مقالات

عُنف السُلطة واستلاب النُخبة

بقلم : رعد تغوج

 

يروي البلاذريّ في “أنساب الأشراف” قصة حلف الفضول الذي أُبرمَ بينَ أشراف مكة، حيثُ تذكرُ المصادر ومنها  “مُنمق” ابن حبيب و”مروج” المسعوديّ، أنَّ السبب المُباشر لابرامه هو تعرض تاجر من الوافدين إلى مكة لمظلمة تمثلت في رفض تاجر من بني سهم دفع ثمن البضاعة التي اشتراها منه، وتروي المصادر الإحتجاج التشهيريّ الذي قام به التاجر، والذي أخذ صيغة الإضراب و”البروباغندا”، حيث وقفَ يتلو الشعرَ بين أشراف مكة، ويُعيّر التاجر بفعلتهِ، ما دفع أشراف مكة لعقد تحالف بينهم.

نصَّ التحالفُ في صيغتهِ المذكروة في كتب التراث على “أن لا يجدوا بمكة مظلوماً إلا نصروه ورفدوه وأعانوه حتى يُؤدى إليه حقه وينصفه ظالمه من مظلمته”. هذا التحالف وتلك الصيغة التي أصبحتْ موضوعاً للغناء عندَ مُنظريّ استزراع الجذور التاريخيّة للمواثيق والإتفاقيات الدوليّة في التراث العربيّ والإسلاميّ، وبضربٍ من المُغالطة التاريخانيّة التي لا تأخذُ بالحسبان كيانات ما قبل الدولة الذي كانتهُ مكةَ عصرئذٍ، بيدَّ أنَّ تلك المرويات حولَ  التحالفات تُشيرُ إلى تموضع “التحكيم” أو “الاعتماد على طرف ثالث” في البُنى العقلية لعرب الجاهليّة وصدر الإسلام.

وقد لاحظ “يوسف شلحت” في كتابه “بنى المُقدس عند العرب” ذلك الدور الوظيفيّ للظاهرة الاجتماعيّة القائمة على التصارع بين عدة أطراف، حيثُ يعتمدُ العربُ في خلافاتهم على طرف ثالث يُسمى “الحَكم” ومنه لفظة “الحاكم” و”الحكيم”، وفي هذا السياق يُمكن مُلاحظة هذه البٌنى التي تطورت إلى قانون منذ المرويات الأولى التي تروي – مثلاً – قصة امرؤ القيس واستنجاده بملك الروم لقتال بني أسد، مروراً بالسجلات التي دونت أسماء “الحكام” أو “الوسطاء” في الزمن العباسي وبعده، ووصولاً إلى الصيغة الأكثر تطوراً من هذه البنى، والتي يُمكن رصدها من بعض الأخبار العربيّة مثل : الطلب من الناتو التدخل العسكريّ في سوريا، أو رسالة مُوقعة من نخب محلية تطلب من الولايات المُتحدة التدخل العسكريّ في اليمن!!

وعلى مُستوى النزاع داخل الدول، فإنّ التحكيم يأخذُ صفة الارتجالية والآنيّة معاً، ولم تنتقل الدول العربيّة إلى مستوى “التقاضي” الذي هو مرحلة مُتقدمة من التحكيم، فقد لاحظتْ “لطيفة البكاي” في كتابها “من التحيكم إلى التقاضي” أنَّ التحكيم هو الصيغة الأُولانيّة والبدائية للنزاعات القبليّة والعشائريّة، فلم يحل القاضي بمفهومه المُستقل مكان “الحكم”، ويُمكن النظر إلى مؤشرات القانون والعدالة وارتباطها بالنزاعات القبلية في الوطن العربيّ، ورصد الأنساق الثقافيّة والبُنى السلوكيّة لتداخل السياسيّ بالقضائي، مثل توقيف الكتاب والمُفكريّن بناءاً على أمر سياسيّ طُبخَ في الأروقة الأمَنية لا في الغرف القضائية المُستقلة.

إنَّ فلسفة القانون تقومُ – انطيولوجياً – مقام الدَولة بمفومها الشامل، لهذا من الطبيعيّ أن تكون هنالك جماعات ضغط ومصلحة ولوبيات تُمارسُ نفوذها في وجه القضاء، فلا معنى للشعار الذي يقولُ باستقلال القضاء إلا كمن يطالب باستقلال الاقتصاد أو الدولة. هذا الدَور لم تعرفه النخب وتستجيب لهُ في تفاعلها مع السلطة القضائية.

ما زالت السلطة في الوطن العربيّ ترسمُ حدود القضاء، وكما لاحظ “ميشيل فوكو” فإن العقاب يسبق الجريمة في علاقة تواطؤيّة بين النُخب والسلطة، وفي ظل “ثالوث مُدنس” يجعلُ الحُريّة رقماً صعباً ونقطة حرجة في وجه المُثقفين والكتاب، هذا الثالوث هو : “التجريم، التحريم، التأثيم”.

حيثُ يُشير التجريم إلى القوانين المُتناقضة بُنيوياً التي تنتظر النخب وتُجرمها، أما التحريم فهو ما تُمارسه السلطة الدينيّة من نفوذ، والتأثيم ما يتعلقُ بتوجه المُجتمع ونظرته للنُخب “المُنشقة”.

تأتي هذه الإستلابات للنخب العربية (التجريم، التحريم، التأثيم) وسط غياب التحكيم وأفول العقلانية التنويرية في الخطاب العربيّ الرسميّ، مع اندياح موجة التسلط والتطرف والعُنف المشروع الذي تحتكره السلطة الرسميّة في الدول العربيّة.

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى