التغيرات السوسيولوجية والقيمية والقانونية بالمغرب “مدينة اكادير نموذجا”
بقلم: الحسن الفرياضي – المركز الديمقراطي العربي
لقد ولى ذلك الزمن الذي نادى فيه روبير مونطاني وآخرون القبائل السوسية ب: “بلاد السيبة”، حين كانت مؤسسة القبيلة “الجماعت” تدير شؤون القبيلة بنوع من الانفراد عن السلطة المركزية، وذلك بسبب احتكاك هذه المنطقة بالغرب، وثقافة المستعمر على كافة المستويات، الظاهر منها والباطن، خصوصا مع فئة خونة البلاد، وعملاء الاستعمار وخدمه ممن كانوا في الاحتكاك المباشر به.
لقد غادر المستعمر منطقة سوس، وترك بعضا من مكونات ثقافته تنمو أكثر فأكثر، لتشمل مزيدا من الأفراد والجماعات، ونظرا لموقعها الجغرافي وأهميتها الاقتصادية والإستراتيجية، فقد أريد لمدينة أكادير، أن تكون عاصمة سوس وقاطرته، كما أنها أول جماعة حضرية بعمالة إقليم أكادير إداوتانان، ولا تزال الجماعة الحضرية الوحيدة في مقابل اثني عشر جماعة قروية، تحتل فيها المدينة دور المركز والقيادة بدءا بالجوانب الإدارية والاقتصادية، وصولا إلى الجوانب الثقافية.
ومع تطور هذه المدينة على المستويات الاقتصادية والتكنولوجية، ارتفعت وثيرة الهجرة إليها من القرى المجاورة، وذلك لما توفره من مناصب شغل… فلم يعد بالإمكان الحديث في أكادير عن مجتمع أمازيغي محض، فقد اختلط الأمازيغ بالعرب القادمين من كل بقاع المغرب، وتزاوجوا فيما بينهم وأنجبوا…
أما على المستوى التكنولوجي فقد صار في كل بيت أكاديري جهاز تلفاز، وصار لكل فرد هاتف ونصيب من الاتصال بالأنترنيت، مما زاد الاطلاع على الثقافة الغربية، فاشتد اقتباس الأكاديرين منها، في مرحلة بلغت فيها العولمة مرحلة توحشها.
من جهة أخرى، انخرط المغرب في دائرة العلاقات الدولية، حيث وقع على مجموعة من المعاهدات الدولية، فصار التشريع الدولي أسمى من التشريع الوطني، ولم تعد الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع منذ فترة الاستعمار… هذان المعطيان جعلا منطقة سوس تخضع لتغيرات وتحولات سوسيو-تاريخية فرضتها عليه سيرورة العولمة… وشملت قيمه وعاداته وتقاليده ومؤسساته، وسلوكات أفراده وعلاقاتهم بدينهم، مما أثر على هويتهم.
وانطلاقا مما سبق سوف نتطرق من خلال هذا البحث في شقه الأول إلى التغيرات الاجتماعية في مدينة أكادير، محاولين إدراك كافة جوانبها، في حين نقارب في الشق الثاني، التحولات السوسيو-قانونية بالمغرب، باعتبار القانون جزءا لا يتجزأ من المجتمع، إذ انه لا وجود لمجتمع بدون وجود قانون.
إن اهتمامنا بهذا الموضوع راجع إلى بضع سنوات مرت، مند قدومي الى هذه المدينة للدراسة في التعليم الجامعي، فقد لاحظت مند ذلك الحين ان المجتمع الأكاديري مختلف في كافة مستوياته عن ثقافته وتقاليده الامازيغية الاصيلة، وكان تساؤلنا في البداية حول ماهية هذا التغير تساؤلا غير أكاديميا، ومع انخراطنا في سلك الماستر بنفس المدينة زاد انفتاحنا على الموضوع، خصوصا بعد اكتسابنا لبعض القدرات النظرية والمنهجية عن طريق أساتذتنا الكرام، مما زادنا جرأة على الخوض في غماره وسبر أغواره مؤطرين أكاديميا…
لقد خضنا غمار هذا البحث مدفوعين بإشكاليتين مركزيتين، فتساءلنا من جهة، هل كان احتكاك المجتمع الأكاديري بالثقافة الغربية هو الذي أثر في ثقافته المحلية بجميع عناصرها؟ ام ان التغيرات السوسيوقانونية التي يشهدها المغرب ستؤدي به نحو إعلان نفسه دولة علمانية؟ أم أنه متوجه فقط نحو فصل تام لتشريعه عن دينه دون إعلان نفسه دولة علمانية، وما تجليات ذلك؟
إن إشكالياتنا المطروحة، تغيب عنها أسئلة من قبيل، كيف … ولماذا…، ذلك أننا لم نسعى للبحث في آليات التغيير وأسبابه، فقد أصبح من المسلم به لدينا أن العولمة، عولمة الثقافة الغربية، هي السبب المباشر في ديناميات التغير بما تجنده من آليات، أبرزها الإعلام ووسائل الاتصال والتواصل…وبالمقابل فإن إشكالياتنا الموضوعة تركز أكثر على آثار العولمة على المجتمع الأكاديري…والمنظومة القانونية بالمغرب.
إن استقصائنا الميداني مسبوق بفرضيات سعينا من خلالها إلى تأكيدها أو ضحدها، فافترضنا أن احتكاك هذا المجتمع بالثقافة الغربية “المسيطرة”، قد أثر على الأسرة والعلاقة بين أفراد المجتمع من جهة، وعلى هويته المحلية من جهة أخرى، مما نجم عنه تغيرات على منظومة القيم والتدين.
ولتأكيد هذه الفرضيات أو تفنيدها، توجهنا إلى الميدان مسلحين بالعديد من التقنيات، آملين أن نستخلص ما يكفي للإجابة على تساؤلاتنا.
لقد اعتمدنا على تقنية الملاحظة بشقيها، الملاحظة المباشرة والملاحظة بالمشاركة، لنتمكن من ملاحظة ما يمتاز به هذا المجتمع، على مستوى اللباس والسلوك وعلاقات الأفراد والقيم والسكن … وملاحظة علاقات قرية-مدينة، التي تربط مدينة أكادير بالقرى المجاورة والمراكز شبه حضرية، والعديد من مستويات الحياة الاجتماعية…؛ غير أن هذه الملاحظات لن تكون كافية ما لم تدعم بمقابلات مع أشخاص معمرين بالمدينة، كي نتمكن من استخلاص معطيات حول الخصائص الاجتماعية للمدينة في ماضي السنوات.
إضافة إلى هذا، اعتمدنا على تقنية استمارة الرأي، ووجهناها لفئة “المثقفين”، مركزين على فئة الطلبة لكي نتمكن من الوقوف على تعليلاتهم لقبولهم بنموذج دولة علمانية من عدمه… إضافة إلى هذا فقد اعتمدنا على عدة معطيات إحصائية أفادتنا كثيرا في بعض مستويات البحث.
إن موضوع دراستنا كما سبقت الإشارة، واسع جدا، بحيث يمس أغلب جوانب الحياة الاجتماعية، فالتغيرات لحقت بنيات المجتمع، ومؤسساته ووظائفها، وأفراده وسلوكاتهم وقيمهم، ومكوناته الدينية والثقافية عموما، وسياسته واقتصاده، وتمثلات أفراده كذلك، والعديد من الجوانب الأخرى، التي قد نذكرها وقد لا نفعل، ذلك أن الإحاطة بمختلف جوانب التغير من الصعوبة بمكان، ويتطلب جهدا نظريا وميدانيا وتحليلا كبيرا…
اولا . مدينة اكادير: المجال والديمغرافيا والآثار
تنتمي مدينة أكادير إلى عمالة إقليم أكادير إداوتنان، وتعد الجماعة الحضرية الوحيدة في مقابل اثني عشر جماعة قروية هي: أمسكروض، أورير، أقصري، أزيار، الدراركة، إضمين، إيموزار، إمسوان، تدارات، تاغزوت، تامري، تقي.
وتقع المدينة في الوسط الغربي للمغرب، مطلة على ساحل المحيط الأطلسي، بمساحة 5910 كلم مربع، يحدها إقليم تزنيت جنوبا، والصويرة شمالا، وإقليم تارودانت شرقا، والمحيط الأطلسي غربا. وتضم المدينة اثني عشر مقاطعة وملحقة إدارية هي: أنزا، تالبرجت، الباطوار، الخيام، بنسركاو، الهدى، تليلا، المسيرة، تيكوين، الحي المحمدي، اغيل أوضرضور، وهي عاصمة الإقليم، تتمركز فيها مختلف المرافق الإدارية والاقتصادية المركزية…
وينتمي إقليم عمالة أكادير إذاوتنان، إلى جهة سوس ماسة درعة، إلى جانب إقليم تارودانت، إقليم ورزازات، عمالة إنزكان أيت ملول، إقليم اشتوكة أيت باها، إقليم زاكورة، إقليم سيدي إفني، إقليم تنغير.
