المعنى والجدوى من الممارسة السياسية
بقلم : ريناس بنافي – باحث في الفكر السياسي والاستراتيجي – لندن
- المركز الديمقراطي العربي
السياسة في المستوى التأسيسي – يركز أنريكي دوسيل على الشروط العقلانية لأي ممارسة سياسة مفصلاً إياها في الشروط التالية [1]:
الشروط الأساس الضرورية التي تقوم عليها أي ممارسة سياسية عقلانية:
1- لابد ان تكون الممارسة السياسية ممارسة حديثة بأدوات العصر الذي نعيشه فلا يمكن في الوقت الحاضر ان نمارس السياسة بأدوات قديمة عفي عنها الزمن لان الممارسة السياسية العقلانية نقيض الخصوصية داخل دولة الامة فيجب ان تعبر عن مصالح الجميع وما يصلح للجميع.
وعلى اي ممارسة سياسية كي تكون شرعية ومشروعة لابد من وجود شرط انتاج وتنمية الحياة الإنسانية للوصول الى ما هو أفضل وهذا الشرط هو ما يعطي اي سلطة شرعية البقاء في الحكم والعكس فان اي سلطة لا تقوم بواجبها اتجاه المجتمع او تقصر في عملها من خلال فساد نخبها او مؤسساتها يكون من حق الشعب الخروج عليها وتغيرها بحكومة اخرى تقوم بالواجب على أحسن ما يرام.
فمن الضروري احداث تنمية سياسية واتخاذ اجراءات لازمة من خلال تفعيل الحياة السياسية بمشاركة الاحزاب والمنظمات الاهلية لدورها الاساسي في احداث هذه التنمية وانعكاسها على المجتمع.
ولعل من أهم اسباب الإخفاق في المشروع التنموي، هو عزلة الدولة عن المجتمع وبالتي عدم فسح المجال للفاعليين الاجتماعيين والقوى الحية التي تعبر عن نبض المجتمع، للمشاركة في تحمل المسؤولية. فلا يمكن بناء نهضة او تنمية من دون بناء الحقل السياسي.
ومن الصعب الحديث عن السياسة او ممارستها بشكل سليم داخل مجتمعات عصية وممتنعة للأشكال الحديثة التي نراها في الدول المتقدمة.
حين يقودنا التأمل إلى القول بأن البشر بدون مساعدة بعضهم، أو بدون الاعتماد على العقل، تؤول أكثر حاجاتهم إلى بؤس بالغ. يجب علينا أن نفهم بوضوح أن البشر ملزمون بالضرورة على العيش مع بعضهم بأكثر ما يستطيعون تحقيقه من أمان ورفاه، حتى يتمتعوا كجماعة بالحقوق التي استحقوها ابتداء كأفراد [2].
وهنا نجد أن العقل يعمل باعتباره الوسيط الذي يحفظ الحياة الآمنة والمسالمة، فلا يوجد أحد لا يريد أن يحيى بأمان بعيداً عن الخوف، وهذا لا يمكن تحقيقه إذا عاش كل فرد وفق هواه الخاص. وتقوم الحجة على الحاجة للخروج من حالة الفوضى الطبيعية (المحكومة بالميول والرغبات، وهي طبيعتنا الحيوانية) من أجل العبور نحو حالة الانتظام بالمعنى المدني والسياسي، والتي تمكّن عقلانياً من حفظ الحياة البشرية.
إن واجب العقلانية السياسية، باعتبارها عقلانية عملية، هي التفكير في إنتاج وإعادة إنتاج وتنمية الحياة الإنسانية في المجتمع.
وإن نوع الممارسات الجارية والتي لها علاقة بالعقل السياسي ليست إلا تجليات جزئية ومتشظية للثقافة السياسية التي يحملها شعب ما او نخبة ما وهي تعبير للحقيقة السياسية التي هم عليها. نتحدث هنا عن الواجب السياسي المتعلق بإنتاج وإعادة إنتاج وتنمية الحياة الإنسانية وعن واجب حفظ المجال الحيوي الطبيعي كشرط لإمكانيته. هو القيام بهذا الواجب الأساسي لأي سياسة ممكنة. ومرجع ذلك هو أن المواطن ظاهرة سياسية حية، وظاهرة ذاتية مدفوعة بالحاجة، وهو فاعل ومنفعل يحمل الحياة وتحمله كشحنة داخلية دافعة (دافعة له ذاتياً).
إن إعادة انتاج الحياة الإنسانية من خلال الممارسة السياسية هي الاعتبار الأقصى للحياة والحرية الإنسانية فالإنسان الميت، أو الإنسان المهدد بالموت هو إنسان فاقد لحريته، بغض النّظر عن السياق الاجتماعي الذي يتواجد فيه.
