المذهبية ولزوم السنة والجماعة
اعداد : الحسن بن الحسين بن محمد الفرياضي
ويكاد يكون الاختلاف في طبائع البشر سنة من سنن الله تعالى في خلقه، فهو أمر خلقي لا دخل للإنسان فيه، فمن الناس من يميل إلى التشديد، ومنهم من يميل إلى التيسير، ومنهم من يأخذ بظاهر النص، ومنهم من يأخذ بفحواه وروحه، وابرز مثال على ذلك في الأنبياء موسى وهارون، ومن الصحابة الحسن والحسين، ومن التابعين عروة بن الزبير وعبد الله بن الزبير، فهؤلاء رغم أنهم إخوة أشقاء غير أنهم مختلفون في طبائعهم وأشكالهم وصورهم وأمزجتهم وطبيعة تفكيرهم، ومن اجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أرفق أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر).ويقول الله عز وجل: (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين).
ومن هنا، كان لابد من وجود الاختلاف في الدين، حتى يواكب كل الظروف والأحوال والأعمار، والاجتهاد والفتوى لهما علاقة بظاهرة الاختلاف، لان ليس كل البشر على نفس الطاقة في تطبيق الأحكام الشرعية، فالاختلاف ظاهرة كونية لابد للمجتهد أن يستحضره في الفتوى.
غير أن هذا الاختلاف في التاريخ الإسلامي بلغ درجة كبيرة من التشتت والتفتت بين الفرق والطوائف ، حتى إن هناك من أوصل عدد الفرق الإسلامية إلى 408 فرقة[1].
وقد ورد في الحديث النبوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)[2].
ومعنى الحديث: أن الأمة الإسلامية تركها الرسول صلى الله عليه وسلم، فرقة واحدة وأمة متماسكة، لكنها تفرقت ومازالت تفترق حتى تصل إلى ثلاث وسبعين فرقة، ولا شك أن هذه الفرق كلها في ضلال إلا فرقة واحدة وهي الفرقة الناجية، وهي فرقة أهل السنة والجماعة.
قال عبد الله بن يوسف الجديع: (طريقة السلف في العقائد والأحكام أحسن الطرق. وهي الوسط، وهي الأعلم وحكم والأسلم، وليس فيها شيء من البدع)[3]، فهو باق إلى آخر الزمان كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشهير الذي رواه مسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة فينزل عيسى بن مريم. فيقول أميرهم: تعالى صل لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمير، تكرمة الله لهذه الأمة)[4]، لذلك: (لا بد أن نرجع ابتداء إلى النبع الخالص الذي استمد منه أولئك الرجال، النبع المضمون)[5]. لأن المنهج هو: ( جوهر مشكلة الأمة فلو استقامت عليه لاستقام لها كل شيء)[6]، !!.
فمن هم أهل السنة والجماعة يا ترى؟ وما هو منهجهم في تلقي النصوص والأحكام الشرعية؟
أولا: تعريف أهل السنة والجماعة:
قال الإمام الشاطبي في الإعتصام: (فاختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال)[7].
– المذهب الأول: إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام. وهو مذهب أبو مسعود الأنصاري وعبد الله بن مسعود والحسن، ” وقيل: الحسين “.
– المذهب الثاني: إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين من أهل الفقه والعلم والحديث، وهو مذهب عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه والأصوليين.
– المذهب الثالث: إنها جماعة أهل الإسلام، وهو مذهب: الشافعي.
– المذهب الرابع: إنها جماعة المسلمين، إذا اجتمعوا على أمير وهو مذهب الطبري).
أما المقصود بأهل السنة والجماعة في هذا المقام، هو: سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين اجتمعوا على الحق الصحيح من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، و(كانوا على ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين وأتباعهم. وأئمة الدين ممن شهد له بالأمانة وعرف عظم شأنه في الدين وتلقى الناس من كلامه خلفا عن سلف. كالأئمة الأربعة وسفيان الثوري والليث بن سعد وابن المبارك والنخعي والبخاري ومسلم وسائر أصحاب السنن دون من رمى ببدعة أو شهر بلقب غير مرضى عنه مثل الخوارج، والروافض والمرجئة والجبرية والجهمية والمعتزلة وسائر الفرق الضالة)[8].
