معضلة الدستور فى الحياة السياسية المصرية
اعداد : محمود عبدالعزيز – المركز الديمقراطي العربي
بداية مبكره:-
بدأت الحياة الدستورية والنيابيه المصرية مبكراً عن غيرها من البلاد المحيطة فى الإقليم العربى والإسلامى والخاضع فى أغلبه لسيطرة الدولة العثمانية فى لائحة 1879م, ومع طور التشكل الثانى للدوله الحديثة على يد “إسماعيل باشا” حيث كان الهاجس النهضوى والحداثى الأروبى دافعا ومحركاً رئيساً لعجلة التحديث ورغبات النهضه , وكانت الحياة البرلمانيه هى أول ما إستحدثه الخديوى إسماعيل من أجل إثراء المناخ السياسي العام ولو على سبيل إستعارة الصوره لا المضمون , وصدر المرسوم الخديوى فى نوفمبر 1866م, ويقضى بإنشاء مجلس النواب وإصدار اللائحة الخاصة به , وتلاه إنشاء مجلس النظار لتكون الصورة مكتمله ومصغره من النماذج الأروبيه الحداثية فى الجكم .
ومع تطور الحياة السياسية فى مصر كانت المعركة بعد إسقاط حكم إسماعيل تتمثل فى إقرار حق البرلمان فى مناقشة الميزانية بكل بنودها وإقرارها رغم أنف الرقابة الثنائية التى سبقت الإحتلال العسكرى , وكانت مهمتها مراجعة الميزانية (المصروفات والورادات), وذلك فى أعقاب أزمة الديون التى بدأت بنهاية حكم سعيد باشا , وتفاقمت فى عهد إسماعيل حتى أوصلت البلاد إلى حافة الإفلاس والإحتلال.
جاء دستور 1882 الذى وضعه وصاغه “محمد شريف باشا” ليكون الوثيقه الدستورية الأولى فى الحياة السياسية المصرية وأقر حق البرلمان فى مناقشة الموازنه ,بيد أن الأحداث السياسيه المتلاحقة فرضت على البلاد إحتلالاً عسكرياً تواطأ معه الحكم الخديوى الفاسد , ودخلت البلاد فى دائرة المجهول حيث تمت تصفية تجربة إسماعيل النهضوية عن أخرها , وتم حل الجيش والبرلمان , وأقام الإنجليز بدلاً منه الجمعية التشريعية لتكون هيكلاً صورياً ,وأداة طيعة فى يد الإحتلال البريطانى ,وقد كان الزعيم الراحل ” سعد زغلول باشا” وكيلاً لتلك الجمعيه سنة 1913 قبل الثورة بسنوات قليله , ويمكننا الحديث الأن عن عملية تحقيب للحياة الدستورية والسياسية فى مصر فى الفترة من 1881 حتى 1922, حيث كان التحدى الأول هو مسألة الموازنه العامه وحق إقرارها ومناقشتها دون تدخل من القوى الأجنبية المتواجده فى البلاد بصيغ مختلفة كصيغة المحاكم المختلطة, وتم إجهاض التجربة برمتها فى أعقاب الإحتلال الإنجليزى , ولتمثل مرحلة الجمعية التشريعية فترة إنتقاليه فى فترة الإحتلال الأول التى كان اللورد كرومر هو المتحكم الأوحد فيها والتى فرغ البلاد من إمكانياتها الإبداعية والبشرية بنظام تعليمى مجحف فى حق المصريين جعل جُل أمالهم فى الحصول على شهادة متوسطه أو إبتدائية , ولا يُغفل هنا بدء نشأة الأحزاب السياسية رسميأ مع موجة التأسيس الأول للأحزاب سنة 1907 والمعروفه بعام الاحزاب , فقد نشأت أحزاب الوطنى والأمة والدستورى وغيرها ممن عبرت عن مصالحهم الطبقية ونفوذهم السياسي , ليمثل الحزب الوطنى بزعامة الزعيم الراحل مصطفى كامل شعلة النضال الوطنى , وإختفت المطالب الدستورية الحادة لمصلحة مطلب الإستقلال , وإستمر الوضع كذلك حتى قيام ثورة 1919 وإنتقال شعلة النضال إلى حزب الوفد وإنزواء الحزب الوطنى بعد وفاة زعيمة الثانى “محمد فريد” , فضلاً عن إحتسابة ضمن الإتجاه المحافظ لمصلحة الوفد الذى مثل الليبرالية الوطنية المصرية حينها ولمدة مايزيد على ثلاثين عاماً .
ويمكن إجمال المرحلة السابقة على فترة ماقبل الإحتلال أن مطالب الدستور والحياة النيابية وحق البرلمان فى المناقشة والنقد وإبداء الأراء , وإقرار الموازنة وهى معضلة متجددة دائماً داخل الحياة السياسية والدستورية المصرية , كانت تلك المطالب هى التى تملأ الفضاء الوطنى , وقد كان مقدراً لتلك التجربة فى حال نجاحها أو تهيئة جزء من الظروف المحيطة بها أن تؤدى بالبلاد إلى نظام ملكية دستورية حقيقية , ولكن جاءت ضربة الإحتلال وحلفاءة لتمثل طعنة مميته فى قلب الحياة السياسية المصرية دخلت على إثرها فى غيبوبه نسبية , لتبدأ فى الإستفاقه على قرع طبول ثورة الشعب فى 1919م.