لقد تطورت المدينة من حيث المجال، فقد كان اسم أكادير يقتصر على تالبرجت والباطوار والخيام وإحشاش وبن سركاو، وقد كانت هذه الأحياء للمدينة متفرقة، وكان المجال الغابوي هو الغالب، حيث أنه إذا أردت أن تذهب من تالبرجت إلى الخيام، عليك أن تسلك طريقا غابوية خالية غير آمنة، حيث توجد الآن المحطة الطرقية المسيرة، و حيا السلام والداخلة.
لقد تم تطبيق أول تخطيط حضري بالمدينة سنة 1930، ذلك أن أول السياسات السكنية بالمغرب قام بها المستعمر، اعتمادا على بناء منازل للمقيمين الأجانب بعيدا عن المغاربة، وهو ما يعرف بالمدن الجديدة (les villes nouvelles)، وقد طبقت هذه السياسة بمبدأ الفصل العنصري…، الأمر نفسه انطبق على مدينة أكادير التي شهدت بدورها بناء (la ville nouvelle) بمواصفات عصرية، في حين كانت باقي المناطق يغلب عليها الطابع القروي. ولما ضرب زلزال 1960 معالم الأحياء القديمة ودمرها (وهو ما يفسر غياب ثنائية المدينة القديمة / المدينة الجديدة بأكادير) فقد تم بناء المدينة والنهوض بها وفق أسس حديثة، بأمر من الملك محمد الخامس.
ومنذ ذلك الحين، أخذ المجال الأكاديري يتغير على مستوى العمران، خصوصا في فترة الثمانينات، حيث عرفت المدينة انفجارا عمرانيا، بدأت معه الأحياء التي كانت متباعدة ومتمايزة تلتصق فيما بينها، كمنطقة تيكوين التي كانت فيما قبل، جماعة قروية، لتصبح بعد ذلك ملحقة إدارية تابعة لمدينة أكادير مع نهاية التسعينيات.
وإجمالا، فقد تغيرت طبوغرافية أكادير بدرجة شديدة خلال نصف القرن الأخير، لدرجة تلاصقت معها بعض المدن المجاورة كالدشيرة وإنزكان التابعتين لإقليم عمالة إنزكان أيت ملول، فقد تم بناء كل شبر فارغ في المدينة تقريبا، وتم الاهتمام أكثر بجمالية المدينة، نظرا لخصائصها السياحية. فأقيمت الفنادق والمطاعم والمقاهي على طول الساحل، وهو ما يطلق عليه حاليا بالكورنيش، وجعلت منطقة للتنزه والترفيه، كما أقيمت “مارينا” جنب الميناء، كأرقى منطقة سكنية بالمدينة، وتم إعمار ما أطلق عليه حي السلام والداخلة والهدى بطرق حديثة وبنايات عصرية، وشيئا فشئ بدأ المجال الغابوي الذي كان غالبا يندثر.
إن ملاحظتنا الأساسية في هذا الباب، أن تصميم المدينة لم يتطور مراعاة للخصائص المحلية، بل تطور تقليدا للمدن الغربية، وهو ما أطلقنا عليه عولمة تصميم المدينة، وقد لاحظنا إذن تشابهها مع تصميم مدينة شيكاغو الأمريكية الذي وضعه بيرجيس، لقد تصور بيرجيس المدينة الحديثة – متخذا من شيكاغو نموذجا لها- كما لو كانت تكشف في بنائها الإيكولوجي، عن نمط من دوائر أو حلقات دائرية، تنبثق عن منطقة الأعمال المركزية، لكل منها اتساع وحجم معين، كما تكشف كل حلقة عن خصائص محددة، تمثل في النهاية مناطق للتحايز الوظيفي داخل المدينة، وتمتد نحو نصف قطري من المركز إلى الأطراف في خمس دوائر متتابعة، ثم منطقة التحول والانتقال، وهي تحيط بالمنطقة المركزية، تليها منطقة مساكن الطبقة العاملة، وهي تحيط بدورها بمنطقة التحول، ثم منطقة مساكن الطبقة الوسطى التي تمثل إطارا خارجيا للمناطق السكنية العمالية، وأخيرا منطقة الضواحي، أو رحلة العمل اليومية، التي تمثل الإطار الكلي الخارجي للمدينة، وتبعد عن مركز المدينة بمسافة تقطعها وسائل النقل الحديث في فترة تتراوح بين نصف الساعة والساعة. وهو التصميم عينه تقريبا، الذي تم بناء مدينة أكادير عليه، فتبرز منطقة الأعمال المركزية، والتي تتمركز حول الساحل أو الكورنيش بمساحة بضع كيلومترات مربعة، حيث تتمركز مختلف المرافق المركزية الإدارية والاقتصادية، كالقصر البلدي والعمالة والولاية والبنوك المركزية الجهوية…
وقد كان توجه السلطات المحلية – خصوصا الأمنية منها – إلى أن تكون هذه المنطقة منطقة تسامح قيمي لذلك فالممارسات التي قد يعتقلك عليها شرطي خارج هذه المنطقة، لا يعتقلك لارتكابها داخلها، ونذكر على سبيل المثال السكر العلني، تبادل القبل بين الذكور والإناث… ويبدو أن ساكنة المدينة تدرك هذا الوضع، فتبادر إلى القيام بالرحلات القيمية إلى هذه الدائرة للاستفادة من خاصيتها هذه، وتساهم السلطات المحلية في ترسيخ هذا الوضع، فالملاحظ من خلال الاطلاع على خطوط حافلات شركة (ALSA)، أنها وضعت لتقود في النهاية إلى هذه الدائرة، إما برحلة مباشرة بحافلة واحدة، أو برحلة متقطعة من حافلة إلى أخرى… حيث تلتقي كل الحافلات في هذه المنطقة، زيادة على هذا، فنفس الشخص الذي قد يبدي امتعاضه من تصرف يخالف “الأخلاق العامة” بدر منك في منطقة أخرى، يبدي تسامحا مع نفس التصرف أو الفعل إذا بدر منك في المنطقة المركزية، ذلك أن هذه الأخيرة وكما هي في مخيال الناس، منطقة تحرر اجتماعي وقيمي كامل، إذ يتجول فيها المثليون بحرية كاملة، وتنزع الفتاة ذلك الجلباب الذي ترتديه في حيها أو مدشرها، في إحساس تام بالتحرر…
لقد أدى تطور المجال والديموغرافيا إلى ظهور العديد من المشاكل الاجتماعية بالمدينة وضواحيها، فقد أدى التصاعد المستمر لأسعار العقار الذي فرضه الانفجار السكاني بالمدينة، إلى ظهور فئات هشة لم تستطيع مواكبة الغلاء على مستوى العقار، فلم تتمكن بالتالي من حيازة مسكن لائق، ولم تستطع الإنخراط في استئجار منازل سكنية، نظرا للسومة الكرائية المتصاعدة، ونظرا لكون هذه الفئات مكونة بالأساس من المهاجرين الفارين من ظروف الفقر والجفاف، بحثا عن لقمة عيش، وقد تمخض عن هذا الوضع ظهور أحياء الصفيح ببعض أرجاء المدينة في الثمانينيات والتسعينيات، وقد استقطبت هذه الأحياء أفواجا من الفارين من جحيم استئجار المنازل، فنمت واتسعت رقعتها بشكل أثر على جمالية المدينة، وهو ما دفع السلطات المحلية للتفاوض مع ساكنة تلك الأحياء حول صيغة مرضية لإزالة تلك النقط السوداء على خريطة المدينة، حيث تغيب أدنى ظروف العيش… وبعد أن لوحت السلطات المختصة بإمكانية تعويض هؤلاء بقطع أرضية أو شقق جاهزة، زاد تهافت الناس على دور الصفيح، توافد الأغنياء والميسورون بدورهم طمعا في تعويض الدولة، وصار الاتجار في دور الصفيح (البرارك) كما لو كان مشروعا، ومن الأشخاص من مكن أبناءه من “براكة” لكل واحد منهم، ليحصل في تعويض الدولة على بقع أرضية بعدد أبنائه، وعلى هذا الشكل استمرت هذه الأحياء في التوسع والتكاثر أكثر فأكثر، مما دفع بالمجلس البلدي إلى التدخل من خلال حزمة من الإجراءات والقرارات، فتم تعويض ساكنة الحي الصفيحي بتيكوين ببقع أرضية في حي الزيتون الراقي، الذي أقيم على أنقاض الحي الصفيحي ذاته، وهو الأمر عينه بالنسبة لساكنة الحي الصفيحي بأنزا، حيث تم تعويض ثلة منهم ببقع أرضية، وثلة أخرى بشقق سكنية اقتصادية، نفس الأمر ينطبق على الحي الصفيحي الذي كان في الحي المحمدي… لقد استغل العديد من الناس هذا الوضع ليرتقوا في السلم الاجتماعي، فعلى سبيل المثال، تبلغ قيمة بقعة أرضية من سبعين مترا مربعا بحي الزيتون بتيكوين 70 مليون سنتيم، وهناك حالات لعائلات عوضت بأربع بقع أرضية أو أكثر، فتضع هذه العائلات بقعة واحدة لسكن وتبيع ما تبقى لإنجاز مشروع للأسرة حيث صاروا الآن من أغنى الأسر بالمدينة.
