التَّأثير الخلدونيُّ في الفكر السِّياسيِّ والاجتماعيِّ والثَّقافيِّ المعاصر
The Khaldounian influence on the contemporary political, social, and cultural thought
اعداد : طالب الدغيم – باحث دكتوراه في جامعة الزيتونة في التاريخ والفكر السياسي المعاصر
- المركز الديمقراطي العربي
ملخص :
تحاول هذه الدِّراسةُ قراءةَ ورصد التّأثير الفكريِّ الّذي تركه العلامةُ عبدُ الرَّحمنِ بنُ خلدون رحمه الله (1332 – 1406م) في الفكرِ السّياسيِّ والاجتماعيِّ والثّقافيِّ المعاصرِ، فهو المفكِّرُ الذي عاش مرحلة أزمةٍ حضاريّةٍ وهزائم متكرِّرة في العالم الإسلاميِّ مع خروج المسلمين من الأندلس، والزحف المغولي نحو المشرق الإسلامي، وفقدان المسلمين طرق التجارة البرية والبحرية لصالح الأوروبيين. وبالتالي، دفعت الظروف مجتمعة ابن خلدون إلى أن يصبَّ اهتمامه كله في مقدمته على نشأة المجتمع وانهياره والقوانين التاريخية التي تحكم المسيرة المجتمعية ومظاهر التبدل الحضاري والعلاقة مع الآخرـ واعتبر ابن خلدون أنموذجاً للمفكر الجريء في طروحاته وآرائه الفكرية ولا سيما اهتمامه بالمشكلة التنظيمية في العالم الإسلامي والعمران البشري. وأثرت أفكاره في العمران البشري والتماسك العضوي ودورة التغيير الاجتماعي والتقسيم الطبقي في أبرز رواد الفكر والإصلاح الأوروبي والعربي والإٍسلامي.
Abstract
This study tries to read and trace the intellectual influence posited by the genius Abdul Rahman Bin Khaldun (1332 – 1406) on the contemporary political, social, and cultural intellect, since he was the thinker who was destined to live a cultural crisis, along with repeated defeats in the Islamic world during the Islamic retreat from Andalusia, the Mughals’ expanding towards the Islamic east, and Muslims’lost of the land and sea trade routes for the good of Europeans. All these conditions together inspired Ibn Khaldun to pay all his attention in his introduction for the birth of the society, its collapse, the historical rules that control the societal march, the cultural substitution manifestations, and the relations with other. Ibn Khaldun is considered to be a sample of daring thinker in his intellectual opinions and hypotheses, especially his concentration on the structural dilemma in the Islamic world in addition to the human urbanization. His ideas influenced the human urbanization, the organic integration, the social change cycle, and the race division with the most prominent European and Arab figures of intellect and reformation.
المقدمة:
ثمّةَ عوامل جعلت من المفكِّرِ الكبيرِ عالمِ الاجتماعِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ خلدون(1332 – 1406م) – رحمه اللهُ – فيلسوفاً وعالماً اجتماعيّاً وسياسيّاً خبيراً في شؤون الدَّولة والمجتمع، منها عوامل شخصيّة، فكانَ كثير المصادرِ مُتَنَوِّعَ الثّقافات والمعارف، تشرَّبّ من الثّقافةَ العربيّةَ والإسلاميّة، ونهل من العلوم والمعارف الإغريقيّة والفارسيّة والهنديّة وغيرها، ومنها عوامل ومؤثّرات خارجيّة، تتعلّق بعصرهِ وأحداثِ ذلك العصر وظروفِهِ العامّة، إذْ شهِدَ عصرُ ابن خلدون صراعاتٍ اجتماعيّةً وسياسيّةً كثيرة، ولا سيِّما بعد نهاية الحروب الصَّليبيّة وما تلاها من صراعاتٍ حضاريّةٍ وتناقضاتٍ فكريّةٍ وعَقَديّةٍ عميقةٍ بين المجتمع العربيِّ الإسلاميِّ والمجتمعات المعادية للإٍسلام، فتفاقمت الصِّراعات الاجتماعيّة، وقويت النِّزاعات القبَليّة والمحَلِّيَّة، وتقلَّصَ الشُّعورُ الدِّينيُّ، وأدَّى ذلك إلى ظهورِ قُوى وإماراتٍ ودويلاتٍ عربيّةٍ صغيرةٍ، تتصارَعُ على النُّفوذ والسُّلطةِ في ظلِّ تلكَ الكيانات السياسيّة الهزيلة[1].
وشكَّلت تلكّ العوامل الخاصّة والعامّة فِكراً اجتماعيّاً وسياسيّاً مًمَيِّزاً لابنِ خلدون عن غيرِهِ من المفكِّرين العرب والمسلمين الَّذين عاصروه، واتِّجاهاً مختَلفاً ورؤيا سّياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة فيما أسماه “العمران البشريّ”، فكَوَّنَ مجموعُ آرائِه منظومةً شاملةً قائمةً على نقدِ الأفكار السّابقة لهُ والأفكار التي عاصّرَها نقداً مبنيّاً على مفاهيمَ واقعية، فدعا إلى المنطق العقليِّ كمعيار في حلِّ مشكلات المجتمع، وكان من أكثر الرَّافضين لعلم الكلام والفلسفة؛ لأنَّهما لا يلامسان هُموم المجتمع وواقعِهِ وتحدِّياته آنئذٍ.
ويُعَدُّ عصرُ ابن خلدون (رحمه الله) من النَّاحية الفكريّة عصرَ تراجعٍ للحضارة العربيّة الإسلاميّة الَّتي ازدانت قروناً طويلة، فكانَ هذا التّراجُع من أهمِّ الدّوافع إلى طرحِهِ الواقعيِّ في عقلنة قراءة التَّاريخَينِ الإسلاميّ والعالمي، وهذا ما جعل أ. (لا كوست) يَعُدُّ مقدِّمة ابنِ خلدون “حدثاً معرفيّاً بل معجزةً عربيّةً، تجاوزت في عمقها وقوَّة حجَّتها وتأثيرِها الفكرَ اليونانيَّ والأوروبيَّ حتَّى ذلكَ الوقت”.
وهذا التّأثير الخلدونيّ الواضح والعميق ــ الّذي أسماه لاكوست بالمعجزة ــ كان سبباً لظهورِ دراساتٍ كثيرةٍ، ملأت الآفاق، تتحدَّثُ عن أثر ابن خلدون وإسهاماتِهِ في الفكر الحداثيِّ، وتتناولُ مقدِّمتَه تحليلاً وتفكيكاً وتجميعاً وتركيباً، فقد كان ابنُ خلدون جريئاً وبعيدَ النَّظَر في طُرُوحِهِ السياسية والعلميّة، حتَّى غدت أفكارُهُ أُنموذجاً بارزاً ومثالاً حيّاً للمفكِّرين العرب والمسلمين والأوربيِّين على اختلاف توجُّهاتهم الإيديولوجيَّة واهتماماتهم المعرفيَّة. فأكثر ما اهتمَّ بهُ المعاصرون مشكلةُ التَّنظيم السِّياسيِّ للمجتمع العربيِّ والإسلاميِّ، والعلاقة مع الآخر ولا سيَّما العلاقة بالغرب، وكانت تلك المشكلة التَّنظيميَّة من صميم الاهتمام الخلدونيِّ، وتناولَها ابن خلدون، وعبَّر عنها برؤية تاريخيّة تراكميَّة بعد أن عاصرَ تلك المشكلات في تنقّله الطَّويل وعمله في بلدان مختلفة. فضلاً عن الوضع الاقتصاديِّ المتردِّي الَّذي عاشه مجتمعُهُ آنذاك بعدَ خروج العرب من الأندلس وفقدان مراكز التِّجارة البرِّيَّة والبحريَّة الّتي سيطَرَ عليها الأوربِّيُّون بعد انتزاعها من العرب، فتَحَوَّلَ العرَبُ إلى الاعتماد الكامل على الزِّراعة، وضعفت البنية الاقتصاديّة، فدفعت تلك الظروف مجتمعةً ابنَ خلدون إلى أن يصبَّ اهتمامَهُ كلَّهُ في مقدِّمتِهِ على نشأة المجتمع وتقدُّمه وانهيارِه والقوانين التاريخيَّة التي تحكم المسيرة المجتمعية ومظاهر التَّحَوُّل وعمليّة التّغيير الإنسانيّ والتبدُّل الحضاري[2].
كان الفكر السِّياسيُّ عندَ المفكِّرين العرب والمسلمين مُرتَبِطاً بالمُثُل على حين كان لابنِ خلدون وجهة نظرٍ واسعةٌ وطريقةٌ عميقة في التَّفكير والتَّحليل؛ فالعلم من وجهة نظرِهِ من ثمار تطوُّر الحضارة، وليس من ثمار حضارة المُثُل الجاهزة، فانطلق ضمن إطار (علم العمران) أو (مبادئ علم الاجتماع السِّياسيِّ) مِنْ أطر الواقع. وبإدراك هذا المبدأ الّذي انطلق منه ابن خلدون يُمكننا الاقتراب من السِّياق الفكريِّ لأهمِّ النَّظريَّات الَّتي وضَعَها في علم الاجتماع السِّياسيِّ في الدَّولة وحكم العائلة وظهور الحضارات والدُّول وسقوطِها وانتقالِها من أطوارِ التأسيس إلى أطوارِ القُوَّةِ والبناءِ ثُمَّ الضّعف والانهِيارِ، وكانَ لهذا المبدأ الأثرُ الأبرزُ في فِكر ابن خلدون الاجتماعيّ والسِّياسيّ، فقد رفض المُطلق العقليَّ والإقرار بحقيقة الأشياء، فقادَهُ هذا الرَّفض مباشرة إلى رفض الإسهام الفلسفيِّ الَّذي كان يجتاح الفكر السياسيَّ ولا سيِّما عند المفكِّرين في العالم الإسلاميِّ آنذاك.