مرحلة مابعد إعلان فبراير1922… إزدهار مرتبك:-
نجح النضال الشعبى الهائل على مدار ثلاثة سنوات فى كسر يد الإحتلال القابضة على زمام الأمور حتى لم يكن أمامها من بُد سوى الإذعان للإراده المصرية وأصدرت إعلان 28فبراير 1922 لتعطى فيه مصر إستقلالاً إسمياً بسبب التحفظات الأربعه للبيان التى تفرغ البيان من مضمونه ومنها إحتفاظ بريطانيا بقوات فى منطقة القناة وتدخلها لحماية الأقليات , والدفاع عن مصر إذا تعرضت للعدوان , وجاءت الخطوة التالية مباشرة ان أعلن السلطان فؤاد , مصر مملكة ليصبح هو أول ملك للبلاد , وشكل لجنة من خمسين فرداً لوضع دستور 1923 الذى وُضع بطريقة المنحة من الملك ورغم الإعتراضات الوطنية على اللجنة إلا انها تمكنت من إنجاز دستور لازال محل إعجاب الكثيرين رغم ما به من عيوب , فقد كان المبتغى ان يضمن إنشاء ملكية دستورية فى البلاد بعد الحقبة الاولى للإحتلال إلا أن ما منحه من سلطات للملك الذى أصبح يباشر سلطاته بواسطة الوزراء المسؤليين امام البرلمان ,مثل إنتكاسة عن ما كان مطلوباً, فقد أعطى الدستور للملك حق حل البرلمان وإقالة الحكومه , وهو ماكان العائق أمام حياة حزبيه وسياسية سليمة , صبت فى مصلحة حكومات الأقلية المتحالفة مع سلطة القصر من ناحية , وسلطة المعتمد البريطانى من ناحية أخرى , وجاءت الضربات متتالية للدستور الجديد فمن عملية إعاقة تشكيل سعد زغلول للوزارة الأولى سنة 1924 التى تم التأمر عليها بعد مقتل السير “لى ستاك” سردار الجيش المصرى ثم الإنشقاق الوفدى الأول فى الحياة الحزبية , بسسب الخلاف بين” سعد وعدلى يكن ” حول المفاوضات مع الأنجليز والتعامل مع لجنة ملنر ,والتى أسس يكن فى أعقابها حزبه “الأحرار الدستوريين” وبالتالى فإن مطلب إنفاذ الدستور والحياة البرلمانية السليمة وحمايتها من تدخل الملك الذى ما انفك يستخدم حق حل البرلمان لمكايدة الوفد , والحركة الوطنية برمتها , عاد إلى الصدارة بجانب مطالب إنهاء الإحتلال ليمثل الدستور والبرلمان والحياة السياسية التعدديه جزءً من إستراتيجية المقاومة السلمية ضد الإحتلال البريطانى , وليس فقط للإصلاح الداخلى الديمقراطى ,وجاءت الإنتكاسة الثانيه مع حكومة إسماعيل صدقى التى فرضت الإرهاب على الشعب وتخالف مع تنظيم الإخوان التى استقبله طلابها فى جامعة القاهرة هاتفين بإسمه , بأن حياه كبيرهم حين قال ” واذكر فى الكتاب إسماعيل انه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً ” فى إسقاط للأية القرأنية على اسماعيل صدقى , الذى قضى على الحريات العامة ودستور 23 وأصدر دستور 1930 وقرنة بتشكيل حزب سياسي خاص به أسماه ” حزب الشعب” لتدخل حركة النضال الوطنى وبشكل صريح حرباً مفتوحة على كل الجبهات ضد حكومة اسماعيل , ومن أجل إستعادة الحريات العامه ورفع الأحكام العرفية , وعودة دستور 1923 , ومحاربة الإحتلال وهو المطلب الوطنى الرئيسى والاساسى , لينجح النضال الوطنى فى إسقاط حكومة صدقى ودستور 30 وعودة دستور 23 , ونجاح حكومة الوفد الشعبية فى إبرام معاهدة تحالف وصداقة مع الإنجليز, والمعروفه بإسم معاهدة 1936 تضمن وجود جدول زمنى لإنهاء الإحتلال وعودة مصر دولة مستقلة تماما , وإستمر الوضع على هذا المنوال حتى قيام الثروة ,ويضاف إلي هذه الفتره بداية ضعف وتحلل الأحزاب وتصاعد الحركات الراديكالية الإسلامية والقومية , وتنامى مشاعر الغضب والسخط على الحياة الحزبية والسياسية وحزب الوفد على وجه الخصوص ,بعد أحداث 4 فبراير 1942م , ولتنتهى حقبة التعددية الحزبيه والسياسية مع ثورة 1952 .
مرحلة ثورة يوليو وجمال عبدالناصر… موت إكلينيكى:-
لا يمكن إنكار أن فساد وإرتباك التجربة الحزبيه قد خلق مسوغاً لدى حركة الضباط الأحرار لحل الأحزاب ومصادرة الحياة السياسية لصالح حركة الجيش , ووجدت صداها لدى المواطن الذى فقد الأمل فى قدرة الأحزاب وفساد القصر فى أن تحصل مصر على الإستقلال , لتتراجع مطالب الدستور والحياة السياسية التعدديه لصالح مطالب الإستقلال الوطنى وإنهاء التبعية والشعارات الجديده التى أعلنها الضباط الشبان , وقد أسهم الإرباك السابق على الثورة فى عملية رفض تام للنموذج بمكوناته رغم المساعى الحثيثه لإعادة إنتاجه فى صياغه جمهورية مع دستور 1954 الذى لم يكتب له أن يرى النور والذى أسست مواده لسلطة برلمانية جمهورية , فى إطار تعددية حزبيه وسياسية وليست بعيده عن الجيش بطبيعة الحال.