والحاصل مما تقدم فإن المقصود بأهل السنة والجماعة هم المتمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين استقاموا على الإتباع ويجانبوا الابتداع في أي زمان ومكان، وهم باقون إلى يوم القيامة.
ثانيا : منهج أهل السنة والجماعة في التلقي.
والمقصود بالمنهج هنا هو:(الطريق المؤدي إلى التعرف على الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة والتي تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل إلى نتيجة المعلومة)[9].
أما الأسس التي يقوم عليها منهج أهل السنة والجماعة في تلقي الوحي تتمثل في مجموعة من القواعد[10]، سنحاول إن شاء الله إعطاء أفكار وإشارات أولية حول هذا المناهج، ومن تم سنرى، هل التقيد بمذهب معين مخالف للزوم السنة والجماعة:
– القاعدة الأولى: اقتصارهم في مصدر التلقي على الوحي )كتابا وسنة( .
وذلك أن كل ما يتعلق بأصول الدين جاء بيانه في الكتاب والسنة بيانا قاطعا مع بيان أدلته ولذلك قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)[11]. يقول ابن كثير في تفسيره هذه الآية:” هذه أكبر نعمة الله – عز وجل – على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم. فلا يحتاجون إلى دين غيره. ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف)[12].
ولذلك أخذ أهل السنة والجماعة بهذه القاعدة دليلا وهداية في كافة أمورهم.
– القاعدة الثانية: الاقتداء بأئمة الهدى العدول المقتدى بهم من الصحابة ومن صار على نهجهم، لأنهم أقرب إلى عصر النبوة وأعمق صلة بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالتعاليم الدينية ” إذا كان السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، أقرب عصرا من النبوة وأعمق صلة بكلام الله ورسوله، وأصح لسانا وأفصح بيانا، كان فهمهم لنصوص الكتاب والسنة، ولاسيما ما يتعلق منها بمسائل الاعتقاد حجة على من بعدهم)[13] ، لأنهم كانوا (أعلم الناس بتأويله متحدين في أصول الذين لم يفترقوا فيه ولم تظهر فيهم البدع والأهواء)[14].
لذا وجب علينا أن نلتزم بفهمهم رضوان الله عليهم لنصوص الكتاب والسنة، في مسائل الدين والدنيا، لأن أقوالهم وتفاسيرهم للنصوص حجة.
وقد قرر الشاطبي أن الإصلاح بمنهج السلف إنما هو في واقع الأمر امتثال لأمر الله فقال:( فالقرآن إذن هو: المتبوع على الحقيقة، وجاءت السنة مبينة له، فالمتبع للسنة متبع للقرآن، والصحابة – رضوان الله عليهم – كانوا أولى الناس بذلك وأن هذا الإتباع للسلف الصالح هو الذي يعصمنا من العمل بالسنن المنسوخة لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من سنته صلى عليه وسلم. وكانوا يتسابقون إلى إحيائها. وإحياء السنة ليس له من معنى غير العمل بها)[15].
– القاعدة الثالثة: تقديم الشرع على العقل في مسائل الإعتقاد.
قضية تقديم الشرع على العقل من أهم الأسس والقواعد التي يقوم عليها منهج أهل السنة والجماعة في تلقي الوحي، قال عبد الله بن يوسف الجديع: (من أصول أهل السنة والجماعة: أن العقل المجرد ليس له إثبات شيء من العقائد والأحكام، إنما مرجع ذلك إلى السمع الذي هو المنقول عن الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم، والعقل آلة الفهم)[16].
فهل يمكن أن يأتي النص الشرعي بما يخالف العقل؟
نقول أن : مما ينبغي إعتقاده أن نصوص الكتاب والسنة النبوية الصحيحة الصريحة، لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة، إنما نقصد بهذه القاعدة: أن نجعل العقل تابعا ومحكوما بالشرع لا متبوعا وحاكما للشرع. قال أهل السنة :” الأصل في الدين الإتباع والمعقول تبع ولو كان أساس الدين على المعقول لاستغنى الخلق عن الوحي وعن الأنبياء. ولبطل معنى الأمر والنهي ، ولقال من شاء ما شاء)[17] .