وبهذا الانطلاق مِنْ (الواقع) لا مِنْ (المُثُل) أصبَحَ ابن خلدون رائداً للتيَّار الواقعيِّ الذي نُسِبَ إلى مفكِّري النَّهضةِ الغربيّة الأَورُبِّيَّة، ومنهم (ميكيا فيلي). وظهرَ هذا الاتِّجاه الواقعيّ عندَ ابنِ خلدون في نَقْدِهِ وتحليله للمجتمع العربيِّ وتفسيرِهِ التطوُّر الحضاريّ الّذي يُعنى بتغيُّر المصالح الَّتي تؤثِّر فيها عوامل الزَّمن والانتقال من طَوْرِ البداوة إلى طَوْرِ التَّحضُّر، فكان في نَقْدِهِ وتحليلِهِ وتفسيرِهِ للظَّواهر والتَّحَوُّلاتِ الاجتماعيّةِ ينطلق من مفهوم (العصبيَّة) الّتي يرى أنَّ لها ارتِباطاً وثيقاً بقاعدة (العوائد)؛ لأنَّ (العصبيَّة) عند ابن خلدون مفهومٌ رئيسي؛ لأنَّها تعني شمول جميع الأفراد، فهي عندَه دالَّةٌ اجتماعيّة، تؤكِّد حقيقةَ انتماءِ الفرد إلى مجتمع.
ووصَل إلى نتيجة رئيسيةٍ تمثَّلت في شروحِهِ في كتابِه الكبير “المقدمة”، هيَ أنَّ المجتمعات العربيَّة لم تتراجَع حضاريّاً بسبب التَّنازع حول السُّلطان بقَدْرِ ما كان بسببِ نسيانِ أبناءِ تلك المجتمعات أو تغافلهم عن الغاية والهدف من السُّلطان، فهم لم يعودوا يُبدون أيَّ تطلُّعاتٍ ثقافيَّة، تحفظ استمرار المجتمع الحضاري[3].
واعتمدَ ابنُ خلدون المنهج التّجريبيَّ، فانطلق من واقعٍ عمليٍّ اكتسبه بالمعايشة، وكشف إشكالاته ومساوئه ونقاط ضعفه وحلّل دور الإنسان والتغيرات المادية والتغير الثقافي[4]. ولذلك، فإنَّ الإشكال البحثيِّ يتمثُّل في سؤال رئيس، هو: إلى أيِّ مدىً أَثّر العلاّمة ابن خلدون في الفكر السِّياسيِّ والاجتماعيِّ المعاصر؟
ويتفرَّع من هذا السؤال الرئيسي مجموعة من التساؤلات، وأهمها:
- كيفَ أثَّرَ الواقعُ الاجتماعيُّ والسِّياسيُّ في أفكار ابنِ خلدون وطروحاته الاجتماعيَّة؟
- ما ملامحُ العمرانِ البشريِّ في كتاب (المقدِّمة) لابن خلدون؟
- كيف ربط ابن خلدون العصبيَّة بالدِّين وبناء الدولة؟
- ما مدى تأثير الطُّروحاتِ الخلدونيّةِ في الواقعِ العربيِّ والإسلاميّ المُعاصرِ؟
- ما ملامح التّأثيرِ الخلدونيِّ في رُؤى المفكِّرين الغربيّين المعاصرين وأفكارِهم؟
أولًا: تأثير الِّسياق التَّاريخيّ والاجتماعيِّ العربيِّ والإسلاميِّ في فكر ابن خلدون:
ولد ابن خلدون في تونس عام 1332م؛ أي: في المرحلةِ التَّاريخيَّة المرتبطة بالتَّراجع الإسلاميِّ وأطوار الضَّعف الأندلسيّ، فكان لهذهِ المرحلةِ وأحداثِها وظُروفِها السّياسيّة وملامحِها الاجتماعيّة العامّة أثرٌ بالغٌ في تكوين فكرِ ابن خلدون ومصادِرِهِ المعرفيّة ورُؤاه الفلسفيّة؛ فالفِكرُ الخلدونيُّ نِتاجُ عوامل مرتبطةٍ بالأندلس وما طرأ على الحكم العربيِّ فيها مِنْ تَحَوُّلات، ولم يكن فكرُه مرتبطاً بالدَّولة العبّاسيّة، وما مرّت بهِ من أطوارٍ مختلفة من طَورِ البدايات إلى طور انهيارِها وسقوطها على أيدي الغزاةِ المغول وزوال آثارها الثقافيّة والسِّياسيّة والاجتماعيّة.
وإلى جانبِ هذا العامل العامِّ هناكَ عاملٌ آخر مرتبِطٌ به، هو (العامل العائليُّ)؛ فقد كانت الأندلس في تلك المرحلة مَقَرّاً ومركزاً لِنشاط عائلةِ ابن خلدون الّتي كانت من أشهر العائلات في إشبيليّة، وكان لها دورٌ في تاريخ الأندلس امتدَّ لِخمسةِ قرون، وقد عاصرت تلك العائلة دولةَ الموحِّدين الّتي انقسمت نتيجة التَّناحر على السُّلطة والنًّفوذ إلى ثلاثِ دويلاتٍ تحكمُها أُسَرٌ مختلفةٌ، هي الحفصيُّون الّذين حكموا تونس[5]، والأسرة الزِّيانيّة في الجزائر[6]، والأسرة المَرِينيّة في المغرب[7]. وممّا زاد في إضعاف تلك الدّويلات ما كانت تتعرَّض له من الضَّغط الأوروبيِّ وهجمات البربر والبدو[8].
وكانت الأحداث الاجتماعيَّة منَ المُؤثِّرات في فكر ابن خلدون، ومنها الطَّاعون الّذي كان جائحةً خطيرةً انتشرت في المغرب العربيَّ حتَّى وصلت إلى تونس، وكان ابنُ خلدون آنذاك في السَّادسةَ عشرةَ من عُمره.
وثمّةَ عامل آخر، يمكن أن نُسمِّيَهُ (العامل الشَّخصِيّ) الّذي أثرى تجربة ابن خلدون وعقليَّتَه وكتاباته، فمكانة الأسرة ومستواها الاجتماعيُّ أتاحا له فرصة تلقِّي تعليمٍ رفيع المستوى، ثمَّ لمّا بلغ سنَّ العشرين عمل كاتباً في سلك القضاء في دولة الحفصيِّين بتونس، وأخذَ يترقَّى في مجال العمل السِّياسيِّ الَّذي ظلَّ يعمل فيه مدَّةَ ثلاثين عامًا، تقلَّبَ فيها في المناصب، فكان وزيراً للدّويلات الثلاث الحفصيِّة والزّيانيّة والمرينيّة، ولبعض إمارات غرناطة، وتبدَّلت مواقفُه السِّياسيّة وولاءاتُه أكثرَ من مرَّة، ودفعَ ضريبة ذلك التَّقلُّب في الولاءات، فزُجَّ به في السِّجن مرَّتين باتِّهامات الانقلاب على الحكَّام أو التَّآمر عليهم والكَيدِ لهم.
كونت تلكَ العواملُ العامّةُ (السّياسيّةُ والاجتماعيّةُ) والعواملُ الخاصّة (الشَّخصيَّةُ والعائليّةُ) فكر ابن خلدون، ورَفَدتْهُ بتجارب غنيّة، ومنحتْهُ فرصةً متميِّزة لدراسة التَّفاعل الاجتماعيِّ والتغيُّرات في ملامح المجتمع، حتَّى غدا بحَقٍّ رائدَ الفكر الواقعيِّ الَّذي اتَّضحت معالمُهُ في عصر النَّهضة على يد (نيكولا مكيافللي)[9]. وجعلت تلك الرؤيةُ الَّتنويريّةُ عندَ ابن خلدون المفكِّرَ الفرنسيَّ المعاصر كلود هوروت يعتبر – في كتابه “ابن خلدون: هل يمثِّل إسلام التّنوير؟” – هذا المفكِّر أنموذجاً يُقتدى به لدى المفكِّرين وعلماء الاجتماع العرب والمسلمين في قوانين الاجتماع البشريّ، وهو ما جعله مفكِّراً مستنيراً وعقلانيّاً وفقيهاً وفيلسوفاً في آن واحد، حسب رأيه[10].
ثانيًا: علاقة الدِّين والدَّولة في فكر ابن خلدون:
نادى ابنُ خلدون بأنَّ العرب والبدو يمكنهم تكوين سلطة ملكيَّة ذات طابع دينيٍّ يحمل طابعاً نبويّاً أو قداسيّاً يستطيعُ أن يُخضِعَ عنصرَ الوحشيّة في البدو، ويجعل خضوعهم لسُلطةٍ واحدةٍ مُمكناً بعدَ أن كانَ هذا الخُضوعُ مستحيلاً بالفِطرة، وهي دعوةٌ مبنيّةٌ على رؤيةِ ابن خلدون أنَّ الدِّعاية الدِّينيَّة لا يمكنُ أنْ تصبحَ فعَّالة بلا شُعُورٍ بروح المجموعة العصبيَّة، فالدّينَ والعصبيَّة عُنصران مُتلازمان في تكوين الدُّول؛ فإذا كانت العصبيَّة تُنشئ الدَّولة، فإنَّ الدِّين يكوِّن السُّلطة الملكيَّة، ويحافظ على استمرارها[11]، فاللّافت أنَّ ابن خلدون رأى أنَّ الحلَّ لتقوية رابطة العصبيَّة هو الدِّين[12].