التنمية السياسية هي عملية متصلة تتكون من مجموعة من التبدلات والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتقنية والتي تشارك في فعلها عبر تغذية عكسية متبادلة، تعمل على تطوير قدرات الاقتصاد والمجتمع وتوفير الطاقات البشرية والموارد المادية والمالية لتعزيز وترشيد الإنتاج الاقتصادي، مما يسمح بالتالي بتوقير مستوى لائق من العيش للمواطنين في إطار من الأمن بشكل مطرد أو متصل، التنمية من خلال هذا التعريف لم تقتصر على زيادة الدخل الفردي الحقيقي ورفع مستوى الرفاهية الاجتماعية للشعب وتقليل التفاوت الطبقي، وإنما أصبحت تعني التغيير الحضاري الذي يشمل مختلف نواحي الحياة المادية والمعنوية، أي إن مفهوم التنمية لم يعد يقتصر على البعد الاقتصادي فقط، بل أضحى يتضمن أبعاداً أخرى اجتماعية وسياسية وثقافية، أي إنها عملية تغيير شاملة تستهدف القضاء على كل أنواع التخلف الاقتصادي والاجتماعي، وذلك بتحسين المستوى المعاشي للشعب والقضاء على تخلفهُ واستغلاله، التنمية بذلك عملية ذات نظرة شمولية لكل عناصر البنية الاجتماعية، حيث تأخذ بالحسبان إن الإنسان هو غاية التنمية ووسيلتها، وإقامة مجتمع ديمقراطي موحد، ومن هنا يمكن القول بأن التنمية هي: عملية تغيير مستمرة ومتصاعدة وموجهة لتحقيق احتياجات المجتمع المادية وغير المادية.
فالتنمية عملية حضارية مدروسة ومخططة تهدف إلى إيجاد تحولات كبيرة، في القطاع الاقتصادي – الزراعي – الصناعي – الاجتماعي- والخدمي، وكذلك في الإطار السياسي، وبعبارة أخرى إن التنمية تهدف إلى نقل المجتمع من حالة التخلف إلى حالة التقدم في جميع مجالات الحياة وتحقيق العيش السعيد للمواطنين، وتطوير الإنسان، وإنقاذه من حالة التخلف إلى حالة يمكن إن يساهم في عمليات البناء الشامل للمجتمع، وهذا الأمر بحاجة إلى وجود بلد مستقل ومحقق للوحدة الوطنية، وخالي من موضوع المشاكل العرقية والهويات الفرعية، ومتمتعة بقدر كافي من الاستقرار السياسي، إذ لا وجود للتنمية في ظل مجتمع تعاني وحدتهُ الوطنية من المشاكل وكثرة الانقلابات العسكرية التي يقوم بها أبناء الشعب ضد النظام القائم، وفي مقابل ذلك ما يقوم به النظام ضد أبناء الشعب في فرض القوانين الخاصة بمنع الحريات. واهم مقومات التنمية السياسية هي: المشاركة السياسية والتعددية السياسية وحماية واحترام حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة [3].
2- الشرط الاخر الذي تكتسب فيه السياسة والممارسة سياسة شرعيتها من المشاركة المتساوية لجميع المعنيين والمتأثرين بالقرار السياسي في مجتمع تواصلي معين.
تؤدي حقوق المشاركة السياسية والعامة دوراً حاسماً في تعزيز الحكم الديمقراطي وسيادة القانون والإدماج الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، وكذا في النهوض بجميع حقوق الإنسان. ويمثل الحق في المشاركة المباشرة وغير المباشرة في الحياة السياسية والعامة عنصراً مهماً في تمكين الأفراد والجماعات وأحد العناصر الرئيسية للنُهج القائمة على حقوق الإنسان الرامية إلى القضاء على التهميش والتمييز. وترتبط حقوق المشاركة ارتباطاً وثيقاً بحقوق الإنسان الأخرى مثل الحق في التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، وحرية التعبير والرأي، والحق في التعليم والحق في الحصول على المعلومات.
وتواجه المشاركة السياسية والعامة على قدم المساواة عراقيل في سياقات عديدة. وقد تشمل هذه العراقيل التمييز المباشر وغير المباشر على أسس مثل العرق، أو اللون، أو النسب، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي أو غير السياسي، أو الأصل القومي أو الاثني أو الاجتماعي، أو الملكية، أو المولد، أو الإعاقة، أو الجنسية، أو أي وضع آخر. وحتى في حالة عدم وجود تمييز رسمي فيما يتعلق بالمشاركة السياسية أو العامة، فإن عدم المساواة في الوصول إلى حقوق الإنسان الأخرى قد يعوق الممارسة الفعلية لحقوق المشاركة السياسية.
الحرية باعتبارها حالة طبيعية، فهي ليست حالة انحلال، ولا حق لأحد في التدخل في حرية المرء، ولا تكون الحرية إلا سبيل لحاجة اساسيةً من حاجات حفظه الذات. فالحالة الطبيعية خاضعة حكماً لقانون طبيعي ملزم للجميع. والعقل، الذي هو ذلك القانون ذاته، يوجه جميع البشر، الذين يرجعون إليه، فكون الجميع متساوون ومستقلون يوجب عليهم ألا يضر أحد في حياته أو صحته أو حريته أو ممتلكاته وحيث أن كل فرد مجبول على حفظ نفسه، فهو مجبور على حفظ بقية الإنسانية [4].
ويوضح لوك أننا في الحالة الطبيعية نعجز عن القيام وحدنا بتأمين حاجاتنا الأساسية للعيش بما يوافق كرامتنا الإنسانية. فنجد أن العقل الطبيعي يعلمنا أن البشر بمجرد بولادتهم ينالون حق الدفاع والحفاظ على وجودهم، وذلك يتضمن الأكل والشرب والنشاطات الأخرى التي تؤمن النجاة. ولكن في المقام الثاني، فإن الحياة على الكوكب لا تكون ممكنة أو نافعة إلا عبر الجهد البشري لجعلها كذلك. هنا نجد أن حجة لوك تعتمد دائما على الحياة الإنسانية.