أما العقول المستنيرة بالوحي فهي دائما توافق النقل الصحيح: (فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبدا، ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل)[18]. وهذا التعارض بين العقل والنقل إنما يحث بسببين:
– السبب الأول: عدم ثبوت النقل الصحيح، حيث هناك كثير من الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي من قبيل الضعيفة والموضوعة ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تصح عنه[19].
– السبب الثاني: سوء الفهم، ومثال ذلك حديث الذباب الذي رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليصرحه فان في إحدى جناحيه داء وفي الأخر شفاء)[20]، فقد شكك أهل البدع والضلال قديما في هذا الحديث بحجة انه يخالف العقل والواقع، فقالوا: (كيف يكون الذباب الذي هو مباءة فيه دواء؟ وكيف يجمع الله الداء والدواء في شيء واحد؟ هل الذباب يعقل فيقدم أحد الجناحين على الأخر؟؟)[21].
فأخذوا يطعنون في هذا الحديث ويقولون: إن العقل لا يقبل هذا الحديث، حتى أثبت الطب الحديث أن هذا حق فصدقوا به. (وقد كتب طبيبان فاضلان بحثا قيما حول حديث الذباب. مدعما بالأدلة وذكر المراجع العلمية التي رجعا إليها في إثبات صحة هذا الحديث بما لا يدع مجالا للشك)[22].
إن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم برهان قائم بنفسه لا يحتاج إلى دعم خارج عنه، لأن العيب في عقل الإنسان وليس في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه وحي نزل عليه من السماء، لذلك اعتمد أهل السنة والجماعة على قاعدة تقديم النص على العقل، وإذا لم يستطع العقل إدراك معنى النص، لأن الأدلة الشرعية لا تنافي قضايا العقول، والدليل على ذلك من وجوه. وقد حددها الإمام الشاطبي في خمسة، وهي:[23]
– الأول: أنها لو نافتها لم تكن أدلة للعباد على حكم شرعي ولا غيره، ولكنها أدلة باتفاق العقلاء، فدل أنها جارية على قضايا العقول.
– الثاني: أنها لو نافتها لكان التكليف بمقتضاها تكليفا بما لا يطاق، وذلك من جهة التكليف بتصديق ما لا يصدقه العقل ولا يتصوره، بل يتصور خلافه ويصدقه.
– الثالث: أن مورد التكليف هو العقل، وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام، حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا، وعد فاقده كالبهيمة المهملة.
– الرابع: أنه لو كان كذلك لكان الكفار أول من رد الشريعة به، لأنهم كانوا غاية الحرص على رد ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنها تخالف عقولهم.
– الخامس: أن الاستقراء دل على جريانها على مقتضى العقول، بحيث مقصدها العقول الراجعة، وتنقاد لها طائعة أو كارهة … وهو المعنى بكونها جارية على مقتضى العقول، لا أن العقول حاكمة عليها، ولا محسنة فيها ولا مقبحة.
إذن: وبناء على ما سبق نقول: (أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشارع، فإنه من التقديم بين يدي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل يكون ملبيا من وراء وراء)[24].
القاعدة الرابعة: ربط النصوص بعضها ببعض
تعتبر قاعدة ربط النصوص بعضها ببعض في فهم الشريعة الإسلامية من أهم الأسس التي يقوم عليها منهج أهل السنة والجماعة في التلقي، باعتبارها الضابط الأساسي على فهم الوحي فهما صحيحا.
قال الدكتور عبد المجيد عمر النجار: (إن نصوص الوحي قرآنا وحديثا وحدة متكاملة المعنى تتضافر مختلف المقامات فيها على بيان الحقيقة الدينية)[25]، لأن نصوص القرآن والسنة يفسر بعضهما بعضا، ويحمل بعضها بعضا. روي عن ابن عباس أنه قال: (التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه أحد إلا الله)[26].