واستند ابن خلدون في نظريته السياسيَّة إلى قاعدة شهيرة: العصبيَّة أساس الملك، ولا يقوم الملك إلا على شوكة من عصبيَّة القوم الَّذين يؤسِّسون الملك، وقد اعتمد في استنباط هذه القاعدة على استقرار الواقع السياسيِّ في عهدِه، وبَيَّن أنَّ أطوار الدَّولة خمسة؛ فهي تبدأ بطَوْر الظَّفَر بالبُغية ومن ثّمَّ طَوْر الاستبداد وطّوْر الفراغ والدَّعة وجني ثمار المُلك وطَوْر المُسالمة والقُنوع، وأخيراً طَوْر الإسراف والتَّبذير[13].
وبهذا يبدو أنَّ من أهمِّ الأسُس الخلدونيَّة في فلسفة السِّياسة أنَّ الدُّول لا تنشأ إلَّا إذا توفَّرت لها قوَّة قوميَّة عرقيَّة أسماها ابن خلدون (العصبيَّة) للفِرقة وللقوم وللقبيلة. فوجود رابط قوميٍّ بين مجموعة من البشر يخلق فرصة تكوين دولة جديدة كبيرة جدّاً.
وهكذا، فإن النَّظرة الخلدونيَّة في أنَّ قوانين السياسيَّة التي تحكم النَّاس تجسَّدت في[14]:
- قوانين تعتمد منهج السياسة العقليّة؛ تهتم بأمور الدًّنيا، ومن ثَمَّ تخضع لغايات الحاكم المستبدِّ، وتكون مصلحته مقدَّمة على مصالح عامَّة النَّاس.
- قوانين تعتمد على السياسة المدنيّة؛ وتسمَّى المدينة الفاضلة، وهي سياسة تخيُّليَّة وصعبة التَّحقيق؛ لأنّها تستند إلى إرادة الفرد في إدارة الحكم.
- قوانين سياسيّة دينيّة: ومعناها الحكم وفق شرع الله (مفهومي الإمامة والخلافة).
والنَّموذج الأخير ارتبط بحكم النُّبوَّة حين هُذِّبَت رغباتُ الرَّعايا الدُّنيويَّةُ، واقتَنَعوا بضرورة ضبطِ رغباتهم وآمالهم والحدِّ منها؛ لأنَّ حياتهم – وَفْقَ هذا النَّموذج – لم تَعُد مُرتَبطةً بالعالم الماديِّ الفاني وحدَه، فكان هذا الرَّادع قيداً شخصيّاً وضابطاً لكلِّ فردٍ بلا حاجة للدَّولة إلى بذل جهدٍ كبيرٍ لإخضاع الرَّعيَّة وإخضاع قيادتهم أيضاً، ففي هذه الحالة تمتلك الدَّولة إيمانَ الأفراد أي قلوبَهم وعقولَهم، وكذلك أجسادهم[15]؛ ففي النَّموذج الأخير – كما يرى ابن خلدون – إمكانيّةٌ مذهلة للتَّحوُّل الاجتماعيِّ.
حاز الدِّينُ في الفكر الخلدونيِّ القيمةَ الكبرى، فاعتبره المحرِّكَ للجماعة والباعثَ على اجتماعها الفاعل، والمنتجَ للعمران وفق منظومة قيميّة إسلاميّة، وهذه الحقيقة اّلتي غابت عن الفلاسفة وعلماء الاجتماع السِّياسيِّ الوضعيِّين والمادّيِّين الَّذين غيَّبوها عمداً لفصل العمران الإنسانيِّ عن الرُّؤية التّوحيديّة الكونيّة، وهكذا، تدور الفكرة الخلدونية في علم الاجتماع، حول مهمّةِ الإنسانِ في الاستخلاف وتعمير الأرض، ونشر قيم الخير والحقِّ، وهذه هي وظيفته الوجوديّة[16].
وأمّا دور الدّولة في الإدارة، فلم ينكر ابن خلدون دور الدّولة في التَّدبير الاقتصاديِّ رَغمَ أنّه استعرض مساوئ احتكار الدَّولة للسُّلطة والأعمال الاقتصاديّة المهمّة، ، فلم يتصوَّر العمرانَ بلا دولة ولا النُّموَّ الاقتصاديَّ بدون تنظيم سلطة، فعالج مسألة تدخل الدَّولة في الشَّأنِ الاقتصاديِّ من منظور متعدِّد العلاقات والتَّشابكات، فهو لا يؤمن بانسحاب الدَّولة من المهمَّة الإشرافيّة، ولا يوافق على تسلُّطها على الأمور الفكريّة والاقتصاديّة؛ لأنَّ ذلك يمكن أن يعود بالعواقب الوخيمة على الدَّولة والمجتمع كلِّه[17].
إذن، نجد عند ابن خلدون أنَّ العمرانَ أو الحضارة حصيلةُ تنظيمٍ ناجحٍ في استخدام السُّلطة، فتزدهر المدنيّة مع الاستقرار والرَّفاهية الّتي تعتمد الحفاظ على الخير المشترك وتطبيق الأوامر الإلهية التي تكسب الحكم شرعيّةَ الاستمرار بسهولة بناءً على تعميق الرّابطة الدّينيّة، لكنَّه تحدَّث كذلك عن الرَّوابط العضويّة “العصبيّة”، الّتي يمكن أن تؤدِّي إلى الاستحواذِ على السُّلطة، وهي حاضرة عند البدو بقوَّة، لكنّها مع ذلك لا تقيم دولاً مستقرّة؛ لأنَّها ستظلُّ في حالة تنافس مع العصبيّات الأخرى[18].
ثالثًا: الملامح الأساسيَّة لعلم العمران:
ربط ابنُ خلدون ملامحَ العمران البشري بأزمة المجتمعات التّاريخيّة وظروفها السِّياسيَّة والفكريَّة، فاهتمَّ بالحركة التَّاريخية ودور الإنسان في البناء الاجتماعيِّ، وإقامة المجتمع الدِّيموقراطيِّ العادل.
1. الصَّيرورة التّاريخيَّة عندَ ابنِ خلدون:
تبدأ الدَّورة التَّاريخية في منهج العمران عند ابن خلدون من استيلاء عصبيّة قبيلة أو قبائل معيَّنة على السُّلطة وانتظامها تحت مسمّىً ملكيٍّ أو غيرِ ذلك، وتنتهي بسقوطها، فهذه بتقديره عناصر متكاملة، وتمرُّ الدَّورةُ بمرحلتين:
المرحلة الأولى: دورة الحضارة الطبيعيَّة التي تتميَّز بروح الغَلَبة والسَّيطرة والتّمَلُّك والبناء، وهذه مرحلة اقتناع النَّاس بالواقع المَعيش.
المرحلة الثَّانية: مرحلة استقرار الدَّولة وازدهارها، وهي مرحلة التَّطَلُّع إلى الكماليَّات والانغماس في الملذَّات وازدهار المعارف والصِّناعات والفنون وإشباع الحاجات المتزايدة على نحوٍ متواصل، ولذلك تتوجَّه الدَّولة إلى فرض الضَّرائب واحتكار التّجارة، فتتقلَّص قدرات النَّاس الماليَّة، ويميلون إلى السُّخط والغليان والتَّمرُّد الّذي يُقابلُه القمع، وتزداد النَّفَقات التي مصدرها جيوب الرَّعايا، وكلُّها علامات بداية السُّقوط الذي تكتمل بهِ الدَّورة.
ولقد قدَّم ابنُ خلدون سياقاً متواصلاً عن كيفية نشوء الحضارات وتناميها وسقوطها وفق حتميّة صارمة، سببها تلك الأزمة الحضاريَّة الّتي هزَّت أُسُسَ المجتمع السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وقوَّضت عمرانه من النَّشأة والازدهار إلى الموت الحتمي[19]، من خلال تناولِهِ للمجتمع العربيِّ والإسلاميِّ بخصوصيَّتِه وصيرورتِهِ التَّاريخيَّة.
2. دورُ الإنسانِ في البناءِ المجتمعيّ:
كانَ ابن خلدون يرمي من خلال نظريَّته السِّياسية إلى الإصلاح السِّياسيِّ والاجتماعيِّ وإقامة مجتمعٍ عادل، وكأنه كان يبحث عن المجتمع الدِّيموقراطي الَّذي ساد في صدر الإسلام، وحَكَمَتْهُ قوانينُ الدِّين والفطرة وقوَّة الرَّوابط المجتمعيَّة والثقافيَّة والدِّينيَّة والأخلاقية[20]؛ لذلك ألحَّ على التَّلازُم بين العوامل السِّياسيّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة في بناء الدُّول وفسادِها، وأكَّدَ أنَّ نفسَ الإنسانِ أداةُ بناءٍ ورُقِيٍّ من جهة، ولكنَّها أداةُ هدمٍ وتخريبٍ إذا انسلخت عن أصلها وفطرتها ودورها البنَّاء من جهة أخرى[21].
3. علمُ العمرانِ البشريِّ:
يرى (الجابري) أنَّ الإسهام الأكبر لابن خلدون يتمثَّلُ في ثلاثِ نقاطٍ رئيسة:
النّقطة الأولى: أنَّ ابنَ خلدون كانَ واضِعَ علمٍ جديد في مرحلةٍ كان يعتقد فيها النَّاسُ أنَّ العلوم قد نضجَت، واكتملت.
النّقطة الثَّانية: أنَّ ابن خلدون كانَ مبتَكِراً؛ فهو لم يقلِّد أحدًا من الفلاسفة اللَّاتينيين ولا من فلاسفةِ الإسلام، وكانت له شخصيَّته العلميَّة المستقلَّة.
النّقطة الثَّالثة: أنَّ هذا العلم الجديد كانت لهُ صفةُ الاكتمال؛ لأنَّه يُحقِّقُ الشُّروطَ الأربعة للعلم البرهانيِّ، وهي الموضوع، والأعراض الذَّاتيَّة، والمسائل، والمبادئ.
