قراءات في الديموقراطية … الديموقراطية وظاهرة الاحتكار السياسي
بقلم : محمد نبيل الشيمي
الديموقراطية كشكل من أشكال إدارة الحكم تقوم على أساس التداول السلمي للسلطة .. والمعنى اللغوي لها يعني حكم الشعب لنفسه وهي بذلك تعد نظاماً ذو شقين شق سياسي يتمثل في قيام الشعب باختيار من يمثله من خلال انتخابات عامة يتم بعدها إسناد إدارة الحكم للاغلبية المنتخبة التي تم الاتفاق عليها من خلال الاصوات التي حصلوا عليها مع ترسيخ مفهوم تداول السلطة والاقرار بمبدأ حكم الاكثرية دون افتئات على حق الاقلية (المعارضة) وصيانة حقوقها فضلاً عن التزام إدارة الحكم (الحكومة المنتخبة) بصيانة الحريات العامة على كافة حقوقها كحرية العقيدة وحرية ابداء الرأي وحرية وسائل الاعلام مع ضمان المساءلة وشفافية الاداء وعدم الجمع بين السلطات ( القضائية ـ التشريعية ـ التنفيذية) مع ضمان استقلال السلطة القضائية تماماً عن السلطة التنفيذية .
… أما الشق الاجتماعي للديمواقرطية فيعني الالتزام بضمان حقوق المواطنين قبل الدولة (حق التعليم ـ حق العلاج ـ حق العمل ـ حق الحصول على معاش التقاعد ـ المساواة في الفرص …..الخ ) مع الاعتراف بالاخر مهما كان معتقدة وعرقه .. ومهما كان توجهه ورأيه …. ومن ثم يكون للديموقراطية القدرة على تنمية وعي المواطنين وحثهم على المطالبة بحقوقهم ومعرفة ما عليهم من واجبات وتدعم بشكل كبير إحساسهم بكرامتهم وتعديل سلوكهم بعيداً عن العنف أي إدارة الصراع مع الدولة من خلال الحوار … ولكن أين ذلك كله من ظاهرة الاحتكار السياسي ؟
الاحتكار السياسي
يعني استئثار (فرد بعينه ـ مجموعة بعينها ـ حزب بعينه) في الانفراد بممارسة العمل السياسي دون السماح للاخرين بالمشاركة على الاطلاق أو السماح جزئياً بالقدر الذي لا يخل بالصلاحيات الواسعة للمحتكر أي بمعنى اتخاذ القرارات التي تهم عموم الشعب بدون مشاركة من باقي قوى المجتمع .
هل يمكن أن يؤدي الاحتكار السياسي إلى ظهور ما يسمى بالنظام الشمولي؟
الواقع أن ذلك صحيح إلى حد كبير حيث أن الاحتكار السياسي في حد ذاته كما يرى البعض أنه مرادف للاحتكار السياسي وهو يعني الانفراد بسلطة اتخاذ القرار من جانب حاكم فرد أو جماعة أو حزب بمباشرة العمل السياسي مع تغييب كامل للقوى الاجتماعية الاخرى في المجتمع وهو بذلك يقضي على التنوع الطبيعي للافكار والرؤي فى المجتمع .
وهو سبيل وطريق إلى حكم الطغاه والمستبدين حيث يصل الامر لتجاوز القواعد الدستورية من خلال تمركز كل السلطات في يدى (فرد ـ مجموعة من الناس ـ حزب) وهي سمة من سمات الحكم الديكتاتوري أو الشمولي ويعرف د . امام عبد الفتاح الشمولية بأنها مذهب السلطة الجامعة وهي شكل من أشكال التنظيم السياسي تقوم على اذابه جميع الافراد والمؤسسات والجماعات في الكل الاجتماعي (المجتمع أو الشعب أو الدولة) عن طريق العنف والارهاب والشمولية كما يقول المؤلف تشترك في خواص اساسية هي السيطرة الكاملة للدولة على جميع وسائل الاعلام مع وجود ايديولوجية معينة توجهها (الطاغية دراسة فلسفية لصور من الاستبداد السياسي د . امام عبد الفتاح عالم المعرفة العدد 183) .
