كيف تنعكس إدارة الملكية الفكرية على “الأمن القومي”؟
بقلم : د. هاجر عبد النبي
- المركز الديمقراطي العربي
ربما لا يُعتقد للوهلة الأولى أن ثمّة صلةٌ بين إدارة الملكية الفكرية والأمن القومي للدول؛ حيث يشيع أن إدارة الملكية الفكرية تتعلق فحسب بحماية حق الاختراع والعلامات التجارية وحقوق النشر، ولكن في حقيقة الأمر ترتبط الملكية الفكرية وآليات حمايتها وإدارتها بالأمن القومي، شاملًا أبعاده التقليدية وغير التقليدية، ارتباطًا وثيقًا؛ ففي خضّم التطورات الاقتصادية العالمية، باتت المخاطر الأمنية التي تهدد الدول أكثر تعدُّدًا، لا سيّما تلك المخاطر عبر القومية؛ مثل: التدهور البيئي، ونضوب الموارد الطبيعية، والتغيُّر المُناخي، والإرهاب، والنمو السكاني المتسارع، ونقص موارد الطاقة خاصةً في ظل الأزمات الدولية المتلاحقة، وغيرها من القضايا الناشئة العابرة للحدود، التي تؤثر بشكلٍ متزايد على الاستقرار الدولي، وتشكِّل تحدياتٍ غير مسبوقة؛ نظرًا لأنها تساعد على تعميق الفقر، وتأجيج الصراعات حول الوصول إلى الموارد النادرة بشكلٍ متزايد، ما يُفضي إلى الانهيار الاجتماعي، ومن ثمّ تتفاقم ظاهرة عدم الاستقرار، والهجرة وغيرهما من الظواهر التي تشكل تهديدات ملموسة للأمن القومي للدول، وتطمس معالم التنمية الاقتصادية، وربما تؤدي إلى فشل الدولة.
لفت ذلك النوع من القضايا الانتباه إلى نُدرة الموارد المتجددة اللازمة لتلبية احتياجات السكان المتزايدة، وألقى الضوء على الأمن الإنساني المعني برفاهية الإنسان، المُتمثلة في الصحة، والأمن البيئي، والأمن الغذائي، والعمل اللائق والمُستدام، والتعليم، والإرضاء المجتمعي. وبذلك، اُعتبِر الأمن الإنساني معيار عالمي لاستراتيجيات التنمية المستقبلية الفعالة، وداعم رئيس للأمن القومي.
بمعنى آخر، يتضح جليًّا أن التحديات الأمنية العالمية الراهنة باتت ترتبط، بدرجةِ أكبر، بالأمن الاقتصادي والاجتماعي والغذائي والبيئي؛ حيث تنامت الإشكاليات ذات الصلة بنضوب الموارد وتهديده للأمن المائي والغذائي وكذلك أمن الطاقة، وظهرت في السنوات الأخيرة إشكالية التغيُّر المُناخي باعتبارها تهديدًا جسيمًا للعالم المتقدم والنامي على حدٍ سواء، وهو ما أعلى من مفهوم الأمن البيئي. ومن شأن أن ذلك يفضي إلى تقويض الأمن الإنساني ويحول دون التنمية المستدامة، المُستهدَفة تعزيزه. وبالتأكيد، لا يُمكن أن تُواجَه تلك الظواهر بالتعزيزات العسكرية والأسلحة التقليدية، ولكن في حقيقة الأمر يتسنى تحقيق “الأمن الإنساني” فقط من خلال تنمية الإنسان ذاته، وتحفيزه على العمل المُساير لأهداف التنمية والمناهض للممارسات غير المستدامة والتقليدية، وكذا برمجة العقول البشرية على الإبداع والريادة التي تحفزها، وتُمثِّل أحد أبعادها، الملكية الفكرية والإدارة السليمة لها.
بناءً عليه، جاءت أهداف التنمية المستدامة لتحقيق الرفاهية الاقتصادية وتعزيز الأمن الإنساني والقومي؛ من خلال القضاء على الفقر وتحسين جودة الحياة، وتمكين الاقتصادات من الاستمرار في العمل، فضلًا عن الاستجابة المرِنة لمتغيرات المستقبل، من حيث خلق ظروفٍ مواتية لعالم مُستدام. وتستند أهداف التنمية المستدامة، في ذلك الصدد، إلى قوة التكنولوجيا والابتكار، وتبنّي اقتصاد المعرفة والاقتصاد الرقمي كنموذج للتنمية؛ حيث أضحى الابتكار الآلية الوحيدة التي من شأنها تطوير الحلول لمواجهة تحديات العصر ودعم استدامة البيئة من أجل الأجيال القادمة، وتوطين التكنولوجيا وتخصيصها للاحتياجات المحلية. ومن ثمّ غدا من الضروري تحسين البيئة التمكينية للابتكار، وتعزيز السياسات والاستراتيجيات الداعمة للإبداع من خلال مراقبة، ورصد، وتحليل حالة الابتكار في الدول، وتطوير نظام قانوني مُحفِّز للأخير يعتمد على حماية حقوق الملكية الفكرية.