واستدلَّ الجابريُّ على النّقطة الثّالثة بقولِ ابن خلدون عن علم العمران: ” وكانَ هذا علماً مستقلاً، فإنَّه ذو موضوع، وهو العمران البشريّ والاجتماع الإنسانيُّ، وذو مسائل، وهي بيان ما يلحقه من الأعراض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأنُ كل علم من العلوم سواءً كان وضعيًا أم عقليًا”.
لكنْ يظلُّ الاختلاف بين علم العمران وغيره من العلوم أنَّ المسائل البرهانيَّة في علم العمران مرتبطةً بالبحث في حدود الأعراض الذَّاتيَّة ووجودها بالنِّسبة إلى موضوع العلم ومن ثَمَّ شرح خواصِّها؛ فالبحث يكون في الطَّبائع والخواصِّ، وليست غايتُهُ الوصولَ إلى القوانين الَّتي تتحكَّم في تلك الأعراض، وتربط بعضَها ببعض على حين كانت غايةُ مسائل العلوم في عصرِ ابن خلدون الكشفَ عن نسبة الأعراض الذَّاتيَّة (كنسبة مرض ما إلى علم طبِّ الحيوان مثلًا) إلى موضوع العلم (الحيوانات)؛ فكانت عوارض علم العمران التي يختصُّ بها هي الظَّاهرة الاجتماعيَّة بما تتضمنُّه من توحُّش أو تأنُّس وملك وتَغَلُّب وعصبيَّات وغيرها، فتوصَّل إلى مفهوم الطَّبع الّذي أثبته بالاستقراء التَّاريخيِّ[22]، واستطاع بهذا المفهوم فهم العلاقة بين مكوِّنات الظَّاهرة الاجتماعيّة وعناصرِها.
ويقومُ المنهجُ الاستقرائيّ التَّاريخيّ الَّذي اعتمدَهُ ابنُ خلدون على البرهان باستقراء جملةِ حوادث تاريخيَّة متسلسلةٍ زمنيّاً، فبدأ بالعمران البدويِّ وعوارضِهِ كالعصبيَّة والنَّسَبِ والمُلْكِ والغَلَبةِ والدَّولة؛ ثمَّ انتقلَ إلى العمران الحَضَرِّي وعوارضِهِ كالتَّعليم والنَّشاط الفكريِّ والصِّناعات، وهو بهذا لم يناقض المنطق الصُّورِيَّ الأرسطيَّ إلَّا في مُراعاة الإمكان الواقعيِّ لا الإمكانِ العقليِّ وحدَه وإنكارِ التَّعميمِ عبر القياس، فرأى– مثلًا – أنَّ الإنسان مدنيٌّ بالطَّبع؛ أي: لا يُتَصَوَّرُ وجودُ الإنسان إلَّا في مجتمع، فلا لابدَّ إذن من عاملٍ يدفع تغابُنَ بعضِ البشر ضدَّ بعض. وهي قضيَّة فيها خلافٌ إذا نُظِرَ إليها نظرةً مجرَّدة، فقد يُوجَدَ إنسان بلا مجتمع، ومجتمع بلا سلطة، إلَّا أنَّ مشاهدات الحِسِّ والتَّجربة تُثبِتُ هذا الواقع. وبهذا يبدو اعتماد ابن خلدون التَّجربة القائمة على يقينِ الحسِّ والعقل والمشاهدةَ والتَّكرار كما في باقي العلوم الطّبيعيَّة الوجوديَّة الأخرى.
وبنى ابن خلدون نظريّةً تتفرَّع منها مبادئُ يقوم بإثباتها بالمُسَلَّمات الَّتي أثبتها من قبل، ومن ثَمَّ يوضِّحها بالأمثلة التَّاريخيَّة؛ ليوضِّح رأيَه، وبهذا مزج في منهجه بين الوصفِ والاستدلال التَّجريبيِّ، فلم يكن علمُهُ علماً وصفيّاً، غيرَ أنَّ الفارق بين منهجِهِ ومناهج الاستدلال أنَّ مُسَلَّماته كانت تجريبيَّة على حين كانت مناهج الاستدلال تعتمدُ في البرهَنةِ والإثبات مُسَلَّماتٍ ذاتَ دلالةٍ وضعيّةٍ عقليَّة، كما أكَّدَ الجابري[23].
وانصبَّ نقدُ ابنِ خلدون على إخفاقِ السَّرد التَّاريخيِّ منطقيًا في قَبول روايات تاريخيَّة متناقضةٍ تناقضاً كبيراً في النَّوع والكمِّ، فضرَبَ مثال إحدى الرِّوايات الَّتي وردت في شأن بناء مدينة من النُّحاس في الصَّحراء الغربيَّة[24]، فرأى أنَّه بغضِّ النَّظر عن لامعقوليَّة القصَّة، فإنَّها تناقض طبيعة البناء والتَّخطيط المنطقيِّ للمدن بكلِّ بساطة. كما أنَّ تلك المناهج لا تستوعب حركة المجتمعات عبر التَّاريخ، وخاصّةً الأحداث العَرَضيَّة، فقد كان منهجُه قادراً على استيعاب التَّغيُّرات وتفسيرها، أو كانَ- كما وصفه (جاريسون) – نقلةً نوعيَّة من سردٍ تاريخي ٍمجرَّد وتسجيلٍ لروايات تاريخيّةٍ شفهيةٍ وتوظيفٍ لقناعات شخصيَّة في مرحلة نقد الأحداث إلى نقديَّة تعتمد توظيفَ السَّبَبَيَّة في تحقيق التَّاريخ والتَّمييز بين تشعُّبات تلك الأحداث ونتائجِها فيما يخصُّ المجتمعات.
وكان للتَّبادل الثَّقافيّ المتوسطيّ أثرٌ بالغٌ في وصول الفكر الخلدونيّ إلى أوربَّة يحملُهُ روَّاد النَّهضة والإصلاح الغربيِّون، وانتقلت نظريّات ابن خلدون في بناء الدُّول وحياة الأفراد والعمران البشريِّ شرقًا وغربًا على الرَّغم من أنَّ القيم السياسيّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة للحداثة تطوَّرت في أوروبَّا منذ القرن السّادسَ عشرَ للميلاد؛ ففِكْرُ ابن خلدون متعدِّد المصادر، وهو نتاج مرحلةٍ تميّزت بكثرة التّحوُّلات الاجتماعيّة والعسكريّة والثّقافيّة والاقتصاديّة والغنى بالأحداث السّياسيّة في العالم العربيّ والإسلاميّ عامّة، ولا سيَّما شمال أفريقيا، فكانت الثَّقافة السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الواسعة الَّتي اكتسبها من أهمِّ أدوات البحث ومصادرِهِ المعرفيّةِ، وهذا ما ميَّزَهُ عن غيرِهِ من الباحثين، فطَرَحَ في كتاباتِهِ أفكارًا جديدةً، اختلفت عن كتابات المفكّرين التّقليديّين الّذين سبقوه، وبحث في أزمات المجتمعات ومشكلاتها، ولم يقف عند حدودِ وصفها، إنَّما تجاوزَ ذلك إلى مُحاولةِ تقديمِ حلولٍ لبعض المشكلات الاجتماعيّة، انطلاقًا من تجارب عاشها[25]، فأقام صَرحاً معرفيّاً مُحكمَ البناء، كان فيما بعد منهلاً للباحثين والمفكِّرين، فدرسوا نظريّاته وتطبيقاتها العمليَّة على المجتمعات في مراحل التّحَوُّل والتَّغيير، حتَّى عَدَّه الكثيرون الرَّائد الأوَّل لعلمِ الاجتماع البشريّ[26].
4. الواقعية والعقلانية أساساً للفكر الإصلاحي الخلدوني:
كانت الواقعيّة والعقلانيّة سِمَتَينِ بارزَتَينِ في فكر ابن خلدون مُقارنةً بمناظرات علماء الكلام والفلسفة وجدل الفقهاء العقيم وحكايات الرُّواة والمؤرِّخين وقصصِهِم، فقد استعرض حوادث المجتمعات وتغيُّراتها، وحمل مشروعاً حضاريّاً متكاملاً بوسائله وغاياته جامعاً فيه الأُطُرَ النَّظريَّة والمفاهيميَّة والقيمَ العلميَّةَ والعمل السِّياسيَّ والاجتماعيَّ المَيدانيَّ تحت اسم (عقلنة التَّاريخ ومعايشة الواقع)،فكان مشروعه مشروعاً حضاريّاً وثقافياً، وكان العمران البشريُّ عمادَهُ الأساسيَّ، إذْ عرض لأحوال العصبيَّات وأصناف التَّغَلُّب والكسب والمعاش والصَّنائع واختلاف الأمم والأمصار والأخلاق والنِّحَل والمذاهب وسائر أمور البشر؛ فكان ابن خلدون رائداً لمجال معرفيٍّ أصبح مجالاً خصباً للبحث مع بدايات القرن التَّاسع عشر حتَّى يومنا هذا[27].
رابعًا: الأثرُ الخلدونيُّ في الفكر الإنسانيِّ السِّياسيِّ والاجتماعيِّ والثَّقافيِّ المعاصرِ:
لم يقتصر التّأثيرُ الخلدونيُّ على بناء النَّظريّات الاجتماعيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، بل امتدَّ أثره إلى أعماق البيئة العربيّة والإسلاميّة والغربيّة والإنسانيّة، فما طرحه ابنُ خلدون من نظريّاتٍ وما أثاره من تساؤلاتٍ معرفيّةٍ اجتماعيّة وسياسيّة بنيويّة، كان له دورٌ بارزٌ في بلورة مفاهيم في الفكر السّياسيِّ والاقتصاديِّ والاجتماعيِّ، لا سَّيما ما يتَّصلُ بمفهومِ العمرانِ البشريِّ والعلاقات بين النّاس على أساس أدوارِهم وممارساتهم الحياتيّة، كما أعطى بأسلوبه وطرحه – في قراءة واقع المجتمع في زمانه – مجالاً للتفكّر والمساءلة. فكانت نظريّته في علم الاجتماع والفلسفة السّياسيّة قد أسَّست لأفكار وتصوُّرات معرفيّة لدى كثير من الباحثين العرب والغربيِّين في وقتنا الحاضر.