3- الشرط الثالث الذي يحدد الممارسة السياسية في حيز الممكنات الواقعية.
يتطلّب العمل السياسي القيام بدراسة الاحداث والظواهر دراسة موضوعية حيادية تبتعد كل البعد عن التحيّز والتعصّب والأفكار الشخصية والذاتية. والملاحظ للحقل السياسي اليوم يجد ان غالبية من تصدو للعمل السياسي لا يعيرون شأناً واهتماما بالمعرفة السياسية، ما يشكّل معضلة أمام الفاعل السياسي وامام الواقع السياسي.
فالعمل السياسي هو العمل الجماعي داخل المجتمع والتي تدور في فلكها السياسة. فمن الضروري رصد المشاكل واكتساب المعرفة في طرق حلها، وحسن الدراية في ادارتها، وإتقان الوسائل التي تساعد في ممارسة السياسة وتجنب الأسباب المؤدية إلى الأزمات والصراعات، ونشر الوئام بين الناس، والعمل على الاستفادة من خبرات الاخرين، والتخطيط لمستقبل أفضل، والعمل على التغيير الدائم.
ان واقعنا السياسي لم يتجذر رغم الممارسة الحزبية مما يبين ان هناك فقر في البنية التحتية للحياة السياسية في مجتمعاتنا حيث لم تستغل الامكانات والطاقات في انجاح الحياة السياسية منذ السماح بتأسيس وانشاء الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني وبدل ان نشهد تقدما في الحياة السياسية نشهد اليوم تراجعا غير مبرر، البعض يضع اللوم على الحكومات والبعض يضعه على احزاب المعارضة واخرون يرون ان انعدام الفضاء السياسي يعود الى ان مجتمعاتنا تقليدية متأثرة بالثقافة القبلية والبدوية فهي مجتمعات عصية وممتنعة للأشكال الحديثة في العمل السياسي.
ان ما نشهده اليوم من المفاهيم الحديثة للسياسة المدنية لم تكن موجودة قبل مطلع القرن العشرين، وقتها كانت مجتمعاتنا ترتهنُ لمفاهيم سياسية لما قبل الدولة الحديثة، وتسير وفق قواعد البنى التقليدية التي حكمت المجتمعات وعلى هذا الاساس بني الحقل والفضاء والعمل السياسي عندنا.
فالحياة السياسية تحتاج لنقلة نوعية من مجتمع تقليدي الى مجتمع يعيش حالة مدنية يكون الناس فيه متساوون امام القانون تحكمهم مؤسسات مبنية على اسس سياسية وقانونية نقوم بالتشجيع على المشاركة السياسية باعتبار انها الشرط الاساسي لإحداث التطور النوعي في فكر المجتمع وسلوكه السياسي بحيث ينتظم هذا عبر مؤسسات مقننة شرعية تصبح كلها أطراف في العملية السياسية.
ونحن في حالتنا هذه يجب ان نوفر الشروط اللازمة لتنمية الحياة السياسية وهذه العملية تكون متكاملة وطويلة المدى وتعالج مختلف جوانب حياة المجتمع.
4- السياسة التحررية يجب أن تقوم على نقد الأنظمة السياسية المهيمنة من وجهة نظر المجتمع والضحايا والمستبعدين والمهمّشين سياسياً.
ان الجدل حول حالة حقوق الإنسان في العالم الثالث، وتحقيق حالة من العدل الإنساني والاجتماعي هو ان نحقق للكل حقوقا دون تمييز أو إقصاء أو تهميش وهناك علاقة واضحة بين غياب الديموقراطية والقابلية للمساءلة عندنا، وانتهاك حقوق الإنسان وعدم احترامها من قبل الأنظمة السياسية، وهو الأمر الذي يدفع المواطنين إلى السلوك الرافض الذي قد يأخذ شكل الانسحاب، الذي يتجلى من خلال صور عديدة منها عدم المشاركة، التي تتدرج لتصبح رفضا إيجابيا قد يتخذ شكل الاحتجاج والتمرد الصريح. ولأن الأنظمة السياسية لا تعترف بأن للمواطنين حقوق، فإنها عادة ما تقابل ذلك بالقمع واستخدام أدوات القهر، وهو ما يدفع المواطنين إلى مزيد من الرفض، وهكذا نجد أن هذه المجتمعات تدور في حلقة مفرغة تدور في الاتجاه السلبي، تنهك الأطراف التي تدور في إطارها بعضها بعضا، وتسبب أثناء ذلك هدرا لرؤوس أموال المجتمع، ويكون ذلك بطبيعة الحال على حساب تنمية المجتمع وتحديثه. ويرجع ذلك إلى أبوية هذه النظم والزعامات السياسية، التي ترى في المعارضة خروجا على النص الوطني، ولأنها نظم أبوبه فهي تنظر إلى المواطنين بأن عليهم واجبات عليهم الوفاء بها، قبل الحديث عن الحقوق، الأمر الذي يؤسس فجوة واسعة بين المواطنين الذين يدركوا أن لهم حقوق لم يحصلوا عليها، وهو ما يؤدي إلى استرخائهم في اداء الواجبات.