من جهة ثانية، أدى التزايد الديموغرافي المضطرد, موازة مع تناقص فرص الشغل، إلى بطالة فئة كبيرة من الساكنة النشيطة. ونظرا لصعوبة الحياة المدنية وغياب الحلول، فإن الأفراد لا يبقون مكتوفي الأيدي، إذ أنه عليهم الحصول على لقمة عيش بأي طريقة، فيتجه العديد منهم إلى العمل في الضيعات الفلاحية بالأقاليم المجاورة [إقليم تارودانت، اشتوكة أيت باها]، في غياب تام لظروف الشغل وحقوق العامل، هذا القطاع يشغل نسبة كبيرة جدا من النساء اللواتي يرضين بالأجور الزهيدة والعمل الشاق. أما حاملوا الشواهد والديبلومات، فيتجهون إلى العمل في الوظيفة العمومية والقطاع الخاص، حيث يجدون مناصب لهم حسب تخصصهم، أما الذين لا يجدون منصب شغل، فينضمون إلى فئة غير الحاصلين على الشواهد والديبلومات، الذين لا يجدون أيضا موطأ قدم لهم في سوق الشغل، هذه الفئة التي تؤرق بال السلطات المحلية، لأنها تتجه أساسا إلى القطاع غير المهيكل، فتحتل المجال العام للاتجار في الخضر والفواكه والألبسة… وينتشر هؤلاء الباعة المتجولون الذين يستعملون العربات المجرورة بالحمير في أحياء المدينة، باستثناء المنطقة المركزية (1)، والمنطقة المحيطة بها، وقد وجدت بلدية أكادير والسلطات الأمنية المحلية صعوبة في التعامل مع هذه الظاهرة التي يصعب القضاء عليها، إذ تجد الدولة نفسها بين مطرقة أصحاب المحلات التجارية الذين يطالبون بمنع هؤلاء الباعة المتجولون من عرض بضائعهم في الشارع، بدعوى أنهم يؤثرون على مداخيل تجارتهم التي منها يؤدون الضرائب للدولة…، وسنديان تلك الفئة التي تجد صعوبة في ولوج سوق الشغل.
لقد كانت السلطات تتوجه في البداية إلى التدخل بالقوة لطرد هؤلاء ومصادرة عرباتهم، غير أنهم يعودون للانتشار في اليوم الموالي، أمام هذا الوضع، صارت السلطات أكثر تسامحا مع هؤلاء، إيمانا منها بأن طبيعة الوضع تفرض مثل هذه الأنشطة الاقتصادية غير المهيكلة، لكنها لجأت في ذات الوقت إلى سياسة التعويض التدريجي، بمنح كل بائع متجول محلا بأسواق صغيرة تبنى لهذا الغرض، ليحول الباعة المتجولون أنشطتهم الاقتصادية من الشارع إلى السوق، ونظرا لكثرة الباعة المتجولين وتزايدهم المستمر، فإن السلطات تعجز عن تعويض الجميع، ولذلك فإن هذا المشكل مازال مستمرا بما له من تأثير على جمالية المدينة وعلى حركة السير…
ثانيا. الأسرة المعاصرة في مدينة اكادير: بين الثبات والتغير.
لقد تطورت الأسرة المغربية على مستوى بنيتها قبل كل شيء، حيث أضحت أكثر تنوعا، مع ميلها نحو نموذج الأسرة النووية، وهو الأمر عينه الذي لاحظناه في مدينة أكادير، إذ يمكن القول أن جل الأسر الأكاديرية أسر نووية، لكن هذا لا ينفي وجود الأسرة الممتدة، فهذه الأخيرة موجودة بنسب جد منخفضة، غير أن وجودها لا يرتبط بتعلق أفرادها بهذا النموذج التقليدي، وإنما يرتبط بإكراهات اقتصادية.
تبرز الأسرة النووية في أكادير في صفوف الأسر ذات الأب المهاجر القادم من إحدى القرى المجاورة أو البعيدة، أو حتى بعض المدن، حيث لا تسعفهم ظروف تلك المجالات الاقتصادية في تكوين أسرة… هؤلاء الأفراد ما إن يعملوا ويحسنوا وضعهم الاقتصادي، يتزوجون بفتاة محلية، أو بفتاة من قريتهم أو مدينتهم الأصلية، ثم يستقرون بالمدينة.
إضافة إلى هذا، تبرز الأسرة النووية في صفوف الفقراء، فأبناء الأسر الفقيرة عندما يتزوجون، يبادرون إلى اكتراء منزل أو غرفة للإقامة، هذا إن لم تتوفر لدى آبائهم إمكانات سكنية، أما في صفوف أولئك الفقراء الذين تمكنوا من حيازة منزل سكن متسع شيئا ما، فيمكنون أبنائهم المتزوجين من غرفة “يختلون” فيها بزوجاتهم، ويبررون ذلك بالضغط الذي سيتسبب به اكتراء منزل.
لقد كان الغالب في مدينة أكادير هو نموذج الأسرة الممتدة، خصوصا في صفوف الأسر الأصلية، ممن مكنتهم أصليتهم من حيازة مساحات أرضية كبيرة، هذا النوع من الأسر لازال طاغيا في صفوف نفس الفئة من الأسر التي مازال الآباء أو الأجداد المالكين لتلك الأراضي على قيد الحياة، فقد بينت معطيات البحث الوطني حول الأسر وجود 282 نوعا من الأسر ذات البنيات المركبة، من بينها 183 نوع تتميز بتساكن ثلاث أجيال على الأقل، وتعتبر هذه الأسرة المركبة أكثر عددا بالوسط القروي، وهو الأمر الذي لاحظناه بالجماعات القروية المحيطة بأكادير، غير أنها لا تمثل نسبة كبيرة بها، إذ تشهد هذه المجالات القروية بدورها تحولا شديدا في بنياتها الأسرية. وعلى هذا الأساس، فإنه يتضح منذ الآن أن مستقبل هذا النوع من الأسر (المركبة/ الممتدة) معرض للتلاشي، نظرا للصعوبات التي تطرحها الحياة اليومية بصفة خاصة، واعتبارا لميل الأزواج حديثي العهد إلى الاستقلال في الإقامة، إضافة إلى حقيقة تعد من المسلمات التي رافقت التغير الأسري، وهي صراع الزوجة مع الحماة، فالزوج يجد نفسه أمام خيارين، إما إرضاء زوجته أو إرضاء أمه، وقد كان الغالب في مثل هذه الأوضاع إرضاء الأم، فارتفعت نسبة الطلاق في صفوف مثل هذه الحالات رغم نذرتها، أما اليوم، فما إن يظهر صراع الزوجة والحماة حتى يهم الزوج بمغادرة بيت أسرته الأم.