ولا يمكن القول أن الشبان الأحرار كان لديهم تصور محدد عن سلطة الدولة وشكل نظام الحكم الذى ينبغى أن يؤسسوا له , ساهم فى ذلك أنهم أتوا من خلفيات أيديولوجية مختلفة تحمل تصورات متناقضة , بيد أن ماجمعهم هو العداء للملك والإنجليز والإقطاع , وبالتالى فأن المكون الإجتماعى بدأ فى الظهور مع اللحظه الأولى للثورة والتى سيتم تغييب السياسية والحياة الديمقراطية لصالحه والذى تشكل تماما على يد نظام الرئيس عبدالناصر, كما تخبرنا الأحداث التاريخية التى رويت عن الثورة وأحداثها , عن عدم وضوح الرؤية السياسية للضباط الاحرار وعدم نيتهم السماح بعودة الأحزاب السياسية أو السماح بحياة ديمقراطية على الأقل غير مماثلة لتجربة ماقبل الثورة , ففى إجتماع لمجلس قيادة الثورة إجتمع الضباط حسبما يروى الرئيس الراحل محمد أنور السادات فى مذكراته ” البحث عن الذات ” لبحث الألية التى يجب ان تكون سمة نظام الحكم هل هى الديمقراطية أم الديكتاتورية وجاءت جميع الأصوات فى صالح الديكتاتورية ماعدا صوت جمال عبدالناصر الذى أيدالديمقراطية ومن أجله أعيد التصويت وجاءت النتيجة كسابقتها , فقدم جمال إستقالته , وكان مبرر الضباط ان ما يمكن للديكتاتورية صناعتة فى يوم لا يمكن للديمقراطية ان تصنعه فى سنوات , وتراجع عبدالناصرعن إستقالته فى مشهد مشابه لما حدث بعد ذلك إبان النكسة حيث يبدوا من الوهلة الأولى أن عبدالناصر أجاد المناورة من اليوم الأول , وإستطاع إمتلاك ادوات السياسة فى البلاد طوال فترة حكمه وحتى وفاته.
شهدت الفترة التاليه لخروج الإنجليز وتولى عبدالناصر السلطة تراجعاً فى مطالب الحقوق السياسية والحريات العامة والحياة الدستورية لصالح تصور أحادى عن الحياة السياسية والإجتماعية , لتأتى شعارات الخبز قبل شعارات الحرية والديمقراطية , وبالتالى ماتت السياسه وتم مصادرة المجال العام برمته لصالح تصور رجال الحكم والدائرة المحيطة بهم , فى ظل تنامى النزعات الشعبوية فى إدارة وإتخاذ القرار السياسي , وليبقى المواطن بعيداً عن الحياة السياسية , بخلاف إنضمامه إن أراد الى التنظيم السياسي الوحيد الذى ولد هو الأخر من رحم السلطة .
وتميزت تلك المرحله بعدة أشياء منها :-
1- تراجع مطالب الدستور والديمقراطية والحياة السياسية .
2- تصاعد المطالب الأجتماعية الإقتصادية على حساب الحريات العامه والحقوق.
3- الإعتماد على الكاريزما السياسية لشخص الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كمصدر رئيسى للشرعية السياسية للنظام والدوله برمتها .
4- تراجع حاد فى المكون المدنى داخل نخبة الحكم الرئيسية لمصلحة ضباط الثورة .
5- سيادة حالة الإرتباك واللامبالاة بشأن الدستور وأهميته كقاعدة أساس للحياة السياسية السليمة ,لصالح تصورات نخبة السلطة.
6- تراجع الوعى الشعبى لأهمية الدستور والحريات العامة لصالح قضايا قومية أكبر , وبحجة أن الوقت لا يصلح فلابد من تحقيق التحرر الوطنى أولا وهى مسألة لاتخفى عن نفسها وجاهة تحملها فى طياتها وتحتاج إلى نقاش موسع فلازالت دعاوى عدم صلاحية الديمقراطية للبلاد تتصدر المشهد تحت لافتات عدة ومسوغات مختلفة.
إذاً مثلت مرحلة الثورة الاولى إنتكاسة على المكتسبات الدستورية والسياسية التى تحققت فى مرحلة مابعد ثورة 1919م , رغم فساد الحياة السياسية برمتها حينها , وإيماننا الكامل بأهمية ثورة يوليو وحتميتها التاريخيه , ولا يجب أبدا الحكم على الثورة بالمعايير الآنية , وإنما بأن نرسم التجربة فى إطارها الزمنى , والتاريخى كتجربة تحرر وطنى وقومي رائدة فى العالم الثالث والعالم النامى أجمع.
الدستور فى عهد السادات …. عودة مُقَنَعة:-
جاءت وفاة الرئيس جمال عبدالناصر فى ظروف بالغة الحرج , فالأرض محتله , الإقتصاد يعانى , الشارع السياسى ملتهب, وضاغط وناقم على الأوضاع , جاء السادات الى السلطة فى إستفتاء شعبى , تعهد فيه أن يكون رئيساً للذين قالو نعم والذين قالوا لا.