وفيما يتعلق بالنخبة فإننا نجد أنها قد انفصلت في أغلبها عن جماهيرها ومواطنيها، فقد تراجعت عن نقد الأنظمة السياسية حول مسألة حقوق الإنسان، إما خشية بطش الأنظمة السياسية أو حفاظا على مصالحها الفئوية الخاصة، وهي المصالح التي كانت مدخلها لاختيار الارتباط بالأنظمة السياسية، الأمر الذي جعل حديثها خافتا عن مسألة حقوق الإنسان في مجتمعاتها، وهو ما يعني أن النخبة لم تؤدي دورها النقدي والتنويري، كما فعلت النخبة الغربية تاريخيا وفيما يتعلق بالطبقة المتوسطة، فإننا نجدها تواجه الأن ومنذ فترة مازقا وجوديا صعبا يؤدي إلى تآكل بنيتها واخلاقها.
إن العقلانية السياسية هي عقلانية نقدية بشرط قابليتها لتحمل مسؤولية ما ينتج عن القرارات، والقوانين، والأفعال، والمؤسسات من آثار سلبية. وإن المجتمع من واجبه أن يصارع من أجل نيل الاعتراف به وبأفعاله السياسية. فالنقد السياسي يسعى لكشف ما هو غير صادق، وغير شرعي، وغير فعال في قرار، أو نظام، أو قانون، أو فعل، أو مؤسسة، أو نظام سياسي معين. بهذا المعنى يمكن تعريف العقل السياسي النقدي.
فالناس عندما يتركون بؤساء، ويجدون أنفسهم معرّضين لإساءة استخدام القوة العشوائية، يشكون إلى حاكميهم. إن الشعب الذي تساء معاملته، بما يخالف الحق، ستجدهم جاهزين في أي مناسبة لتخليص أنفسهم من الحمل الثقيل الملقى عليهم.
تعتبر السلبيات والاخطاء هي نقطة الانطلاق للنقد السياسي. والمواطن في هذه الحالة هو ضحية النظام السياسي، المحظور عن المشاركة السياسية في القرارات والقوانين، وبالتالي عن المشاركة في إعادة إنتاج حياته الخاصة. الدولة تصبح هنا مضادة للديمقراطية، وبالتالي دولة غير شرعية. يصبح من الواضح أن غاية النظام السياسي حفظ ذاته فيبدأ في إنتاج ما يتجاوز المقبول من أعداد الضحايا، والمضطهدين. إن ما يغير الدولة هي الحركات الاجتماعية الجديدة للمجتمع المدني التي تحمل مطالبا متجددة للعدالة السياسية. من هنا كان منطلق الاهتمام بنقد السلطة من وجهة نظر الاختلاف.
5- من أجل تحقيق مقاصد الممارسة السياسية العقلانية لا بد من توفر الفاعلية والتفاعلية والواقعية والتغيير.
أن إصلاح المجتمع السياسي هو المدخل الصحيح لإصلاح النظام السياسي؛ فإذا ظلت العلاقة السلطوية قائمة على استمرار هيمنة الأطر العائلية والقبائلية، واستمرار ضعف، أو انخفاض، معدلات مشاركة المجتمع عامة والشباب خاصة في الحياة السياسية، فإننا سنفقد الفاعلية والتفاعلية المجتمعية التي هي مصدر قوة وشرعية السلطة
ومع هذا الضعف، وعدم فاعلية الأحزاب السياسية في الحياة العامة، كما اتضح من التجارب القريبة. فمجتمعاتنا تعاني ضعف المشاركة في الحياة السياسية، وهو ما يختلف عن منظومة الحياة السياسية في الدول الديمقراطية حيث تعد خبرة المجتمع والأحزاب والمنظمات غير الحكومية هي المدخل الطبيعي لأكثرية الناس، وهو ما يجب إدراكه والعمل على تطويره كأداة لإصلاح سياسي مؤسسي وفاعل.
إن العقلانية السياسية بوصفها عقلانية تقوم بتحقيق فعّال للتغيير. فالمبادئ، والقواعد، والممارسات، والمؤسسات من هذا النوع التحريري ترفع المطالب من أجل أن تكون تجسيداُ للتغيير الممكن. هذا ما نسميه بالعقل السياسي النقدي.
فالمواطن الفاعل التحرري، المنخرط بشكل تواصلي في حركة سياسية ناشطة في عمل تغييري فعال. هكذا كان جورج واشنطن في صراعه من أجل تحرير بلاده، الصراع الذي حول إنجلترا الجديدة إلى الولايات المتّحدة الأمريكية. تلك العقلانية السياسية التحررية ذاتها التي دفعت ميخيل هيديلجو لمواجهة أسبانيا لتحويل أسبانيا الجديدة إلى المكسيك، والتي دفعت مارتن لوثر كينج في سياق صراع الأمريكيين السود، أو فيدل كاسترو في وقوفه ضد الظلم.
وحدها المبادئ، والمعايير، والقوانين، والأفعال، والمؤسسات المتوافقة مع شروط الإمكانية العقلانية، هي التي بإمكانها ادعاء قدرتها تأسيس بنية سياسية عادلة، وذلك في صورة أفعال تغير شرعيّة النظام، عبر خلق معايير، وقوانين، ومؤسسات جديدة، وخلق نظام سياسي جديد.