وبالرغم من تفشي النزعة الفردانية، إلا أن أفراد الأسرة في أكادير، لا يتوانون في مساعدة بعضهم البعض في أوقات الحاجة والأزمة، غير أن ذلك التضامن الكلي اللامشروط لم يعد له وجود، فهذا النوع من الروابط والتضامن بدأ بالزوال منذ زمن بعيد، فالتضامن بين أعضاء القرابة الموسعة الآن لا يكون إلا في حالات نادرة جدا، هذا الوضع لم يشهده السياق الأكاديري في بداية تشكل المدينة قبل أن تصل إلى درجة التحضر الذي صارت عليه الآن. لقد كان للهجرة القروية دور كبير في إعمار المدينة، فهؤلاء القرويون الذين أتوا بحثا عن فرص شغل أو للاستفادة من جو المدينة، حملوا معهم بعضا من طرقهم في الحياة، ومن بين ما حملوه معهم، التضامن العائلي بمفهومه الأوسع، فقد استوطن القرويون الذين هاجروا مع عائلاتهم، بنظام الأسرة الممتدة، بما ينتج عن ذلك من تضامن كلي بين أفرادها، بعيدا عن الفرادنية والنزعة إلى الاستقلالية، لكن مع مرور الوقت، بدأ نزوع الأبناء إلى الاستقلال، خصوصا المتزوجون منهم، فهم الأب بمنح كل منهم طابقا من المنزل، يبنيه ويقطن به رفقة زوجته وأبنائه،
وأمام هذا الوضع الجديد، خرجت هذه الأسرة من نموذج الأسرة الممتدة إلى نموذج الأسرة النووية، ولو أن جميع أفرادها يقطنون بنفس المنزل، إلا ان كلا منهم يسعى إلى حجب حميميته الخاصة أو مجاله الخاص، هذا التحول في الشكل لدى هذه الأسرة، رافقه أيضا تحول على مستوى التضامن الأسري، فهؤلاء الإخوة تناقصت لديهم أشكال التضامن المتوارثة، وذلك التضامن اللامشروط، حيث قلت مساعدتهم لبعضهم البعض، إلا في حالات الأزمة كما سبق الذكر، وصارت هذه المساعدات تتخذ شكل القرض بذل المنحة والهبة وما إلى ذلك … إن مثل هذا الوضع قد يبدو من مسلمات النمو والتوسع والتوحش الحضري، إذ يتسم سكان المجتمع الحضري بالفردية، حيث تشجع الحضرية وباستمرار على تأكيد الفردية، فالحشد الهائل من الجموع البشرية في المجتمع الحضري والطابع الثانوي والاختياري والطوعي للروابط الحضرية …وتنوع الجماعات التي قد ينتمي اليها الأفراد، وتعدد المصالح التي توجد بينهم، وما تشجعه الحياة الحضرية على روح المنافسة، كل ذلك من شأنه أن يجبر الفرد على أن يتخذ قراره بنفسه، وعلى أن يخطط لحياته بطريقة فردية مستقبلية.
إن الثقافة الذكورية المهيمنة والسائدة، والتي جعلت المرأة حبيسة مجالها الخاص “البيت” منذ الأزل، أصابها شرخ كبير، فقد أدت “عولمة المدينة” بما يرافق الأوضاع المدينية من صعوبة في الحياة الاقتصادية للأفراد إلى تغيير هذا الوضع، زيادة على التأثر المتواصل بالنماذج الغربية على مستوى شكل العلاقة بين الرجل والمرأة، فضلا عن تراجع آليات الضبط والمراقبة الاجتماعية، في ظل الكثافة البشرية التي تميز المجتمع الحضري…
ان المتجول في أحياء مدينة أكادير في الصباح الباكر، سيلاحظ بلا شك ازدحام محطات الحافلات بالنساء و”الفتيات” المصطفات، ينتظرن قوافل الحافلات التي تنقلهن إلى المعامل المختلفة والمتفرقة في المدينة وخارجها، ثم إن المتجول في مدارس المدينة ومستشفياتها ومقاهيها ومطاعمها… سيسجل لا محالة حضور المرأة العاملة في مختلف المجالات.
لقد تكيف الرجال مع هذا الوضع الجديد المفروض والمحتم في نظرهم، متخلين بذلك عن محدد هام من محددات هيمنتهم. وبغض النظر عن الفوارق المعروفة بين الرجال والنساء في مجالات التعليم والشغل والدخل.
لقد مست هذه التحولات كذلك علاقة أخ/ أخت، التي كان يسيطر عليها منطق الهيمنة الذكورية، ورغم استمرار سلطة الأخ على الأخت، فقد لاحظنا أن هذا المعطى يغيب في صفوف الفتيات العاملات، ممن يساعدن الأسرة في معيشتها، وفي مثل هذه الحالات تحتكر الفتاة جزءا من سلطة القرار، ويبقى خوف الشبان فقط من أن يلحق عرض الأسرة ضرر.
لقد تحولت علاقة الأسرة بالطفل كذلك، ذلك الطفل الذي كان ينظر إليه كمعطى اقتصادي في المجتمعات التقليدية، يكون فيها الطفل مهمشا، فقد كان من البديهي في العقود الماضية مغادرة الأطفال للمدرسة لكي يتعلموا حرفة، والآباء آنذاك لم يكونوا يعلقون آمالا كثيرة على الدراسة، هذا المعطى غيرته خاصية المدينة التي تقوم على التخصص والتقسيم الدقيق للعمل، فأدرك الآباء أهمية التعليم والتكوين المهيكل.
من جهة أخرى، وفي ظل ديناميات التحول والتغير، والانتقال من مجتمع تقليدي يتسم أفراده بالاحترام، ووقار صغيرهم لكبيرهم، صارت الفروق تبرز أكثر فأكثر بين الأجيال، وهو الأمر الذي انتبه إليه تقرير الخمسينية، ذلك أن الشباب يتجهون إلى الانعزال والاستقلال عن آبائهم، ومرد ذلك إلى كونهم يفتخرون بامتلاكهم بعض خصائص الحداثة والعقلنة في مقابل تقليدانية آبائهم، زيادة على افتخارهم بالثقافة العالمة، في مقابل أمية آبائهم، وبهذا تختلف الرؤى والتصورات والتوقعات بين الأجيال وتزداد الهوة أكثر فأكثر بينهم.
لقد استمرت الأسرة في التحول، حتى فقدت العديد من وظائفها، تكيفا مع الأوضاع الجديدة، وهو ما ينطبق على المجتمع المغربي عامة، ولا يستثنى السياق الأكاديري من مثل هذه التغيرات التي تفرضها سيرورة العولمة. إن أهم وظيفة فقدتها الأسرة موازاة مع التحول في بنيتها، هي وظيفة “تزويج أبنائها”، وخلافا لأسلافهم، فإن شباب اليوم يتحكمون أكثر في اختيار شركاء حياتهم، … وينجحون أكثر في تقديم سعادتهم الفردية على متطلبات تماسك المجموعة.
ومن الملاحظات الأساسية داخل الأسرة في أكادير كذلك، أن مركزية العائلة بدأت تفقد أهميتها شيئا فشيئا لصالح مركزية العمل، لكن هذا الأمر لا ينطبق على علاقة الرجل والمرأة، هذه الأخيرة لا زالت الثقافة السائدة تنص على أن مكانها الطبيعي هو البيت، لكن رغم ما تنص عليه هذه الثقافة، فإن المرأة تسارع إلى العمل في حالة مرض الزوج أو عجزه عن إيجاد عمل، والأمر هنا يتوقف على أهمية رباط الزوجية، خصوصا بالنسبة للمرأة، ولقد أكد البحث الوطني حول القيم، حقيقة مفادها أنه على الرغم من انفتاح المغاربة على الحداثة، فإن غالبيتهم ما يزالون يولون أهمية قصوى لكل من التماسك بصفة عامة، ولرباط الزوجية بصفة خاصة. لكن هذا المعطى يختلف في علاقة الأب بالأبناء العاطلين غير المتزوجين، فقد سجل عدة حالات طرد فيها الأب ابنه الذي لا يعمل ولا يساعد في إعالة البيت، وهي حالات بدأت تظهر أكثر فأكثر في صفوف الأسر الفقيرة التي تحتاج لتظافر الجهود، لكي تتمكن من مواجهة قسوة الحياة الحضرية.
إن الإسهاب في محاولة رصد مكامن تغير الأسرة، إنما هو راجع لكونها مؤسسة المؤسسات … وعموما، صارت النزعة الفردية تطغى أكثر فأكثر على العلاقات الاجتماعية، واحتدت صرعات الجنس والأجيال في الأسرة… كما أن التغيرات الأسرية لازالت جارية وماضية في الاشتداد.
إن احتكاك السياق الأكاديري المتواصل بالثقافة الغربية عن طريق الاستعمار أولا، ثم عن طريق وسائل التواصل الإعلام في العقود القريبة الماضية، جعل المجتمع الأكاديري ينحو على نحو المجتمعات الغربية، متخذا من المادة خاصية من خصائصه الأساسية، دون الاعتبارات القيمية الأخرى.