حمل الرئيس السادات تصورات تكاد تصل الى النقيض عن سلفة الزعيم الراحل , ففى الداخل بدأ السادات فى إعادة رسم شبكة تحالفات جديدة لنظامة تمهيداً للتخلص من طغمة الحكم الناصرى , وليتمكن من فرض سيطرتة وتصوراته السياسية والعسكرية والثقافية , ونجح السادات فيما يريد , فأخرج الإسلاميين من السجون , وتحالف معهم لضرب اليسار فى الجامعات , واعتقل رجال عبدالناصر الذين تأمروا عليه فيما عُرف بثورة التصحيح , لينفرد بالسلطة , ولتأتى الخطوة الأولى فى الحياة السياسية الجديدة وإعادة ترتيب البيت من الداخل ,وهى مسألة وضع دستور دائم للبلاد , على خلاف حالة الفراغ السياسي والدساتير المؤقتة فى عهد عبدالناصر , وقد كانت خطوة جيدة نظرياً الا أن ماروى بعد ذلك كان كاشفا عن نية النظام السياسى بعدم إحترام الدستور فمما يروية الأستاذ الراحل ” أحمد بهاء الدين” أنه تحدث مع السادات عن الصلاحيات الكبيرة الممنوحة لرئيس الجمهورية , فكانت إجابة السادات أنه فى غير حاجة إلى نصوص دستورية , فهو وعبدالناصر على حد قوله أخر الفراعين , وإنما النصوص تلك سيحتاجها من يأتى بعده ,على ومحمد وعمر كما قال .
إستغل السادات الدستور الجديد فى فرض تصوراته على المجال العام فوضع نصاً دستوريا يقضى بأن تكون مبادئ الشريعة مصدر رئيسى للتشريع , وهو ما إستغله لاحقاً فى تعديل الدستور بما يتيح إمكانية إعادة انتخابة عدة مرات , وللمرة الأولى بعد الثورة يتم إستغلال الدستور فى فرض تصورات معينة عن الدولة والحكم , لتنضم إلى قائمة الإرباك السياسي صفة الإستغلال الوظيفى للدستور( إذا جاز التعبير) ومواده, وليكمل السادات مسيرته فى السلطة حيث أعلن عودة الحياة الحزبية من رحم الإتحاد الإشتراكى , فى عملية إعادة مصادرة للسياسة بشكل مختلف وبقناع ديمقراطى , وكانت نهاية اللعب على الحبال هو إستشهاد الرئيس على يد الخفافيش الذين أحضرهم هو بيده وأدخلهم إلى الفضاء العام للمجتمع والدولة , وبالتالى يمكننا إجمال ماتميزت به الحياة السياسية والدستورية فى عهد السادات بما يلى :-
1- أصبح المسوغ القانونى والدستورى حاضراً من جديد داخل العملية السياسية وإن كان ضمن تصور محدود لرأس السلطة .
2- تميزت المرحلة بالإبتكار والأرتباك , فمن ناحية الإبتكار كان التحرك من جانب النظام تحركاً جديداً فى إختراع منافذ مختلفة للمشاركة السياسية , كفكرة المنابر السياسية , أو فكرة الشريعة فى الدستور كمحك لبدء عملية تغيير واسع فى البنية الإجتماعيه يدفع المصريون ثمنها حتى اليوم , وكان الإرتباك نابعاً من إفتقاد البوصلة السياسية حول النظام السياسي الذى يجب أن يكون وفرض الوصاية الدائمة على التجربة السياسية برمتها والتى ما إن أصبحت فى طور التطور والتشكل حتى أضحت كالطفل السفاح تلفظه السلطة والمعارضه معاً , ويعزى ذلك فى شق رئيسى منه إلى عملية تأميم الحياة السياسية إبان فترة الرئيس جمال عبدالناصر.
3- مثلت مرحلة الحكم الساداتى عودة مرة أخرى إلى إنشاء قاعدة قانونيه دستورية للدولة إستمدت نفسها من نهاية حكم الرئيس عبدالناصر مع إنشاء المحكمة العليا (الدستورية فى مابعد) سنة 1969م , وعند العودة الى الدستور لم تكن برغبة حقيقية فى تغيير مناخ السلطوية بقدر ما كانت رغبة فى تجميل صورة النظام السياسي عن سابقه فى عهد عبد الناصر.
4- تراجع تبنى الدولة لفكرة الديمقراطية الإجتماعية التى صودرت السياسة بإسمها فى عهد ناصر , لمصلحة الإنفتاح والإستقرار ثم السلام , بينما بدأ التيار المعارض للسلطة يقدم تصورات ومراجعات ونقد شديد الى تجربة جمال عبدالناصر ثم الى تجربة انور السادات خاصة بعد معاهدة السلام .
مبارك … سياسات الإحتواء والتسكين :-
بدأ مبارك الحكم فى وقت كانت فيها البلاد على شفا الإنهيار , تولى الرئاسة ولديه محافظة كامله بالصعيد خارج نطاق السيطرة , وفى أعقاب رئيس إغتالته أيدى الإرهاب الأسود , ونظام خلق فى أيامه الاخيرة عداوة مع الجميع , معارضة أصبحت فى غياهب السجون بعد قرارات سبتمبر 1981 , والتى جمع فيها السادات جميع معارضيه , احتدم الصراع الأهلى ليصل إلى مرحلة قد تصل بالبلاد الى الحرب الأهلية غير منفصلة عن أحداث طائفية بدأت مع السنوات الاولى لحكم السادات .
إستفاد مبارك من تجربة سلفيه , وجاء شعار المرحلة ان الوطن لم يعد يتحمل , وان ما علينا سوى الهدوء والصمت من أجل الأستقرار وشد الحزام من أجل التقشف ومن ثم الرخاء .