إن الهدف من الفعل السياسي التحرري هو خلق نظام سياسي جديد يستجيب لمطالب المضطهدين. الشخص الذي تقود مسؤوليته تجاه الآخر أفعاله، وذلك بطريقة تتوافق مع الشروط المذكورة، يمكنه أن يدّعي قدرته على تأسيس نظام سياسي أكثر عدالة. والتاريخ هو ما سيحكم على نجاح أو فشل هذا النّظام. بشكل عام، فإن الضمير السياسي الصادق هو ذاك الذي يسعى لتحقيق ذلك النظام الجديد بطريقة ممكنة استراتيجياً، وبمشاركة متماثلة لجميع المتأثرين بالتشريع. بتعبير آخر، إنّ مشروعاً تغييرياً من هذا النوع يستطيع أن يعرض نفسه كدعوى اصلاحية شرعية للتغيير لأن صياغته كانت مدفوعة بالمبدأ الديمقراطي، وهذا ما يمكنه من ادعاء أنه يحمل شكلا جديداً للعدالة السياسية. إن التاريخ صرخة دائمة متجددة للعدالة نسمعها في هتاف الضحايا، وفي المطالب التي ترددها الحركات الاجتماعية الجديدة في المجتمع المدني.
يربط هابرماس بين الديمقراطية ونظرية المناقشة، فهو بهذا يؤسّس لمبدأ المناقشة السياسية كمبدإ ديمقراطي يحقق تشريعاً متوافقاً عليه من قبل الجميع، هذا التوافق يجد مرجعيته في الفضاء العمومي كمجال للحرية والديمومة الذي تصبح فيه الحياة العامة مشتركة بين الجميع. فالديمقراطية تجد شرطها النهائي في منطق النشاط التواصلي الذي تعمل التداوليات الكليّة على إعادة بنائه، ومن وجهة نظره التداولية فإنّ تطور التمثلات والمعايير وأشكال المشروعية تخضع لمنطق له استقلاله الذاتي. ذلك أنّ هذا الاستقلال الذاتي هو الذي يوفر شروط إمكان الديمقراطية. ونجد أنّ هابرماس يكشف عن هذه العلاقة التي تربط الديمقراطية بأخلاقيات المناقشة في العديد من مؤلفاته. وقد أكد في كتابه “التقنية والعلم كإيديولوجيا” أنّ النموذج المرغوب فيه للديمقراطية هو الذي يمكّن كل المواطنين من التعبير عن أفكارهم وانتماءاتهم الثقافية والمعرفية، ويمكنهم كذلك من التفاهم على اقتراحات مقبولة من لدن الجميع، هذا النموذج لا يمكن له أن يتأسّس إلا إذا ارتبط بالمناقشات العمومية. وبالتالي، فالعلاقة بين أخلاقيات المناقشة والممارسة الديمقراطية تستند على مفاهيم معيارية، هذه المفاهيم أكثر قوّة من ذلك النموذج الليبرالي، الذي تقوم نظرته على سلطة الدولة المنبثقة من الشعب ولا تستطيع أن تمارس سلطتها إلا في ظلّ دولة القانون التي تقوم على الانتخابات أو الاستفتاء.
أنّ أنموذج الديمقراطية التشاورية أو التداولية Deliberative Democracy، يجد أساسه في المناقشة (الحوار) على اعتبار أنّ نظرية المناقشة تمكننا من تحديد شروط التواصل الذي يسهم في التكوين والتشكيل الجماعي للرأي العام والإرادة العمومية التي تكون نتاجاً لحوار مؤسس على افتراضات تواصلية سابقة على وعي الأفراد ورغباتهم. فهذا النموذج يكتسب إمكانية تجريبية تأخذ بعين الاعتبار تعدّد أشكال التواصل، وتؤسّس لتفاهمات مشتركة Shared Understanding كافتراضات متفق عليها بين الناس، تسمح لهم بالتفاعل فيما بينهم بصورة منهجية ومنظمة، وعلى أساسها تتكوّن الإرادة الجماعية [5].
فمبدأ فاعلية العقل السياسي عاجز عن تأسيس ذاته بذاته، كما أنه عاجز عن تمكين ذاته بدون وساطة العقل السياسي-التداولي. بعبارة أخرى، إذا تساءلنا: كيف يكون الإنتاج السياسي للحياة الإنسانية في مجتمع ما ممكنا؟ فإن الإجابة الوحيدة هي أن هذا غير ممكن إلا بطريقة حرة، ديمقراطية أو تداولية بما يوافق القوانين التي تمت مأسستها عبر الصلاحية أو الشرعية الشعبية، باختصار، عبر الديمقراطيةً.
إن جميع الافتراضات النظرية للنظريات التعاقدية الحديثة، مبنية في أساسها على الحاجة الأخلاقية-السياسية إلى تأسيس المعيارية (مقياس الحكم على السلوك أو النتائج أو تقييمها)، والتي بدورها تصدر عن المشاركة الحرة المتساوية للمعنيين بالتشريع.
بالعودة إلى روسو في كتابه العقد الاجتماعي روسو الذي يعالج فيه مشكلة الإجماع الأصلي، نجد أنه من الَضروري: إيجاد شكل من أشكال التجمع يحمي ويدافع بكامل القوة الجمعية عن شخص وممتلكات كل فرد فيه. بحيث يكون لكل فرد فيه، رغم توحده مع الجماعة، أن لا يطيع أحداً إلا ذاته، ويحفظ حريته التي كان يمتلكها من قبل [6].