لقد لاحظنا في سياقنا المدروس عدة ممارسات ترتبط بخاصية المادية و”الموضة” هذه، من خلال الاعتناء المفرط بالجسم والمظاهر الخارجية، وأول ملاحظة سجلناها في هذا الإطار، كثرة تردد الأفراد بمختلف أعمارهم وأجناسهم على محلات بيع الألبسة، لقد لاحظنا تردد بعض الأفراد على محلات بيع الألبسة بشكل أسبوعي، بل بشكل يومي أحيانا، مواكبة للجديد، ومن الأفراد من يقتني أكثر من قميص، وأكثر من سروال، وأكثر من حذاء كل مرة، ومنهم من ينفق على اللباس شهريا أكثر مما ينفقه على الغذاء، وهذا راجع إلى قاعدة تكاد تكون “عرفية”، وهي أن ما ترتديه في يوم ما لا يجب أن ترتديه في اليوم الموالي. إن الأمر هنا لا يتعلق بالحاجة إلى اللباس، أو بالأحرى الحاجة العقلانية إلى اللباس، بل يتعلق بالحاجة إلى الإخراج المشهدي المناسب، الذي تفرضه قواعد المجال العام، في الشارع والمدرسة والجامعة والسوق والمقهى والمطعم… إن مثل هذه الممارسات هي التي تجعل اللباس يصنف إلى لباس الثمانينيات ولباس التسعينيات .. بل إن التصنيف لم يعد يرتبط بالعقود بقدر ما أصبح يرتبط بالمواسم والسنوات، فتسمع في محادثات الناس مثلا “هذا لباس العام الماضي”… ومع مرور الأعوام تتقادم الألبسة، فارتداء ألبسة 2010 في 2016 مثلا، مدعاة للسخرية والتهكم من طرف الآخرين … وهو الأمر الذي لم يكن قديما، إذا كان اللباس يخضع لمنطق الحاجة، أما الآن فتكتظ الخزانات والرفوف بالملابس من شتى الأنواع والألوان…
هذا الذي قيل حول اللباس، ينطبق على مساحيق التجميل والعطور وما إلى ذلك. لقد لاحظنا أن قطاع بيع مساحيق التجميل والعطور … في كل من سوق الأحد بأكادير وسوق إنزكان، يعرف رواجا كبيرا طيلة أيام الأسبوع، عكس قطاع الخضر والفواكه الذي يعرف رواجا يوم الأحد في سوق أكادير ويم الثلاثاء في سوق إنزكان، لقد صار التجار يميلون إلى الاستثمار في مواد التجميل، لأنهم يدركون أن الحاجة إلى التجميل صارت توازي الحاجة إلى الغذاء، فجميع منتوجات التجميل تباع، بغض النظر عن أسماء الشركات المنتجة، أو الأضرار التي تلحقها بجسم الإنسان، فالناس يهرعون إلى اقتنائها واستعمالها رغم علمهم بأضرارها الجانبية، غير أن أعراف المجال العام المشهدي تفرض عليهم أن يكون في مستوى معين من الجمال، ذلك الجمال المعلوم الذي يتعدى الأفراد خصائصهم الجسدية المحلية في سعيهم ليكونوا مثل ذلك الغربي الأشقر الجميل.
لقد سألنا بعض الطلبة الذكور أثناء ملاحظتنا المنظمة عما إذا كانوا يستطيعون الذهاب إلى حصة دراسية في الجامعة، منتعلين أحدية بلاستيكية منزلية، فكانت إجابتهم جميعا لا، ثم سألنا بعض الطالبات عما إذا كن يستطعن ولوج المدرج الجامعي دون وضع تبرجهن، فكانت إجابات اغلبهن لا. إن مثل هذه الأجوبة تقطع الشك باليقين، على أن المجتمعات المعاصرة تقدس المظهر الخارجي، وترفعه إلى مرتبة أعلى أحيانا حتى من التحصيل العلمي.
حتى في الشوارع فقد أسس شوارع بأحياء مدينة أكادير اتفق الناس على مناداتها باسم “شارع شوفوني”، ونجد مثل هذه التسمية في الخيام وتيكوين وليراك وبعض المدن المتاخمة لأكادير، كالدشيرة وإنزكان وأيت ملول، هي شوارع أقيمت لاعتبارات اقتصادية، فهي “سويقات” بالعامية، أي أسواق صغيرة، ومع مرور الوقت، صارت مكانا يستعرض فيه الأشخاص مقوماتهم الجسدية، فالغالبية من الذين يذهبون إلى هذه الشوارع لا يذهبون للتبضع، وإنما لعرض إخراجاتهم الجسدية، بحثا عن التقدير السوسيولوجي.
ومن الممارسات التي أفرزتها خاصية المظاهر والمشهدية ، ظاهرة وضع مقوم الأسنان، الأمر هنا لا يتعلق بأشخاص لهم اعوجاج في أسنانهم، اضطر معه الطبيب إلى وصف مقوم أسنان لهم، بل الأمر يتعلق بأشخاص ذوي أسنان معتدلة يضعون مقوم أسنان لا تتعدى قيمته 200 درهم، هذا الأمر يمكن أن نفسره بسببين، أولا، القيمة الجمالية والرونق الخاص اللذان تضفيهما مقومات الأسنان هاته، والتي تتوفر بألوان حسب الاختيار. ثانيا، الحاجة إلى إظهار الانتماء الوهمي أو الفعلي لطبقة الأغنياء، فمقوم الأسنان الأصلي ” غير المزيف” تفوق قيمته المالية 4000 درهم، ولا يتمكن من وضعه غالبا إلى الميسورون، هذا ويبادر واضعوا هذه المقومات إلى فتح أفواههم كلما سنحت لهم الفرصة، لإظهارها للآخرين، ويفعلون الشيء ذاته عند التقاطهم الصور التي يعرضونها في مواقع التواصل الاجتماعي…
نفس الأمر ينطبق على الذكور الذين يدركون بدورهم أن الشارع تحكمه أعراف فرجوية، فيبادرون إلى التفنن في تسريحات الشعر، والى الإنخراط في الصالات الرياضية لكمال الأجسام إذ أنهم يولون أهمية كبيرة لامتلاك جسد رياضي مكتمل…
لقد أفضت هذه التحولات اللاعقلانية التي شهدها السياق المغربي عامة، والسياق الأكاديري خاصة، إلى ما يمكن أن نطلق عليه “الإقصاء المشهدي”، فالذين لا يتوفرون على مثل هذه الخصائص يفقدون بصمتهم في مجتمع المشهدية، الأمر الذي دخل على الخط فيما يخص معايير اختيار الزوج أو الزوجة…
ولم تسلم الأسماء والتسميات بدورها من رياح التغير التي جاءت بها خاصية التمدن التي اقتبسها المجتمع الأكاديري من الغرب، وقد كان الأكاديريون يقتبسون مجمل أسمائهم من الدين، فقد كان أغلب الأسماء تتعلق بالدين مثل محمد، عمر، نور الدين، عز الدين، حسن، الحسين، زيادة على بعض الأسماء المتعلقة بالتراث الأمازيغي، مثل، تودرت، تثريت، أيور… أما الآن، فصار الميول إلى أسماء تتميز بالجمال والروعة في النطق، فترى الأزواج الجدد يهرعون إلى تسمية مواليدهم بأسماء جديدة، اعتبارا لرنتها وجماليتها وليس اعتبارا لمضمونها، متأثرين أكثر بالأفلام التركية، فانتشرت أسماء من قبيل نور وناريمان وريان…
هذا وقد سجلنا معاناة بعض الأفراد من أسمائهم التي لا تتوفر على الرنة المطلوبة حسب المعايير الجديدة، كبوجمعة، رقية، اجميعة، والأمر هنا يقتصر على فئة الشباب والصغار، أما بالنسبة للكبار، فيبدو كما لو أن أفراد المجتمع يتفقون على أن مثل هذه الأسماء تلائم هذه الفئة… والغريب في الأمر، أن أقدس الأسماء التي كان يفضلها الآباء لمواليدهم خصوصا المواليد الأولين، تراجعت أهميتها، بل إن حامليها يحسون بثقلها وعدم فاعليتها الجمالية، الأمر هنا يتعلق باسم محمد نبي الإسلام (ص)، هذا الاستنتاج لم يكن عن طريق اعترافات شفهية لهؤلاء، وإنما لسلوكاتهم تجاه تسميتهم هذه، فإن سألت العديد ممن يحملون اسم محمد عن اسمهم، فإن أغلبهم سيجيب: [اسمي سيمو]، وكأنهم لا يرضون بهذه التسمية…
وبمثل هذه الأسباب كذلك، يمكن تفسير هيمنة اللغة العربية الدارجة في المجال العام المشهدي مقارنة باللغة الأمازيغية الأصلية، في أكادير والنواحي. لقد اختلط المهاجرون العرب القادمون من كل مكان بالأمازيغ سكان المدينة الأصليون، ومع مرور الوقت، أصبحت العربية الدارجة لغة المجال العام، وقد ساهم في هذا الأمر تنازل الأمازيغي عن لغته في حديثه مع العربي، لانهم يشعرون بنوع من الدونية عند حديثهم بالأمازيغية عندما تطغى اللكنة والنغمة الأمازيغية على حديثهم بالعربية الدارجة، فيكونون عرضة لتوصيفات من قبيل “كربوز”، أي الذي لا يفقه شيئا، ليس من طرف العرب فقط، بل من طرف أبناء جلدته الأمازيغ أيضا. إن مثل هذه الأمور، هي التي دفعت بالعديد من الباحثين إلى التنبؤ بموت الأمازيغية في غضون قرون…
ثالثا: تحول نظام القيم بالمجتمع الاكاديري.