قام مبارك بتطوير شبكة تحالفات النظام ليصبح حليفاً للجميع , وممسكاً واحداً بتلابيب العملية السياسية , وتعهد نظامه بترك المجال العام على مصراعيه أمام خفافيش الظلام ترتع فيه مقابل أن تضمن إدانه الأصولية الإسلامية العنيفة , وأن تبقى أداة طيعة فى يد السلطة , لتدخل الحياة السياسية والدستورية الثلاجة إذا جاز التعبير , لم يُحل البرلمان فى عهد مبارك سوى مرة واحدة فى أعقاب صدور حكم المحكمة الدستورية ببطلان قانون الإنتخابات البرلمانية التى جرت بنظام القوائم سنة 1987م , وليتعامل النظام مع الدستور والقانون على أنهما من ملكيته الخاصة , ولا يجوز التعامل عليهما إلا لمصلحته , ورغم ذلك لم تتوقف المعارضة الوطنية عن الوقوف فى وجه الممارسات التى تحتكر المجال العام وجسدها مبارك شخصياً فى نهاية حكمة بجملة ” خليهم يتسلوا” التى لخصت الطريقة التى إتبعها النظام فى التعامل والتحكم بالحياة السياسية برمتها.
ويمكن إجمال وصف العملية السياسية والدستورية فى عهد مبارك بأنها كانت:-
1- إستمراراً للنهج الذى اتبعه السادات وأنتجه نظامه , فالأحزاب رغم انها وصلت لعدد 24 إلا أنها كانت أوراق كرتونية يستطيع النظام تغييبها أو إظهارها وقتما يريد
2- إستمرار تطعيم الحكم بصيغ وواجهات ديمقراطية تختفى وراءها الحقائق , وتم التعامل مع الدستور على أنه جزء من الملكية السياسية للنظام الحاكم وليس بإعتباره دستوراً للوطن ويظهر ذلك فى عملية التعديل الدستورى فى 2005 و2007 , والتى لم تتغير فيهما البنية الدستورية كثيراً سوى بإتاحة حق الترشح لمنصب رئيس الجمهورية بعد أن كان بالإستفتاء , فضلاً عن كونها إستجابة للضغوط الخارجية وليست نابعة من السلطة ورأسها , وجاءت التعديلات فى مجملها فى خدمة توجهات النظام فى نفض يد الدوله عن وظائفها الإجتماعية , وتعبيراً عن سلطة متنامية لرجال المال.
3- بلغت عملية مصادرة السياسة والمجال العام ذروتها فى عهد مبارك وتمثلت أبشع وادنى صورها فى محاولة النظام توريث الحكم لتمثل إنتكاساً على الأرث السياسي للدولة المصرية منذ ثورة 1952م , حيث وصلت درجة اللامبالاة بقيمة الدولة إلى الحد الذى أصبح فيه الحديث عن توريث الحكم أمراً واقعاً وربما أمراً واجباً.
4- جاءت تلك العملية المتوالية من تشوية الحياة الدستورية والسياسية متحالفة مع الفساد المالى الرهيب لتمثل الحجر الذى إنفجرت من بين ثناياه ثورة يناير 2011م.
مرحلة مابعد يناير 2011م… تأرجح مستمر:-
كما أسلفنا كان الفساد السياسي والمالى وعمليات التزوير الممنهج محركاً رئيسياً لحركة الجماهير فى الشارع ضد نظام مبارك , ولو كان لدى السلطة حينها أدنى قدر من الحنكة كان بإمكانها إحتواء حركة الجماهير خاصة فى الأيام الأولى التى لم تتعدى المطالب فيها إسقاط الحكومة ,ومحاسبة وزير الداخلية , بيد أن الغباء حين تستحكم حلقاته لا يمكن أن تتنبأ بعواقبه الوخيمة.
كانت المعركة التالية لإسقاط النظام هى وضع قواعد تأسيسية جديده للجمهورية الوليدة , فجاءت معركة الدستور , وللمرة الأولى فى التاريخ المصرى الحديث منذ ان عرفت مصر الحياة النيابية والدستورية يحدث إنقسام على اساس دينى حول الدستور ومضامينه كما حدث فى أعقاب 25 يناير, فجاءت القوى المحسوبة على التيار المدنى من ليبرالية ويسارية فى مقابل قوى اليمين الدينى بتفريعاته وتنويعاته المختلفة , وتحولت عملية التصويت فى 19مارس لتصويت على الدين وليس على مصلحة البلاد كما كان متوقعاً بعد ثورة كان أحد عيوبها عدم تشكيل كيان تنظيمى يعبر عن غالبية المشاركين فيها فوقعت فى يد القوى المستعدة تنظيميا والغير منهكة حركياً لعلاقاتها الوطيدة بالنظام السياسي , اى جماعة الاخوان وحلفائها, واعضاء التيار السلفى , وقع الوطن فى فخاخ التديين الممنهج للقوانين والدستور , وأساليب الحياة الإجتماعية والثقافية وبدا واضحاً أن هناك من يدفع الوطن الى حافة الإقتتال على أساس الهوية , والتى عادت إلى الصدارة داخل أروقة الفكر , وبين العامة ملخصةً فى سؤال .مصر إسلامية أم مدنية ؟.