أن هانس جوناس أراد من خلال فلسفة مفهوم المسؤولية البحث عن جوانب أخلاقية وقانونية وإنسانية , وهذا المصطلح في واقع الحال يدخل في جوهر الوجود الإنساني , بل وفي مهمته ودوره وطبيعته وجوده , بل وضرورة العيش , بكون الإنسان حيوان اجتماعي ميال إلى الاجتماع , ولكن رغبة اجتماع دون مسؤولية لا يمكن إن يجتمعا مع بعض , فالواجبات والحقوق تنبع من صلب إحساس الإنسان بالمسؤولية تجاه وجوده وقبل أن يكون مسؤولاً كان مسؤولاً عنه , فدورية المسؤولية تحتم على الإنسان ( الوعي بالوجود الأخلاقي ” إنطلوجيا الأخلاق ” كما هي عند هانس جوناس , والوعي بطبيعة المسؤولية وحجم المسؤولية ونوع المسؤولية ) إذ تحدث جوناس عن دور الأسرة ودور الدولة في خلق وعي مسؤول لدى المواطن الذي يعيش في كنف هذه الدولة , فالمسؤولية يجب أن تفهم – بين مسؤولية الدولة في الحفاظ على أمنه وضمانه – وبين مسؤولية الفرد بكونه مواطن عليه أن يعي مسؤولية وجوده كعضو في المجتمع الإنساني , وهذا ما أشار إليه جوناس في حتمية المسؤولية , بكونها حتمية إنطلوجية تولد مع الإنسان السوي القادر فعلاَ على تحمل مسؤوليته , فضلا عن نوعها وحجمها , وهذا أيضا وضحه جوناس في كلامه حول مسؤولية الكوكب الذي نعيش فيه , وحمايته من دمار الحروب والأوبئة والمخلفات الصناعية [7] .
ان مبدأ المسؤوليّة يعتمد على التغيرات في ماهية الفعل البشري وفي مسائل الأسس والمنهج وفي الغايات وموقعها داخل الكينونة وفي الخير والواجب والكينونة وعلى المستقبل المهدد وفكرة التقدّم.
تعتبر نظرية المسؤولية من أهم المشاريع الأخلاقية المعاصرة التي تسعى الى استنباط الواجب من الوجود من أجل توجيه الفعل البشري بمسؤولية جديدة واسعة الأبعاد تضم في حساباتها مستقبل الأجيال القادمة والتي تهتم بمصير الإنسان ووقاية الوجود من الأخطار المهددة مما يكسب هذه المسؤولية قوة وميزة عن سابقتيها.
على العقلانية السياسية استيفاء الشرعية، أو الإجرائية، أو الديمقراطية (أي الوجه الصوري للشرعية)، عبر المشاركة العامة الفعالة، والمتساوية، والديمقراطية لكل المعنيين بالتشريع، ونعني المواطنين بصفتهم فاعلين مستقلين، يجسدون الاستقلال التام للجماعة التواصلية السياسية. هذه الجماعة التواصلية السياسية، بصفتها جماعة سيادة شعبية هي ذاتها مصدر التشريع وغايته. وبذلك تحوز قرارات الجماعة صفة دعاوى صلاحية، أو تحوز على الشرعية السياسية. إن العقل السياسي بهذا المعنى عقل سياسي عملي تداولي.
هنا نصل الى اللحظة التواصلية للإجماع، الاستقلال، الحرية، والسيادة الشعبية، وهو ما يمكن أن نسميه على إثر يورجن هابرماس بمبدأ الديمقراطية [8].
إن جميع الافتراضات النظرية للنظريات التعاقدية الحديثة، مبنية في أساسها على الحاجة الأخلاقية-السياسية إلى تأسيس المعيارية، والتي بدورها تصدر عن المشاركة الحرة المتساوية للمعنيين بالتشريع.
لكي ننشر العدل والحوار نحتاج الى العقلانية. وفي سبيل بناء مجتمع متحضر، فأولوية العدل تسبق اولوية القوة. وهو ما يعني أن استخدام القوة ينبغي أن يشرع بالتوافق مع هذه المبادئ مطبقة بحذر في مواقف ملموسة.
فالمجتمع التواصلي هو ذلك المجتمع الذي يتفاعل بدون قيود، وهو المجتمع الذي يمثل مصدر التشريع (من حيث أنه يشرع القوانين لذاته)، ويضمن المساواة والحرية والاستقلال التواصلي، كما يمثل أيضا غاية التشريع (من حيث حاجته للخضوع لذاته). نظرياً، أولئك المتأثرين بالتشريع هم المشاركين المتساوين في تقرير التشريعات التي سيؤثر عليهم. هذا ما يجعل القرارات التي تؤثر على الجميع صالحة للجميع. لأن القرارات قد توسلت “المبدأ الديمقراطي”، المبدأ الذي ينظّم مأسسة الوساطات، فيمكن اعتبارها لذلك قرارات شرعية. إن مفهوم السيادة الشعبية، حين يُمارس بواسطة جماعة تواصلية تاريخية معيّنة، حيث يكون الشعب مصدر التشريع وغايته في الوقت ذاته، يقدم حلاً للمعضلة. بالإضافة إلى ذلك، فالمبدأ الديمقراطي لا يعود مجرد إجراء صوري، خارجي، وقانوني. على العكس، يصبح قائماً على أساس معياري باعتبار أن معناه أصبح مرتبطاً بتطبيق “المبدأ التواصلي” على المستوى السياسي العام. تمثّل مساهمة هابرماس تقدماً هائلاً في صياغة “العقل السياسي-التداولي” ومن الواجب تضمينها بشكل مفصّل في الفلسفة السياسية. الشرعية عند هابرماس تبنى في المستوى التواصلي الإجرائي. فالنظام السياسي يفقد شرعيته في اللحظة التي يفشل فيها في التعاطي مع الحياة الإنسانية ويفقد القدرة على الحفاظ على حياة مواطنيه. عند معالجة مفهوم الشرعية. في الدول الهامشية والفقيرة ودول ما بعد الاستعمار، يعدّ الإنتاج الاقتصادي جزءاً لا يتجزأ من المكون السياسي للشرعية. على سبيل المثال، الإفقار الذي تتعرض له الكثير من الأمم في أيامنا نتيجة للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية ترتب عليه نزع للشرعية عن العديد من الحكومات التي كانت ملتزمة رسميا بالمبدأ الديمقراطي، لكنها أهملت الأساس المادي لبناء الشرعية. المسألة تتعلق هنا بمعرفة الكيفية التي يمكن بها التوفيق بين مبدأي جون رولز الأول والثاني الاقتصادي الاجتماعي [9].