لم يسلم نظام القيم بدوره من طوفان التغير الجارف. حيث كانت جل قيم المغاربة عامة والأكاديريين خاصة، تستمد أهم قيمهم من الحضارة الإسلامية العربية، ومن التراث الأمازيغي، ومن العادات والتقاليد والأعراف الجماعية والقبلية الخاصة بالبلاد، إن هذا النظام الذي ترسخ عبر الزمن، وتغذى باستمرار من الداخل، قد تأثر بإسهامات خارجية، خصوصا الاتصال مع الاستعمار، الذي خلخل الخزان التقليدي للقيم بالمغرب، ووضع على المحك نظام التمثلات والمرجعيات بدخول قيم جديدة مرتبطة بالعلاقات مع الزمن والمكان والفرد، وبالعلاقات الاجتماعية بصفة عامة.
فقد اتفق مستجوبونا على كون فترة الاستعمار كانت فترة حاسمة في مصير القيم التقليدية… قيم الحشمة والعار والعرض والاحترام، كان الناس يخافون من العار كثيرا، وكانت الحشمة قوية جدا، كما كان الناس يسهرون على كرامتهم وعرضهم، وكانت قيم الحياء والاحترام سائدة، كان أي رجل مسن يعتبر بمثابة أب، والأمر نفسه بالنسبة للمرأة التي ترفع إلى منزلة الأم. وإذا حضر الكبار يختفي الصغار من شدة الاحترام، وكانت قيم التضامن والتآخي والتعاون بين الجيران والعائلات، وكانت قيمة الطاعة قوية بدورها، فنجد الابناء والأحفاد لا يرفضون أوامر جدهم.
وخلال العقدين الأخيرين، فرضت العولمة، وتطور الإعلام على المجتمع المغربي قيما ومرجعيات جديدة أكثر كونية، فقد جعلت سيرورة العولمة المجتمع الأكاديري يستدمج قيما جديدة دخيلة عليه، غير أن تقرير الخمسينية انتبه إلى أن تحول نظام القيم، يتم عن طريق الترسب المعقد، وليس عن طريق القطيعة، ويمكن بهذا الصدد ملاحظة حركتين أساسيتين ومتوازيتين للتحول، تنص الحركة الأولى على المرجعية التقليدية التي تتأرجح بين القيم التقليدية المتراجعة، وغيرها التي تستمر في فرض نفسها، والتي توصف بكونها في طور التلاشي، وتهم هذه الأخيرة بصفة خاصة مجالي الأسرة والعلاقات بين الأشخاص، وقيم الهوية المغربية، ذلك أن الأسرة والزواج لا يزالان يحظيان بأهمية كبيرة… أما أن الطاعة من حيث كونها قيمة، ما تزال معمولا بها داخل العلاقة الأسرية، إلا أنها تختلف في أغلب الأحيان عن قيمة الاحترام، وبالنسبة لقيمة القانون (الحق)، فإنها تندرج ضمن المرجعية العصرية، أما القيم الأخرى المرتبطة بالهوية المغربية… والالتزام الجماعي، وبالعلاقة الاجتماعية، فإنها ما تزال راسخة، وهو ما يبين بأن قاعدة الهوية الوطنية ما تزال صلبة، أما القيم التقليدية التي تدخل في عداد الأخلاقيات بوجه خاص “النية” والكلمة والبركة (هبة الله)، فإنها تميل إلى التراجع، وتعكس هذه الحركة سير عالم القيم في طريق العقلنة. لقد كانت الكلمة تحكم علاقات الأفراد حتى في المعاملات التجارية بدون الحاجة إلى الاكتتاب، وكانت النية تغلب على قلوب الناس، وكان الناس يؤمنون بالبركة ويتميزون بالقناعة.
أما الحركة الثانية فتقترن بالقيم الجديدة التي تبرز في المجتمع المغربي، وتدخل ضمن مرجعية قيميه، إن هذه الحركة التي تعتبر نتيجة طبيعية للانفتاح وللتغيرات الاجتماعية التي عرفها المغرب، تخص أساسا الأنماط العصرية للتنظيم الاجتماعي والسياسي، وكذا مكانة الفرد بوصفه فاعلا مستقلا، وهكذا فإن بعض القيم، من قبيل حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين وحقوق الأطفال والمواطنة ودولة القانون والعدالة الاجتماعية والاستحقاق، تعتبر كلها اليوم قيما بارزة، تطبع علاقة المغاربة بالمجتمع وبالدولة، كما أن القيم المكرسة للفردانية تمثل بدورها جزءا من هذه القيم البارزة، حتى ولو ظلت محدودة نظرا للارتباط الذي لا يزال قويا بالمجموعة، وبأشكال التكتل الجماعي، وبالصعوبات الاجتماعية والاقتصادية.
إن مثل هذه التحولات ساهمت فيها إفرازات التمدن المعولمة، واطلاع الأكاديريين على أنماط عيش الغربيين وطرق سلوكهم وتفكيرهم واستعداداتهم، فزاد الوعي أكثر بقيم حقوق الإنسان وحقوق الطفل، واندثرت قيم الطاعة والتضامن والإخاء والنية والكرامة … وصارت العلاقات بين الأفراد في هذا السياق مطبوعة باالفردانية والنفعية والمصلحة، واختفى الوقار، وسادت العلاقات غير الشرعية.
رغم هذه الهزيمة القيمية التي يليها تكيف قيمي، فإن أفراد المجتمع الأكاديري من الأجيال السابقة، يبدون اعتزازهم بالقيم التقليدية، وحزنهم على اندثار بعضها، ومن جملة القيم التي يأسفون على اختفائها، قيمة العرض والعار اللتان كانتا توجهان السلوك وتفرضان الاحترام والتقدير والوقار بين أعضاء المجتمع، هاتان القيمتان لم يعد لهما تأثير في المجتمع الأكاديري المعاصر، ذلك أن المدينة تتميز بخاصية التسامح الاجتماعي، كما أن الذاكرة الاجتماعية فيها ضعيفة جدا، فلقد كان الفرد الذي يلحقه العار يغادر جماعته بأسرع ما يمكن، أما الآن، فمن تلحقه الفضيحة والعار، يخرج في اليوم الموالي بين أفراد جماعته غير آبه بأصابع الاتهام الموجهة إليه، وكأنه يعلم أنه ما هي إلا أيام معدودة حتى يتم نسيان أمر فضيحته…
رابعا: التغيرات السوسيو-قانونية.
لقد انخرط المغرب مع محيطه السياسي منذ عقود، ودخل في دائرة العلاقات الدولية، ووقع على العديد من المواثيق والاتفاقيات والمعاهدات الدولية، في مجالي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ومن جملة ذلك، الاتفاقيات الخاصة بمناهضة التمييز، كالاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والاتفاقيات الخاصة بمناهضة التمييز في التعليم…، ثم الاتفاقيات المتعلقة بحماية الطفل، مثل اتفاقية حقوق الطفل، والبروتوكول الاختياري لاتفاقية حقوق الطفل الخاص ببيع ودعارة الأطفال واستغلالهم في الصور الإباحية، ثم الاتفاقيات الخاصة بالمرأة، كالاتفاقية الدولية بشأن الحقوق السياسية للمرأة، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، زيادة على الاتفاقيات الخاصة بالأشخاص المعاقين، كاتفاقية حقوق ذوي الإعاقة، فضلا عن الاتفاقيات الخاصة بالرق والاتجار بالأشخاص، وتلك التي تخص المهاجرين واللاجئين.
وفي ظل هذه المعاهدات وقع نقاش حاد في المغرب بين رجال الفقه والقضاء حول أسبقية المعاهدة على القانون أو العكس عند التعارض، وهكذا نجد في فرنسا مثلا أسبقية المعاهدات الدولية المصادق عليها من طرف البرلمان على القوانين العادية الصادرة عن هذا الأخير بمقتضى المواد 53 إلى 55 من الدستور. ولم يوجد نص صريح في الدساتير المغربية حول أسبقية المعاهدات الدولية على التشريع العادي أو العكس، وأوضح الفصل 31 من الدستور المغربي لسنة 1996 المبدأ العام القاضي بإسناد صلاحية التوقيع والمصادقة على المعاهدات إلى الملك، ونص أيضا على أن المعاهدات التي تلزم مالية الدولة، لا يمكن المصادقة عليها إلا بعد الموافقة عليها بقانون، ولأول مرة يتم التنصيص صراحة في دستور 2011 على سمو الاتفاقيات الدولية على التشريعات الوطنية، وهكذا ورد في التصدير على “جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية، والعمل على ملائمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة”. وهكذا تسموا المواثيق الدولية كما صادق عليها المغرب.