إذاً كان الدستور جزء من معركة وطنية كتلك التى شهدها الوطن فى أعقاب ثورة 1919م , وما تلاها ,كأن التاريخ يخبرنا أن محاربة الأصولية الدينية لا يقل أهمية عن محاربة الإحتلال العسكرى, حيث اصبح شعار الدستور اولا أحد اهم شعارات الحركة الوطنية ومحركا للجماهير فى الشارع , على أساس انه لايمكن بناء وطن جديد دون الإتفاق على القواعد الأساسية للدوله , وتجنباً لمسألة المحاصصات السياسية التى تتحكم فيها الكتل المنتصرة بالإنتخابات وهى على أساس هوياتى وأيديولوجى فى الأساس , وأدى الفشل الذى حاق بمساعى الحركة الوطنية نحو الدفع بكتابة الدستور أولا فضلاً عن ضعف الوجود التنظيمى فى الشارع إلى مشهد 2012حينما أدى المعزول مرسى اليمين الدستورية رئيساً للبلاد , إيذانا ببدء حقبة الإحتلال الإخوانى البغيض لمقدرات الوطن وتوجهاته.
ثم عاد التلاعب بالدستور ( التلاعب الوظيفى ) مع محمد مرسى حينما أصدر إعلانه الدستورى الذى صادر فيه على مؤسسات الدوله وإحتكر لنفسة المجال العام , وكان الحراك الشعبى على قدر المواجهة والمسؤلية رغم فشله فى إسقاط النظام حينها إلا أنه أعاد تشكيل خريطة الحياة السياسية والنضال ضد حكم الإخوان , وإستطاع توحيد المعارضة فى جبهة الإنقاذ وتكتيل اليمين الدينى فى إتجاه واحد بحيث أصبح من المستحيل أمام سلطة النظام الإخوانى أن تتحدث مع معارضة دون أن تتوجه بمكبراتها صوب جبهة الإنقاذ .
لن نخوض كثيراً فى أحداث السنوات الأربع الماضية فلازالت أحداثها قابعة فى مخيلة العقل وذاكرته , ولكن مانود أن نوضحه أن معركة الدستور وإنفاذ مافيه كانت على مدار تاريخ الحركة الوطنية جزءً لايتجزأ من السعى الحثيث فى مسيرة التقدم والنهضة , وعندما أسقط الشعب تنظيم الأخوان من سدة الحكم , إستطاعت خريطة المستقبل ان تتجاوز خطأ الثورة الأولى بأن أقرت وضع الدستور أولا بعيداً عن المحاصصات الحزبية رغم أن تشكيل اللجنة راعى تمثيل الفئات والطوائف عامةً , وخرجت على جموع الشعب أصواتاً تزف إليه بشرى أن قد جاءكم الدستور يبنى رخاءً ويرسم مستقبلاً ويقطع صلات الماضى البغيض , أعلنوا للجماهير أن دستورنا هو الأعظم , هو الأكبر , هو الأجل , بيد أن مايجب أن نوضحه لأبناء أمتنا أن الدساتير لا تقاس بمعايير الأعظم أو الأسوأ , وإنما بدرجة ملائمتها للواقع , بقدر ماتنجزه للشعب فى مسيرته الخالدة , وبمقدار ما يطبق منها فى مصلحة الجماهير عندما تتحول الحروف المسطورة إلى أشعة ضياء تمحى الفساد وتبنى دولة القانون .
كان المحك الرئيسى فى الدستور وكل دستور هو كيف نقلص سلطة الرئيس المطلقة التى عانينا من تبعات تسلطها على الدوام وخرجت ضدها ثورتين مجيدتين, إستطاع الدستور أن يقلص الصلاحيات لصالح البرلمان ورغم ذلك لاتزال السلطات الممنوحة لرئيس الدولة فى النظام شبة الرئاسى الذى أقره الدستور تمكنة من الحركة وإصدار القرارات فلازالت على سبيل المثال لوائح الضبط فى عهدته , ولازال الرئيس يفوض الكثير من سلطاته إلى الوزراء , بيد أننا عاهدنا أنفسنا على أن يكون لدينا برلمان يمتلك حق الرقابة والتشريع والمحاسبة إذا كنا نريد حقاً أن نتقدم , وعندما يقر الدستور هذا الحق تخرج أصوات لعن الله من أيقظها تطالبنا بالتعديل حتى لا نعيق حركة الرئيس وبرنامجه النهضوى , ولا أحد يتمنى أبداً أن يفشل الرئيس لاقدر الله , وجلنا يعرف إخلاصه بيد أنه كما أن الدساتير لا تكتب بالنوايا فياسيادة الرئيس إن البلاد لا تدار أيضا بالنوايا وهو شر أعظم من فرضية الدستور أبونية سليمة .
إن المحكك الرئيسى لنعرف هل الدستور أكل بدون وجه حق من سلطات الرئيس هو ان يدخل هذا الدستور حيز التنفيذ , وان نخرج موادة من أدراج الدولة العتيقة , ولا يتم ذلك إلا بإنعقاد البرلمان وممارسته لسلطاته الدستورية , فإذا كنتم يامن تدعون أن الدستور يعيق حركة رئيس الدوله , فإن البينة على من إدعى , أظهروا لنا برلماناً لاتتلاعبون به تظهر لكم حقيقة الأمر , أى انكم المطالبين بإثبات إدعائكم وليست الجماهير التى لفحت الشمس جباهها فى لجان الإستفتاء , واُرهقت جنابهم وهم يتمايلون على نغمات بشرة خير , ولتباغتوهم اليوم بنية الخير ياسيئ النية.