والاحتكار السياسي يعمل على اضعاف المشاركة السياسية وانتشار ظاهرة الانامالية واللامبالاه كما يعمل على الحد من فرص ايجاد كوادر تقود العمل السياسي مستقبلاً وخلق ما يسمى بمراكز القوى وابتعاد الاقليات عن ممارسة العمل السياسي وهو مدعاه للاحتقان والتعصب الفكري والمذهبي على حساب المواطنة ويعود هذا إلى أن محتكري العمل السياسي لا يبالون بحقوق الاخر وعادة ما يعملون على اضعاف الاحزاب المنافسة من خلال التضييق او الاختراق وضرب كوادر هذه الاحزاب بل العمل على احداث انشقاقات في داخلها وذلك بهدف كسر شوكه المعارضين .
ومن مساوئ الاحتكار السياسي تجنيد مجموعة من أهل الثقة لادارة الحكم وغالباً يتم دفعهم إلى تولى المناصب الهامة في الدولة بل وقصرهاعليهم فضلاً عن ترشحهم لعضوية المجالس النيابية ومساندتهم إبان العملية الانتخابية أو تزويرارادة الناخبين كي يضمنوا تمرير ما يهمهم من تشريعات وقوانين ومن خطورة الاحتكار السياسي ارتباطه بالاحتكار الاقتصادي وهي سمة بارزة في عالمنا العربي ودول العالم الثالث فمن يمارسون الاحتكار الاقتصادي هم ذاتهم المحتكرون للعمل السياسي ذلك أن احتكارهم القرار السياسي وقربهم عن السلطة يمكن لهم أن يفعلوا ما يعن لهم من رغبات لتحقيق اكبر المكاسب الاقتصادية مع الافتقاد إلى وجود مؤسسات رقابية فاعلة فضلاً عن امكانية اصدار التشريعات التي تحقق مصالحهم من خلال أغلبتهم في البرلمان .
والمحتكرون للعمل السياسي كثيراً ما يرتبطون ببعض الرموز والقوى الدينية للاستفادة من قدرتهم على تلوين الفتاوي الدينية التي تحسن وتجمل من خطاياهم أمام الشعوب .
ولقد كان للاحتكار السياسي دوراً في حدوث الاضطرابات والانقلابات العسكرية حيث يؤدي التضييق على القوى الاخرى في المجتمع إلى أحداث بلبلة وتمرد وعنف قد يعصف تماماً بالحكم المدنى وقد يطال هذا الاضطراب الاوضاع الاقتصادية المتردية إلى مزيد من التردي والخراب الاقتصادي أو يفتح الباب أمام قوى خارجية للتدخل بل الاحتلال كما حدث في العراق عندما احتكر حزب البعث السلطة والعمل السياسي وكبت الحريات وارتكب الكثير من التجاوزات قبل الاعراق الاخرى (الاكراد) وضد المذاهب الدينية بخلاف المذهب السني وقد دفع الشعب العراقي الثمن غالياً عندما قامت الولايات المتحدة تساندها قوى غريبة باحتلال العراق بحجة اعادة الديمرقراطية وتحث دعوى وجود اسلحة دمار شامل في العراق وهو الذي تم الترويج له من خلال قوى مناهضة للنظام الحاكم في الداخل والخارج … وها هو شعب العراق بل العرب جميعاً يدفعون ثمناً باهظاً … حيث خرج العراق تماماً من دائرة القوة العربية الناهضة .. ودمرت بناه التحتية تماماً … وهذا بفعل احتكار حزب بعينه العمل السياسي بقيادة شخصية دكتاتورية .. كانت تتوهم دائماً أنها تمتلك وحدها الحقيقة والبطولة ..