قال مناع القطان: (وأما ما يعلمه العلماء، فهو: الذي يرجع إلى اجتهادهم المعتمد على الشواهد والدلائل، دون مجرد الرأي، من بيان مجمل أو تخصيص عام أو نحو ذلك)[27].
ولذلك أخذ أهل السنة والجماعة بقاعدة ربط النصوص الشرعية بعضها ببعض لمعرفة مسألة من المسائل الشرعية، قال عثمان بن علي حسن: (مما ينبغي اعتقاده: ضرورة الاتفاق بين نصوص الكتاب والسنة، ونفي التعارض والاختلاف بينهما سواء أكان ذلك بين آية وآية، أو بين حديث صحيح وأخر مثله، أو بين آية وحديث صحيح، وأن ما يظن من تعارض واختلاف بين بعض النصوص فذلك بحسب الظاهر لا في نفس الأمر)[28]. بمعنى أن ما يظهر للناظر من تعارض بين النصوص من الكتاب والسنة إنما هو تعارض ظاهري يقع في نفس المجتهد لا حقيقة له في نفس الأمر، وذلك لنقص في العلم أو لفهم أو هما معا.
ثالثا: هل التقيد بمذهب معين مخالف للزوم السنة والجماعة:
بالتأمل في ما سبق من بيان من هم أهل السنة والجماعة واهم القواعد التي ينبني عليها منهجهم في تلقي نصوص الشرعية من القران الكريم والسنة النبوية ندرك إدراكا يقينا أن كل مذهب من المذاهب الفقهية المشهورة هي أيضا كذلك تنبني أصولها على الاستدلال بالقران الكريم والسنة النبوية الشريفة فهي إذن تندرج ضمن أهل السنة والجماعة.
ولا شك أن أصول جميع المذاهب الفقهية المشهورة مبنية على الاستدلال بنصوص القران والسنة النبوية الشريفة، وذلك من جهة الافتقار إليها باعتبارها دستور الأمة الإسلامية، لا من جهة الاستظهار وفق الأعراض المذهبية، قال الشاطبي: (فاعلم أن أخذ الأدلة على الأحكام يقع في الوجود على وجهين :
أحدهما : أن يأخذ الدليل مأخذ الافتقار واقتباس ما تضمنه من حكم، ليعرض عليه النازلة المفروضة، لتقع في الوجود على وفاق ما أعطى الدليل من الحكم. أما قبل وقوعها، فبأن توقع على وفقه، وأما بعد وقوعها فليتلافى الأمر، ويستدرك الخطأ الواقع فيها بحيث يغلب على الظن، أو يقطع بأن ذلك قصد الشارع.
وهذا الوجه هو شأن اقتباس السلف الصالح الأحكام من الأدلة.
الثاني : أن يأخذ مأخذ الاستظهار على صحة غرضه في النازلة العارضة، أن يظهر بادئ الرأي موافقة ذلك الغرض للدليل. من غير تحر لقصد الشارع، بل المقصود منه تنزيل الدليل على وفق غرضه وهذا الوجه هو شأن اقتباس الزائغين الأحكام من الأدلة، ويظهر هذا المعنى من الآية الكريمة : (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)[29] ، فليس مقصود الاقتباس منها، وإنما مرادهم الفتنة بها بهواهم، إذ هو السابق المعتبر وأخذ الأدلة فيه بالتبع لتكون لهم حجة في زيغهم، (والراسخون في العلم)[30]، ليس لهم هوى يقدمونه على أحكام الأدلة، فلذلك : (يقولون آمنا به كل من عند ربنا)[31]، ويقولون: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا)[32]، فيتبرؤون إلى الله مما ارتكبه أولئك الزائغون.
فلذلك صار أهل الوجه الأول محكمين الدليل على أهوائهم، وهو أصل الشريعة، لأنها إنما جاءت لتخرج المكلف عن هواه حتى يكون عبدا لله.
وأهل الوجه الثاني يحكمون أهواءهم على الأدلة حتى تكون الأدلة في أخذهم تبعا)[33].