إن الناظر فى مواد الدستور يرى ان الرئيس لازال يمكنه حل البرلمان عن طريق إستفتاء الشعب فإن رفض الشعب لا يستقيل ,فهل أعاق البرلمان الرئيس ؟, وهل أكل الدستور من سلطاته ؟
هل تستنكفون أن يقوم البرلمان للمرة الأولى فى تاريخ الجمهورية بتشكيل الحكومة , وهو تشكيل منقوص , فإذا كان خوفكم من ضعف الأحزاب وعدم قدرتها على الحركة ,فماذ فعلتم لكى تزيلوا العائق من أمامها ؟
أصدرتم قانوناً معجزاً ستنحدث عن أغراضه لاحقاً , وتركتم الساحة لخفافيش الظلام مجدداً يستبيحون عقولنا ويبقروا جسد وطننا وأنتم فى ظلمات جهلكم تعمهون , ثم خرجتم من ثباتكم لتفاجئوا الشعب أن دستورهم لا يصلح حتى دون إبداء الأسباب , هل تريدون تسييد الرئيس على الوطن بأكمله وهو رافض ؟ , هل أبت عقولكم أن تقرأ مغزى تاريخنا ونضالنا أن يصبح لدينا دستوراً يحمى وطننا ويضع أقدامنا على سلم التقدم ؟
هل تعرفون أن ماتجنوه اليوم كبراً ستحصدوه فى الغد خزياً؟ , فإن لم يخزكم الشعب , حقركم التاريخ .
ورغم ذلك حسناً فعلت لجنة الدستور حينما أقرت فى المادة 226 من باب الأحكام العامة حينما أغلقت الباب أمام إمكانية تعديل المواد الخاصة بمدة رئيس الجمهورية , ومواد الحريات والحقوق إلا إذا كانت لمزيد من الضمانات , كما أن الرئيس لا يمكنه تعديل الدستور فى غياب البرلمان الذى يجب أن يوافق على الطلب المقدم من رئيس الجمهورية .
وعودة مرة أخرى إلى السلطات الممنوحة لرئيس الدولة فى دستور 2014 ,فلا يزال الرئيس يضع السياسة العامة بالإشتراك مع مجلس الوزراء , لازال يمكنه طلب تعديل الدستور وإمكانية حل البرلمان بألية الإستفتاء , وإعفاء الوزراء أو الحكومة بموافقة الأغلبية من المجلس , أى أن ماإستجد هو أن البرلمان بدأ يشارك رئيس الدوله فى جزء وليس كل الصلاحيات , فماذا إذا نريد غير إعادة صياغة جديدة للإستبداد.
لازال الرئيس يعين الموظفين المدنيين والعسكريين ويعزلهم (مادة 153), وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة ويمثل الدولة فى الخارج.
إذا المطلوب أن يظهر لنا أصحاب دعوات تعديل الدستور شكوكهم المدعمة بشأن مايمكن أن يعيق الرئيس فى اداء مهامه.
فإذا كان الخوف من مساوئ الواقع السياسي , فهل من الحكمة أن نصادر على ما يجب أن يكون لمصلحة ماهو كائن ؟!
ولنتطرق الأن إلى تساؤل مستفيض بشأن تعيين رئيس الحكومة وسلطة رئيس الدولة فى هذا الصدد , تنص المادة 146 أن رئيس الجمهورية يقوم بتكليف رئيس للحكومة (لاحظ أن الرئيس لازال يمتلك هذا الحق) ويشترط موافقة البرلمان علية , فإذا رفض البرلمان مرشح الرئيس , كلف الرئيس أخر بترشيح من الحزب أو الإئتلاف صاحب الأغلبية (الأحزاب تظهر فى الخطوة الثانية ) , فإذا رفض البرلمان عُد منحلاً أى أنه نظرياً وعملياً يجب أن يقبل البرلمان بشخص رئيس الحكومة المعين من قبل رئيس الدولة حتى لا يتعرض للحل فأين مايكبل الرئيس ويعيقه؟! فضلاً عن حق الرئيس فى إختيار وزراء السيادة الأربعه( الدفاع – الداخلية – الخارجيه- العدل)
الأمر الأخر الذى تفترضه مواد الدستور هو أن الأحزاب من خلال البرلمان سوف تشكل الحكومة أى ان البرلمان يجب أن يكون ممثلاً فى داخله للتركيبة الحزبية كما هى على الساحة السياسية , والخطوة الأولى فى ذلك هى قانون الإنتخابات , فهل قانون الإنتخابات الحالى يفى بالغرض و75% من مقاعده تأتى بنظام الإنتخاب الفردى والربع المتبقى يأتى بالقائمة المغلقة التى لن تمكن أى حزب من الفوز منفرداً أو حتى تشكيل قائمة منفردة , بل فرض على الأحزاب أن تتكتل رغم مابينها من إختلاف جذرى فى تصوراتها عن الدوله والمجتمع والحكم .
وبالتالى كان الواجب لنتحدث عن مشاركة البرلمان أو الأحزاب لرئيس الدوله فى سلطته ان يأتى القانون معبراً عما أقرة الدستور , إنما ماحدث هو أن الساحة تم تفريغها تماماً من أى حزب أو مجموعة احزاب يمكنها ان تتكتل لتشكيل الحكومة , ليصب الأمر مرة أخرى فى جعبة رئيس الدولة , وهو ماسيحدث فى القادم عندما تكتمل الإنتخابات البرلمانية ونرى التشكيلة الحزبية والبرلمانية , أى انه لا يمكن لبرلمان أغلبيته العظمى الساحقة من المستقلين أن ينافس رئيس الدوله أو حتى يعيقه !!