بناءً عليه، تكون إدارة الملكية الفكرية – وهي نظام يساعد على إدارة المنتجات غير الملموسة؛ مثل إبداعات العقل والفكر البشري، وحمايتها وتطويرها – ركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة والرفاهية الاقتصادية للشعوب، وبالتالي تعزيز الأمن الإنساني والقومي بشكلٍ عام؛ حيث أنها تعمل على حماية العديد من الابتكارات، والاختراعات التي تُعد حلًا جديدًا لمشكلات تقنية، أو آلية لتحسين المنتج أو العملية أو الخدمة، وتتم بلورتها والاستفادة منها من خلال براءات الاختراع التي تحمي مصالح المخترعين، ممن تُعد تقنياتهم رائدة اقتصاديًا.
ففي سياق الإدارة الفعّالة للملكية الفكرية، التي تؤطَّر من خلال تطوير استراتيجية وطنية للملكية الفكرية، وإنشاء الأطر والسياسات بموجبها، وتقييم الملكية الفكرية، يحق للفرد أو الشركة الحائزة على براءة اختراع منع الآخرين من صنع تلك التكنولوجيا أو بيعها أو استيرادها، ويخلق ذلك بدوره فرصًا للمخترعين للبيع أو التجارة أو ترخيص التقنيات الحاصلة على براءة الاختراع مع الآخرين الذين قد يرغبون في استخدامها، ما يعني خلق ميزة تنافسية وتحقيق قيمة مُضافة للاقتصاد. وبناءً عليه، تتحكم قوانين الملكية الفكرية الوطنية في المعايير والإجراءات المطلوبة للحصول على براءات الاختراع، وتُسهم الإدارة السليمة للملكية الفكرية في هذا الصدد في الاعتراف بالمخترعين ومكافئتهم على اختراعاتهم الناجحة تجاريًا، لذا، فهي تكون بمثابة حافزًا لمن لديهم أفكار ريادية وابتكارية. اتصالًا، تتحكم إدارة الملكية الفكرية في تعظيم الفوائد العائدة على المجتمع من براءات الاختراع، وتسهيل نفاذ البراءات ذات الجدوى الاقتصادية سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر من حيث الفرص الاقتصادية ويتمثل ذلك فيما يلي:
- تتيح الإيرادات الناجمة عن نشر التقنيات المحمية ببراءات الاختراع الفرصة لتمويل مشروعات البحث والتطوير التكنولوجي، ما يُسهم في تحسين فرص توفُّر تكنولوجيا أفضل في مجالات الطاقة والبيئة والمناخ وغيرها من المجالات الاقتصادية التي تقع في بؤرة اهتمام أهداف التنمية المستدامة.
- تعمل براءة الاختراع بشكل فعّال على تحويل خبرة المخترع إلى أصل قابل للتداول تجاريًا، مما يفتح فرصًا لخلق فرص العمل وتوسيع نطاق الأعمال وقاعدتها، وخلق مردودٍ اقتصادي من خلال المشروعات المشتركة.
- يجعل امتلاك براءة اختراع الشركات الصغيرة والمتوسطة أكثر جاذبية للمستثمرين في قطاع التكنولوجيا، الذي بات يُشكل محور الأمن القومي في الدول المتقدمة، ومصدر دخلها الرئيس، والحل الأمثل لمشكلات العصر ذات الصلة بالتنمية.
وبذلك تقود الإدارة السليمة للملكية الفكرية المبادرات الابتكارية إلى تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة، من خلال تشجيع الابتكار في مختلف القطاعات وتعزيز تقديم الخدمات والمنتجات وتحقيق استدامة الموارد. فضلًا عن دعم التعاون في مجالات البحث والتطوير لمواجهة تحديات التنمية المحلية والإقليمية والدولية.
ختامًا، ترتبط الأسس الاجتماعية للتنمية المستدامة بتعزيز الأمن لجميع البلدان. وتركز مبادرات واستثمارات التنمية على دعم المجتمعات البشرية، وتعزيز رأس المال البشري، وتقليل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تؤدي إلى العنف وانعدام الأمن. ويدل كل ذلك، بما لا يدع مجالًا للشك، على ارتباط الأمن القومي بمثيله الإنساني والعسكري، وكذا ارتباطه بالمساواة في فرص البقاء والأنشطة الاقتصادية المستدامة التي تركِّز على رأس المال البشري، والذي تساعد الاستراتيجيات الوطنية للملكية الفكرية على استغلاله بالشكل الأمثل وتطويره لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل؛ نظرًا لكونها تُعزز قدرة الدول على توليد أصول اقتصادية قيِّمة في مجال الملكية الفكرية، وتدفع بدورها المشروعات الابتكارية قُدمًا وتواجه التهديدات الأمنية بآليات مُبتكَرة.