ولا يمكن لاحد أن ينكر انجازات ثورة يوليو 1952 ونزاهة ووطنية زعيمها ومفجرها جمال عبد الناصر ولا يمكن لاحد أن يزايد على نبل ومقصد الضاط الاحرار في القيام بالثورة والتي تضمنت المباديء الستة التي دعت إلى العدل الاجتماعي ومناهضة الاستعمار .. ولكن من الانصاف أن نقول أن الثورة احتكرت العمل السياسي دون غيرها من القوى الاجتماعية الاخرى من خلال هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي مما أدى إلى سقوط الكثير من الانجازات العظيمة للثورة بعد وفاة عبد الناصر حيث افتقر المجتمع المصري إلى الكوادر السياسية القريبة من الثورة المؤمنة بانجازاتها كقوى اليسار والشيوعيين والتيار الاسلامي المعتدل وهي قوى كانت مستبعدة من العمل السياسي وهكذا وقعت الثورة في براثن القوى التقليدية القديمة التي تحالفت عضوياً مع بقايا الاقطاع وراس المال المستغل والتي التقت مصالحها مع مصالح الغرب…
.. وقد سقط الاتحاد السوفيتي .. وكان أحد اسباب سقوطه احتكار العمل السياسي وابعاد التيارات السياسية الاخرى مع تغلغل البيروقراطية داخل نظام الحكم واختراق الحزب الشيوعي السوفيتي من قبل بعض القوى المناوئة للاشتراكية والمرتبطة من المخابرات الغربية امثال بورس يلسن وجورباتشوف وشيفرنادزة .. في حين لماذا حافظت الهند على تماسكها ووحدتها رغم التعدد الثقافي والعرقي وعدد السكان الذي يقترب من 1.2 مليار نسمة بل اصبحت واحدة من اكبر اقتصادات العالم وبمعدل نمو سنوي يصل إلى 7.5% سنوياً وتمثل ثالث قوة عسكرية في العالم مع انضمامها للنادي النووي لقد نجحت في مواجهة تحديات التعصب الديني والمذهبي والطبقي وتمكنت من التوفيق بين الاديان والملل المتصارعة والثقافات المتعارضة واستطاعت الحفاظ على التراث مع التاكيد على المعاصرة .. كل هذا لان هذا البلد ادرك ان بقاءه مرهون بتداول السلطة وعدم احتكار العمل السياسي من فئة أو حزب دون غيرهما ..
.. وكان حزب المؤتمر الهندي الرائد والسباق في هذا التوجه على الرغم من أنه الحزب الذي قاد البلاد إلى الاستقلال والتنمية الاقتصادية .. وهكذا تتقدم الهند بما تملكه من رؤي متقدمة تقوم على احترام وتقدير القوى السياسية الاخرى في المجتمع … وان الحكم بينهما صندوق الانتخابات (بدون عمليات تزوير أو تدخل اداري)
… وعلى ذات السياق نجح حزب المؤتمر الوطني الافريقي بقيادة المناضل الاسطوري نيلسون مانديلا في الحفاظ على وحدة دولة جنوب افريقيا من خلال ادراك ضرورة تجاوز فكرة تصفيه الحسابات واحتكار العمل السياسي دون باقي الاحزاب بما فيها الحزب الوطني الذي مارس سياسة الا بارتيد (الفصل العنصري) والذي كان مسئولاً عن المذابح التي تعرض لها سكان البلاد الاصليين .. لقد ادى هذا إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد واصبحت هذه الدولة نموذج لقيم التسامح والديموقراطية والمشاركة السياسية والتقدم الاقتصادى .. وعلى النقيض من ذلك – زيمبابوي .. لقد اصبح روبرت موجابي الزعيم التاريخي للبلاد والذي قاد الدعوة للاستقلال على راس حزب زانو رمزاً لاحتكار السلطة فماذا اصبح الحال بهذا البلد ؟
لقد اصبح يئن من تردي الاوضاع السياسية والاقتصادية وانتشر الفقر والمرض وظهرت قوى معارضة للحكومة تدعمها قوى غريبة تناهض موجابي ليس على انه ضد الديمقراطية ولكن انتقاماً من موافقة ضد البعض اصحاب المزارع ووقوفه ضد الاحتكارات البريطانية ومساندته لقوى التحرر الوطني … وكل هذا لم يشفع لموجابي لانه احتكر العمل السياسي له ولحزبه … ويبقى الاشارة الى انه لولا قبول مبدأ تداول السلطة وعدم احتكار السياسى لظل المحافظون الجدد فى الولايات المتحدة فى الحكم وظلوا على بغيهم واستبدادهم بالشعوب الاخرى ومساندتهم لحلفائهم المعادين للديموقراطية ولولا ايمان النظم الحاكمة فى اوروبا المتنوعة الاعراق والثقافات بالديموقراطية وعدم احتكار العمل السياسى لكانت بلدانها فريسة الصراعات والانقسامات والتفكك الى دويلات صغيرة.
… ان الاحتكار السياسي لا يستقيم مع الديموقراطية على الاطلاق انه هيمنه فكر بعينه يفتح الباب امام الاضطرابات والانقلابات والعصبيات الطائفية والعرقية … على حساب الحوار بين الافكار والثقافات والاعتراف بالاخر وحقوقه .. والمساواة في الحقوق والوجبات … وهو بذلك على النقيض تماماً من الديموقراطية .