب
– المراجع :
1- خليل علي حيدر، الأبعاد التاريخية للعلاقات العربية-الإيرانية، http://www.mokarabat.com/m1007.htm 23/07/2015 الساعة. 08.44.
2- See: Joseph S. Nye, Soft Power: The Means To Success In World Politics, Public Affairs, New York, 2004
3- 11) Iran’s foreign tourist arrivals continue to increase, Tehran Times, volume 11366, 13 Feb. 2012 www.tehrantimes.com/component/content/article/95390
4- 21) See: Jahangir Amuzegar, IRAN’S 20-YEAR ECONOMIC PERSPECTIVE: PROMISES AND PITFALLS, Middle East Policy Journal, 2009, Vol. 16,p: 41-57
5- 34) Pierre Pahlavi, Understanding Iran’s Media Diplomacy, Israel Journal of foreign Affairs, VI : 2, 2012, p:22-23.
6- علي حسين باكير، إكتشاف القوة الناعمة الإيرانية…..القدرات و حدود التأثير.، http://studies.aljazeera.net/files/iranandstrengthfactors/2013/04/2013411102151266414.ht ml.