وهناك ربط واضح ما بين شرعية النظام السياسي والقانون من خلال تأكيد (هابرماس) بأن اضفاء الشرعية على النظام السياسي يجب ان يأخذ شكلا قانونيا. والقانون لا يتطلب فقط القبول والاعتراف به بل يتطلب اساسا ان يكون في وضع يستحق فيه الاعتراف به.
وكل هذا لأجل منح المؤسسات مشروعية وتبرير عقلاني لممارسة نشاطاتها وافعالها داخل المجال العام ولذلك شرعت الدولة العديد من القوانين طبقا لفلسفة السلطة السياسية.
ومع ذلك فان مسألة الاحتكام الى القانون يعتبر من المسائل المهمة لقيام النظام الديمقراطي حيث لاديمقراطية بدون القانون ودون الاحتكام اليه في حالة نشوب نزاع او خلاف ولا ديمقراطية ايضا مع سلطة عشوائية تعسفية ويكون الحاكم فيه فوق القانون وخارج عن المسالة.
ومع ذلك يؤكد (هابرماس) بان حكم القانون ليس وحده او بحد ذاته دليلا على وجود النظام الديمقراطي، حيث ان وجود هذا النظام محال دون حكم القانون وان روح الحرية تفترض احترام القانون فلا توجد ديمقراطية حيث يوجد تحكم بالمال والمحسوبية وروح النفاق والفساد وكذلك لاديمقراطية بدون سلام اجتماعي لأنه بدون هذا السلام الاجتماعي لن يمكن الدفاع عن الضعفاء.
ويوضح (هابرماس) فكرته بدقة عندما يؤكد ان مبدأ السيادة الشعبية شرط أساسي لشرعية القانون في النظام الديمقراطي لأنه يسمح للمواطنين المتمتعين بحقوق متساوية ان يشاركوا في بلورة الادارة التي تكتسي طابع المؤسسة القانونية لتقرير ارادتهم السياسية.
ينتقد (هابرماس) النظرية السياسية لكونها لم تستطع ان تحل التوتر القائم بين سيادة الشعب وحقوق الانسان ولذلك يتساءل: ماهي الحقوق الاساسية التي يجب على المواطنين الاحرار والمتساوين ان يعترفوا بها لبعضهم البعض؟ يجيب (هابرماس) على هذا التساؤل بقوله ان هذا يتحقق من خلال وضع دستور يؤدي الى ممارسة الشعب لسيادته وفي نفس الوقت خلق نظام من الحقوق الاساسية. ان الصراعات المستمرة والدائمة لأجل الاعتراف تحتاج الى مجال عام حيث التعددية فيه تفتح المجال السياسي للنقاش [10].
إن المبدأ المادي للسياسة (إعادة إنتاج الحياة الإنسانية) والمبدأ الإجرائي للسياسة (المبدأ الديمقراطي) يساهمان في صياغة أحدهما للآخر في ذات لحظة تحقيقهما لأهدافهما الخاصة، بحيث يتم تضمين أحدهما في صيرورة تحقيق الآخر.
لقد ميّز ماكس فيبر بين العقلانية الإجرائية والعقلانية القيمية (المادية). فالأولى تنشأ عن الأحكام التجريبية التي يمكن تحصيلها عن طريق العلم والمنفصلة عن القيمة وان تنافت مع القيم الانسانية، والثانية تختص بالأحكام القيمية التي تراعي القيم الانسانية. إن العقلانية الإجرائية خاضعة للقياس الكمي والحسابي، كما أنها تستهدف تلك الغايات المتواجدة مسبقاً في النظام الحالي (سواء كانت تلك الغايات سياسية، أو اقتصادية، أو تقنية، إلخ.). فليس هنالك إمكانية لطرح أو تقييم الغايات. إن المسألة الأخلاقية والسياسية الخاصة بالعقل الاستراتيجي تكمن تحديداً في فحص التوافق بين الغاية من الفعل (ونعني تحديداً الغاية النابعة من العقلانية الإجرائية؛ مثل الغايات أو الأهداف المرتبطة بالنظام البيروقراطي أو المؤسسة الرأسمالية) وإمكانية حفظ الحياة الإنسانية (أي فحص مضمون هذه الغاية)، وتحقيقها بشكل شرعي ديمقراطي (أي فحص صلاحية هذه الغاية). يمكن اعتبار الفعل فعلاً سياسياً متكاملاً حين يتوافق مع المبادئ الثلاثة: العقلانية المادية-العملية، والعقلانية الإجرائية، وصلاحية الغاية [11].