لذلك نجد في تنقسم المصادر التي تحكم القاعدة القانونية (القانون) في المغرب، يأتي التشريع في المرتبة الأولى، والتشريع هو سن القواعد القانونية وإخراجها مكتوبة محددة بألفاظ معينة، بواسطة سلطة مختصة، تكون في الغالب هي السلطة التشريعية، ويأتي العرف في المرتبة الثانية، وقد تم تعريف العرف بأنه اعتياد الناس على نوع من السلوك مع الاعتقاد بأنه ملزم لهم في معاملاتهم، وأن مخالفته تستتبع توقيع الجزاء.وتتموقع مبادئ الشريعة والفقه الإسلامي في المرتبة الثالثة، فما معنى أن تكون الشريعة الإسلامية إذن في المرتبة الثالثة من حيث مصادر التشريع (إصدار القوانين)؟
لقد كانت المعاملات بين المغاربة المسلمين منذ الفتح الإسلامي خاضعة للفقه الإسلامي إلى عهد الحماية، حيث تراجع دوره لفائدة قانون الامتيازات الذي فرضته الحماية لفائدة الأجانب، إلى جانب قانون الالتزامات والعقود (1931) الذي تم تمديد العمل به بعد الاستقلال ليحكم مجال العقود والالتزامات وفي مجال الأحوال الشخصية، أي كل ما يتعلق بأحوال الشخص من اسم وأهلية ونيابة شرعية وزواج وطلاق وميراث وغيرها، غير ان الواقع نلاحظ فيه مجموعة من الملاحظات، يمكن اجمالها في مايلي:
فرغم أن قانون الالتزامات والعقود يحرم الفائدة بين المسلمين، نجد القوانين الخاصة تبيح العمل بنظام الفائدة، أي الربا في النظام الإسلامي، ونجد هذا خاصة في قانون مؤسسات الاحتمال والهيئات المعتبرة حكما ( ق12/103)، ومدونة التجارة التي تقول بجواز اشتراط الفائدة في الكمبيالة.
رغم أن قانون الالتزامات والعقود النص الديني صريحين في تحريم التعامل في الخمر بين المسلمين، نجد القانون الجنائي يحرم السكر العلني فقط، ولا يجرم السكر أو شرب الخمر، بل نجد وقطاع الخمر منظم بظهير شريف، يعد من الظهائر القليلة التي لا تحمل ختم الملك، حيث يفوض توقيعها لرئيس الحكومة، لذلك نجد في المتاجر الكبرى كماكرو وكارفور يتعاملون بانواع مختلفة من الخمور بحرية تامة دون مداهمات.
ونجد كذلك القانون الجنائي ينص على أن الدعوى القضائية في حالة خيانة زوجية لا تقوم إلا إذا حركها الطرف الاخر، ومثل هذه القوانين تناقض النص القرآني الصريح إذ يقول عز وجل ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة, ولا تأخدكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون).
فماذا تعني شرعنة الربا والخمر والزنا، وبالتالي تجاهل النصوص الشرعية في ذلك؟ هذا تساؤل ينضاف إلى التساؤلات الأخرى التي تركناها مفتوحة بلا إجابة إلى حد هذه السطور، هل يكون جواب كل تلك الأسئلة أن دولة المغرب دولة علمانية؟
نص الدستور المغربي، بان الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد ممارسة شؤونه الدينية، لكن عندما نقول أن الشريعة الإسلامية مصدر ثالث من مصادر القانون في المغرب، وعندما نقول أن القانون الدولي يسمو على التشريع الوطني، وعندما نقول أن القانون المغربي ينظم الربا والخمر والزنا بغير ما أنزل الله من نصوص قرآنية صريحة، وعندما نقول أن التشريع مناط بالملك والشعب في ظل الديمقراطية التمثيلية…
فإن كل هذا يعني أن المغرب دولة علمانية في الممارسة والتطبيق، دولة تفصل الدين عن الدولة والحياة الاجتماعية إلا في بعض الاستثناءات، فلقد فرضت الاتفاقيات الدولية على المغرب إدخال منظومة قوانين خارجة عن الدين، وهذه الاتفاقيات هي بالأساس مسوغة من طرف دول فصلت دينها عن دنياها، والأمر على هذا النحو من إفرازات سيرورة العولمة “القسرية”.
فتبعية المغرب الاقتصادية والتكنولوجية للغرب تتخذ كورقة رابحة للضغط عليه من أجل أن يوافق على المعاهدات والمواثيق الدولية، ثم إن التبعية الاقتصادية تليها تبعية سياسية وثقافية، فمجمل القوانين المستدمجة هي قوانين تضرب في العمق القيم المحلية المستمدة في غالبيتها من الدين الإسلامي، فلقد تكرست شعارات حقوق الإنسان والحريات الفردية وحقوق المرأة وما إلى ذلك، فبدأ القانون المغربي عموما يتجه نحو هيكلة وتضمين المساواة والحرية الجنسية وغيرها من القضايا التي تجد نقائض لها في الشريعة.
وعلى هذا الأساس فإن التغيرات القانونية هي فاعل أساسي في دفع عجلة التغير الاجتماعي، وهو ما حدا بنا إلى الحديث عن التغيرات السوسيوقانونية في هذا المحور، وهو ما رأيناه في كل الأمثلة التي استدللنا بها، فالعديد من الممارسات المتعلقة بالقوانين التي ترعى الربا والخمر والزنا وغيرها لم تكن في السابق، لأنها كانت مضبوطة بحدود شرعية قاسية جدا، وبما أن ما تعيشه المنظومة القانونية المغربية من تغيرات لا يمكن قراءته خارج العولمة، عولمة القانون، فإن هذا الأخير سيؤدي لا محالة إلى مزيد من التغيرات الاجتماعية المكفولة به، والتي ستكون مطبوعة بخاتم الغرب، فقد بدأ المغرب ينزع نحو المساواة بين الجنسين، وهذا يبدو جليا في تعريف المشرع للزواج في مدونة الأسرة، فلقد جاء في مدونة الأسرة على أن الزواج ميثاق تراضي وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة برعاية الزوجين، وعبارة “برعاية الزوجين” هذه هي في مقابل برعاية الزوج في مدونة الأحوال الشخصية التي انتهى العمل بها مع إصدار مدونة الأسرة سنة 2003. إنه من السابق لأوانه الحديث عن المساواة بين الرجل والمرأة في المغرب، إلا أن مثل التعاريف والقوانين توحي بنزوع المشرع المغربي شيئا فشيئا نحو نقائض الشريعة الإسلامي.
إضافة إلى هذا، فقد رفع القانون المغربي كما قلنا سابقا شعار حقوق الإنسان، وأبرز هذه القوانين التي يكفلها القانون، حق الحياة، والحديث هنا عن ضمان حق الحياة للقاتل الذي يعاقب بالسجن لسنوات، في حين أن النص القرآني يقر بالحد وهو عكس ما دعا اليه القانون المغربي.
إذا كانت الأمور على هذا الشكل، فلماذا لا يعلن المغرب في إحدى مواد دستوره، أن الدولة تقوم على وضعية القوانين، وأنها تغيب الدين في ميدان التشريع؟ ليختفي بالتالي ذلك التناقض بين المادة 3 من الدستور والواقع التشريعي للمملكة. وبصريح العبارة، لما لا تعلن دولة المغرب أنها دولة علمانية؟ فيحسم بالتالي الجدل القائم بهذا الشأن, كما فعلت قبله دول عربية “إسلامية” مثل تونس؟
والجواب واضح، وهو ان واقع النظام الملكي المغربي ذا مشروعية تقليدية دينية، نسبة إلى آل البيت، وإذا كانت مؤسسة “إمارة المؤمنين” بالمغرب مصدرا للمشروعية، كما كان عليه الحال في تاريخ الأسرة العلوية، فهي اليوم بمثابة المؤسسة الضامنة للوحدة الشعائرية للمغاربة، وهي بذلك تعمل لحل إشكالية العلاقة بين السياسي والديني. هذه الإشكالية لن تحل فينظرنا بإعلان فصل الدين عن الدولة، فالنظام الملكي لن يتخلى في دستوره عن ذلك المحدد الذي قامت عليه مشروعيته، فلم تختلف دساتير المملكة المغربية المتعاقبة منذ الاستقلال في النص على إسلامية الدولة، رغم أن التشريع شرع في الكف عن الاستمداد من الشريعة الإسلامية تدريجيا ومنذ عقود، كان الاختلاف فقط في رقم المادة التي تحدد دين الدولة في الدستور، وخلاصة القول إذن، أن فرضية كون المغرب متجها نحو إعلان نفسه دولة علمانية، ليست قائمة على المدى القريب أو المتوسط على الأقل…
هذه الخلاصة تدعمها آراء ومواقف الشارع المغربي، فقد استطلعنا رأي عينة من الطلبة حول موقفهم من هذا الأمر، هل يؤيدون قيام نموذج دولة علمانية بالمغرب أم لا؟ وكانت النتائج على الشكل التالي:
1- السؤال: هل سبق أن كان لك اتصال جسدي مع الجنس الآخر خارج إطار الزوجية؟ فكانت الاجابة على النحو التالي (عدد المستجوبين 50 طالب من كل شعبة):
- من طرف طلبة وطالبات الشريعة والدراسات الاسلامية،: “نعم” من طرف 40 طالب، و”لا” من 10 طلبة.