وجمعَ ابن خلدون بين التَّفكير والتَّنظير والأسلوب العلميِّ في كتابة نظريّاته وتوسيع ملاحظاته، وهو ما جعل كثيرين يعتبرونه المؤسِّسَ الحقيقيَّ لعلم الاجتماع، إذ صرَّحَ المفكِّرُ النَّرويجيُّ لودويغ غومبلو فيتش في كتابه الذي نشره عام 1900م، وأفرد فيه فصلاً كاملاً عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة ونظريّاته في بناء الدولة، فقال: “… ما جاء في مقدِّمته يحتوي على قطع مبعثرة من معاهدة كاملة في علم الاجتماع”. فابن خلدون تناول المجتمعات الإنسانيّة ومراحل تطوُّر الدُّول، وركَّز الفكرُ الخلدونيُّ على اعتبار أنَّ الظَّواهرَ السُّكّانيّةَ والسِّياسيّة والاقتصاديّةَ والثَّقافيّةَ مترابطة، ولكلِّ ظاهرةٍ سبب يربطها بماضيها، ويؤسِّس لواقعها الجديد[28].
1. الأثرُ الخلدونيُّ في الفكر السِّياسيِّ والاجتماعيِّ العربيِّ والإسلاميِّ المعاصر
يقول الأستاذ علي أومليل في مداخلته في إحدى النّدوات: إنَّ “مفكِّري الإصلاح الإنسانيِّ الحديث، وليس العرب والمسلمين فقط، رجعوا إلى ابن خلدون أكثر مما رجعوا إلى غيره، ولعلَّهم وجدوا في حديثه عن المجتمع والسِّياسة استقلاليّة عن الدّلالة الدينيّة أكثر مما وجدوا عند غيره من المفكِّرين في العصر الوسيط. وهم لم يقتصروا على استعمال المفاهيم الخلدونيّة مثل: “الوازع” و”الخلل” و”العمران”، و”الملك القهريّ” وغيرِها من المفاهيم، بل لجأوا إلى الصِّياغة النّظريّة الخلدونيّة لترجمة نوازل العصر، فهو عبارة عن توظيف للنّصِّ الخلدونيِّ في عمليّة الإصلاح والتّأسيس لقواعد النّهضة العصريّة[29].
فالمقدِّمةُ الخلدونيّةُ، كانت المرجعَ الأكثرَ حضوراً في دراسات المفكِّرين المسلمين المحدثين في تناولهم لسنن الله تعالى التي تحكمُ نشأةَ الحضارات ونهوضَها وانهيارَها، ولعلَّ خيرَ الدِّينِ التّونسيَّ أحدُ المفكِّرين الإصلاحيِّين البارزين الذين استفادوا من التَّجربة الخلدونيّة، واستمدَّ أسس منهجِه الإصلاحيِّ وتنظيراتِهِ التَّربويّة والسِّياسيّة والاجتماعيّة منها، وانعكس التمدُّن الخلدونيُّ على فكر خيرِ الدِّينِ التُّونسيِّ وحضور الجانب التَّربويِّ في الفكر الإصلاحيِّ عندَ ابن خلدون معتبراً التَّعليم ركيزة أساسيّة في العمران البشريِّ المعاصر[30].
شكَّلت النَّظريّةُ الخلدونيّةُ في علم الاجتماع البشريِّ دستوراً للمفكِّرين العرب والمسلمين في زماننا، فالطَّرح الاجتماعيّ والتّربويُّ والسِّياسيُّ الذي جاءت به مقدِّمته الشَّهيرة، شكَّلَ أطراً بالغة الأهميّة في سياق المتغيِّرات الجيو سياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ومختلف جوانب الحياة الّتي يعيشها العالم العربيُّ والإسلاميُّ اليوم، فقراءة عميقة لمؤلَّفاته تسمح لنا بمعرفة جذور مشكلاتنا الحاضرة[31]. فالمقدِّمة الخلدونيّة تكشفُ بعضَ عوائق تطوُّر المجتمعات العربيّة والإسلاميّة التي ترتبط بفهم النُّظم السِّياسيّة وأسس بناء الدَّولة والمواطنة والحرِّيَّات والعدالة والمساواة والفكر المؤسَّسيِّ، وكيفية أهلنة المعرفة والتفريق بين القِيم العربية والإسلامية والغربية.
ومهما يكن، فأهمُّ ما حملَهُ الفكر الخلدونيُّ هو طابع العصر الذي عاش فيه، واستشهد بأحداث التّاريخ الإسلاميِّ السَّابقة لزمانه، كما استشهد بوقائع عصره في المغرب العربيِّ، وقدَّمَ لنا نظريّة متكاملة حول التّاريخ الإسلاميِّ وإبراز التَّجربة الحضاريّة للعرب والمسلمين. وبرهنت الرُّؤية الخلدونيّة على دور العصبيّة والرَّابطة الدينيّة في دولة الإسلام، وبناء المنظومةِ الأخلاقيّةِ والتَّربويّةِ والاجتماعيّةِ والفكريّةِ وظهور الدعوات الإصلاحيّة العربيّة والإسلاميّة المعاصرة الَّتي نادت بالنُّهوض ومحاربة المستعمرين والاستبداد السِّياسيِّ والفكريِّ، فتركت أفكارُ ابن خلدون تأثيراً واضحاً في أحد أبرز روَّاد النَّهضة والإصلاح عند المسلمين، وهو الشَّيخ محمَّد عبده، ونجد التَّشابه بينهما في مسألة التَّربية والبناء المجتمعيِّ أساساً للمنظومة الفكريّة الجامعة[32].
لو رصدنا الأثرَ الخلدونيَّ ومقاربة نظريّاته الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسِّياسيّة مع الواقع العربيِّ والإسلاميِّ في وقتنا الحاضر، تبيَّنَ لنا حقيقة ما طرحه ابنُ خلدون عن دور العصبيّة في بناء الدُّول سواء أكانت أنظمةً ملكيّةً وقبليّة وراثية (المملكة المغربيّة والمملكة الأردنيّة الهاشميّة والمملكة العربيّة السُّعوديّة مثالاً..) أم جمهوريةً (سوريّة – الجزائر …) أم ثيوقراطيّة “دينيّة” (مثل إيران..)، أم استندت على أساس سلاليٍّ أو قبليٍّ أو حزبيٍّ أو دينيٍّ ومدى مكانة الحاكم في تقرير الأمورِ المصيريّةِ في الدَّولة وعمقِ تأثير الجانب الاقتصاديِّ في تحقيق التّنمية والرَّفاه، فمعظم بلداننا العربيّة والإسلاميّة استمدَّت أسسَ استقلالها وتطوُّرها من إمكاناتها البشريّة وثرواتها الطَّبيعيّة، فضلاً عن تحالفاتها السِّياسيّة على المستوى الدّاخليِّ والخارجيِّ، كما تأثَّرت مجتمعاتُنا بثقافة الحضارة الغالية “حضارة الغرب” ومنتجاتها التِّقنيّة والعلميّة والثّقافيّة، وغدت العلاقة بين العرب والمسلمين مع الغرب علاقة تابع يأخذ منتجات الحضارة، ويصدِّرُ إليها خاماته وطاقاته، ولذا كان الاهتمامُ الخلدونيُّ بالمسألة التَّنظيميّة وأطوار النُّهوض والانهيار وأشكال التَّعامل مع الغالبين مركزيّاً في مقدِّمته، حتى عندما تناول طبائع الفرس والتُّرك درسهم أقواماً وقبائلَ، لديهم عزائم إيمانيّة وأخلاق بدويّة[33]، فإنّ مقاربته الأخلاقية ودور الدَّولتين الكبير اليوم في مكانها، لكنَّ وضع الدَّولتين مختلف اليوم، فكلاهما شهدت استقلالاً وطنيّاً، وتطوُّراً سياسيّاً وعسكريّاً وتقنيّاً، وتعتبران من أكثر الدُّول الفاعلة في السّاحة الشَّرق أوسطيّة والعالميّة في وقتنا الحاضر.
ومن ثَمَّ فالطرح الخلدونيُ على المستوى النّظريِّ والتَّحليليِّ لقواعد الحضارةِ والتَّرَف، شخَّص واقعاً حقيقيّاً عن أزمة عميقة عاشتها الأمّةُ في مرحلة تراجعها وبداية نهضة الغرب في القرن الرَّابعَ عشرَ الميلاديِّ، فاهتمَّ بكشف كوامنها، والواقع العربيُّ بقي واقعاً هشّاً، تسوده الصِّراعات والأزمات، وغدا لقمة سائغة لجميع القوى الخارجيّة الطّامعة، حين شهدت بعض القوى الإسلاميّة “تركيا والباكستان وإيران …” نهضةً وتغيُّراتٍ جذريّةً على جميع المستويات، وهو ما يجعلنا ندرك أهميّة النّظريّة الاجتماعيّة والسّياسيّة الخلدونيّة في قراءة تشكُّل الدُّول وأطوار العمران ومظاهر الحضارة، ولكنَّ كلَّ عصر على حدا في ضوء واقعه وظروفه وأحداثه ومتغيِّراته.