وربما تصبح فترة الشهور الثلاثة القادمه إختباراً لرئيس الوزراء الجديد ” شريف إسماعيل” لتحديد هل يستمر بعد البرلمان أم يأتى الرئيس والرئيس فقط بغيره؟!
وإجمالاً ودون إستغراق أكبر فى المشهد الراهن فإننا نود أن نذكر ملاحظات عامة حول الحياة الدستورية فى مصر , ومواطن الضعف فيها , كما ذكرنا لحظات النضال على مدار ما يقرب من قرن ونصف القرن .
1- بدأت الحياة الدستورية فى مصر مبكراً عن سابقتها فى الإقليم المحيط.
2- صدر الدستور فى البدء بطريق المنحة (دستور 1881, 1923,1930), وعندما جاءت يوليو صدر أولاً قرار بتشكيل لجنة لوضع دستور 1954 الذى لم يرى النور , ثم صدر دستور 56 بطريق الإستفتاء وكذا الدساتير المؤقته حتى دستور 1971 , وفرغ الإخوان وحلفائهم دستور 2012 من جميع مضاميه الشكلية والموضوعية , فلم يكتب الشعب غير دستور 2013 وهو أيضا بطريق الإستفتاء بيد أن مابه عبر كثيراً عما تطلع إليه الشعب فى تاريخ نضاله الطويل.
3- لم يشترك البرلمان فى الحكم على مدار تجربة الحياة الدستورية سوى فى الحقبة شبه الليبرالية وكان إشتراكاً منقوصاُ , بينما كانت السلطة التشريعية فى عهد الجمهورية الأولى صورياً فى يد البرلمان وحقيقة هى تدور فى فلك السلطة التنفيذية , فهل تريد أبواق التعديل المزعوم إعادتنا إلى الماضى الذى ثرنا عليه مرتين حتى دون إعطاء البرلمان فرصة ممارسة سلطاته للمرة الأولى.
4- كان الرئيس أو الملك دائماً هو حجر الزاوية فى النظام الدستورى والسياسي المصرى , وإمتلك من الصلاحيات ماجعل الحياة بأكملها تدور فى فلك تصوراته , واليوم فإن ما أقره الدستور من أحقية للبرلمان فى مشاركة جزئية للرئيس فى سلطاتة , ولازلنا فى طور النظرية التى لم تدخل حيز النفاذ بعد .
5- كانت ألية الإستفتاء إحدى الأليات التى منحت لرئيس الدوله وتمكن من خلالها من تقويض الحياة السياسية والدستورية من مضمونها لصالح مايتصوره دون رقابة أو محاسبة , ولازالت تلك الألية متواجده فى الدستور بصورة أقل محدودية , وإن كان الواقع فى الشارع الأن يمكن أن يقلب الموازين لصالح الرئيس فى أى لحظه إن هو أقدم على إستخدام هذا الحق , وهو مايحيلنا إلى ضرورة عملية التوعية الواجبة لعقول المواطنين, وهى مرتبطة فى شق منها بضعف المجتمع المدنى والأحزاب السياسية.
6- إن ماتحتاجه فترات التحول الديمقراطى هو وضع أساس دستورى واضح ومقيد لفترة زمنية كما سبق واقرت الماده 226 حينما قيدت حق البرلمان والرئيس فى ادخال أى تعديلات على مواد الرئاسة والحريات العامة إلا بمزيد من الضمانات , وهو مايشبه الوثيقة التأسيسية التى وضعها الأباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية ولا يجوز إدخال تعديلات عليها حتى اليوم رغم إدخال مايزيد على 26 تعديل على الدستور الأمريكى منذ إقراره فى سنة 1786م, وهو مايجنبنا الدخول فى فلك مطالب التعديل المتواصل والتى تضرب المرحلة الانتفالية فى مقتل .
7- لم تشهد التجربة البرلمانية الحق الكامل للبرلمان فى مناقشة كل مايتعلق بشؤن الدوله , ومن أهمها مسألة الموازنة العامة وبعض بنودها , كبند الموازنة العسكرية , التى تدمج رقما واحداً فى الموازنة العامة للدولة.
8- لا يجب الإجهاز على الدستور بإسم محاربة الفساد أو محاربة الإرهاب , فلا يمكن محاربتهما دون قاعدة دستورية وقانونية ,وأداة رقابية قوية يأتى البرلمان على قمتها , فضلاً عن أن دعاوى التعديل السلطوى للدستور لا تصب سوى فى مصلحة الإرهاب , بل هو الإرهاب والإفساد بعينه , فما الفرق بين داعش الذى لا يحترم الدستور والقوانين وبين من يتجاهلونه , كلا الموقفين عدم إحترام للوطن أو دستوره رغم إختلاف خلفيات الرفض والإهانة!.
كما يمكننا أن نتحدث عن مسارات للحياة الدستورية فى مصر إذا إستمر البرلمان بعيداُ عن المشاركة الفعلية فى عملية صنع القرار , وإذا إستمرت الأحزاب السياسية على ماهى عليه من وهن وضعف, فعند ذلك لن تخطو الحياة الدستورية المصرية أى خطوة للأمام وتظل النوايا سيئها وحسنها هى المتحكمة فى مصير الوطن , وما من أمة حكمتها النوايا إلاجرفها تيار التاريخ لتقبع مع مثيلاتها ممن دخلن متحف الأثار لتكون عبرة لمن لا يتعلم , ومثلاً على الفشل المتواصل ,وما يحيق الغباء بأهله إلا فشلاً, فهل نريد أن تعتبر بنا الأمم ؟ أم نكون نموذج تحتذيه الدول؟!!!