ومن هذا المنطلق أقول أنه ليس من لزوم السنة والجماعة أن نأخذ الأدلة والنصوص الشرعية مأخذ الاستظهار للأهواء والآراء الفاسدة، وابتغاء الفتنة كما صنعت مجموعة من الطوائف والمذاهب المبتدعة، حيث إنهم ردوا كل ما خالف ما أصلوه، وكل ما يخالف أصولهم ، حيث :
(- لما أصلت الرافضة عداوة الصحابة ردوا كل ما جاء في فضلهم والثناء عليهم ، أو تأولوه.
– لما أصلت الجهمية أن الله لا يكلم أحدا ولا يرى بالأبصار ولا هو فوق عرشه مبائن لخلقه، ولا له صفة تقوم به، أولوا كل ما خالف ما أصلوه.
– ولما أصلت القدرية أن الله سبحانه لم يخلق أفعال عباده ولم يقدرها عليهم ، أولوا كل ما يخالف أصولهم.
– ولما أصلت المعتزلة القول بنفوذ الوعيد، وأن من دخل النار لم يخرج منها أبدا، أولوا كل ما خالف أصولهم.
– ولما أصلت المرجئة أن الإيمان هو المعرفة ، وأنها لا تزيد ولا تنقص أولوا كل ما يخالف أصولهم.
– ولما أصلت الكلابية أن الله سبحانه لا يقوم به ما يتعلق بقدرته ومشيئته، وسموا ذلك حلول الحوادث، أولوا كل ما خالف هذا الأصل.
– ولما أصلت الجبيرة أن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل بوجه من الوجوه وأن حركات العباد بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار ، أولوا كل ما جاء بخلاف ذلك)[34].
قال ابن قيم الجوزية : “هذا الفصل من عجيب المتأولين، فإنهم فهموا من النصوص الباطل. الذي لا يجوز إرادته، ثم أخرجوها عن معناها الحق المراد منها، فأساءوا الظن بها، والتكلم بها، وعطلوها عن حقائقها التي هي عين كمال الموصوف بها “[35].
وانما ينبغي أن نأخذ الأدلة والنصوص الشرعية مأخذ الافتقار، لنقتبس منها الحكم الشرعي لنبصر به ما أعطى الدليل من الحكم حتى ننتهي إلى تحكيم الدليل على الأهواء.
قال الدسوقي : “فعلينا إذا كباحثين عن حقيقة ما في الإسلام أن نقبل على مصدريه، وقد أفرغنا عقولنا من كمل تصور سابق لم يستمد مباشرة منه. أي أن يكون عقلنا صفحة بيضاء خالية من الفروض والنظريات والأفكار المسبقة ، ومستعدة لتلقي الحقائق كما هي “[36]
خلاصة
إذا خرجنا من هذا المقال بضرورة ” لزوم أهل السنة والجماعة”، وعلى ضرورة “التقيد بمذهب معين من المذاهب المشهورة”، في كل الأوضاع والأزمان، أدركنا أن هذه القاعدة أكثر صلاحا وفاعلية في الظروف والأوضاع الراهنة في فهم التعاليم الدينية وذلك للأسبـاب التالية :
- أولا : ما ورد في الكتاب والسنة من الترغيب في الإقبال على الجماعة علما وعملا وفهما … وكذلك الترهيب من الاعتراض لها، والخروج عنهما. أي أن: ” لزوم الجماعة الإسلامية” قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام العظام. وأي دعوة تدعوا إلى تخطيها أو الخروج عنها على جماعات أخرى، فإنما هي دعوة ناقصة يخشى أن يكون نصيبها إما الفشل، وإما الانحراف عن الصراط المستقيم، أو هما معا.
- ثانيا : ما تعرض له النص الشرعي من اعتداء من قبل المنحرفين عن المنهج السليم من المبتدعة الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام والمسلمين كالأحزاب السياسية والجمعيات المدنية والمنظمات الإرهابية … حيث ابتدعوا كثيرا من المحدثات كالقول بإعادة قراءة النص ليواكب العصر الحديث وغير ذلك من المقولات “اللادينية”.