2. التّأثيرُ الخلدونيُّ في الفكر الغربيِّ المعاصر
يعتبر (جاكوب خوليو) أول عالم أوروبي تأثر بأفكار ابن خلدون وفلسفته الاجتماعية والسياسية، فهو الذي قرأ كتاب ابن خلدون “رحلات ابن خلدون” عام 1636م، وكذلك العالم النمساوي هامر بورشتيفال عام (1812م) الذي ترجم بعض كتب ابن خلدون لليونانية وسماه “مونتسكيو العرب” ومفكرون آخرون، وارتفع اسم ابن خلدون في أكبر الجامعات الغربية في مجالات علم الاجتماع والسياسة والفلسفة والتاريخ، وشغل العلماء في الغرب بأفكاره المتقدمة على زمانه، ونعته الفيلسوف الإسباني البارز (خوسيه أورتيغا أي جاست) بأنه “فيلسوف التاريخ الإفريقي”، وكتابه المقدمة أول كتاب في فلسفة التاريخ، كما أشار المؤرخ الإسباني (رافائيل ألتاميرا) بأن المقدمة هي أول كتاب وضعت أسس الحضارة الفعلية بشموليتها، واعتبر ما قدمه ابن خلدون ابتكاراً هائلاً[34].
وعلى الرغم من اختلاف الفكر الخلدوني، كما مرَّنا، عن المفكِّرين الغربيِّين في بعض منطلقاته ومبادئه وغاياته وتأثيراته، وذلك على اعتبار الخلفيّةِ الإسلاميّةِ والأخلاقيّة التي عاش عليها ابن خلدون في حين نظَّر كثير من المفكِّرين الأوروبِّيين الَّذين استفادوا منه لواقع لا يرى في الدِّينِ والأخلاقِ في السِّياسةِ وإدارة الدَّولةِ أساساً جوهريّاً للنُّهوض بل يعتبرونه معوِّقاً من معوِّقات التَّقدُّم والحرّيّة الفكريّة، ومع ذلك، فإنَّ ثَمّةَ تقاطعات ورؤى فكريّة وأوجه شبهٍ واضحة بين ابنِ خلدون وكلٍّ من (فيكو) و(روسو) و(ميكيا فيلي) و(نيتشه) في الفكر وآليات البناء السِّياسيِّ والاقتصاديِّ، ونظريات التطور السياسي، والدورة الحضارية في مراحلها الطبيعية.
وكان الاكتشافُ الغربيُّ اللَّافت في فكر ابن خلدون ودوره في الحركة الفلسفيّة السّياسيّة والاجتماعيّة من قبل الفيلسوف وأستاذ اللُّغات السّاميّة والتّاريخ الشّرقيِّ في جامعة كورنيل الأمريكيّة “ناتانيلشميث” في كتابه “ابن خلدون: مؤرِّخ واجتماعيٌّ وفيلسوف”، ويعتبر تأخّر المفكِّرين وعلماء الاجتماع في الوصول إلى فكرِ الخلدونيِّ جعلهم يتأخَّرون في كشف حقائق هذا العلم، ولو أنَّهم اكتشفوا ابنَ خلدون باكراً لتقدَّموا في علم الاجتماع بشكل أكبر من وقتنا الحاليِّ[35]. وقارنه (شميث) بمؤرخين كبار أمثال تيودور الصقلي ونقولا الدمشقي من مفكرين القرن الأول للميلاد، وجاتير وشلستر وهما مشاهير الفكر في القرن الثامن عشر الميلادي، فهو مكتشف لميادين التاريخ الحقيقية، وهو يمثل فيلسوفاً مسلماً فريداً يوازي (أوغست كونت) و(هربرت سبنسر) وغيرهم[36].
كما درسَ الكاتبُ الألمانيُّ فون فيسندنك نظريّاتِ العلّامة نظريات ابن خلدون في قيام الدَّولة وانهيارها، واعتبره مثلاً أعلى في الفكر العربيِّ الإسلاميِّ الحرّ، وعدّه إماماً لمدرستي مكيافيللي وفيكو، وقارب نظريّاته حول الدَّولة في سقوط الدُّول والأسر على الإمبراطورية الألمانيّة ودُولِ أوروبّا، ورأى أنَّ ما نسجه ابن خلدون ظاهرة ربَّما لن تتكرَّر في المشرق، ودُوِيُّ أفكاره يتردَّدُ صداه في عالم الفكر والتَّنظير الاجتماعيِّ والسّياسيِّ المعاصر، حسب رأيه[37].
وبفحص التّشابهات بين أفكار هؤلاء المفكِّرين الغربيِّين وأفكارِ ابن خلدون مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات، والتي ذكرناها سابقاً، يمكن أن نكتشف بسهولة إنَّ مفاهيم ابن خلدون – عن نمط دورة التَّغيير الاجتماعيِّ والإطار الَّذي وضعه حول أهميَّة تقسيم العمل وما يستتبعه من تقسيم المجتمع إلى طبقات–كانت أساساً للأفكار الَّتي بنى عليها كلٌّ من (أوغست كونت1798-1857) و(إميل دوركايم(1858-1917 مفاهيمَ علم الاجتماع الحديث (Sociology).
أ. ابن خلدون ومكيافللي
لعب ابن خلدون دوراً في الفكر الإسلامي وقابله المفكر الإيطالي نيكولو برناردو دي مكيافللي (1469 – 1527م)، وما أداه من دور بارز في الفكر السياسي الغربي. وفيما يخص العلاقات الدولية طرح المفكران مسألة قانون القوة والغابة الواقعي الذي ينظم العلاقات بين الدول، فالعلاقة تلك تنافسية وتصارعية بين الأطراف الأكثر قوة، ويختلف ابن خلدون عن مكيافللي لأنه يعتبر الأخلاق والدين مصدران للقوة، ومكيافللي يرى بأن الأخلاق بعيدة عن السياسة، واتفقا على أن شيخوخة الدولة تجعل الآخرين يطمعون بها، وترك ابن خلدون تأثيره في كتاب مكيافللي في مفهوم القوة ودورها في العلاقات بين الدول[38].
ونجدُ تشابهاً ظاهراً بين أفكارِ ابنِ خلدون في مقدِّمته وأفكارِ مكيافيللي في كتاب “الأمير” عن الاستعمار والعلاقات بينَ الدُّول، فابن خلدون أسَّسَ للمدرسة الواقعيّة في العلاقات الدَّوليّة وخصوصاً مفهومَهُ عن قوّة الدَّولة والعصبيّة وأحاديّة استعمال القوَّة والتَّغلُّب، وكان مكيافيللي أوّلَ من وسَّعَ أُطُرَ هذه المدرسة في مجال نظريّات السّياسةِ الدّوليّة بكتابه الأمير[39].
وهكذا، إنَّ إرادة القوّة الَّتي ذهب (مكيافللي)إلى أنَّها أصلُ الدَّولة، تشبه فكرةَ (العصبيّة) الَّتي استند إليها ابنُ خلدون، لكنَّ ابنَ خلدونٍ لم يُبِح العنفَ والخيانةَ وسطوةَ الحاكم، ورأى هذه الأعمال شرّاً تعودُ عواقِبُهُ على مرتكبها، فلم يفصل ابن خلدون بين الأخلاق والسِّياسة. وقد أدركَ هذا الفارقَ الباحث (استفانوكلوزي)، فقال: “إنْ كان الفلورنسيُّ العظيمُ (مكيافللي) يُعلِّمُنا وسائلَ حكمِ النَّاس، فإنَّه يفعل ذلك كسياسيٍّ بعيد النَّظر، ولكنَّ العلَّامة التُّونسيَّ ابنَ خلدونٍ استطاع أن ينفذَ إلى الظَّواهر الاجتماعيّة كاقتصاديٍّ وفيلسوفٍ راسخ، ممّا يحمل بحقٍّ على أن نرى في أثره من سموِّ النَّظرِ والنَّزعةِ النَّقديَّةِ ما لم يعرفه عصرُه، وهذه شهادة تدلِّل على أثرِ ابنِ خلدونٍ في المفكِّرين والفلاسفة الغربيِّين”[40].
عاش كلا المفكرين ظروفاً سياسيّة واجتماعيّة متشابهة، فكما عاش ابن خلدون ظلِّ الصِّراعِ الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ للدَّولة والكيانات الإسلاميّة في شمال إفريقيا وهزائم المسلمين في الأندلس، عاشَ مكيافيللي في مرحلة كانت الإمارات والجمهوريّات الإيطاليّة فيها تعيش في خصومات سياسيّة، وكما خدم ابنُ خلدون في بلاطات الأمراء في الجزائر والمغرب والأندلس، تسلم مكيافيللي في فلورنس بعض المهامِّ السياسية، وكان ابن خلدون أوسع أفقاً في دراسة المجتمعِ والظَّواهرِ والقوانينِ الطبيعيّةِ والقواعدِ الأخلاقيّة والاجتماعيّة النّاظمة، بالمقابل درس مكيافيللي الدّولةَ وسلطةَ الأمير ووسائلَ الحكم، وكتابه الأمير كتبه؛ ليكونَ مرشداً لأمراء زمانه لتنظيم السُّلطةِ والسيادة والسَّيطرة على المجتمع[41].
ب. ابن خلدون وأوغست كونت
بدا التشابه واضحاً بين أفكار ابن خلدون وأوغست كونت (1798 – 1857م)، وتحديداً في نظريَاتهما عن مراحل التَّغيُّر الاجتماعيّ[42]. وأما التشابه الآخر في تناول الموضوعات الاجتماعية التي تتعلق بالتَّخصُّص وتقسيم العمل وتفسير التَّفاوت الطَّبقيِّ والاجتماعيِّ بعّدِّهِ ظاهرةً اجتماعيّة، فعبَّر ابن خلدون عن ذلك قائلًا “إنَّ تفاوت الظُّروف بين الأفراد هو محصِّلة للطَّريقة الَّتي يتابعون بها حياتهم”، وبمثلِ هذا رأى (كونت)أنَّ تخصيص العمل هو الأداة الَّتي تجعل المجتمع في حالة من التَّرابط، فيشعر كلُّ فرد بقيمته، كما أنَّ العمل وظيفة اجتماعيَّة تقود إلى التَّعامل مع التَّعقيدات والتَّركيبات المجتمعيَّة المتنامية، وهذا المفهوم من أحد أهمِّ المفاهيم التي اعتمدها ابن خلدون[43].