- من طرف طلبة وطالبات علم الاجتماع : “نعم” من طرف 49، و”لا” من طرف طالب واحد.
- من طرف طلبة وطالبات شعبة اللغات والاداب: “نعم” من طرف 47 طالب، و “لا” من طرف 3 طلبة.
2- السؤال: هل سبق لك أن دخنت أو شربت الخمر أو تناولت مهلوسات؟ فكانت الاجابة على النحو التالي (عدد المستجوبين 50 طالب من كل شعبة):
- من طرف طلبة وطالبات الشريعة والدراسات الاسلامية،: “نعم” من طرف 17طالب، و”لا” من 33 طلبة.
- من طرف طلبة وطالبات علم الاجتماع : “نعم” من طرف 30، و”لا” من طرف 20 طالب.
- من طرف طلبة وطالبات شعبة اللغات والاداب: “نعم” من طرف 32 طالب، و “لا” من طرف 18 طالب.
3- السؤال: هل سبق لك أن أجريت معاملات مالية عن طريق البنوك؟ فكانت الاجابة على النحو التالي (عدد المستجوبين 50 طالب من كل شعبة):
- من طرف طلبة وطالبات الشريعة والدراسات الاسلامية،: “نعم” من طرف 47 طالب، و”لا” من 3 طلبة.
- من طرف طلبة وطالبات علم الاجتماع : “نعم” من طرف 47، و”لا” من طرف 3 طلبة.
- من طرف طلبة وطالبات شعبة اللغات والاداب: “نعم” من طرف 49 طالب، و “لا” من طرف طالب واحد.
4- السؤال: هل أنت مع قيام نموذج دولة علمانية بالمغرب؟ فكانت الاجابة على النحو التالي (عدد المستجوبين 50 طالب من كل شعبة):
- من طرف طلبة وطالبات الشريعة والدراسات الاسلامية،: “نعم” من طرف 00 طالب، و”لا” من 50 طالب.
- من طرف طلبة وطالبات علم الاجتماع : “نعم” من طرف 9 طلبة، و”لا” من طرف 41 طالب.
- من طرف طلبة وطالبات شعبة اللغات والاداب: “نعم” من طرف طالب واحد، و “لا” من طرف 49 طالب.
يبدي أكثر من 90% من المبحوثين مرونة في التعامل مع ما تحرمه الشريعة من ممارسات، مثل الاتصال الجنسي، أي الزنا بالمفهوم الإسلامي، وشرب الخمر وتناول المهلوسات، والتعامل مع المؤسسات التي تعمل بنظام الفائدة، أي الربا في المفهوم الإسلامي، وفي المقابل يبدي 93% منهم رفضهم المطلق لقيام نموذج دولة علمانية، وقد برر 97% من الرافضين إجابتهم بالقول: “لأننا مسلمون”، أما الفئة التي قالت نعم لقيام دولة علمانية، والتي تمثل 7%، فعللت موقفها بالقول : “لأننا دولة علمانية في التطبيق ولا عيب في إعلان ذلك في الدستور”.
إن هذه الأرقام تدل عن تناقض رؤى الأفراد مع ممارستهم، فالأغلبية الساحقة منهم ترفض التشريع بغير ما انزل الله، وفي المقابل تصطف ذات الأغلبية لتبيح لنفسها ما حرم الله. إن الأمر هاهنا يتعلق بصدمة التفكير في تبني العلمانية والابتعاد عن شريعة الله، غير أن هذه الصدمة تغيب عن الممارسة العملية لهذه العلمانية، وهو الأمر الذي تشترك فيه الدولة و”رعاياها”، فالدولة متيقنة تمام اليقين أن فصل الإسلام عن الدولة سيثير ثائرة الناس وسخطهم، لكنها تعلم في نفس الوقت أنهم منجذبون إلى النماذج السلوكية والقيمية والفكرية والثقافية الغربية، لذلك فهي تؤطر انجذابهم هذا بقوانين تهيكل عملية التغير الاجتماعي على كافة مستوياته، لذلك نجد الأفراد بدورهم لا يكترثون لما يقع من تغيرات على مستوى المنظومة القانونية، وحتى كل تلك الحركات الأصولية والمحافظة التي انتبهت إلى خطورة الوضع على الموروثات الثقافية، فإنها تفتقد إلى ذلك الدعم الشعبي الذي من شأنه أن يقوي مواقفها ويدعم صفوفها.
إن الوضع على هذا الشكل بمثابة اتفاق واع بين الدولة والمواطنين. وعليه، فإن موقفنا يتعزز بهذا الطرح، فرغم التسارع الذي يشهده تحول المنظومة السوسيوقانونية، فإن مقولة قيام دولة علمانية بالمغرب رسميا مستبعد، غير أنه وجب القول أن المغرب ماض نحو مزيد من الليبرالية، إن لم نقل نحو ليبرالية كاملة، ورغم أن الليبرالية هي الأرضية التي تقوم عليها العلمانية، إلا أن هذا هو التناقض الذي سيميز الدولة والشعب المغربيين على السواء، في العقود أو القرون القادمة.
موقف المجتمع المغربي من هذه التغيرات
لقد شهد المجتمع المغربي عموما والمجتمع الأكاديري خاصة، عدة تغيرات على كافة مستوياته، فرضتها العولمة، عولمة ثقافة الغرب. ولقد قلنا سابقا أنه لم يعد بالإمكان الحديث عن آليات المقاومة، بل عن آليات القبول، وذلك لما تمارسه الثقافة الغربية من جاذبية كبيرة على الأفراد والجماعات… لكن الأمر لا يتوقف عند تراجع المقاومة الثقافية، بل يتعداه إلى التبرير لما يختبره المجتمع من تغيرات، وهذا التبرير يجد له مكانا في المتخيل الديني للأفراد، وفي تمتلاثهم وحسهم المشترك أيضا.
لقد سجلنا أثناء ملاحظتنا المنظمة, أن ما يلحق المجتمع من تغيرات يعد موضوعا أساسيا في محادثات الناس، إن الأغلبية الساحقة من الأفراد يجدون تبريرا لهذا الأمر في الدين والمتخيل الديني، بينما تعطى قلة قليلة تفسيرات متعلقة بأسباب اقتصادية وسياسية وعسكرية. غير أن الجميع يشترك في إرجاع التغيرات إلى نظرية المؤامرة، فيحملون مسؤولية ما يقع للغرب الذي يسعى إلى فصل الدول عن هوياتها وقومياتها، ولا يحملونها لأنفسهم، ولا يتحدثون عن المقاومة الثقافية المفروض أن يواجهوا بها الثقافة الغربية، إنهم يلعبون دور الضحية وليس دور المسؤول.
يؤمن الناس بأن ما يقع هو تجسيد لقوله تعالى (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)، وقوله صلى الله عليه وسلم [ كان الإسلام غريبا وسيعود كما كان غريبا]، فهذين النصين الدينين يؤطران التمثلات السوسيولوجية حول التغيرات التي تطال المجتمع، إذ يجمع العامة على أن ما يحدث هو تحقيق لنبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم، إن هذا الإجماع يجعلهم يتعايشون مع الوضع، بل إن المتخيل الديني للكثير منهم يزودهم بأفكار يكادون يرفعونها إلى منزلة الحقيقة المطلقة، ومن جملة ذلك أن الناس في هذا الزمان الذي كثرت فيه الشهوات والمفاسد، سيحاسبون حسابا أيسر من الذين عاشوا في عهد الرسول مثلا، مثل هذه الأفكار التي تخاطب الوعي واللاوعي، هي التي تدفع إلى القبول السلس للنماذج الثقافية الغربية دونما مقاومة، فالمتخيل الديني إذن يؤطر تمثلات العامة في هذا الإطار.
والأمر لا يتوقف هنا، بل إن النخب المثقفة بدورها تنحوا على هذا النحو، على درب الدكتور طه حسين – في مرحلة انبهاره بالنموذج الغربي – عندما قال عن هذا النموذج إنه طريق التقدم والتحضرالفد, الذي لا تعدد فيه، وأننا يجب أن نسير فيه ونأخذه بحلوه ومره، على هذا الدرب من دروب الهزيمة النفسية، والإحساس بالخجل من ثقافتنا العربية الإسلامية، والدونية إزاء الثقافة الغربية، والعجز عن مقاومة غزوها لبلادنا… يسير نفر من “مثقفينا” إزاء العولمة، داعين إلى التسليم بها، والى الاندماج فيها، باعتبار ذلك قضاء وقدرا، فهي في نظرهم طوفان جارف، أو على الأقل، قطار إما الركوب فيه أو الضياع.