غاية السياسة هي النجاح السياسي، وهي تدعو إلى تجاوز الصراعات التي تتحدى فاعلية النظام السياسي القائم. هذا النوع من الغايات هو ما يبرر وسائله ويعطيه حق الشرعية. وعلى العكس هذه الغاية فإن اعتبار السياسية مخالفة للعقل، ولا نجاح للفعل السياسي، التي تتضمنّه، وبالتالي يمكن اعتبار النظام غير عقلاني وغير الشرعي وغير فعال. وفي هذه الحالة، يتصرّف المواطن كفاعل، يتواجد وسط شروط الإمكانية العملية للوسائل والغايات، ما يجعله قابلا لبلوغ النجاح عبر توسل الفعل العقلاني والشرعي.
في هذه الحالة يكون المواطن عضواً في نظام سياسي حاكم يضمن فيه العيش بمعايير معيشية معيّنة، والمشاركة بشرعية وسيادة في المجتمع السياسي، متوسّلا الوسائط المؤسساتية الضرورية. هنا تقوم دعوى ثنائية تستطيع ادعاء العدالة السياسية، والفاعلية الاستراتيجية في ذات الوقت. غير أن العقل الاستراتيجي يجب أن يكون على ذات القدر من المسؤولية تجاه النتائج العاجلة والآجلة لأفعاله. إن مسؤولية من هذا النوع، تستدعي أشكالاً أخرى للعقلانية السياسية: ونعني العقلانية السياسية النقدية كمبدأ عمومي من أجل تنمية الحياة الإنسانية، ومن أجل الصراع في سبيل نيل الاعتراف بما نحتاجه من حقوق جديدة (فضاءات جديدة للشرعية والصلاحية في المستقبل) [12].
فلا ممارسة سياسية فعالة إلا بعد إرساء القواعد المنظمة للعملية السياسية وهذه القواعد المنظمة للممارسة السياسية لا تكتسب قيمتها إلا من احترامنا نحن لها. فإذا لم نحترمها أو خرقناها وتحايلنا عليها أو صغناها بشكل منفرد دون إشراك الجميع أو على الأقل الحصول على قبولهم فستكون بدون قيمة.
ووجود هذه القواعد لا تعتبر نهاية للممارسة السياسية. فالقواعد دوماً محل مراجعة ونظر. وتغيير هذه القواعد يجب أن تكون بآليات متفق عليها. فلا يمكن اعتبار المشاعر الخاصة والتقديرات الشخصية للأفراد والأفكار جزءاً من القواعد المنظمة للممارسة السياسية.
ومهما كانت الخلافات داخل المجال السياسي يجب ألا ندفع بها لتكون صراعات. وإذا تحولت الى صراعات فيجب ألا ندفعها لتكون صراعات صفرية ومعارك وجود لأنها متى وصلت لهذه المرحلة فلا طريق للعودة وسنخسر جميعا.
وان معيار نجاح الممارسة السياسية ليس في هيمنة فريق على السلطة بل في استمراريتها واستقرارها وتنميتها. أما إذا نجح حزب في الهيمنة على المجال السياسي وحول الاحزاب الأخرى لمجرد متفرجين فهذا فشل كبير وليس انتصار.
وأخطر شيء على الممارسة السياسية هو استخدام القمع والإقصاء والاحتكار وشيطنة المقابل.
ففي المجتمع السياسي الواحد إما أن نربح جميعاً أو نخسر جميعاً.
الهوامش:
1- أنريكي دوسيل ست أطروحات نحو نقد العقل السياسي: المواطن كفاعل سياسي ترجمة أحمد جمبي مراجعة لجين اليماني.
2- رسالة في اللاهوت والسياسة باروخ سبينوزا ترجمة حسن حنفي مراجعة فؤاد زكريا.
3- دور التنمية السياسية في بناء النظام السياسي والتطور الديمقراطي حميد حسين كاظم الشمري مجلة الفرات العدد السادس
4- رسالتان في الحكم جون لوك الفصل الثاني (الحالة الطبيعية).
5- الديمقراطية التشاورية عند يورغن هابرماس فوزية حيوح مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
6- العقد الاجتماعي جان جاك روسو ترجمة عادل زعيتر.
7- فلسفة المسؤولية عند هانس جوناس رائد عبيس مطلب.
8- الديمقراطية التشاورية عند يورغن هابرماس فوزية حيوح مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
9- أنريكي دوسيل ست أطروحات نحو نقد العقل السياسي: المواطن كفاعل سياسي ترجمة أحمد جمبي مراجعة لجين اليماني.
10- التحولات الوظيفية في المجال السياسي تأملات حول هابرماس د. شیرزاد النجار
11- أنريكي دوسيل ست أطروحات نحو نقد العقل السياسي: المواطن كفاعل سياسي ترجمة أحمد جمبي مراجعة لجين اليماني.
12- أنريكي دوسيل ست أطروحات نحو نقد العقل السياسي: المواطن كفاعل سياسي ترجمة أحمد جمبي مراجعة لجين اليماني.