ومع اتفاق كليهما حول دور الدِّين في تشكل الحضارات، ولكن اختلفا في تصور علاقة الدين بالسلطة وشكل المبدأ الديني، فقد أكَّد (كونت)أنَّ الدِّين طاقة دافعة يمكن أن تساعد النَّاس على تحقيق أهداف حياتهم، وقد وضع مشروعًا من أجل ِ الإنسانيةِ كلّها، أسماه “دين الإنسانية Religion of Humanity”، وهو مفهومٌ علمانيٌّ للدِّين يعتمد على فصل الدِّين من الرُّؤية الأمميَّة، ويحوِّلُهُ إلى قوَّة تكوين شعوريَّة تدعم الحريات والعدالة والاجتماعيَّة، وهو ما يختلف عن رؤية ابن خلدون للدِّين من حيث كونُهُ دعامة قوية من دعائم العصبيَّة الّتي تعمل على ترسيخ البناء المجتمعي وتسهِّل من وحدة المجتمع[44].
ويفهم من رؤيةِ أوغست كونت للظَّواهرِ الاجتماعيّة أنَّها غير خاضعة للفهم الدِّينيِّ بل العلمانيِّ[45]، وأنَّ مظاهر الحياة الاجتماعيّة تتضامن لحفظِ المجتمعِ، وتطوُُّ الحياةِ الاجتماعيّةِ يكون بتطوُّر التَّفكير على حين أنَّ ابن خلدون أعطى الوازع الدِّينيَّ الدَّورَ الجوهريَّ في ترسيخ مفهوم الدَّولة وقيم الحضارة. واتَّسمَ المنهج الخلدونيُّ بالعمليّة والواقعيّة أكثر من كونت الّذي مالَ إلى تصورات خياليّة في نظريّته، وهذا ما جعل مفكِّرين كثر يرون في ابن خلدون مؤسسَ علم الاجتماعِ البشريِّ ورائد العمران قبل أوغست كونت.
الخاتمة :
الإنسانُ مركز الفكر الخلدونيِّ، والبيئة أحدُ مصادر التَّفكير لديه، وقد ظهر بجلاءٍ ووضوح أنَّ بيئةَ ابن خلدون كان لها أثرٌ بالغٌ في أفكاره، فهو شخصيَّة تربَّت في بيئة متعلِّمة، وعاشَ في البلاطات، وعمل مع أربع أُسَرٍ حاكمة في المغرب والأندلس، وشَهِدَ الصِّراعات السِّياسيّة، وتعرَّضَ للسَّجْنِ، وحُكِم بالإعدام مرَّتين، فأكسَبَه ذلك تجاربَ سياسيّة كانت مصادرَ لمبادئ علم العمران ومفاهيمِهِ التَّأسيسيَّة كَـ (الدولة) و(العمران) و(التَّوحُّش) و(الحضارة) و(التَّبدُّل) و(المركز والأطراف) و(التَّرف) و(العصبيَّة) و(العقد الاجتماعيّ)، فشكَّلت مقدِّمتُه في علم الاجتماع قاعدة معرفيَّة لكثير من المفكِّرين والفلاسفة والباحثين الاجتماعيِّين في الغرب والشرق.
وكان للعصبيَّة عنده مفهومٌ أساسيٌّ في كلِّ ما نطق به وكتبَهُ، واعتمد منهجاً تجريبيّاً، ربط فيه الواقع بخبرته الحياتيَّةِ ورآه الإصلاحية، واستطاع صياغةَ مشروع العمران البشريِّ الّذي كانت آراؤُهُ جزءاً منه، ومن هذه الآراء أنَّ السِّياسة الدِّينيَّة من صميم نظام الحكم، لكنَّه على الرَّغْمِ من سَعة أفقه لم يفصل بين الشَّريعة الإسلاميّة والحكم السِّياسيِّ، لذا كان لا بدَّ أن نقرأ الكثير من كتابات ابن خلدون في إطارِها الزَّمانيِّ، وأن نستفيدَ من نظريّات حديثة مختلفة نقارنها مع الرؤية الخلدونية للوقائع والطبائع وأسس العمران البشري.
وثَمّةَ مُشابهات لا تخفى بين أفكار ابن خلدون وأفكار بعض الباحثين الغربيِّين، مثل (كونت) و(مكيافللي) و(دوركايم) وغيرهم، وتناول فكرة العصبيَّة على أنّها تحدث على نحوٍ مُقارب عن فكرة التّماسك العضويِّ في المجتمع، وبثَّ روحاً جديدة تحضُّ العقل الضَّائع والمبتور على مواجهة حالة التَّردِّي الحضاريِّ بمفهومه الشَّامل، وكانت أفكارُه فاتحةً لموضوعات وتأسيساً لمنهجيَّات اقترحها.
من أبرز ما يمكن أن نخلص إليه، هو أن قراءةَ الأفكارِ والنظريّات والطُّروحاتِ الخلدونيّةِ في سياق التغيُّرات العميقة في البنى الاجتماعيّة والمؤسسيّة السّياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة العربيّة والإسلاميّة الّتي لا تزال مرتبطةً بماضيها ذاتيّاً ولو نسبيّاً ذاتُ أهميّةٍ كبيرةٍ، فالطُّروحات الخلدونيّة ذات أهمية بالغة في قراءة التّراثِ الفكريِّ العربيِّ والإسلاميِّ وتحليليه وإبراز الجوانب المضيئة فيه وتنقيته من شوائبه وإحيائه بما يناسب التحديات والاحتياجات العصريّة، ومِن ثّمَّ محاولةُ الوصول إلى نظريّةٍ فكريّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ عربيّةٍ وإسلاميّةٍ متكاملة لها طابعُها الخاصُّ في إطار عصريٍّ كونيّ.
ويمكن اعتبار نموذج الفكر الخلدونيّ والشروحِ والحقائق التي توصّل إليها ذات أثر واضح في آراء وطروحات المفكرين المعاصرين، من حيث دورها في تنظيم العمران وحلِّ المشكلات الحضاريّة الّتي تعاني منها المجتمعات العربيّة والإسلاميّة والمجتمعات الإنسانية الأخرى.
وجملة القول: اعتبرت طروحات ابن خلدون في العمران البشريِّ وجدليَّة الحركيَّة المجتمعيَّة وفلسفة التَّاريخ والصَّيرورة التَّاريخيَّة ودور العصبيَّة الحيويِّ في توجيه حركة التَّاريخ والتَّحوُّلات الاجتماعيّة و(سوسيولوجيا المعرفة)، كلُّ ذلك يمكن أن يكون مصادرَ لأكثرَ من دراسةٍ رائدة وجادّة، نابعة من الواقع المجتمعيِّ لا مستوردةً من ظروف المجتمعات الَّتي أفرزتْها[46]. فكان إجماع كثير من المفكرين والفلاسفة ورواد علم على أن ابن خلدون هو الرَّائد الأوَّل في علم العمران البشريِّ لما كان يتَّصِفُ به من خبرة في نظريَّات المجتمع والدَّولة والتنظيم العمراني، فغدا فكرُه طفرةً لكل من جاء بعده، بدءاً من نظريّاته في النِّظام السِّياسيِّ والاقتصاد والمجتمع، إلى رؤاه وتوقُّعاته وطروحاته المستقبليّة[47].
المصادر والمراجع
[1]ابن خلدون وعلم الاجتماع، عبد القادر عبد الله عرابي، مجلة كلية الآداب والتّربية، جامعة قاريونس، العدد 10/1981، ص 156 – 157.
[2]المرجع السابق، عبد القادر عرابي، ص 156 – 157.
[3]مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، ط1، مصر، دار نهضة مصر، 2014، ج2، ص 511 – 513.
[4]علم اجتماع المعرفة عند ابن خلدون: دراسة نظرية تحليلية، شفيق إبراهيم الجبوري، عمان، درا غيداء للنشر والتوزيع، 2011، ص 251-253.
[5]الأسرة الحفصية؛ ينتسب الحفصيون إلى أبي حفص عمر، وكانوا من أتباع المهديِّ بنِ تومرت، وأصلهم من قبيلة هنتاتة، وهي إحدى فروع قبيلة المصامدة البربريّةِ التي كانت تقيم بالمغرب الأقصى، وكان لأبي حفص وأتباعه دورٌ كبيرٌ في نجاح دعوة المهدي بن تومرت وامتداد نفوذ دولة الموحِّدين، ونسب بعضُ المؤرِّخين ابنَ حفصً إلى الخليفة عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) لإكسابه شرعيّة بين القبائل العربيّة والأمازيغيّة في المغرب الأدنى. وهكذا، أقام الحفصيون دولتهم في المغرب الأدنى (تونس) على أنقاضِ دولةِ الموحِّدين، وذلك بعدَ حصولِ عبدِ الواحد الحفصيِّ على إقطاع إفريقية (تونس) من النّاصر الموحِّديِّ عام 603ه/ 1206م، وتصرّفَ في شؤونها تصرُّفَ الملك المستقلِّ. وبدأت هذه الدّولة إمارةً مستقلّةً في عهد أبي زكريّا يحيى الأول الذي خلع الطاعة لإدريس المأمون سنة 627ه/ 1229م، وهو بذلك أسس دولة حكمت تونس حتى سنة 982ه/ 1574م، وحمل أمراؤها لقب أمير، ثمّ أمير مؤمنين، وبعد ذلك سلطان بالوراثة، وشملت البلاد التونسيّة وطرابلسَ وقسنطينة الجزائرية. يُنظر لـ: المجالس العلميّة السلطانيّة لبلاد المغرب الإسلاميّ ودورها في التواصل الفكري من القرن (7 – 9 ه/ 13 – 15م)، مريم سكاكو، رسالة ماجستير، الجزائر، جامعة أبي بكر بلقايد، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، 2018م، ص. 28 – 34.