- ثالثا : ظهور أصحاب الفكر المنحرف في البلاد الإسلامية من الحداثيين والعلمانيين على مختلف مدارسهم المعروفة (ماركسية وقومية وليبرالية …). وقد عملوا على نشر أفكارهم ومذاهبهم بدعوى أنهم رواد الفكر والثقافة في المجتمع، كما عملوا على استقطاب عدد كبير من المتأثرين بهم من الشباب حتى يسيروا عليه.
وإننا لنحسب أن هذا المنهج الذي طرحناه في هذا العرض ” لزوم اهل السنة والجماعة ” من شأنه مقاومة هذه الفتنة، وهذه الأسباب كلها، وهو كفيل بفهم التعاليم على حقيقتها. والله أعلم.
وفي الأخير أتمنى من الله عز وجل أن أكون قد وفقت في عرضي هذا، وان أكون قد نقلت المعلومات والأفكار بأمانة علمية، وما كان فيه من صواب وتوفيق فمن الله تعالى، وما كان فيه من خطأ وتقصير فمرده بشريتي ونفسي والشيطان.
” والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ”
[1] -انظر: موسوعة الفرق والجماعات والمذاهب الإسلامية لعبد المنعم الحفني.
[2] – رواه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب شرح السنة.
[3] – عبدالله بن يوسف الجديع، العقيدة السلفية في كلام رب البرية وكشف أباطيل المبتدعة الردية، دار الصميعي للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، ص 40 – 41 .
[4] – الجامع الصحيح للإمام مسلم.
[5]– سيد قطب، معالم الطريق، ص: 18
[6] – فريد الأنصاري، أبجديات البحث في العلوم الشرعية، ص 11 .
[7]– الشاطبي، الاعتصام، م: 3 / ص 300 – 309 .
[8] – العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية، ج 1 ، ص 6 ، ط بيروت، أنظر كتاب موقف أهل السنة من الفرق، ص 10 .
[9] – جلال موسى، منهج البحث العلمي عند العرب، ص: 273.
[10] – أنظر كتب شرح أصول إعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم ابن الحسن بن منصور الطبري اللالكي، تحقيق بن سعد حمدان الغامدي، ج 1 ، دار الطيبة، ص:82.
[11] – المائدة: 3.
[12] -ابن كثير، تفسير القران العظيم، م:3/ص:26.
[13] -منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، م:2/ص:503.
[14] -موقف أهل السنة من الفرق، م:1/ص:13.
[15] -الشاطبي، الاعتصام، م:1/ ص:23-24.
[16] يوسف الجديع، العقيدة السلفية بادلتها النقلية والعقلية، ج:1/ ص:35.
[17] – يوسف الجديع، العقيدة السلفية بادلتها النقلية والعقلية، ج:1/ ص:35.
[18] الهراس، شرح العقيدة الطحاوية، ص:140.
[19] -انظر مثلا: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة لمحمد ناصر الدين الألباني، وهي من أربعة عشر مجلد، وكتاب الموضوعات من الأحاديث المرفوعات لابن الجوزي،وهو كتاب قيم في بابه، ويحتوي على جملة من الأحاديث المكذوبة والموضوعة على النبي صلى الله عليه وسلم.
[20] -البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الطب، باب إذا وقع الذباب في الإناء، رقم (5445).
[21] -محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، ص: 192.
[22] – محمد أبو شهبة، دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، ص:194.
[23] -الشاطبي، الموفقات، ج:3/ ص:27-29.
[24] -الشاطبي، الاعتصام، م:3/ص:420.
[25] -عبد المجيد النجار، فقه التدين، ص:71.
[26] -الطبري، جامع البيان، م:1/ص:80.
[27] مناع القطان، مباحث في علوم القران، ص:341.
[28] -منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، م:1/ص:313.
[29] – آل عمران: 07
[30] – سورة آل عمران: 07
[31] – سورة آل عمران: 07
[32] – سورة آل عمران: 08
[33] -الشاطبي، الموافقات، ج : 3 / ص : 77 – 78
[34] – ابن القيم، الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، ج : 01 / ص : 230 – 232.
[35] – نفسه ج : 01 / ص : 238.
[36] – منهجية للباحثين عن الحقيقة في القرآن والسنة ص: 16.