[6]الأسرة الزيانية؛ انتهز بنو عبد الواحد (وهم أحد بطون زناتة)، فرصة ضعف دولة الموحدين في المغرب الأوسط والفوضى بعد ثورة بني غانية أيام حكم إدريس المؤمن، فمدّوا نفوذهم على مناطق تلمسان بقيادة جابر بن يوسف سنة 627ه/ 1230م واتخذوا تلمسان عاصمة لهم، ولكن ظلّوا تابعين لمأمون الموحدي. وفي سنة 633ه/ 1236م، تزعم يغمراسن بن زيان بني عبد الواد، وكانت قد تلاشت سلطة الموحدين في تلمسان وأعلن نفسه أميراً، واستعان بجانب قبيلته بالقبائل العربية والبربرية، ولكن هُزمت قواته أمام بني مرين والعرب الموالين لهم سنة 647هـ/ 1247م، وتوالت الهزائم مما جعله يُغير سياسته العدائية ضد بني مرين وعقد الصلح معهم. ولكن بقيت العلاقة متوترة مع المرينيين حتى عهد أبو حمو موسى الثاني الذي حكم بين 1358 و1389م، ومع ذلك لم تسلم الدولة الزيانية في أواخر حكمها من التدخل الحفصي والمريني حتى أفولها واندثارها عام 1556م. يُنظر لــ: المرجع السابق، سكاكو، ص 36 – 41. ويُنظر لــ: تاريخ بني زيان ملوك تلمسان؛ مقتطف من نظم الدر والعقيان في بيان شرف بني زيان، محمد بن عبد الله التنسي، تح: محمود آغا بو عياد، الجزائر، تلمسان، مكتبة موفم للنشر والتوزيع، 2011م، ص 111 – 117.
[7]دولة بني مرين؛ هم من زناتة، وحكموا مناطقَ في المغرب الأقصى بين عامي 1244 و1465م، ولم يخضع المرينيُّون لحكم الموحِّدين وإنَّما هاجروا إلى الصحراء جنوباً بخلاف بني زيان وبنو وطاس. ومع حدوث الفراغ السياسيِّ والعسكريِّ والأمنيِّ بعد هزيمة الموحِّدين في موقعة العقاب ووفاة أبي محمد الناصر الموحِّديِّ، بدأ المرينيُّون بالدخول إلى بلاد المغرب الأقصى تحت زعامة عبدِ الحقِّ بن محيو بن حمامة، وارتبط اسم الدولة به، فسميت الدّولة العبد حقية، فهو الذي نقلهم من حالة البداوة إلى بناء الدولة. وفي عهد أبي سعيد عثمان (المؤسس الحقيقي للدولة)، استغلَّ حالةَ الفوضى والصِّراع القبليِّ وضعف السيطرة المركزيّة للموحِّدين؛ ليوسع مناطق سيطرته في بلاد المغرب الأقصى على مراكش ووادي سبو، وخضعت لحكمه جميعُ القبائل في وادي المغرب منذ عام 1228م. وانتشر المرينيُّون انتشاراً أوسعَ في منطقة إقليم تازة. كما اعتمد المرينيون على أعدادهم وتنظيمهم القبلي وتحالفهم مع القبائل المغربية، وقَرّبوا منهم الأشراف الأدارسة لكسب القبول الاجتماعي، وكما ضمت قصورهم علماء وأدباء كبار أمثال ابن خلدون ولسان الدين بن الخطيب. ينظر لــ: دولة بني مرين: تاريخها، وسياستها تجاه مملكة غرناطة الأندلسية والممالك النصرانية في إسبانيا (668 – 869ه/ 1269– 1465م)، عامر أحمد حسن، رسالة ماجستير، فلسطين، جامعة النجاح الوطنية، 2003م، ص 66، 69، 73. وينظر لــ: المرجع السابق، سكاكو، ص 43 – 47.
[8]IBN KHALDUN AND THE MODERN SOCIAL SCIENCES: A COMPARATIVE THEORETICAL INQUIRY INTO SOCIETY, THE STATE, AND REVOLUTION, Douglas H. Garrison, (Master Thesis), University of Denver: The Faculty of Josef Korbel School of International Studies, 2012, p. 11-17.
[9]ابن خلدون ومكيافللي، محمد عبد الله عنان، موقع حكمة، 2015، تاريخ المشاهدة 17/4/2022، انظر الرابط: http://bit.ly/2RjlWIz
[10] “هل كان ابن خلدون مفكراً تنويرياً؟”، هاشم صالح، السعودية، الرياض، جريدة الشرق الأوسط، العدد 11384/ يناير 2010م، ينظر الرابط: https://2u.pw/UWWKk
[11]مقدمة ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، مصدر سابق، ص 510-511.
[12]“Religion and Political Development: Sorne Comparative Ideas on Machiavelli and Ibn Khaldun”, Barbara Stowasser, Occasional Paper Series, Center for Contemporary Arab Studies, 1983:9.
[13]الفكر السياسي عند ابن خلدون، حمزة محمد جامع، الجزائر، الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والإستراتيجية، 3/6/: 2021، رابط: https://2u.pw/LOs6m
[14]نظرية السلطة عند ابن خلدون، طالب الدغيم، مجلة فسحة، فلسطين، 10/8/2016، رابط: https://2u.pw/6vIcf
[15]Ibid, p. 39- 45.
[16]الإنسان والقيم عند ابن خلدون، سعاد دوفاني، مجلة النور للدراسات الحضارية والفكرية، العدد 12/ يوليو 2015م، ص 57.
[17]نظرية الدولة والفعالية الاقتصادية؛ أطروحة ابن خلدون أنموذجاً “دراسة مقارنة”، أحمد إبراهيم منصور، العراق، جامعة الموصل، مجلة تنمية الرافدين، مجلد 31، العدد 93/ 2009، ص 100.
[18] Albert Hourani, Arabic thought in the liberal age 1798-1939, Op. Cit., p. 23-24.
[19]تأثير ابن خلدون في الفكر السياسي العربي المعاصر، علي زيكي، الجزائر، المجلس الأعلى للغة العربية، العدد: ع 27/ 2011، ص 253 – 274.
[20]المرجع السابق، عرابي، ص 200.
[21] المرجع السابق، زيكي، ص 253 – 274.
[22]فكر ابن خلدون العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، محمد عابد الجابري، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1994، ص 103-107
[23]المرجع السابق، الجابري، ص 107-111.
[24]Ibid, P. 20.
[25]علم الاجتماع بين ابن خلدون وأوغست كونت، حسين رشوان، ط1، الإسكندرية، المكتب الجامعي الحديث، 2008، ص 30 – 31.
[26]ابن خلدون الحداثي، طالب الدغيم، مجلة فسحة، فلسطين، 2/5/2016، رابط: https://2u.pw/Ya5f0
[27]المرجع السابق،زيكي، ص 253 – 274.
[28]إسهامات ابن خلدون في بناء نظرية اجتماعية عربية، بخته بن فرج الله، الجزائر، جامعة الشهيد حمة لخضر، الوادي، مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، العدد 21/ مارس 2017م، ص 11 – 13.
[29]بو عبيد الازدهار، الفكر الإصلاحي الخلدوني وسؤال المواكبة للنسق المجتمعي، مجلة نماء، مركز نماء للبحوث والدراسات، ع 13/ ربيع 2021م، ص 47 – 48.
[30]بو عبيد الازدهار، المرجع السابق، ص 47 – 49.
[31]المرجع السابق، بخته بن فرج الله، ص 21.
[32]ابن خلدون إنجاز فكري متجدد، محمد الجوهري ومحسن يوسف، تح: إسماعيل سراج الدين، الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، 2008، ص 162.
[33]تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون (ت: 808ه/ 1406م)، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1971م، ج5، ص 371.
[34]تأثير ابن خلدون في العلماء الغربيين، عبد الجليل غزالة، موقع أنفاس نت، 14/11/2016، رابط: https://2u.pw/Xg1Yv
[35]دراسات عن مقدمة ابن خلدون، ساطع الحصري، الرياض، مؤسسة هنداوي، 2017، ص 529.
[36]تأثير ابن خلدون في العلماء الغربيين، المرجع السابق.
[37]ابن خلدون؛ حياته وتراثه الفكري، محمد عبد الله عنان، ط2، القاهرة، مطبعة مصر، 1953م، ص 167 – 168.
[38]تأثير ابن خلدون في العلماء الغربيين، المرجع السابق.
[39]المرجع السابق، محمد الجوهري ومحسن يوسف، ص 162.
[40]تطور الفكر السياسي من صولون حتى ابن خلدون، مصطفى النشار، ط1، القاهرة، دار قباء للنشر والتوزيع، 1999، ص 313 – 314.
[41]المرجع السابق، محمد عبد الله عنان، ص. 174 – 177.
[42] MEHMET SOYER &PAUL GILBERT, DEBATING THE ORIGINS OF SOCIOLOGY: IBN KHALDUN AS A FOUNDING FATHER OF SOCIOLOGY, Vol. 5, Nos. 1-2, (International Journal of Sociological Research, 2012), p. 16-17.
[43]أثر شخصية ابن خلدون في إبداع علم العمران البشري (علم الاجتماع)، محمد إبراهیم احمد عكة، جامعة فلسطين الأهلية: قسم على الاجتماع، المقال متوفر في الرابط الآتي: https://2u.pw/wG9R0 (شوهد في: 16/4/2022م)
[44]MEHMET SOYER &PAUL GILBERT, Op. Cit., p. 17-18.
[45]من هو المؤسس الفعلي لعلم الاجتماع، سفيان البراق، 30 نوفمبر 2020م، ينظر لــ:https://2u.pw/eeCuC
[46] المرجع السابق، عليزيكي، ص 253 – 274.
[47]ابن خلدون الحداثي، المرجع السابق.